رسائل إلى رسول الله · web viewالث قل الأكبر كتاب الله، طرف...

641

Upload: others

Post on 02-Mar-2020

12 views

Category:

Documents


0 download

TRANSCRIPT

هذا الكتابتهدف هذه الرسائل إلى ثالثة أهداف كبرى:

في المج��االت � بيان كم��االت رس��ول الل��ه أوالالمختلفة، فالحب ال يكون إال بعد إدراك الكمال.

�� رد الش��بهات والتحريف�ات عن رس�ول الل��هثانياذلك أنها تتنافى مع الكمال، وق��د تس��يء إلي��ه، وق��د ،

تكون هي الحجاب الذي يحول بين القلب وبين المحبة. لتحقي��ق م��ا يرتب��ط � التوسل برسول الله ثالثا

بالكمال من سلوك وأخالق وغيرها، وقد جعلنا ذل��ك في خاتمة كل رسالة، مثلما يقدم للدعاء بالثن��اء على الل��ه،

ثم يختم بطلب الحاجات. ولم يكن ه��دفنا من التوس��ل طلب الحاج��ة فق��ط، وإنما كان هدفنا األكبر منه تبيين األثر الس��لوكي لمحب��ة

في كل جانب من الجوانب، ألن العقي��دةرسول الله ال���تي ال تثم���ر عمال عقي���دة الكس���الى والم���دعين، ال

المجدين والصادقين. وق��د جمعن��ا في ه��ذه الرس��ائل أربعين ص��فة من

، وشرحناها، وبينا أدلتها المختلف��ةصفات رسول الله من خالل تلك الخطابات الموجهة إليه.

رسائل شوق وحنين

( 2)

رسائل إلى رسول الله

دي ح ال ال ي الشوق لل عون رسال مأر م جم ةف ب

و لحي ةد نور الدين أ ب .www.aboulahia.com

ع األولى ةال طب

2019 ـ 1440

دار األنوار للنشر والتوزيع

فهرس المحتويات5المقدمة

8النبأ العظيم

12السراج المنير

16الوسيلة العظمى

20أسوة المتألمين

26الرحمة المهداة

31القرآن الناطق

35العالم الراسخ

45العارف المحقق

50اإلمام الممكن

56القائد الملهم

64المبلغ األمين

72الواعظ الخطيب

78البشير النذير

85الحكيم البليغ

93المعلم الناصح

102الشهم الشجاع2

109المخلص المخلص

118رسول العالمين

129النبي المعصوم

137خاتم النبيين

143المخلص الموعود

159المؤيد بالمعجزات

171المنبأ بالنبوءات

183مجاب الدعوات

194مهبط البركات

213المستبصر المتوسم

227المبجل المكرم

235المحبوب المعظم

250المتبتل العابد

258العفيف الزاهد

269المقاوم المجاهد

282التقي النقي

287المتواضع األبي

3

297المؤدب الحيي

305الذاكر النجي

321العفو الحليم

327الجواد الكريم

334الصادق األمين

340الملهم الخبير

352الهادي البصير

355هذا الكتاب

4

المقدمة ، من خاللهذا الكتاب محاولة للتقرب من رس��ول الل��ه

رس��ائل موجه��ة إلي��ه، تخاطب��ه مباش��رة، ومن غ��ير ح��واجز، فال غ��ير تل��كح��واجز وال حجب تح��ول بينن��ا وبين رس��ول الل��ه

أق��رباألوهام التي صنعناها بأنفس��نا، وإال ف��إن رس��ول الل��ه إلينا منا، ويمكننا أن نتواصل معه متى نشاء.

وكيف ال يمكن ذلك، وعالقته بأمته � كما ي��ذكر في أحاديث��ه الكث��يرة ��� عالق��ة ممت��دة، ال منقطع��ة.. والقطيع��ة إن حص��لت ليست من النب��وة، وإنم��ا من المتع�املين معه�ا، ذل��ك أنه��ا مث��ل

الشمس، ال تحتجب إال على من يشاء أن يحجب نفسه عنها. وبم��ا أن أجم��ل نج��وى م��ع الل��ه هي الح��ديث في تنزيه��ه

ه��ووتقديس�ه وحم�ده؛ ف��إن أجم�ل ح�ديث م�ع رس�ول الل�ه الحديث عما آتاه الله من أصناف الكمال والجمال.. حتى يك��ون ذلك بمثابة الترياق الذي يزيل الش�بهات، واإلكس��ير ال�ذي ي��زرع

المحبة في القلب. أن تكون عالقةفنحن مطالبون في عالقتنا برسول الله

محب���ة، ال مج���رد طاع���ة، ذل���ك أن المحب ال يكتفي بالطاع���ة الظ��اهرة، وب��أداء التك��اليف، وإنم��ا يض��يف إلى ذل��ك التعام��ل

الوجداني معها، وهو ما يجعلها في أرقى مراتب الكمال.ولهذا، فإن هذه الرسائل تهدف إلى ثالثة أهداف كبرى:

في المجاالت المختلفة، � بيان كماالت رسول الله أوالفالحب ال يكون إال بعد إدراك الكمال.

5

، ذل��ك � رد الشبهات والتحريفات عن رس��ول الل��ه ثانيا أنها تتنافى مع الكمال، وقد تسيء إليه، وقد تكون هي الحج��اب

الذي يحول بين القلب وبين المحبة. لتحقيق ما يرتب��ط بالكم��ال � التوسل برسول الله ثالثا

من س��لوك وأخالق وغيره��ا، وق��د جعلن��ا ذل��ك في خاتم��ة ك��ل رس��الة، مثلم��ا يق��دم لل��دعاء بالثن��اء على الل��ه، ثم يختم بطلب

الحاجات. ولم يكن هدفنا من التوسل طلب الحاجة فقط، وإنما ك��ان

فيهدفنا األكبر منه تبيين األثر السلوكي لمحبة رسول الل��ه كل جانب من الجوانب، ألن العقي��دة ال��تي ال تثم��ر عمال عقي��دة

الكسالى والمدعين، ال المجدين والصادقين. وق��د جمعن��ا في ه��ذه الرس��ائل أربعين ص��فة من ص��فات

، وشرحناها، وبينا أدلته��ا المختلف��ة من خالل تل��كرسول الله الخطابات الموجهة إليه.

وتل��ك الص��فات هي: الس��راج المن��ير.. الوس��يلة العظمى.. أس��وة المت��ألمين.. النب��أ العظيم.. الرحم��ة المه��داة.. الق��رآن الناطق.. العالم الراس��خ.. الع��ارف المحق��ق.. اإلم��ام الممكن.. القائ���د الملهم.. المبل���غ األمين.. الواع���ظ الخطيب.. البش���ير الن��ذير.. الحكيم البلي��غ.. المعلم الناص��ح.. الش��هم الش��جاع.. المخلص المخلص.. رسول الع��المين.. الن��بي المعص��وم.. خ��اتم النب���يين.. المخلص الموع���ود.. المؤي���د ب���المعجزات.. المنب���أ ب��النبوءات.. مج��اب ال��دعوات.. مهب��ط البرك��ات.. المستبص��ر المتوس���م.. المبج���ل المك���رم.. المحب���وب المعظم.. المتبت���ل العاب��د.. العفي��ف الزاه��د.. المق��اوم المجاه��د.. التقي النقي..

6

المتواض���ع األبي.. الم���ؤدب الح���يي.. ال���ذاكر النجي.. الج���واد الك��ريم.. العف��و الحليم.. الص��ادق األمين.. العبق��ري الخب��ير..

الهادي البصير. وننبه إلى أنا تعمدنا ذكر أكبر عدد من النصوص واألحاديث،

، وتقريب��ه،ألن الهدف من الكتاب هو التعري��ف برس��ول الل��ه وتعميق اإليمان به، ولذلك كان لتلك النصوص دورها الكب��ير في إعطاء تلك الصورة الجميل��ة، ألنه��ا وح��دها من يمكن��ه نفي تل��ك الصورة المشوهة التي رسمها له أعداؤه الق��دامى والمح��دثين،

من الذين يشعرون أو ال يشعرون. وننبه � كذلك � إلى أنا ابتعدنا في الكثير من تل��ك الرواي��ات على النقل الحرفي لها، إما بسبب احتوائها للكثير من التفاصيل التي ال تغنينا، أو لكونها تحتوي على بعض التشويهات التي ن��رى

أنها دست على النبوة. وهذا بناء على تصورنا للتعامل مع الح��ديث، وال��ذي تح��دثنا عن��ه بتفص��يل في كت��اب ]س��نة بال م��ذاهب[، وه��و ع��دم رمي الح��ديث بس��بب بعض ألفاظ��ه أو جمل��ه، إذا م��ا ك��ان في��ه بعض المع��اني الص��حيحة، ذل��ك أن الج��زء المرف��وض ق��د يك��ون من تص��رف ال��رواة، وليس من أص��ل الح��ديث، كم��ا روي عن أبي

أنه قال: )أفضل الصدقة م��اهريرة أنه حدث عن رسول الله ترك غنى، واليد العليا خير من الي��د الس�فلى، واب�دأ بمن تع�ول. تقول المرأة: إما أن تطعمني وإم��ا أن تطلق��ني، ويق��ول العب��د:أطعمني واستعملني، ويق��ول االبن: أطعم��ني، إلى من ت��دعني(

(1) وأبو5355(، والبخاري: 10175 )476/� 2( وفي 7423 )252/� 2)( رواه أحمد 1

...1676داود: 7

وعندما سئل بعد روايته للحديث، فقيل ل��ه: ي��ا أب��ا هري��رة، ؟ ق��ال: )ال، ه��ذا من كيس أبيسمعت ه��ذا من رس��ول الل��ه

(2) هريرة(

فالجزء األول من الحديث صحيح، لكن الجزء الث��اني، وه��و قوله: )تقول المرأة: إما أن تطعمني وإم��ا أن تطلق��ني، ويق��ول العب��د: أطعم��ني واس��تعملني، ويق��ول االبن: أطعم��ني، إلى من تدعني(، فإنه واضح في كونه من تصرف الراوي، ولذلك ال يصح

بعض أجزائه. تصرف الراوي في رمي الحديث جميعا بسبب

)( التخريج السابق. 2

8

النبأ العظيم س��يدي ي��ا رس��ول الل��ه.. أيه��ا النب��أ العظيم ال��ذي هم في��ه

يختلفون. لقد بحثت في ت��اريخ البش��رية، وقلبت ص��فحات عظمائه��ا، فالسفتهم، وعلمائهم، وقادتهم، وزعم��ائهم، ورج��ال دينهم.. فلم أجد شخصا كان له ذلك الت��أثير ال��ذي ك��ان ل��ك على ال��رغم من أن��ك عش��ت في بيئ��ة ص��حراوية بدوي��ة متخلف��ة عن ركب األمم

التي كانت تعاصرها. وعلى الرغم من كونك لم تكن مؤي��دا بقيص��ر وال بكس��رى وال بفرعون.. وال بأي حاكم يم��دك بم��ا تتطلب��ه الش��هرة والج��اه

من فنون اإلشهار. وعلى الرغم من كون�ك تعرض�ت للكث�ير من الهجم�ات من قومك األدنين، ومن غيرهم من األبعدين.. الذي اجتمع��وا جميع��ا على حربك وتشويهك.. فكتبوا القصائد، ونشروا الجنود، وأع��دوا كل أنواع العدة إلطفاء نورك.. ومع ذلك لم تزد األي��ام ن��ورك إال

تألقا واشتعاال ولمعانا. ولم يكن ذلك وحده ما أثار عج��بي.. وإنم��ا ذل��ك التس��جيل العجيب لكل مجري��ات حيات��ك.. ب��ل ح��تى لمن حظي ب��الجلوس إليك ومواالتك، أو خسر باالبتعاد عنك ومعادات��ك.. كلهم حفظت

أسماؤهم وأنسابهم والكثير من تفاصيل حياتهم. أم��ا أنت، فق��د حفظت لن��ا حركات��ك وس��كناتك.. وأقوال��ك وأفعالك.. حتى ابتسامتك التي كنت ترس��لها ك��ل حين.. حفظت

9

لنا، فعرفنا متى ابتسمت، ومتى غضبت.. وما ال��ذي فعلت، وم��االذي لم تفعل.

وقد جند لذلك جنود كثيرون من الرواة والمحدثين والعلماءفي كل المجاالت.. ال دور لهم إال ذلك..

وعندما ع��دت لت��اريخ غ��يرك من الزعم��اء والعلم��اء وح��تىاألنبياء.. لم أجد إال شيئا قليال ال يكاد يذكر أمام ما هيء لك.

فموسى علي��ه الس�الم على ال�رغم من كون�ه ك�ان محاط��ا بالكثير من الكتبة، ال نعلم عن حياته � حس��ب األس��فار الخمس��ة من التوراة � إال� قتاله وقيادت��ه في الح��رب وبس��الته فيه��ا، ثم ال نرى بع��د ذل��ك ش��يئا كث��يرا يتعل��ق بحيات��ه، وكيفي��ة التعام��ل م��ع

أحوالها المختلفة. وهك��ذا ال نج��د في األناجي��ل تفاص��يل كث��يرة ترتب��ط بحي��اةالمسيح عليه السالم، وكيف كان يتعامل مع القضايا المختلفة.. وهكذا ال نجد في سيرة ب��وذا إال هجرت��ه ألهل��ه وعيال��ه إلى الصحاري والغابات؛ وكونه لم ير ولده الوحيد مرة أخرى، وكونه ت��رك عن كاهل��ه أعب��اء الحكم، وارتض��ائه للم��وت أخ��يرا طريق��ا

للخالص. وهكذا عندما عدت للفالسفة الكبار والقادة العظام لم أجد من اهتم بتفاصيل حياتهم مثلم�ا وج�دت من اهتم بك�ل تفاص�يل

حياتك. وعندما رحت أبحث عن أكثر األسماء شهرة وتردي��دا، وفي جميع أنحاء العالم، وجدت اسمك هو االسم الوحي��د ال��ذي ي��ردد كل يوم وعلى جمي��ع م��آذن الع��الم، وبص��وت ع��ال، وه��و ين��ادي

10

)محمد رسول الله( أسمعه من على المن��ارات، وفي القن��وات الفض��ائية، وفي البث اإلذاعي.. وأس��مع مع��ه ماليين، ب��ل مالي��ير الحن��اجر، وهي

تصلي وتسلم عليك كلما ذكرت.. عندما سمعت كل هذا رحت أقرأ تلك الكلمات التي أوحاها الله إليك، وأنت في مكة المكرمة، تك��ال ل��ك ك��ل أل��وان التهم،��رمى بالحج��ارة، ويس��خر الك��ل وتقذف بك��ل أن��واع الس��باب، وت

رحمنك.. لكن الله تعالى كان يقول لك حينها مطمئنا: ألم نش���ذي أنقض ظه��رك )2( ووضعنا عنك وزرك )1لك صدرك ) (3( ال

را )4ورفعنا لك ذكرك ) ر يس�� ر5( فإن� مع العس�� ( إن� م��ع العس��را ) ب )6يس�� ك ف��ارغب )7( ف��إذا ف��رغت فانص�� (�� 8( وإلى رب

[8، 1]الشرح: ثم يقول لك، وأنت في المدينة، وبعد أن تحزبت عليك ك��ل

يريدون أن يطفئوا نوراألحزاب، واجتمع لحربك كل الحاقدين: ��افرون ) ��ره الك ��و ك ��وره ول �ه إال� أن يتم� ن �ه بأفواههم ويأبى الل الل

وله باله��دى ودين الح��ق ليظه��ره على32 �ذي أرسل رس�� ( هو الركون �ره المش� �و ك ه ول [، ويق�ول:33،� 32 ]التوب��ة: الدين كل

��ره ��و ك ��وره ول �ه متم ن ��أفواههم والل �ه ب ��ور الل يريدون ليطفئوا ن��افرون ) وله باله��دى ودين الح��ق8الك ل رس�� �ذي أرس�� ( ه��و ال

ه ولو كره المشركون [ 9، 8 ]الصف: ليظهره على الدين كل لقد علمت بعد ه��ذا كل��ه الم��دد ال��ذي كنت تم��د ب��ه.. وأن��ه ليس من الشرق وال من الغرب.. وال من العرب وال العجم.. وال من المحدثين وال من الفقهاء.. وإنما من الله.. فالل��ه ه��و ال��ذي أراد السمك أن يقترن باسمه، ح��تى ال يص��ل إلي��ه إال من وص��ل

11

إليك. لقد أراد الله أن يسمع بك الع��الم أجم��ع.. وأن يبحث عن��ك الع��الم أجم��ع.. ذل��ك أن من وص��ل إلي��ك وص��ل إلى الحقيق��ة

والسراط المستقيم، وفاز بسعادة األبد. ولذلك ح��اول الش��ياطين أن يس��يئوا إلى اس��مك، فربط��وا ذلك الشعار العظيم ]محمد رسول الله[ الذي أقض مض��اجعهم، بأولئ��ك المغفلين الحاق��دين ال��ذين ورث��وا دين الفئ��ة الباغي��ة،

وأصحاب الملك العضوض. لقد راحوا يرسمون اس��مك على راي��اتهم الس��وداء كس��واد قل�وبهم، والملطخ�ة بال�دماء، ليس�يئوا إلي�ك، وإلى القيم النبيل��ة

التي تمثلها.. وراح غيرهم يرسمون الرسوم الساخرة، أو ينتجون األفالم الوقحة، أو يكتبون الروايات البذيئة.. لي��نزلوك عن ذل��ك المق��ام

الرفيع الذي أنزلك الله إياه. ولن يفلح��وا في ذل��ك.. كم��ا لم يفلح القرش��يون واليه��ود والمنافقون ومرضى القلوب.. وكما لم تفلح كل تل��ك الترس��انة

من الرواة الذين جندهم سالطين الفئة الباغية. فأنت � يا سيدي � نور الله الذي سيبقى مشعا حتى تنمحي جميع الظلم��ات.. وح��تى يهيمن دين��ك على ال��دين كل��ه.. وح��تى يتساقط أمامك كل أولئك ال��دجالين والمش�عوذين ال�ذين راح��وا

يتالعبون بالحقائق، ويشوهونها.سيدي رسول الله..

12

أنا العبد الضعيف الذي يتش��رف ب��أن يك��ون خادم��ا لنعلكم، بل للتراب الذي تمشون عليه.. أس��ألك أن تقرب��ني من��ك، ح��تى أحظى بنورك الحقيقي ال��ذي يطفئ جمي��ع ظلم��اتي.. فق��د راح الكثير من الدجالين يخلطون نورك بن��يران الش��ياطين ليش��وهوا جمال الن��ور ال��ذي جئت ب��ه.. فيجعل��وا من��ه نيران��ا يحرق��ون به��ا

الحقائق، ويهدمون بها القيم. وأسألك � سيدي � أن أعرف��ك كم��ا أنت، ال كم��ا ص��وروك.. فأنت الص��فاء والن��ور والجم��ال.. وأنت األخالق الرفيع��ة، والقيم السامية.. وأنت الرحم��ة المه��داة، والنعم��ة المس��داة، وس��راط

الله المستقيم.. وأنت أنت..

13

السراج المنير��اسيدي يا رسول الله.. يا من وصفك ربك، فقال: وداعي

�ه بإذنه وسراجا منيرا [46 ]األحزاب: إلى الل أنت � سيدي � سراج منير بكل المقاييس، وما وصفك ربك به حقيقة ال مجال فيها للشك، وال للمبالغة، بل هي تصوير إلهي ب��ديع لحقيقت��ك، وحقيق��ة الوظ��ائف العظيم��ة ال��تي وكلت ل��ك.. والتي يرتبط بها ذلك العالم الجميل المغيب الذي ال نراه.. لكنن��ا بواسطتك يمكننا أن نراه ونعيشه ونتواصل مع��ه، ونص��بح ج��زءا

منه. فكم��ا أن حكم��ة الل��ه تع��الى ولطف��ه بعب��اده ورحمت��ه بهم اقتضت أن يجع��ل له��ذه األرض شمس��ا تم��دها ب��النور.. ولواله��ا لعاش��ت األجس��اد في الظلم��ات المدلهم��ة، ال ت��رى ربيع��ا، وال تس�مع تغاري�د العص��افير، وال تقط�ف ثم�ار األش�جار، وال تت�ذوق

��اطعما ألي شيء، كما وصف الله تع��الى ذل��ك، فق��ال: وجعلنراجا وه�اج��ا ) اج��ا )13س�� رات م��اء ثج� ��ا من المعص�� (14( وأنزلن

ا ونباتا ) �ات ألفافا )15لنخرج به حب [16 - 13 ]النبأ: (16( وجن فالجن��ات الملتف��ة، والنبات��ات المتنوع��ة، والثم��ار اللذي��ذة، واألل��وان الباهي��ة، والنس��يم العلي��ل، وال��دفء ال��ذي تستش��عره األجسام، وتنتشي له.. ك��ل ذل��ك فيض من ك��رم تل��ك الش��مس التي أودعها الله لتكون سراجا لعالم األجس��اد.. ول��ذلك ال يمكن

أن تقوم الحياة من دونها. وهكذا أنت � يا رسول الله � في عالم األرواح.. فل��والك لم نر إال األشباح المخيفة، والشياطين المرعبة.. ولوالك لعشنا في

14

سجون التشاؤم المطبق، والحزن الشديد، والكآبة ال��تي ال عالجلها.

ولوالك لم نر أشجار الحقائق الممتلئة بكل ثم��ار الجم��ال.. ول��والك لم نتمكن من قط��ف أي ثم��رة منه��ا.. وكي��ف نقطفه��ا، ونحن ال نهتدي إليها، وال نراها، وال نسمع بها.. وه��ل يمكن ألح��د أن يهت��دي لش��يء، وه��و يعيش في ذل��ك الع��الم المظلم ال��ذي

اهوصفه الله تع��الى، فق��ال: أو كظلم��ات في بح��ر لجي يغش�� موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها ف�وق بعض

[40 ]النور: إذا أخرج يده لم يكد يراها ول��ذلك كنت أنت الن��ور ال��ذي أم��دنا الل��ه ب��ه، ل��نرى ربي��ع الحقائق، ونشم أريج عطرها الفواح ال��ذي لم نكن لنهت��دي إلي��ه

ومن لم يجع��للوال ذلك الضياء الذي جعل��ك الل��ه مص��درا ل��ه، �ه له نورا فما له من نور [40 ]النور: الل

أنت سيدي منبع األن��وار الحقيقي��ة ال��تي لم تختل��ط بن��يران الشياطين.. فلذلك من لجأ إليك، واحتمى بنورك، واس��تمد من��ه،

واكتفى به، لم يضل عن السراط المستقيم. وعندما يأتي في ذلك الموقف الذي تنكشف فيه الحق��ائق، ويرتف��ع التموي��ه يج��د نفس��ه ممتلئ��ا ب��أنوارك، فل��ذلك ال ي��رى الظلمات، وال ترعبه األشباح، وال يقع في تلك الحفر الكثيرة، بل سيكون ص��احب ن��ور عظيم، وبص��يرة قوي��ة.. كم��ا ق��ال تع��الى:��ديهم ��ورهم بين أي عى ن ��ات يس�� ��رى الم��ؤمنين والمؤمن ��وم ت }ي

[12وبأيمانهم{ ]الحديد: وكيف ال يكون كذلك، وهو لم يكن يخلط نورك بالظلم��ات، وال بالنيران.. ب��ل ك��ان مكتفي��ا ب��ك، يعيش في عالم��ك الممتلئ

15

بالجمال. أما أولئك الكذبة المخادعون، والذين لم يكتف��وا بس��راجك، أو رأوا أن سراجك أدنى من أن يض��يء لهم الظلم��ات، فراح��وا إلى غيرك، وخلط��وا الح��ق بالباط��ل، وأكل��وا الثم��ار المس��مومة

التي نهوا عن أكلها.. في ذلك الموقف الشديد.. تختلط عليهم األم��ور.. وي��ذهب كل ذلك النور الكاذب الذي لم يكن يستمد من سراج الله ال�ذي نصبه لعالم األرواح، بل كان يستمد من ن��يران الش��ياطين ال��تي

كانت تخدع البشر.. لقد ذكر الله تعالى ذلك الموقف الشديد، وحذرنا منه أبلغ

��واتحذير، فقال: �ذين آمن ��افقون والمنافق��ات لل يوم يقول المن��ورا وا ن انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجع��وا وراءكم فالتمس��حمة وظاهره من قبله فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الر�

�كم فتنتم13الع��ذاب ) ��ادونهم ألم نكن معكم ق��الوا بلى ولكن ( ين�ه �ى ج��اء أم��ر الل تكم األم��اني حت تم وارتبتم وغ��ر� �ص�� أنفسكم وترب

�ه الغرور ) كم بالل [14، 13 ]الحديد: (14وغر� هؤالء � سيدي � الذين أعرضوا عنك، وعن وصاياك، وراحوا يتص��ورون أنهم يمكنهم أن يحول��وا من أه��وائهم س��رجا بديل��ة

لسراجك، فخدعتهم أحوج ما كانوا إليها. لق�د ك�ذبوا على أنفس�هم في ال�دنيا، فل�ذلك ك�ذبت عليهم

أنفسهم هناك.. هن��اك ��� س��يدي ��� يمتلئ ب��الحزن واألس��ى واأللم ك��ل من أعرض��وا عن س��راجك المن��ير، وراح��وا لتل��ك الس��رج المزيف��ة

16

يستض��يئون به��ا، ف��أكلوا من ثماره��ا س��موما، ورب��وا في حق��ول نفوسهم حيات وعق��ارب.. س��رعان م��ا كش��رت لهم عن أنيابه��ا

عندما أزيل ستار التمويه، ورأى الخلق الحقائق.لقد ذكر الله تعالى ذلك، وحذر منه أبلغ تحذير، فق��ال: إذ

�بع��وا ورأوا الع��ذاب وتقط�عت بهم �ذين ات بع��وا من ال �ذين ات أ ال ��ر� تبأ منهم166األسباب ) ��ر� ة فنتب ��ر� ��ا ك ��و أن� لن �بعوا ل �ذين ات ( وقال ال

�ه أعمالهم حسرات عليهم وما هم �ا كذلك يريهم الل ءوا من كما تبر��ار [167، 166 ]البقرة: بخارجين من الن

هؤالء � سيدي � هم أولئك الذين أعرض��وا عن ن��ورك، وعن سراجك المنير، وراحوا يقيمون أندادا وأصناما وط��واغيت ركن��وا لها، وهج��روك، وتص��وروا أنه��ا تعس��فهم عن��دما يحت��اجون إليه��ا،

فتخلت عنهم، وهم أحوج ما يكونون إليها. سيدي رسول الله.. أنا العبد الفق��ير الحق�ير ال��ذي تش�رف

بأن يكون فردا من أمتك.. أسألك أن تنقذني من كل تلك السرج الكاذب��ة.. فال تطي��ق

نفسي أن تحترق بلهيبها. ض���مني إلى ن���ورك، واجعل���ني أعيش في ربيع���ك، وفي

الحقول الجميلة التي نضجت من أنوار سراجك.. اجعلني زهرة من أزهارها.. وثمرة من ثماره��ا.. ون��ورا من

أنوارها. واجعلني أتجول في تلك الجنات الفسيحة التي تنعمت ب��أن تك�ون س�راجها المن�ير، فحي�اتي ال�تي يملؤه�ا ال�برد الق�ارس ال

يمكن أن تجد لذة الدفء من دونك.17

وحياتي التي تلمؤه�ا الظلم��ات ال يمكن أن تبص��ر الجم�ال، وتتنعم بالتواص��ل مع��ه من دون أن تك��ون أنت نوره��ا وض��ياءها

وعينها. ف��اجعلني أف��نى عن نفس��ي ب��ك.. ألبص��ر الع��الم بعيني��ك..

وأعيش الحقائق بروحك..

18

الوسيلة العظمى سيدي يا رسول الله.. يا من جعلك الله الوس��يلة العظمى،

والحبل الممدود، وسفينة النجاة.. كيف ال نشتاق إليك، وأنت أشد ضرورة لنا من الهواء الذي

نتنفسه، والماء الذي نشربه، والروح التي نعيش بها؟ بل لوالك لكانت أرواحنا مثل أجس��ادنا.. مج��رد طين وم��اء

وحمأ مسنون.. كي��ف ال نش��تاق إلي��ك، وأنت ال��ذي أعطيت الحي��اة طعمه��ا

ولونها وجمالها.. فلوالك ما أزهر الربيع، وما أشرقت الشمس.. وم��ا ت��بينت

لنا حقائق األشياء المخبأة في سراديب الظلمات.لوالك لكان كل شيء مقبرة وموتا، وأشباحا مخيفة..

أنت لنا مث��ل العي��نين الل��تين ال يمكن أن ن��رى األل��وان، والجمال األشياء من دونهما.

بل أين العينان من��ك.. وم��ا أبع��دهما عن��ك.. فهم��ا وس��يلتنا لذلك الجمال المحدود الذي سرعان ما يذبل.. أما أنت فوسيلتنا إلى الجمال الكامل الحقيقي الدائم ال��ذي ال تس��تطيع األي��ام أن

تغيره، وال الحوادث أن تبدله. ولذلك أنت لنا العينان الحقيقيت��ان اللت��ان ال يمكن أن ن��رى الكون على حقيقته من دونهم��ا.. فمن لم ي��ر الك��ون ب��ك ع�اش أعمى، ح��تى ل��و امتل��ك من أجه��زة اإلبص��ار م��ا ي��رى ب��ه جمي��ع

19

األفالك.. دقيقها وجليلها. وأنت لنا األذنان اللتان نس��مع بهم��ا حق��ائق الوج��ود.. ومن

مصدر الوجود.. ولوالك لعشنا في عالم الصمت المطبق.. يا رسول الله.. كم يصيبنا األلم عندما نشعر بأولئ��ك ال��ذين تخلو حياتهم منك.. ويلهم كيف يمكنهم أن يعيشوا، وهم ال يرون

السراج المنير الذي يضيء لهم في مدلهمات الظلمات؟ وكي���ف يمكنهم أن يهت���دوا إلى حق���ائق الوج���ود.. وهم ال يتأملون في صحيفتك ال��تي جعله��ا الل��ه م��رآة ص��قيلة لتع��رفهم

بالوجود.. وحقائقه وقوانيه؟ لق��د خ��رجت الي��وم إلى المق��برة.. وك��انت موحش��ة ج��دا، وعن��دما رأيته��ا، وتص��ورت نفس��ي في ق��بر من قبوره��ا.. رأيت

الحياة مجرد مزحة ثقيلة.. وأصابني اكتئاب وألم شديد. لكني عندما توسلت ب��ك.. ورحت أنظ��ر إليه��ا من خالل��ك.. بدت لي شيئا آخ��ر تمام��ا.. وب��دا لي ذل��ك الق��بر الم��وحش جن��ة غناء.. وبرزت لي آفاق جدي��دة في الحي��اة لم يكن عقلي ل��والك ليحلم به���ا، وال ليعرفه���ا، وال ليص���لها.. ح���تى الخي���ال لم يكن

ليتطاول للوصول إليها. بعد أن ع��دت من المق��برة، ورحت أنظ��ر إلى الحي��اة كله��ا

من عينيك الجميلتين.. رأيتها شيئا آخر تماما.. لق��د ك��انت س��ابقا في عي��ني مف��ازة للتن��افس على الم��ال والجاه والسلطان.. لكنها بفضل عينيك تحولت إلى مفازة للقيم

النبيلة واألخالق الرفيعة والحقائق السامية.

20

كنت قبل أن أرى الحياة بعينيك أحسد كل أمير أو وزي��ر أو ملك أو صاحب قصر فخم، أو مركب فاره.. لكني عن��دما رأيته��ا بعينيك استحالت كل تلك األشياء مجرد لهو ولعب ال يختل�ف عن

لهو األطفال ولعبهم. لق��د ك��انت ج��ل مط��البي من دون��ك خدم��ة ت��رابي وم��ائي وخالي��اي وأنس��جتي.. لك��ني بع��د أن عرفت��ك ت��رقيت عن ع��الم الطين إلى ع�الم العق�ل والقلب وال�روح والس�ر وك�ل المع�ارج

التي أرحل بها إلى ذلك العالم األسمى.. بفضلك سيدي.. صرت أش��عر أني أتح�رك بحرك�ة جوهري�ة نحو عوالم الكم��ال ال��تي كنت محجوب��ا عنه��ا عن��دما كنت بعي��دا عن��ك، ولم تكن أنت وس��يلتي، ولم تكن س��فينتك مرك��بي، وال

دربك دربي. لكني بعد أن سرت خلفك، ومددت يدي إليك، وإلى حب��ك.. وامتطيت س��فينتك.. رأيت الخل��ق جميع��ا غ��رقى في طوف��ان األهواء، يعيشون مثل الصغار، ويموتون مثل تلك البهائم ال��تي ال

ترى الحياة إلى في المرعى إلى أن يأتي الجزار ليسلبها منها. بفضلك سيدي تغيرت نظرتي للكون.. ولنفسي.. وللحياة..

وللعالم.. ولكل شيء.. بفضلك سيدي زالت كآبتي وتشاؤمي ويأس��ي.. ألن الحي��اة بعينيك أجمل بكثير.. هي كلها ربيع.. ألن سراجك المن��ير يض��يء

عليها.. ب��ل يملؤه��ا ب��األلوان ال��تي ال يمكن لعيونن��ا أن تراه��ا.. فال يمكن أن نراها إال بعينيك.. مثل ذل��ك الفلكي ال��ذي ال يمكن��ه أن

21

يرى الكواكب البعيدة من دون مرصاده.. وأين مرص��اد الفلكي من��ك.. فه��و ال يري��ه إال حج��ارة في السماء، أما أنت فنرى بك من العوالم ما ال تطمع جميع مراصد

الدنيا في اكتشافه. وأنت فوق ذلك كله ال ترينا الحق�ائق فق�ط، ب�ل ت�دلنا على

الطريق الذي نصل به إلى السعادة األبدية.. تلك السعادة التي تاهت عنها كل العقول التي تك��برت عن

أن تنظر إلى الحياة من منظارك. فأنت لذلك � سيدي � منارتنا التي نهتدي بها في الظلمات، وأنت سراطنا المعبد الذي يقينا من الوقوع في المهالك الكثيرة

التي وضعت في غير طريقك.. وأنت ال��ذي تم��د ي��ديك لمن ش��اء أن يمس��ك بهم��ا، ح��تى يعيش معك، ومع ذلك العالم الجمي��ل ال��ذي دللتن��ا علي��ه، وكنت تحزن حزنا شديدا عندما ترى الخالئ��ق معرض��ين عن��ك، مكتفين

بتلك العيون التي ال يرون بها إال المراعي والمقابر. ولذلك � سيدي � أنت لنا الروح الحقيقي��ة.. فل��والك لك��انت

أرواحنا مثل أجسادنا مجرد طين وماء وحمأ مسنون. وأنت لن��ا العق��ل ال��ذي نبص��ر ب��ه الحق��ائق.. ول��والك لكن��ا

مجانين.. ألنا نرى الحقائق خالف ما هي عليه في الواقع. وأنت لنا القلب الطاهر الذي نعشق ب��ه الحق��ائق.. ول��والك لغرقن��ا في حم��أة الحب الم��دنس ال��ذي يرمين��ا في مس��تنقعات

األهواء.

22

ولذلك أنت لنا الحياة الحقيقي��ة.. ال��تي لواله�ا لعش�نا حي��اة مزيفة، مثل أولئك الذين يعمرون ده��را ط��ويال، ويتمتع��ون بمت��ع كث��يرة.. ثم يخرج��ون من الحي��اة، قب��ل أن يكتش��فوا أجم��ل م��ا

فيها.. ولذلك صدق ربك عندما اعتبرك مص��درا للحي��اة، فق��ال:

سول إذا دع��اكم لم��ا يحييكم �ه وللر� �ذين آمنوا استجيبوا لل ها ال ياأي :[24 ]األنفال

فأنت سيدي ذلك ال�داعي ال�ذي ينفخ الحي�اة الحقيقي��ة في كل من آمن به وأحبه واتبعه.. وبقدر المحب��ة تك��ون روح الحي��اة الجديدة.. ال��تي ال يمكن لإلنس��ان أن يول��د ال��والدة الحقيق��ة من

دونها.

23

أسوة المتألمين سيدي يا رسول الله.. يا أسوة ك��ل المض��حين والمت��ألمين

والمتعبين.. أكتب ه��ذه الرس��الة إلي��ك بع��د أن أص��ابني بعض اإلره��اق، نتيجة أعمال بسيطة، تصورت أني قمت به��ا في خدم��ة دين��ك..وتوهمت معها كذبا وزورا أني قدمت بعض التضحيات أثناء ذلك. لكني عندما تركت النظر في مرآة نفسي األمارة بالس��وء، ورحت أنظر إلى مرآتك الصقيلة، ورأيت كل تلك اآلالم العظيمة التي مرت عليك طيلة حيات��ك.. وتل��ك التض��حيات ال��تي ال ن��زال نعيش آثاره��ا.. اس��تحييت من نفس��ي، وامتألت خجال من ذل��ك

الذي سميته تعبا وألما وتضحية.. فأين تعبي وألمي وتضحيتي.. بل أين تعب الماليين وآالمهم وتضحياتهم مما حصل لك في حياتك.. أنت الذي قض��يت حيات��ككلها في خدمة رسالتك ومبادئك والقيم العظيمة التي جئت بها. لقد تذكرت � سيدي � كيف أمرك ربك أن تنزع الدثار عنك، وتخ��رج إلن��ذار أولئ��ك األجالف الغالظ المس��تكبرين.. ال��ذين لم يراعوا حرمت��ك، وال كرامت��ك، وال نبل��ك، وال نبوت��ك.. وهم ال��ذين

كانوا يعرفون دماثة أخالقك، وسماحة طبعك.. بمجرد أن جاءك األمر اإللهي رحت مسرعا تنفذه من دون أي تردد، أو أي حساب ألي أذى يمكن أن تتعرض ل��ه.. م��ع أن��ك كنت تعلم أن الكل سيقف في وجه��ك.. وأنهم س��يرددون علي��ك

ما ردده الجهلة على أنبيائهم.

24

لكنك � سيدي � لم تب�ال بك��ل م�ا يقولون�ه ل�ك.. فليقول�وا: ساحر أو كاهن أو مجنون أو ابن أبي كبش��ة.. أو م��ا ش��اءت لهم لغتهم من ألفاظ البذاءة، وم��ا ش��اءت لهم نفوس�هم من س�موم

الحقد. لقد كنت مترفعا عليهم، ألنك لم تكن تس��تمع إال إلى رب��ك،

�ك يضيق صدرك بما يقولون )وهو يسليك بقوله: ولقد نعلم أناجدين )97 ك وكن من الس��� ح بحم��د رب ب �ك98( فس�� ��د رب ( واعب

�ى يأتيك اليقين -�� 97 ]الحجر: حت ��ول�[، ويق��ول ل��ك: 99 فتر فإن� الذكرى تنف��ع الم��ؤمنين 54عنهم فما أنت بملوم ) ( وذك

[55، 54]الذاريات: لم تكن تسمع إال إلى ربك، وهو يحكي لك قص��ص األنبي��اء، وهم يعانون مثلما تع��اني، ويت��ألمون مثلم��ا تت��ألم.. ليك��ون ذل��ك األلم، وتلك التضحية عالمة الصدق األك�بر.. فه�ل يمكن للك�اذب والمدعي أن يض��حي أو يت�ألم أو يرض�ى ب��أن يواج�ه بمث�ل تل��ك

المعامالت القاسية؟ ولم تكن تل��ك المع��امالت القاس��ية قاص��رة على الكلم��ات البذيئة الممتلئة بالحقد.. بل كانت تتحول كث��يرا إلى أفع��ال، تنم

عن حقد عظيم.. لقد سجل لنا الرواة بعض مشاهد تلك اآلالم.. حيث ذك��روا لنا أنك � سيدي � كنت تصلي بفناء الكعبة، ومع علمهم بحرمته��ا إال أن بعضهم جاء إليك، وأخذ بمنكب��ك، ول��وى ثوب��ه في عنق��ك،

..(1)وخنقك خنقا شديدا

.4/1814)( صحيح البخاري، 1

25

ورووا أنهم ك��انوا يطرح��ون علي��ك أحش��اء ال��ذبائح، وأنت تصلي.. بل كانوا يض��عونها في طريق��ك، وأم�ام بيت�ك.. ولم تكن

؟.. ثم تس��تمر في(1)تمل��ك إال أن تق��ول لهم: أي ج��وار ه��ذا دعوتهم إلى الله، وبأسلوبك الهادئ الممتلئ بالحكم��ة والرحم��ة

والتواضع. ولم يكن ذلك ألمك الوحيد � سيدي ��� ب��ل كنت تس��ير على ق��دميك المس��افات الطويل��ة، وأنت تبش��ر وتن��ذر، وهم خلف��ك يستهزئون بك، ويحذرون منك.. وأنت ال تب��الي بم��ا يقول��ون، وال

ما يفعلون. ولم تكتف في س��يرك بأس��واق عك��اظ، وال ذي المج��از وال غيرها من األسواق.. بل كنت تقطع المس��افات الطويل��ة.. ح�تى أنك سرت إلى الطائف رجاء أن تجد فيهم من اللين ما لم تجده

في قريش.. لكنهم استقبلوك � ال كما يس��تقبلون ال��دعاة عن��دنا باله��دايا والتحف � وإنما بالحجارة التي أدمت قدميك.. فرحت تفر منهم، وتشكو إلى ربك ما نزل ب��ك من الهم��وم واآلالم من غ��ير ض��جر وال انزعاج.. بل كانت شكواك شكوى المحبين.. تقول ل��ه فيه��ا: )اللهم إلي��ك أش��كو ض��عف ق��وتي، وقل��ة حيل��تي، وه��واني على الناس، ي��ا أرحم ال��راحمين، أنت رب المستض��عفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكت��ه أم��ري؟ إن لم يكن بك علي غض�ب فال أب�الي، ولكن عافيت��ك هي أوس�ع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت ل��ه الظلم��ات، وص��لح علي��ه أم��ر ال��دنيا واآلخ��رة من أن ت��نزل بي غض��بك، أو يح��ل علي

(463/ 2)( سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد )1

26

(1)سخطك، لك العتبى حتى ترضى، وال حول وال قوة إال بك(

وهكذا كانت حالك م��ع أولئ��ك األجالف الغالظ ال��ذين ك��انوايهمون كل حين بقتلك إال أن الله عصمك منهم..

وكنت تعلم كل ذلك.. وتعلم كل التهديدات التي توج��ه ل��ك ك�ل حين.. وتعلم معه�ا ك�ل اإلغ�راءات ال��تي تق�دم ل�ك إن أنت تركت دعوتك، وسرت في طريقهم.. لكنك لم تفعل.. ولم تهم.. ولم يخطر على بالك.. بل كنت ترسل لهم ب��ذلك الش��عار ال��ذي�ه ل��و وض��عوا الش��مس في صار علما وراي��ة لك��ل األح��رار: )والل يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا األمر ح��تى يظه��ره

�ه أو أهلك فيه ما تركته( (2)الل

ولم يكن ذل��ك ��� س��يدي ��� ألم��ك الوحي��د.. ب��ل إن قوم��ك وإمعانا في استعمال ك��ل الوس��ائل لص��دك عن دعوت��ك، راح��وا يواجهون���ك بعش���يرتك.. حيث حاص���روك معهم في الش���عب، ومنع��وهم األق��وات أن تص��لهم، ح��تى اس��تبد ب��ك وبهم الج��وع الشديد.. وكنت ترى كل ذلك، وتتألم له ألم��ا ش��ديدا.. لكن��ك لم

تكن لتترك دعوتك مهما كلفك الثمن.. ثم قدر الله لك أن تهاجر من تلك البالد التي آذتك.. لتذهب إلى المدينة التي تنورت بن��ورك.. وتقط��ع في رحلت��ك إليه��ا ك��ل أنواع التعب واأللم، وأنت تتخفى من تل��ك العي��ون ال��تي تترص��د

لك، والسيوف التي تهم بقتلك.

(420/ 1)( سيرة ابن هشام )1

(327/ 2)( سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد )2

27

وفي المدينة لم تركن للراحة.. بل كنت تواجه آالما ال تق��ل عن تلك اآلالم التي واجهتها في مكة.. فقد كان هناك المنافقون واليهود ومرضى القل��وب.. وال��ذين راح��وا يتفن��ون في إي��ذائك.. ولم تكن تمل��ك معهم إال الص��بر الجمي��ل.. ولم تكن تع��املهم إال

بتلك الرحمة التي مألت كيانك كله. ولم يكتف الحاق��دون بالكلم��ات يحاربون��ك به��ا.. ب��ل ك��انوا يرس��لون ك��ل حين جحاف��ل جيوش��هم، لض��ربك وض��رب الثل��ة المؤمنة معك.. فكنت تقطع المسافات الطويل��ة ك��ل حين لص��د

كل عدوان، ومواجهة كل مؤامرة.. وأنت أثناء ذلك كله تسمع الكلمات الجارحة من المن��افقين ومرضى القلوب.. فكنت تواجهها باالبتس��امة واله��دوء، والص��فح

فحالجمي��ل، كم��ا علم��ك رب��ك، فق��ال: ��ة فاص�� اعة آلتي إن� الس���[85 ]الحجر: الص�فح الجميل

وهكذا � سيدي � كانت حيات��ك جميع��ا.. ممل��وءة بالمت��اعبواآلالم، ومع جميع أصناف المعتدين الظالمين..

وفي الليل وعندما يركن المتعبون إلى اله�دوء والراح�ة، أو إلى الح��ديث والس��مر.. كنت أنت تتوج��ه إلى القبل��ة، وتف��ترش جبهت��ك، س��اجدا لرب��ك.. ال تكتفي بالركع��ات المح��دودات، وال بالدقائق المعدودات.. وإنما كنت تقوم أكثر الليل، لقد قال ربك

��ليذكر ذل��ك عن��ك: �ي �ك تق��وم أدنى من ثلثي الل �ك يعلم أن ن� رب�ه��ار ��ل والن �ي ر الل �ه يقد �ذين معك والل ونصفه وثلثه وطائفة من ال

[20]المزمل: هذه � سيدي � أمثلة عن بعض المتاعب واآلالم التي مررت به��ا.. وال يمكن��ني أن أع��ددها.. ف��الرواة لم يس��جلوا إال بعض

28

مشاهداتهم.. ولو أن العقالء تأملوا فيها.. ورأوا أنك في حياتك جميع��ا لم تكن س��وى المض��حي والمت��ألم ال�ذي ك��ان يعص��ب الحج��ر على بطنه من الجوع.. ثم عندما مات لم يترك دينارا وال درهما.. ب��ل كان يعيش حياة بسيطة جدا.. لو تأملوا في ذلك وح��ده، لعلم��وا مدى ص��دقك وإخالص��ك.. وأن��ك لم تكن تمث��ل س��وى الحقيق��ة،

وبأجمل صورها. ومما يزيد في تأكيد ذلك � سيدي � أنه كان يمكنك أن تن��ال ما تشاء من قومك وغيرهم إن أنت تركت دعوتك، واستس��لمت لرغباتهم.. لكنك لم تفع�ل.. ب�ل لم تطلب من ال�ذين اتبع�وك أو غيرهم جزاء وال شكورا.. وإنما كانت حياتك كله��ا لل��ه، ولم تكن

تطلب شيئا إال من الله. اعذرنا �� س�يدي �� فنحن ال�ذين ك�ان ينبغي لن�ا أن نتخ�ذك أس��وة لم نفع��ل.. فال��دعاة عن��دنا أثري��اء وجه��اء.. تتنق��ل بهم السيارات الفخمة، ويملكون من ك��ل ش��هوات ال��دنيا.. وبعض��هم يملك حرسا خاص��ا.. والكث��ير منهم يت��أفف لكلم��ة نق��د بس��يطة، ليس فيها تجريح وال أذى.. في نفس ال��وقت ال��ذي يتح��دث في��ه

عنك وعن سال الجزور التي طرحت عليك.. فاعذرنا سيدي عن سوء خالفتنا لك، واع��ذرنا في تش��ويهنا لدعوتك الممتلئة بالصدق والتضحية، والتي حولناها إلى مص��يدة نصطاد بها األموال والقلوب، لنهدم كل م��ا بنيت��ه، ونقض��ي على

كل تلك القيم الجميلة التي جئت بها.

29

الرحمة المهداة لق��دسيدي يا رسول الله.. ي��ا من وص��فك رب��ك، فق��ال:

م ح��ريص عليكم ��ه م��اعنت كم عزي��ز علي جاءكم رسول من أنفس��[128 ]التوبة: بالمؤمنين رءوف رحيم

لق�د رحت أبحث عن أك�بر وص�ف أو لقب يع�بر عن��ك، فلم أجد مثل هذه اآلية الكريمة التي تصفك، وتص��ف المص��در ال��ذي

صدرت منه، والمظهر الذي ظهرت به. فأنت � يا سيدي يا رسول الل��ه ��� رحم��ة إلهي��ة مه��داة إلى خلق��ه، ليخ��رجهم من ع��الم الظلم��ات الممتلئ��ة ب��اآلالم والكآب��ة والحزن إلى عالم األنوار الممتلئ بكل ألوان السعادة والس��رور

والفرح. أنت مثل ذلك الطبيب الذي وجد شيخا كبيرا مقع��دا مرمي��ا على األرض، يلت��ف ب��ه البع��وض وال��ذباب، وتنهش��ه الحي��ات والعقارب.. وتفترسه ك��ل أل��وان اآلالم.. ظ��اهرا وباطن��ا.. ف��راح يضع يد كرمه وشفائه عليه، فحوله من الشيخوخة إلى الشباب، ومن الم��رض إلى الص��حة، ومن القع�ود إلى النش��اط.. ثم أبع��د عنه كل ما يؤذيه ظاهرا وباطنا.. ومأله بكل ما يس��عده، ويمل��ؤه

فرحا وأمال.. فتحول من حال إلى حال.وهذا فعلك بنا، وبكل البشرية يا سيدي يا رسول الله..

فلوالك لعاش البش��ر جميع�ا في ش��يخوخة اآلالم، مقع�دين متألمين حزانى.. تحيط بهم الشياطين، وتسقيهم من كل أل��وان

السموم..

30

ول��والك لم نع��رف حقيقتن��ا، وال مص��يرنا.. وال س��ر الك��ونالذي نعيش فيه، وال سر الحياة التي نعيشها..

ولوالك لعشنا بما تملي��ه علين��ا أهواؤن��ا، ال بم��ا تملي��ه علين��احقائق الوجود.

أنت ��� س��يدي ��� هدي��ة الل��ه لعب��اده، وحبل��ه ال��ذي أرس��لهإلنقاذهم.

وأنت � سيدي � ذلك ال��داعي ال��ذي س��ار في األرض يبش��ربما أعد الله لعباده من فضله إن هم أطاعوه.

وأنت ��� س��يدي ��� ذل��ك الح��ريص ال��ذي ك��ان يمتلئ ألم��ا إلعراض المعرضين، ال ألجل��ه، وإنم��ا ألجلهم.. فق��د كنت ت��راهم يته��افتون في الن��ار ته��افت الف��راش، وأنت ت��ذبهم عنه��ا، لكنهم

يأبون إال الوقوع فيها. لقد ع��برت عن ذل��ك بلس��انك البلي��غ، فقلت: )مثلي كمث��ل رجل استوقد نارا، فلما أضاءت ما حوله��ا جع��ل الف��راش وه��ذه ال��دواب ال��تي في الن��ار يقعن فيه��ا، وجع��ل يحج��زهن ويغلبن��ه فيتقحمن فيها، فذلكم مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحجزكم عن الن��ار،

(1)هلم عن النار، هلم عن النار فتغلبوني تقحمون فيها(

وش��بهت حال��ك وح��ال قوم��ك، فقلت: )إن مثلي ومث��ل م��ا بعثني الله به، كمثل رجل أتى قوم��ه، فق��ال: ي��ا ق��وم إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العري��ان فالنج��اء فأطاع��ه طائف��ة من قومه، فأدلجوا فانطلقوا على مهلتهم، وك��ذبت طائف��ة منهم فأصبحوا مكانهم، فصبحهم الجيش، فأهلكهم واجت��احهم، ف��ذلك

(.2284 ح)4/1789)( صحيح مسلم 1

31

مثل من أطاعني، واتبع ما جئت به، ومث��ل من عص��اني، وك��ذب (1)ما جئت به من الحق(

كان في إمكانك � سيدي � أن تكتفي بتبليغ الرس��الة، وأداء ما كلفت به كما تعود الناس أن يبلغوا الرسائل، ويؤدوا ما كلفوا

به.. لكنك � ولكونك رحمة مهداة � لم تكن كذلك.. فقد كان الحزن الش��ديد يعتري��ك عن��د ك��ل إع��راض عن��ك، وعن الهدي العظيم الذي جئت به، ألنك تعلم جيدا المصير الذي

يصير إليه من أعرض عنك.. ﴿لقد ذكر الله تع��الى ذل��ك عن��ك، ونه��اك عن��ه، فق��ال: فال

رات ]ف��اطر: ﴿[، وق��ال: وليزي��دن�8﴾تذهب نفسك عليهم حس����أس على ��ا وكف��را فال ت ك طغيان ��ك من رب كثيرا منهم ما أنزل إلي

[68﴾القوم الكافرين ]المائدة: بل إنه ش��به حال��ك بح��ال ال��ذي يهل��ك نفس��ه من األس��ف،

�ك باخع نفسك ��وا م��ؤمنين ]الش��عراء:(2)﴿فقال: لعل ﴾ أال� يكون��وا به��ذا3 ��ارهم إن لم يؤمن �ك باخع نفسك على آث ﴿[ وقال: فلعل

[ 6﴾الحديث أسفا ]الكهف: بل إنه ذكر أن حرصك الشديد عليهم، بلغ إلى درجة وددت

��كفيها لو يجابون لكل آية يطلبونه��ا، فق��ال: ��ر علي ��ان كب وإن ك

(.2283 ح)4/1788)( صحيح مسلم 1

([: )البخع: أن298/ 3)( قال الزمخشري ]الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل )2 يبلغ بالذبح البخ�اع بالب��اء، وه��و ع��رق مس��تبطن الفق��ار، وذل��ك أقص��ى ح��د ال��ذبح، ولع��ل لإلشفاق، يعنى: أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة على م��ا فات��ك من إس��الم قوم��ك أال�

يكونوا مؤمنين لئال يؤمنوا، أو المتناع إيمانهم، أو خيفة أن ال يؤمنوا(32

�ما في ل إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في األرض أو س���ه لجمعهم على الهدى فال تكونن� ماء فتأتيهم بآية ولو شاء الل الس�

(1)[35 ]األنعام: من الجاهلين

وغيره��ا من اآلي��ات الكريم��ة ال��تي تص��ور حال��ك، وأنت تدعوهم بكل ما أوتيت من قوة، ليعرضوا عن أه��وائهم، ويتبع��وا الح��ق ال��ذي جئت ب��ه، لتتحق��ق لهم النج��اة والف��وز العظيم في

الدنيا واآلخرة. وق��د كنت ��� س��يدي ��� تتحم��ل في س��بيل ذل��ك ك��ل أل��وان الغلظ��ة والجف��اء ال��تي يب��دونها ل��ك.. وكنت تس��مع ك��ل ألف��اظ البذاءة والشتائم.. لكنك لم تكن تبالي بنفسك.. بل كان حرصك عليهم، وخوفك على المصير الذي ينتظرهم يدعوك لتحم��ل ك��ل

شيء منهم. لقد وصف الله تلك الرحمة العظيمة ال��تي ك��انت تكس��وك ظاهرا وباطنا، وأنت تتعامل م��ع جمي��ع أص��ناف الن��اس، ب��ل م��ع

��و كنتأغلظهم طباعا، فقال: �ه لنت لهم ول فبما رحم��ة من اللتغفر لهم فظا غليظ القلب النفضوا من حولك فاعف عنهم واس���ه يحب �ه إن� الل �ل على الل وشاورهم في األمر ف��إذا ع��زمت فتوك

لين [159 ]آل عمران: المتوك ول��ذلك كنت نعم الص��احب لهم.. تف��رح لف��رحهم، وتح��زن

([:19/ 2)( قال الزمخشري في تفسيرها ]الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل )1 )والمراد بيان حرصه على إسالم قومه وتهالكه عليه، وأنه لو استطاع أن ي��أتيهم بآي��ة من تحت األرض أو من فوق الس��ماء ألتى به�ا رج�اء إيم�انهم. وقي�ل: ك�انوا يق�ترحون اآلي�ات فكان يود أن يجابوا إليها لتمادى حرصه على إيمانهم. فقيل له: إن استطعت ذلك فافعل، داللة على أنه بلغ من حرصه أن�ه ل��و اس�تطاع ذل��ك لفعل�ه ح�تى ي�أتيهم بم�ا اق�ترحوا من

اآليات لعلهم يؤمنون(33

لحزنهم، وتشاركهم في كل شيء.. وتعيش معهم كأحدهم.. ب��ل كنت ��� س��يدي ��� خادم��ا لهم، تس��عى في مص��الحهم، وتقض��ي

حوائجهم، بكل لين ولطف وتواضع. هكذا كنت � سيدي ��� مث��اال للقيم النبيل��ة، واألخالق العالي��ة

التي جئت لتتممها. فاع��ذرنا س��يدي.. فق��د أص��بح ال��ذين ي��دعون أنهم يهت��دون بس��نتك، ويحي��ون حيات��ك، من أك��ثر الن��اس قس��وة، وأغلظهم

طباعا.. لقد حولوا الرحمة التي جئت بها إلى سكين ح�ادة ي�ذبحون

بها الناس. وحول��وا ذل��ك اللين والص��فاء واللط��ف ال��ذي كنت علي��ه

صراخا وصياحا ونهيقا.. دونه نهيق الحمير. وحولوا كل البشارات التي جئت بها، لتمأل القل��وب أمال في رحمة الله وعي��دا وإن��ذارات.. ال بالحق��ائق، وإنم��ا ب��الزيف ال��ذي

حرفوا إليه دينك، والذي عجنوه بأحقادهم وأهوائهم. نعتذر إليك � يا س��يدي ي��ا رس��ول الل��ه ��� من ه��ؤالء ال��ذين ح��ذرتنا منهم، وأعلمتن��ا ب��أنهم سيش��وهونك، ويش��وهون اله��دي العظيم الذي جئت به، فقلت: )س��يخرج ق��وم في آخ��ر الزم��ان، حدثاء األسنان، س��فهاء األحالم، يقول��ون من ق��ول خ��ير البري��ة، يقرؤون القرآن، ال يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرق��ون من ال��دين

(1)كما يمرق السهم من الرمية(

/7( والنسائي )4767( وأبو داود )1066( ومسلم )3611)( رواه البخاري )1119..)

34

لكن قومي لم يبالوا بتحذيرك.. ب��ل راح��وا يس��مونهم أه��ل سنة، وأه�ل ح�ديث، وأنهم الس�نة تمش�ي.. وأن�ه ل�والهم لض��اع

هديك.. ول��و أنهم فتح��وا أعينهم على غلظتهم وقس��وتهم وجف��ائهم وألس��نتهم البذيئ��ة وقل��وبهم الممل��وءة باألحق��اد، لعرف��وا أن��ه يس��تحيل أن تجتم��ع س��نتك م��ع القس��وة.. وعرف��وا أن معرفت��ك وحبك يمآلن القلوب بالرأفة والرحم��ة.. وأن��ه يس��تحيل أن يح��ل

في قلب مليء باألحقاد معرفتك وحبك.. فمعرفت��ك وحب��ك ��� س��يدي ��� ال تت��نزل إال على القل��وب الط��اهرة الممتلئ��ة بك��ل المع��اني الس��امية.. أم��ا من ع��داها، فادعاؤه��ا للحب والمعرف��ة، كادع��اء المج��رمين والمختلس��ين

واللصوص للشرف والنبل والكرم.

35

القرآن الناطقسيدي يا رسول الله.. أيها القرآن الحي الناطق..

لقد شاء الله برحمت��ه، ولطف��ه بعب��اده، أن يجعل��ك نموذج��ا أسمى لكل تلك المعاني المقدسة التي تنزلت في آخ�ر وص�اياه وعهوده للبشر.. فمن شاء أن يقرأه��ا قرأه��ا في حروف��ه.. ومن ش��اء أن يش��اهدها ش��اهدها في س��لوكك وأخالق��ك وتل��ك القيم النبيل��ة ال��تي كنت تتح��رك به��ا في األرض، وتتح��رك مع��ك فيه��ا

حروف القرآن الكريم. فإن شاء أن يرى عباد الرحمن، أولئك الذين وص��فهم الل��ه

��اتعالى بقوله: ون على األرض هون �ذين يمش�� حمن ال وعباد الر�الما ) هم63وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا س�� ��رب ��ون ل �ذين يبيت ( وال

�م64سج�دا وقياما ) �ا ع��ذاب جهن �نا اصرف عن �ذين يقولون رب ( والا ومقام��ا )65إن� عذابها كان غرام��ا ) تقر اءت مس�� �ه��ا س�� (66( إن

�ذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوام��ا ) وال67 �) :[ إلى آخر اآليات الكريمة.. وجد كل67 -� 63 ]الفرقان

هذه المعاني متمثلة فيك، وبدرجاتها العالي��ة ال��تي تص��لح أس��وةلجميع الخلق، وفي جميع األزمنة.

وهكذا إن شاء أن يرى المخبتين، أولئك الذين وصفهم اللهر المخبتين )تعالى بقول��ه: �ه وجلت34وبش�� ��ر الل �ذين إذا ذك ( ال

الة ومم�ا ابهم والمقيمي الص��� ابرين على م��ا أص�� ��وبهم والص��� قل��اهم ينفق��ون [، وج��دك أولهم وس��يدهم،35،�� 34 ]الحج: رزقن

فأنت صاحب القلب الرقيق الخاشع، الذي تدمع عيناه كلما ذك��ر رب��ه.. وق��د ح��دث ص��احبك الص��ادق المخلص ابن مس��عود أن��ك

36

عليك أق��رأطلبت منه أن يقرأ علي��ك بعض الق��رآن، فق��ال ل��ك: ..غ��يري من أسمعه أن أحب إني نعم،، فقلت له: أنزل؟ وعليك

ف��راح يق��رأ من س��ورة النس��اء ح��تى وص��ل إلى قول��ه تع��الى:هيدا فكيف إذا جئنا من كل أم�ة بشهيد وجئنا بك على ه�ؤالء ش� :(1)[، التفت إليك، فوجد عيناك تذرفان بالدموع41 ]النساء.

وإن شاء أن يرى أولئك الذين وص��فهم الل��ه تع��الى بقول��ه:( ���ل م���ا يهجع���ون �ي حار هم17ك���انوا قليال من الل ( وباألس���

تغفرون ) ائل والمح���روم 18يس��� ( وفي أم���والهم ح���ق للس����-�� 17]الذاريات: [، وجدك في السحر.. ب��ل قبل��ه.. ب��ل في19

أكثر الليل قائما لربك تناجي�ه، وتبكي بين يدي�ه ممتلئ�ا بك��ل قيمالروحانية.

وق��د ح��دثت عائش��ة عن��ك، عن��دما طلب منه��ا أن تح��دثهم بأعجب شيء رأته منك، فبكت، وقالت: )ك��ل أم��ره ك��ان عجب��ا، أتاني في ليلتي، ثم قال: ذري��ني أتعب��د ل��ربي ع��ز وج��ل، فقلت: والل��ه إني ألحب قرب��ك، وإني أحب أن تعب��د لرب��ك. فق��ام إلى القربة فتوضأ ولم يكثر صب الماء، ثم ق��ام يص��لي، فبكى ح��تى بل لحيته، ثم سجد فبكى حتى بل األرض، ثم اضطجع على جنبه فبكى، حتى إذا أتى بالل يؤذنه بصالة الص��بح، فق��ال: ي��ا رس��ول الله، ما يبكيك؟ وقد غفر الله لك ذنبك ما تقدم وما تأخر، فقال: )ويحك يا بالل، وم��ا يمنع��ني أن أبكي وق��د أن��زل علي في ه��ذه

�ه��ارالليلة: �يل والن ماوات واألرض واختالف الل إن� في خلق الس���اب ) ��ات ألولي األلب �ه قيام��ا وقع��ودا190آلي ��ذكرون الل �ذين ي ( ال

��ا م��ا �ن ماوات واألرض رب ��ق الس��� �رون في خل وعلى جنوبهم ويتفك�ار ،190 ]آل عم��ران: خلقت هذا باطال سبحانك فقنا عذاب الن

(800(. ومسلم )4582 )8)( البخاري- الفتح 1

37

191)](1)

وهك��ذا كنت تمث��ل الحق��ائق القرآني��ة بس��لوكك وأخالق��ك وروحانيتك.. حتى يراها الصادقون، فيزدادون طمأنين��ة وإيمان��ا.. وحتى يراه��ا المش��ككون والمرت��ابون، ف��يزول عنهم ك��ل أل��وان

الشك، ووساوسه إن كانوا صادقين في طلبهم. وكي��ف ال ت��زول وساوس��هم، وهم يرون��ك أول من يس��ارع لتطبيق أحكام رب��ه.. ف��إن ص��ام الن��اس وج��اعوا وعطش��وا.. لم تكتف أنت بذلك، وإنما تواصل صومك بعد أن يفطروا.. وجوعك

بعد أن يأكلوا. وإن انصرف الناس إلى بيوتهم ليرتاحوا انص��رفت أنت إلى ربك تناجيه وتعبده، وتمكث أكثر الليل في صحبته، حتى ت��ورمت ق��دماك من ك��ثرة القي��ام، وأش��فق علي��ك أص��حابك من ط��ول

سهرك في عبادة ربك. ليل��ة،وق��د ح��دث ابن مس��عود ق��ال: ص��ليت م��ع الن��بي

فأطال القيام ح��تى هممت ب��أمر س��وء! قي��ل: وم��ا هممت ب��ه؟.(2)قال: هممت أن أجلس وأدعه

ذات ليل��ة ف��افتتحوحدث حذيفة قال: صليت م��ع الن��بي البقرة، فقلت: يركع عند المئة، ثم مضى. فقلت: يصلي به��ا في ركع��ة فمض��ى، فقلت: يرك��ع به��ا، ثم افتتح النس��اء فقرأه��ا، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسال: إذا م��ر بآي��ة فيه�ا تس�بيح

(2816(، ومسلم )6463 )3)( البخاري- الفتح 1

( 204( )773 )186/ 2(، ومسلم 1135 )64/ 2)( البخاري 2

38

سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع، فجع��ل يقول: )سبحان ربي العظيم( فكان ركوع��ه نح��وا من قيام��ه، ثم قال: )سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد( ثم قام طويال قريبا مما ركع، ثم سجد، فقال: )سبحان ربي األعلى( فك��ان س��جوده

.(1)قريبا من قيامه

وهك��ذا كنت في ك��ل الم��واطن.. أحس��ن ممث��ل للحق��ائق القرآنية التي ال يمكن ألحد أن يتناوله��ا من دون��ك، أو ي��زعم أن��ه يمكن أن يظف��ر به��ا من غ��ير أن يم��ر على باب��ك.. ف��أنت ب��اب

القرآن.. وأنت الممثل لحقائقه.. وقد عرف من عاش مع ذلك، ول�ذلك ك��ان أحس��ن تعري��ف مختصر لك عندهم هو أنك نفس قيم الق��رآن وأخالق��ه ومعاني��ه؛ فيكفي من أراد أن ي��راك أن يق��رأ م��ا ورد في س��ور الق��رآن

الكريم عن المؤمنين وأخالقهم وقيمهم. وقد سئلت عائشة عن خلقك، فقالت في كلم��ة مختص��رة:

ثم ق��الت للس��ائل: )أم��ا تق��رأ الق��رآن،(2))كان خلقه الق��رآن(قول الله عز وجل: �ك لعلى خلق عظيم [(4 ]القلم: وإن

وقرأ ابن مسعود الوصايا الواردة في آخ��ر س��ورة األنع��ام، التي عليه��اثم قال: )من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله

(3)خاتمه، فليقرأ هؤالء اآليات((203( )772 )186/ 2)( رواه مسلم 1

.746/ 1)( رواه مسلم: 2

(359/ 3)( تفسير ابن كثير )3

39

ولذلك ك��ان الق��رآن الك��ريم أحس��ن مع��رف ب��ك، وأفض��ل مؤرخ لك.. وكان المرجع الوحي��د في ال��رد على ك��ل الدس��ائس التي حاول أصحاب الملك العضوض إلصاقها بك لتش��ويه ال��دين وتحريفه، وتحويلك من ذل�ك المق��ام الس�امي ال�ذي وص��فك ب��ه الق��رآن الك��ريم إلى تل��ك اله��وة الس��حيقة ال��تي أنزل��وك إليه��ا

بأهوائهم وأمراضهم وتدليسهم.

40

العالم الراسخ سيدي ي��ا رس��ول الل��ه.. ي��ا من علم��ه رب��ه من عل��وم ك��ل شيء، فكانت علومه كلها لدني��ة وهبي��ة، ال يحت��اج علم ش��يء إال وكان بين عينيه ويديه كما هو في حقيقته، ال يتطرق إليه الوهم،

وال يتسلل إليه الخطأ. وكيف يتطرق إليه الوهم، أو يتس��لل إلي��ه الخط��أ، والمعلم هو الله الذي أحاط بكل شيء علما.. والذي ال يغيب عنه ش��يء

في األرض وال في السماء، وال في الدنيا وال في اآلخرة؟ وكيف يتطرق إليه الوهم، أو يتسلل إلي��ه الخط��أ، والتلمي��ذ هو أنت � يا سيدي يا رس��ول الل��ه ��� ي��ا ص��احب القلب الط��اهر، الذي هو كالمرآة الصافية، تت��نزل علي��ه الحق��ائق، فيتقبله��ا كم��ا

هي، وتفيض عليه العلوم؛ فيستوعبها جميعا من غير معاناة؟ وكيف ال تكون كذلك سيدي، وأنت سيد ولد آدم.. وقد أخبر الل��ه أن آدم علي��ه الس��الم علم األس��ماء كله��ا.. وأن المالئك��ةماء �م آدم األس�� وعل ﴿سلموا له بالخالفة بسبب ذلك.. قال تعالى: ماء ه��ؤالء إن ��ة فق��ال أنبئوني بأس�� �ها ثم� عرضهم على المالئك كل

�ك31كنتم صادقين ) ��ا إن �متن ��ا إال� م��ا عل بحانك ال علم لن ( قالوا س�� ( قال ياآدم أنبئهم بأسمائهم فلم�ا أنبأهم32أنت العليم الحكيم )

ماوات واألرض ي أعلم غيب الس��� بأسمائهم قال ألم أق��ل لكم إن[33 - 31﴾وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ]البقرة:

فهذه اآليات الكريمة تشير إلى أن منصب الخالفة الرفي��ع، والذي كنت أنت ممثله األعلى، ونموذجه األسمى، يقتضي ت��وفرماء علوم كثيرة جدا إلى الدرجة التي س��ماها الل��ه تع��الى ]األس��

41

�ها[، بل إلى الدرجة ال��تي عج��زت المالئك��ة عليهم الس��الم أن كل يعرفوها.. وهم من هم.. فإذا كان ه��ذا عظم��ة العلم ال��ذي لقن آلدم علي��ه الس��الم، فكي��ف ب��العلم ال��ذي لقن ل��ك ي��ا س��يدي ي��ا

رسول الله؟ وكيف ال تكون كذلك، وقد أخبر الله تعالى أنه علم إبراهيم عليه السالم علوم الكون، وأراه حقائقها عيان��ا ال تلقين��ا، فق��ال:��ون من ماوات واألرض وليك ��وت الس��� ﴿ وكذلك نري إبراهيم ملك

[75﴾الموقنين ]األنعام: فه��ذه اآلي��ة الكريم��ة تش��ير إلى أن عل��وم األنبي��اء عليهم الصالة والسالم عل��وم رؤي��ة ومش��اهدة، وليس��ت عل��وم تلقين.. لذلك ال يعتريها الخطأ، وال يص��يبها ال��وهم، وال ي��دركها القص��ور.. فهل يمكن أن يكون ذلك إلبراهيم عليه السالم، ثم ال يكون لك،

وأنت سيد األنبياء جميعا، بل سيد الخلق جميعا؟ وهل يمكن أن يحصل ذل�ك، وق��د أخ�بر الل��ه تع�الى أن من هم دونك بكثير، ومن هم دون إبراهيم عليه الس��الم، وغ��يره من األنبي��اء، ومن ال��ذين أوت��وا بعض علم الكت��اب، اس��تطاعوا أن يقه��روا ك��ل الق��وانين الكوني��ة ال��تي نعرفه��ا، وأن يطلع��وا على القوانين الخفية فيها، ويستخدموها، فقال عن ص��احب س��ليمان��ل ��ه قب �ذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك ب قال ال ﴿عليه السالم:

� إليك طرفك ]النمل: [ ف��إذا ك��ان ه��ذا علم ص��احب40﴾أن يرتد من أص��حاب س��ليمان علي��ه الس��الم، وه��و علم مرتب��ط ببعض الكتاب، فكيف بعلمك يا سيدي ي��ا رس��ول الل��ه، وه��و علم بك��ل

الكتاب؟ وهل يمكن أن يحصل ذلك، وقد أخبر الله تعالى أن مص��در

42

علمك لدني، وأنك ال تحتاج إلى أستاذ من البشر، يلقنك الحقيقة��ك �ه علي وأنزل الل ﴿واألوهام المرتبطة بها، قال تعالى � يذكرك �: ��ك �ه علي �مك ما لم تكن تعلم وكان فضل الل الكتاب والحكمة وعل

[؟113﴾عظيما ]النساء: بل إن��ك ��� ي��ا س��يدي ي��ا رس��ول الل��ه ��� أخ��برت ب��ذلك عني نفسك، فقلت � مخاطبا أص��حابك، ومعهم األم��ة جميع��ا ���: )إن أرى ما ال ترون، وأسمع ما ال تسمعون، إن� السماء أطت، وح��ق� لها أن تئط، ما فيها موض��ع أرب��ع أص��ابع إال ومل��ك واض��ع جبهت��ه س�اجدا لل�ه، والل��ه ل�و تعلم�ون م�ا أعلم لض��حكتم قليال ولبكيتم كثيرا، وما تلذ�ذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات

(1)تجأرون إلى الله(

فمن تأمل هذا الحديث العظيم اكتفى ب��ه.. ف��أنت الص��ادق األمين، تشهد لنفسك بما آتاك الله من فضله، بأن علومك أك��بر من أن يستوعبها أهل جيل��ك أو غ��يرهم، ل��ذلك كنت ترف��ق بهم، فال تلقي لهم من العلم إال م���ا يمكن أن يفهم���وه، وتس���توعبه

عقولهم، وال يكون فتنة لهم. وقد شهد أصحابك ل��ك ب��ذلك، فق��د أخ��بر أب��و ذر عن بعض العلوم التي كنت تحدثهم عنها، فقال: )ولقد تركن��ا رس��ول الل��ه

)ب طائر بجناحيه في السماء إال ذكرنا منه علما (2) وما يقل

وحدث أبو زيد األنص��اري ق��ال: )ص��لى بن��ا رس��ول الل��ه صالة الصبح، ثم صعد المنبر، فخطبنا ح��تى حض��رت الظه��ر، ثم

)( رواه الترمذي وقال: حديث حسن.1

(11/348( وتفسير الطبري )1/200)( تفسير عبد الرزاق 2

43

ن��زل فص��لى العص��ر، ثم ص��عد المن��بر، فخطبن��ا ح��تى غ��ابت(1)الشمس، فحدثنا بما كان وما هو كائن، فأعلمنا أحفظنا(

قائم�ا، فم�اوحدث حذيفة قال: )ق�ام فين��ا رس��ول الل��ه ت��رك ش��يئا يك��ون في مقام��ه ذل��ك إلى قي��ام الس��اعة إال حدث��ه حفظه من حفظه ونس�يه من نس�يه، ق�د علم�ه أص�حابي ه�ؤالء وإنه ليكون الش�يء ف�أذكره كم�ا ي�ذكر الرج�ل وج�ه الرج�ل إذا

(2)غاب عنه ثم إذا رآه عرفه(

وهك��ذا وردت الرواي�ات الكث�يرة عن�ك، تخ�بر عن الحق�ائق العلمي��ة ال��تي كنت تبثه��ا إلى األم��ة، وفي المج��االت المختلف��ة النفس��ية واالجتماعي��ة.. ب��ل والطبي��ة والفلكي��ة والجيولوجي��ة

وغيرها.. وما غاب عنا أكثر بكثير.. وكلها تتناسب مع مرتبتك العظمى ال��تي ب��وأك الل��ه إياه��ا، فأنت � يا سيدي يا رسول الله � اإلنسان الكامل الذي جعله الله قدوة ونموذجا للبشرية جميعا.. وعلوم اإلنسان الكامل ال تحدها التخصصات، وال تقيدها.. ألنها إن كانت كذلك كانت عالمة جه��ل كبير.. فالمتخصص مقيد في سجن اختصاص��ه، ول��ذلك ال يفس��ر األش��ياء إال على ض��وئها.. فالمس��جون في س��جن علم االجتم��اع في س��جن مدرس��ة من مدارس��ه يب��ني مواقف��ه على أساس��ها.. والمس��جون في س��جون علم النفس، والمس��جون في س��جون

التخصصات المختلفة.. حتى التخصصات الدقيقة منها.. أما علومك أنت يا سيدي يا رس��ول الل��ه، فهي تختل��ف عن

)( رواه ابن سعد.1

)( رواه أبو داود.2

44

تلك العلوم جميعا، ألنها تستقي من محيط صبت فيه جميع بحار العلوم والمعارف، أو كانت هي مصدر جميع العلوم والمع��ارف؛ فعلومك � يا سيدي يا رسول الله � عل��وم رباني��ة تنب��ع من بح��ارهد �ه يش�� ﴿علم الله الواسع، كما شهد لذلك قوله تع��الى: لكن الل�ه هدون وكفى بالل ��ة يش�� ��ه بعلم��ه والمالئك ��ك أنزل ��زل إلي بم��ا أن

)النساء: ( 166﴾شهيدا فهل يمكن أن ينزل الله عليك شيئا من القرآن الكريم، ثم يحجب عنك علوم��ه ومعارف��ه.. مع��اذ الل��ه، وكي��ف يك��ون ذل��ك، وأنت المكلف ببيان الق��رآن الك��ريم، وه��ل يمكن أن ت��بين م��ا ال

تعلم تفاصيل علومه؟ وما دمت كذلك � سيدي ��� وم��ا دام الق��رآن الك��ريم حاوي��ا��اب ��ك الكت ��ا علي لن ﴿ألصول علوم كل شيء، كما قال تع��الى: ونز�لمين )النح��ل: رى للمس� يء وه�دى ورحم�ة وبش� �ل ش� ﴾تبيانا لك

(، ف��أنت ��� بال ش��ك وال ريب ��� تحم��ل ف��روع تل��ك األص��ول،89وحقائق تلك المعاني، وتفسير تلك المجمالت.

لقد غابت كل ه��ذه الحق��ائق عن المس��تغرقين في ع��والم أنفسهم األمارة بالس��وء؛ فراح��وا يتوهم��ون أن قابليت��ك للعل��وم تشبه قابليتهم، وأن قدرتهم المحدودة تشبه قدرتك.. وأنك لذلك لس��ت بتل��ك األوص��اف ال��تي وص��فك به��ا رب��ك، أو وص��فت به��ا

نفسك. وقد دعاهم إلى هذا ما يرون��ه من العل��وم الكث��يرة.. وال��تي ألفت فيه��ا آالف.. ب��ل عش��رات اآلالف من المراج��ع الض��خمة.. وقد جعلهم ذلك يتوهمون أنهم إن نسبوا ل��ك م��ا ذك��ره الق��رآن الكريم عنك من الرسوخ في العلم؛ فإن ذلك يستدعي أن تكون

45

حافظا لكل تلك المراجع.. ما أعظم وهمهم � سيدي ��� فتل��ك المراج��ع الكث��يرة يمكن تلخيص ما يفي��د منه��ا في كلم��ات مع��دودات.. هم ي��رون ذل��ك.. ويعلمون أن كل العلوم، وعلى مدار تاريخها الطوي��ل، والممتلئ بالكثير من األوهام، تخرج بقوانين ونظريات محدودة، تعبر عنه��ا

بكلمات أو رموز معدودة. هم يعلمون أن المعادلة ال��تي تنص على العالق��ة بين كتل��ة جسيم وطاقته، والتي تعتبر الطاقة مساوية للكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء.. كتب من أجل الوصول إليه��ا آالف األوراق، وبذل من الجه��ود ��� طيل��ة ت��اريخ البش��رية ��� م��ا ب��ذل من أج��ل التحق��ق منه��ا.. ولم يكن ذل��ك في علم واح��د.. ب��ل في عل��وم كثيرة.. ولهذا ف��إن من وص��ل إليه��ا لن يك��ون مض��طرا للتع��رف

على كل تلك التفاصيل التي أدت إليها. وهكذا يمكن أن يكتفي من يريد أن يص��ل إلى حق��ائق علم الفلك جميع��ا، بعي��دا عن ك��ل األوه��ام ال��تي تس��ربت إليه��ا ع��بر التاريخ أن يشاهد فلما واحدا يريه المجرات والنجوم والك��واكب وغيرها.. ليبز بعلمه حينها كل من م��ر في الت��اريخ، وه��و متعل��ق

بأوهام كثيرة. فإذا كان هذا حال من يشاهد فلما.. فكيف بمن ك��ان قلب��ه مرآة ومرصدا يرى الكون واإلنسان والمجتم��ع وك�ل ش��يء كم��ا هو بالفعل، ال كم�ا يوص�ف ل�ه.. وه�ل يحت�اج المبص�ر لش�رح أو

توضيح أو إطالة تفصيل.. وهل الخبر كالعيان؟ ليت األمر توقف عند هؤالء.. بل إن بعضهم ممن يزعم��ون أنهم يعرفوك، راحوا يشكلون على هذا الوصف فيك.. ويضربون

46

جميع تلك اآليات القرآنية، واألح��اديث القطعي��ة، بح��ديث وض��عه أعداؤك الذي آلمهم أال تك��ون مثلهم في جهلهم وض��اللهم، حيث رووا أنك لما ق��دمت المدين��ة، وج��دتهم يلقح��ون النخ��ل، فقلت: )ما تصنعون؟( ق��الوا: كن�ا نص�نعه، فقلت: )لعلكم ل�و لم تفعل��وا كان خيرا(، فتركوه، فتأثرت محاصيلهم لذلك، فذكروا ذلك ل��ك، فقلت: )إنما أنا بشر، إذا أم��رتكم بش��يء من دينكم فخ��ذوا ب��ه،

(1)وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر(

ولم يكتفوا � لجهلهم � بهذه الرواية، بل عضدوها بالروايات الكثيرة، وذكروا أن الحادثة متعددة، أي أن��ك م��ررت على ن��اس متعددين، وأخبرتهم جميع�ا ب�أن الت��أبير ال منفع�ة في�ه.. ثم ت�بين للجمي��ع أن أخ��ذهم بنص��يحتك أض��ر بهم، فكنت أنت س��بب م��ا

حصل لهم ولمحاصيلهم، وفي أول دخولك للمدينة. فهل يعقل هذا، وهل يعق��ل أن تك��ون أول نص��يحة تق��دمها للفالحين نصيحة تضر بهم، وبمنتوجهم الذي يعتم��دون علي��ه في

حياتهم؟ لقد راح كل أولئك يتعلقون بهذه الرواية المدسوسة عن��ك، ليشيعوا بين الناس مسلمهم وغير مس��لمهم، ب��أن علوم��ك غ��ير المرتبطة بالشريعة، هي نفس علوم قومك، وأن األخط��اء ال��تي

كانت لديهم، كانت لديك. لقد قال بعض المعاصرين يذكر ذلك، وال يستحيي من��ه: )ال

في أمور الدنيا مطابقا للواقع، بل قديجب أن يكون اعتقاده يقع الخطأ في ذلك االعتقاد قليال أو كثيرا، ب�ل ق�د يص�يب غ�يره

.. وليس في ذل��ك ح��ط من منص��به العظيمحيث يخطئ ه��و )( رواه مسلم..1

47

ال��ذي أكرم��ه الل��ه ب��ه؛ ألن منص��ب النب��وة منص��ب على العلم ب��األمور الديني��ة: من االعتق�اد في الل��ه ومالئكت��ه وكتب��ه ورس��له واليوم اآلخر، ومن األم��ور الش��رعية. أم��ا إن اعتق��د دواء معين��ا يشفي من م��رض معين، ف��إذا ه��و ال يش��في من��ه، أو أن ت��دبيرا زراعيا أو تجاري��ا أو ص��ناعيا ي��ؤدي إلى ه��دف معين، ف��إذا ه��و ال يؤدي إليه، أو يؤدي إلى عكسه، أو أن ت��دبيرا عس��كريا أو إداري��ا سينتج مصلحة معينة، أو يدفع ضررا معينا، فإذا هو ال يفعل، فإن ذلك االعتقاد ال دخ��ل ل��ه ب��النبوة، ب��ل ه��و يعتق��ده من حيث ه��و إنسان، له تجاربه الشخصية، وتأثرات��ه بم��ا س��بق من الح��وادث، وما سمع أو رأى من غيره؛ مما أدى إلى نتائج معينة. فكل ذل��ك يؤدي إلى أن يعتقد كما يعتقد غيره من البش��ر، ثم ق��د ينكش��ف

(1)الغطاء فإذا األمر على خالف ما ظن أو اعتقد(

وقال آخر، وهو من القدامى، يتهم ما ج��اءت ب��ه الرواي��ات عنك في حفظ الصحة، والنصائح العظيمة المرتبطة بها: )الطب المنقول في الشرعيات من هذا القبي��ل، وليس من ال��وحي في شيء، وإنما هو أمر ك�ان عادي�ا للع�رب، ووق��ع في ذك�ر أح�وال

من نوع ذكر أحواله التي هي عادة وجبل��ة، ال من جه��ةالنبي إنم��ا بعثأن ذلك مشروع على ذلك النحو من العم��ل، فإن��ه

ليعلمن����ا الش����رائع، ولم يبعث لتعري����ف الطب وال غ����يره من العاديات. وقد وق��ع ل��ه في ش��أن تلقيح النخ��ل م��ا وق��ع، فق��ال: )أنتم أعلم ب���أمور دني���اكم...(؛ فال ينبغي أن يحم���ل ش���يء من الطب ال��ذي وق��ع في األح��اديث المنقول��ة على أن��ه مش��روع، فليس هناك ما يدل عليه، اللهم إذا اس��تعمل على جه��ة الت��برك وصدق القصد اإليماني، فيكون له أثر عظيم النف��ع، وليس ذل��ك

.. ه�ل”الطب النب��وي“)( انظر ملفا بعن�وان ]الطب النب��وي.. رؤى نقدي�ة أح�اديث 1يحتج بها[ على إسالم أون الين وغيره من المواقع.48

(1)في الطب المزاجي(

في أم��ور ال�دنيا؛ فنحن نس��برهاوقال آخر: )أما أحوال�ه على أسلوبها المتقدم بالعقد والقول والفع��ل؛ أم��ا العق��د منه��ا، فقد يعتقد في أمور الدنيا الش��يء على وج��ه ويظه��ر خالف��ه، أو يكون منه على شك أو ظن بخالف أمور الشرع - ثم ذكر حديث تأبير النخل - ثم قال: وهذا على ما قررن��اه فيم��ا قال��ه من قب��ل نفس��ه في أم��ور ال��دنيا وظن��ه من أحواله��ا ال م��ا قال��ه من قب��ل نفس��ه واجته��اده في ش��رع ش��رعه وس��نة س��نها.. فمث��ل ه��ذا وأش��باهه من أم��ور ال��دنيا ال��تي ال م��دخل فيه��ا لعلم ديان��ة، وال اعتقادها وال تعليمها، يجوز عليه فيها ما ذكرناه، إذ ليس في هذا كله نقيصة وال محطة، وإنما هي أمور اعتيادية يعرفها من جربها

مش��حون القلبوجعله��ا هم��ه وش��غل نفس��ه به��ا، والن��بي بمعرف��ة الربوبي��ة، مآلن الج��وانح بعل��وم الش��ريعة، مقي��د الب��ال

(2)بمصالح األمة الدينية والدنيوية(

وغيرها من األقوال الكثيرة التي ألغي به��ا الق��رآن الك��ريم تعلقا بالحديث الذي يسمونه حديث ]تأبير النخل[، والذين مح��وا به كل ما ورد في القرآن الكريم من أن��ك ال تنط��ق عن اله��وى،

وكل معارفك وعلومك لدنية.

وم��ا ينط��ق ﴿ولو أنهم اكتفوا بقراءة قوله تعالى في حقك: [، لعلموا أن4، 3﴾( إن هو إال� وحي يوحى ]النجم: 3عن الهوى )

هذه اآليات وحدها كافي��ة لتك��ذيب ك��ل رواي��ة تخالفه��ا، لكنهم ال

.493)( مقدمة ابن خلدون: ص1

.185- 183 /2)( الشفا بتعريف حقوق المصطفى: 2

49

يرجعون للقرآن، بل ينسخون معاني��ه بم��ا يص��لهم من الرواي��اتالتي دسوها عليك، حتى يقللوا من شأنك.

ول��و أنهم رجع��وا إلى األح��اديث ال��تي يعتبرونه��ا نفس��ها، لوج��دوا الحقيق��ة، وعلم��وا أن��ه يس��تحيل علي��ك أن تق��ول ش��يئايخالفه الواقع، وكيف يكون ذلك، وهل ذلك إال الكذب المحض؟

لو أنهم � يا سيدي يا رسول الله � رجعوا لتلك الرواية التي حدث بها عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل ش��يء أس��معه

أريد حفظه فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كلمن رسول الله بش��ر يتكلم في الغض��ب والرض��ا،ش��يء؟ ورس��ول الل��ه

، فأوم��أفأمس��كت عن الكت��اب، ف��ذكرت ذل��ك لرس��ول الل��ه بإصبعه إلى فيه فقال: )اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج من��ه

(1)إال حق(

هل رأيت سيدي المصدر الذي أخ��ذوا من��ه ذل��ك الموق��ف، إنه��ا ق��ريش ال��تي اس��تكبرت علي��ك، وعادت��ك، وبع��د أن رأت انتصاراتك المتوالية، لم تجد إال أن تتبع��ك، وفي قلبه��ا ك��ل تل��ك

األحقاد عليك؟ ال نملك � يا سيدي يا رسول الله ��� إال أن نح��زن على تل��ك العقول التي لم تعرفك.. وال��تي امتألت باألوه��ام والجه��ل ال��ذي

حجبها عن أن تستوعب فضل الله عليك.. فنسألك � يا سيدي يا رسول الله ��� ي��ا من يج��ير من التج��أ إليه، وال يرد من اس��تغاث ب��ه، أن تجيرن��ا من تل��ك الفه��وم، وأن تحفظ عقولنا وتغيثها من أن تتس��رب إليه��ا تل��ك األوه��ام، ح��تى

)( رواه أبو داود.1

50

نزداد حبا لك، وتقديرا لما وهبك الله من فضله العظيم.

51

العارف المحقق يا أعرف الخلق بالل��ه، وأعلمهم ب��ه،سيدي يا رسول الله..

وأقربهم منه، وأكثرهم ذكرا له، وأهداهم في الداللة عليه. ما عسى مثلي أن يتحدث عن معرفة مثلك بالله، وبحقائق الوجود، وأنت الذي قلت ألولئك الذين أرادوا أن يتخذوا لس��لوك طريق المعرفة منهجا غير منهجك: )ما بال أق��وام يت��نزهون عنالشيء أصنعه فوالل��ه إني ألعلمهم بالل��ه، وأش��دهم ل��ه خش��ية(

(1)

وكي��ف ال تك��ون ك��ذلك، وأنت ال��ذي ت��نزل علي��ك الق��رآن الكريم، وهو دائرة المعارف الكبرى لك��ل حق�ائق الوج�ود.. وم�ا تنزلت عليك آية إال وقد عشتها، وذقتها، وتنزل عليك من فهمه��ا

ومعانيها وأسرارها ما ال تطيقه الخالئق؟ وكيف ال تكون كذلك، وأنت الذي كنت تبصر بعي��ني بص��رك وبص��يرتك م��ا ال يطي��ق غ��يرك أن يبص��ره، أو يدرك��ه، وق��د كنت تقول في ذلك: )أرى م��اال ت�رون، وأس��مع م�اال تس��معون، أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موض��ع أرب��ع أص��ابع إال ومل��ك واضع جبهته لله ساجدا(، ثم عقبت على ذلك بقولك: )والل��ه ل��و تعلم��ون م��ا أعلم لض��حكتم قليال، ولبكيتم كث��يرا، وم��ا تل��ذذتمبالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله(

(2)

(2356( واللفظ له. ومسلم )7301 )13)( رواه البخاري- الفتح 1

( وق��ال4190( وقال: حديث حسن واللف��ظ ل��ه، وابن ماج��ة )2312)( الترمذي )2

52

وكيف ال تكون ذلك، وأنت الذي سماك الله عبدا.. وال ين��ال حقيق��ة العبودي��ة إال من ن��ال ش��رف المعرف��ة بالل��ه.. فكم��ال

العبودية دليل على كمال المعرفة. وكي��ف ال تك��ون ك��ذلك، وأنت ال��ذي أراك الل��ه من آيات��ه الكبرى، وعرج بك في الس��موات العلى، وم��ا بع��دها، كم��ا ق��ال

�جم إذا هوى )تعالى: ( وما2( ما ضل� صاحبكم وما غوى )1والن��وحى )3ينطق عن اله��وى ) ديد4( إن ه��و إال� وحي ي �م��ه ش�� ( عل

ة فاستوى )5القوى ) ��األفق األعلى )6( ذو مر� ��ا7( وهو ب ( ثم� دن�ى ) ( فأوحى إلى عبده م��ا9( فكان قاب قوسين أو أدنى )8فتدل ( أفتمارونه على ما يرى11( ما كذب الفؤاد ما رأى )10أوحى )

��ة أخ��رى )12) درة المنتهى )13( ولق��د رآه نزل ��د س�� (14( عن�ة المأوى ) ى )15عندها جن درة م��ا يغش�� ( م��ا16( إذ يغشى الس��

��رى )17زاغ البصر وما طغى ) ه الكب (18( لقد رأى من آيات رب :[18 - 1 ]النجم

فه���ذه اآلي���ات الكريم���ة ت���دل على أن معارف���ك بالل���ه، والمالئكة، واألنبي��اء، وجمي��ع حق��ائق الوج��ود، مع��ارف مش��اهدة وعيان، ال لبس فيها.. وليست مج��رد معلوم�ات ألقيت إلي�ك من

غير أن تكون قد رأيتها أو عشتها. ولهذا، فإن من ذكر رؤيتك لل��ه لم يكن كاذب��ا في ذل��ك؛ فال يمكن��ك أن تك��ون دليال على الل��ه وأنت لم ت��ره.. وكي��ف ال ت��راه أنت، وقد قال تلميذك األكبر اإلم��ام علي لمن س��أله: ه��ل رأيت��ا لم أره(، ق��ال: ربك حين عبدته؟ فقال: )ويلك ما كنت أعب��د رب وكي��ف رأيت��ه؟ فق��ال: )ويل��ك ال تدرك��ه العي��ون في مش��اهدة

(173/ 5(: إسناده حسن. وأحمد في المسند )13/ 4محقق جامع األصول )53

(1)األبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق اإليمان(

وكيف ال تراه، وأنت الذي ذكرت مقام اإلحس��ان ال��ذي ه��و��ك دون مقامك بكثير، فقلت لمن سألك عنه: )أن تعب��د الل��ه كأن

(2)تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك(

وكي��ف ال تك��ون معارف��ك كله��ا مع��ارف رؤي��ة وش��هود، وتالميذك الذين هم أدنى منك بكثير كانوا يرزقون رؤية بعض ما ترى، وقد روي عن ص��احبك الح��ارث بن مال��ك األنص��اري ق��ال:

فقال: )كيف أصبحت يا حارث؟( قال: أص��بحتمررت بالنبي مؤمنا حقا. فقال: )انظر ما تقول؟ فإن لكل شيء حقيق��ة، فم��ا حقيقة إيمانك؟( فقال: قد عزفت نفس��ي عن ال��دنيا، وأس��هرت لذلك ليلي، واطمأن نهاري، وكأني أنظر إلى ع��رش ربي ب��ارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل

(3)النار يتضاغون فيها. فقال: )يا حارث عرفت فالزم(

لم تكن معارفك � سيدي يا رسول الل��ه ��� مع��ارف قاص��رة عليك، بل كنت تبثها بأبلغ عبارة، وأجم��ل بي��ان، ح��تى يعيش من

يسمع كلماتك الحقائق كما هي من غير تبديل وال تحريف. وق��د ذك��ر بعض ص��حابتك ت��أثير كلمات��ك فيهم، فق��ال: )ي��ا��ا رأي ��ة، حتى كأن ��ار والجن رسول الله، نك��ون عن��دك ت��ذكرنا بالن

..98، 1)( أصول الكافي، 1

( 90( واللفظ له. ومسلم )50 )1)( البخاري- الفتح 2

266/ 3(، المعجم الكبير للطبراني 30425 ح )170/ 6)( مصنف ابن أبي شيبة 3(3367ح )

54

عين، فإذا خرجنا من عندك، عافسنا األزواج واألوالد والضيعات،��ذي نفس��ي بي��ده إن ل��ونسينا كثيرا(، فقال رسول الله : )وال

تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحتكم المالئكة (1)على فرشكم وفي طرقكم(

ولهذا، فإن الثروة العظيمة من كلمات��ك الممتلئ��ة ب��األنوار، وأدعيتك ومناجياتك التي تدل على كل حقائق الوجود ومعانيه ال يمكن مقارنته��ا بك��ل ت��راث البش��رية.. فل��و جمعن��ا م��ا كتب في جميع الديانات، وما تنزلت به جميع الكتب المقدسة، وم��ا تف��وه به كل القديسين على مدار التاريخ سابقه والحقه، ما وصل إلى جزء بسيط من تلك الثروة العظيمة التي ال نزال نتن��ور بنوره��ا،

ونتزود بمعانيها. ولو قارنا ما تركته لنا من حيث المعنى بم��ا ج��اءت ب��ه ك��ل ال��ديانات، وم��ا ذك��ره ك��ل القديس��ين.. لوج��دنا الف��روق الهائل��ة العظيمة.. فأنت كنت تغترف من البحر ال�ذي لم يك�در، والمنب�ع

الذي لم يبدل.. ولو أضفنا إلى تلك الثروة العرفانية العظيم��ة ال��تي تركته��ا م��ا ترك��ه لن��ا ورثت��ك وعترت��ك ال��ذين لم ينهل��وا إال من منهل��ك العذب.. لم��ا ك��ان لغ��يرك ظه��ور مع��ك.. وه��ل يمكن للك��واكب

البعيدة أن تظهر مع الشمس الساطعة التي ال يحجبها شيء؟ لقد رحت � سيدي � أتأم��ل كلمات��ك وأدعيت��ك وح��ديثك عن ربك وحديثك عن الوجود، فعشت معان سامية ال يمكن أن يع��بر عنه��ا إال من ذاقه��ا من كأس��ك، ف��أنت ال��ذي تس��قي أمت��ك من حوضك في الدنيا قبل أن تسقيهم في اآلخرة.. ومن لم يش��رب

(2750)( مسلم )1

55

من حوضك في الدينا، فلن يشرب منه في اآلخرة. ما عساي أن أقول لك � سيدي رسول الله � وأنا أرى أمتك تعرض عن كثير مما تركته لهم من معارف صافية خالصة نابع��ة من بحر حقائق الوج�ود المق�دس.. إلى أنه�ار مدنس�ة ب�األهواء،

ممتلئة بوحي الشيطان. لقد تركوا � سيدي � أدعيتك ومناجياتك التي قلتها، أو قاله��ا عترت�ك الط��اهرون الوارث�ون ل�ك، واخ�ترعوا كث��يرا من األدعي��ة البديلة.. وبألفاظ ركيكة، وبمع��اني ممتلئ��ة ب��الغموض.. ليتقرب��وا بها إلى الله، فلم يزدادوا منه إال بع��دا.. فم��ا ع��رف الل��ه من لم يعرفك، وما عرف الله من سلك غير سبيلك، وما عرف الله من زه��د فيم��ا جئت ب��ه، وراح يطلب الحكم��ة من غ��ير م��دنها وال

أبوابها. يا سيدي يا رسول الله.. هم لم يكتف��وا ب��ذلك.. ب��ل راح��وا إلى اإلس��رائيليات والغنوص��يات الش��رقية والغربي��ة.. ولك��ل من هب ودب ينهل��ون من��ه حق��ائق الوج��ود، وك��أن المع��ارف ال��تي جئتهم بها نقية خالصة لم تكن كافية لتروي ظم��أهم المع��رفي.. فراح��وا يمزج��ون العس��ل المص��فى ال��ذي جئتهم ب��ه بمي��اه المستنقعات المكدر.. فاختلط الدين عليهم.. وأصبحت المعرفة بالله مجموع��ة من الطالس��م ال��تي تص��رف عن الل��ه أك��ثر مم��ا

تعرف به، أو تقرب إليه. يا سيدي يا رسول الله.. فأسألك أن تنق��ذني من ك��ل تل��ك األوهام التي نشرها المؤثرون لغيرك، ح�تى تك�ون أنت أس�تاذي

ودليلي وشيخي.. وأسألك أن تزج بي في بحر المعارف الخالصة النقية ال��تي

56

جئت به��ا، ودع��وت إليه��ا، ح��تى ال يتس��رب إلى عقلي، وال إلى قل���بي، وال إلي حقيق���تي تل���ك األه���واء الممزوج���ة بوس���اوس الشياطين.. فأنت صاحب الشفاعة العظمى، والجاه العظيم.. ال ترد من سألك، وال تخيب من طلبك.. وال تصد من استجار ب��ك.. ب�ل تؤوي�ه وتطعم�ه وتس��قيه من طعام��ك ال�ذي ذكرت�ه، فقلت:

(1))وأيكم مثلي؟ إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني(

(1104( واللفظ له، ومسلم )7241 )13)( البخاري- الفتح 1

57

اإلمام الممكن سيدي يا رسول الله.. يا من بوأه الله بعد النبوة والرس��الة منص��ب اإلمام��ة اإللهي��ة الرفي��ع، ومكن ل��ه في األرض، ونش��ر اسمه في العالمين، فصار إمام العالم ظاهرا وباطنا، من عرف��ه واتبعه وس��لك س��بيله وص��لى خلف��ه ك��ان من الن��اجين الف��ائزين السابقين، ومن راح يبحث عن غيره، أو رضي بس��واه ب��دال ك�ان كأولئ��ك ال��ذين طلب��وا الذل��ة بع��د الع��زة، والس��راب بع�د الم��اء،

والظلمات بعد النور. وكيف ال يك��ون أم��رهم ك��ذلك، وق��د أخ��بر الل��ه تع��الى عن الرسل عليهم السالم، وأنهم م��ع مك��انتهم الرفيع��ة، أخ��ذ عليهم

ين لم��االميثاق باتباعك، ق��ال تع��الى: �بي ��اق الن �ه ميث وإذ أخ��ذ اللدق لم��ا معكم ول مص�� ��اب وحكم��ة ثم� ج��اءكم رس�� آتيتكم من كتري �ه ق�ال أأق�ررتم وأخ�ذتم على ذلكم إص� رن �ه ولتنص� �ؤمنن� ب لت

اهدين ) ��ا معكم من الش��� ( فمن81قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنقون �ى بعد ذلك فأولئك هم الفاس�� [،82،�� 81 ]آل عم��ران: تول

وقد ورد في تفسيرها عن تلميذك األكبر اإلمام علي قول��ه: )م��ا بعث الله نبيا من األنبياء إال أخذ عليه الميث��اق، لئن بعث محم��دا وه��و حي لي��ؤمنن ب��ه ولينص��رنه، وأم��ره أن يأخ��ذ الميث��اق على

�ه(أمته: لئن بعث محمد (1)، وهم أحياء ليؤمنن� به ولينصرن

ولهذا كان التبشير بك، والدعوة التباعك ج��زءا من دع��وات الرسل عليهم الصالة والسالم، وقد أخبر الله تعالى عن المسيح

(، وتفس��ير386/�� 1(، وتفس��ير ابن كث��ير )236/�� 2)( تفسير ابن جرير الط��بري )1(322/ 1البغوي )

58

�ه إليكمعليه السالم قوله لقومه: ي رسول الل يابني إسرائيل إنرا برسول يأتي من بع��دي �وراة ومبش مصدقا لما بين يدي� من الت

[6 ]الصف: اسمه أحمد وال يزال في أناجيلهم إلى اليوم قول المسيح عليه الس��الم موص��يا تالمي��ذه: )إن كنتم تحبون��ني، ف��احفظوا وص��اياي، وأن��ا أطلب من اآلب فيعطيكم معزي��ا آخ��ر، ليمكث معكم إلى األب��د، روح الح��ق ال��ذي ال يس��تطيع الع��الم أن يقبل��ه، ألن��ه ال ي��راه وال يعرفه، وأما أنتم فتعرفونه ألنه م��اكث معكم، ويك��ون فيكم.. إن أحبني أحد يحفظ كالمي، ويحب��ه أبي وإلي��ه ن��أتي، وعن��ده نص��نع منزال.. الذي ال يحبني ال يحف��ظ كالمي، والكالم ال��ذي تس��معونه ليس لي، بل لآلب الذي أرسلني، بهذا كلمتكم وأنا عندكم، وأم��ا المعزي الروح القدس الذي سيرسله اآلب باسمي فه��و يعلمكم كل شيء، ويذكركم بكل م��ا قلت��ه لكم.. قلت لكم اآلن قب��ل أن يكون، حتى متى ك��ان تؤمن��ون، ال أتكلم أيض��ا معكم كث��يرا، ألن

-15/�� 14رئيس هذا العالم يأتي، وليس له في شيء( )يوحن��ا 30)

ولهذا كنت أنت إمام األنبي��اء ال��ذين تش��رفوا بلقائ��ك، وق��د ورد في ح��ديث اإلس��راء قول��ك: )وق��د رأيت��ني في جماع��ة من

(1)األنبياء.. فحانت الصالة فأممتهم(

وله��ذا ورد في األح��اديث الكث��يرة أن��ك في ذل��ك الموق��ف الش��ديد ال��ذي تقف��ه الخالئ��ق ي��وم الحس��اب، وبع��د أن يجه��دوا للبحث عمن يك���ون إم���امهم وقائ���دهم وواس���طتهم إلى الل���ه للش��فاعة بتعجي��ل الحس��اب، تك��ون أنت إم��ام ذل��ك الموق��ف

(172)( مسلم )1

59

وسيده.. ولو أنهم بادروا إليك من أول الحس��اب لم��ا ظل��وا في��هلحظة واحدة.

لق��د كنت تغض��ب س��يدي عن��دما ت��رى من يري��د أن ي��أتم بغ��يرك، أو ينه��ل الحق��ائق والقيم من س��واك، ولم يكن غض��بك لنفسك، فأنت أرفع وأعظم من أن تغضب لها، وإنما كان غضبك لترك المنبع الص��افي الممت��د لمص��در الحقيق��ة، واالغ��تراف من الروافد الصغيرة، الممتلئة بالدنس، وقد روي أن بعضهم جاءك، فقال: )يا رسول الله، إني مررت بأخ لي من قريظة، فكتب لي جوام��ع من الت��وراة، أال أعرض��ها علي��ك؟(، فقلت ل��ه: )ل��و أن

(1)موسى كان حيا ما وسعه إال أن يتبعنى(

كان غضبك سيدي كغضب الطبيب من المريض الذي يترك العالج عنده، ويذهب إلى المش��عوذين وال��دجالين لي��دمر ص��حته باتباعهم، وت�رك من جعلهم الل��ه واس�طة لحف�ظ ص�حته، وعالج

أدوائه. ولذلك كنت أنت يا رسول الله وال ت��زال ترياق��ا يع��الج ك��ل هموم األمة ومش�اكلها.. وكنت وال ت��زال اإلكس��ير األحم��ر ال�ذي يح���ول حاله���ا من أس���وئها إلى أحس���نها.. وكنت أنت المنق���ذ

والمغيث لألمة والمخلص لها من كل األزمات. وقد شهد لك بذلك من عرفوك ولو لم يتبعوا سبيلك، وق��د

ماقال المفكر واألديب اإلنجل��يزي ]ج��ورج برن��ارد ش��و[ عن��ك: ) فنجان يحتسي وهو العالم مشاكل ليحل محمد الى العالم أحوج(قهوة

(: رواه أحمد، وأبو174/� 1( قال الهيثمى )15195، رقم 387/� 3)( رواه أحمد )1يعلى، والبزار.

60

وقال ]ليتسين[ لك بأبيات من الش��عر يق��ول فيه��ا: مخاطبا يا ابن مكة ويا نسل األكرمين.. يا معيد مجد اآلب��اء واألمه��ات..)

ويش��كر.. يا مخلص العالم من ذا العبودية.. إن العالم ليفتخ��ر بك الله على تلك المنحة العزيزة.. ويقدر ل��ك مجهودات��ك كله��ا.. ي��ا نسل الخليل إبراهيم.. يا من منحت السالم الى العالم.. ووفقت بين قل��وب البش��ر.. وجعلت الخالص ش��عارك.. ي��ا من قلت في

شريعتك: إنما األعمال بالنيات.. لك منا جزيل الشكر( بالرجل الع��رب ن��بي: )لم يكن محم��د [لويس ]ساديووقال

لم ألنه. الن��اس أنص��فه لو. للع��الم بل. فحسب للع��رب البش��ير . وأن تعاليم��ه الج��ديرة بالتق��ديرب��العرب خ��اص ب��دين ي��أت

واإلعج��اب ت��دل على أن��ه عظيم في دين��ه. عظيم في أخالق��ه. عظيم في صفاته. وما أحوجن��ا الى رج��ال للع��الم أمث��ال محم��د

(المسلمين نبي لكن الكثير من أمتك سيدي � مع كل هذا الكمال والجم��ال ال��ذي كنت علي��ه، وجئت ب��ه ��� أعرض��وا عن��ك، وراح��وا يعمل��ون أهواءهم، ويقتبسون من الشرق والغرب، ويخلطون ذل��ك ببعض هديك كما يفعل من يخل��ط الس��م بالعس��ل.. ف��أوهمهم العس��ل أنهم على ه��ديك، وأن��ك إم��امهم لكن الس��م ك��ان يس��ري في

حقائقهم ليدمرها، ويشوهك، ويشوه هديك. لقد ذكرت سيدي ذلك، وح��ذرت من��ه، ودع��وت إلى ص��فاء��ة ال المنبع، فقلت: )والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيض��اء نقي تس��ألوهم عن ش��يء فيخ��بروكم بح��ق فتك��ذبوا ب��ه أو بباط��ل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موس��ى ص��لى الل��ه علي��ه

61

(1)وسلم كان حيا ما وسعه إال أن يتبعني(

وقد أخبرت سيدي عن ذلك الدخن الذي يختلط فيه ه��ديكر من خ��ير؟(، بغ��يره، فقلت لمن س��ألك: )ه��ل بع��د ذل��ك الش�� فأجبت��ه ق��ائال: )نعم، وفي��ه دخن(، فس��ئلت: وم��ا دخن��ه؟ فقلت: )قوم يس��تنون بغ��ير س��نتي، ويه��دون بغ��ير ه��ديي، تع��رف منهم

(2)وتنكر(

ولذلك كنت تح��ذر من الب��دع، واتباعه��ا، وتعتبره��ا أك�بر من يص��رف الن��اس عن إمامت��ك، ليتخ��ذ الن��اس بع��دك أئم��ة جهل��ة يض��لون ويض��لون، وكنت تق��ول: )من أح��دث في أمرن��ا ه��ذا م��ا

(3)ليس منه فهو رد(

بل إن القرآن نطق بذلك، ودعا إليه، وح��ذر من ترك��ك إلىتقيماغيرك، وقد ورد فيه قوله تع�الى: راطي مس� وأن� ه�ذا ص�

ق بكم عن سبيله ذلكم وص�اكم به بل فتفر� �بعوا الس �بعوه وال تت فات�قون �كم تت [153 ]األنعام: لعل

وق��د ح��دث ابن مس��عود عن تفس��يرك لآلي��ة، واس��تعمالك لبيانها ما يوضحها أحسن توضيح، فقال: خط لنا رس��ول الل��ه

يوما خطا فقال: )ه�ذا س�بيل الل�ه(، ثم خ�ط خطوط�ا عن يمين الخط ويساره وقال: )هذه سبل، على ك��ل س��بيل من��ه ش��يطان

(441(، والدارمي برقم )387/ 3)( رواه أحمد )1

(1847)( مسلم )2

(1718( واللفظ له. ومسلم )2697 )5)( البخاري الفتح 3

62

�بع��وايدعوه، ثم تال: �بعوه وال تت تقيما ف��ات راطي مس�� وأن� هذا ص���ق��ون �كم تت ��ه لعل اكم ب بيله ذلكم وص��� ق بكم عن س�� بل فتفر� الس

(1)[ يعني الخطوط التي عن يمينه ويساره(153]األنعام:

فهذا الحديث يبين أن سبيل الحق واحد، وس��بل الش��يطان متعددة، وأن الحق قد يختلط بالباط��ل ح��تى يت��وهم الن��اس أن��ه الحق.. ويبين فوق ذلك كله أنك أنت مصدر الحق وإمامه.. ومن

ينهل الحق من غيرك ضل. وله��ذا ك��ان ورثت��ك الص��ادقون يح��ذرون من أولئ��ك ال��ذين تركوك، وراحوا يأتمون بغيرك، وقد قال اإلم��ام علي، لمن رآهم��دء وق��وع الفتن، ه��ا الن��اس إنم��ا ب يهجرونك، ويتبعون غ��يرك: )أي�بع، وأحكام تبتدع، يخ��الف فيه�ا كت�اب الل�ه، يت�ولى فيه�ا أهواء تت رجال رجاال، فلو أن الباطل خلص لم يخف على ذي حجى، ول��و أن الحق خلص لم يكن اختالف، ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان فيجيئان معا فهنالك استحوذ الشيطان على

(2)أوليائه، ونجا الذين سبقت لهم من الله الحسنى(

وقال: )إن من أبغض الخل��ق إلى الل��ه ع��ز وج��ل ل��رجلين: رجل وكله الله إلى نفسه فهو جائر عن قصد السبيل، مش��غوف بكالم بدعة، قد لهج بالص��وم والص��الة فه�و فتن�ة لمن أفتتن ب�ه، ضال عن هدي من كان قبل��ه، مض��ل لمن اقت��دى ب��ه في حيات��ه

(3) وبعد موته، حمال خطايا غيره، رهن بخطيئته(

( 318/ 2( والحاكم )4436(، )4141( رقم )465، 435/ 1)( أحمد )1

.55/ 1)( الكافي، 2

63

نة فالمتمس��كون بم��ا س��نه الل��ه لهم وقال: )وأما أهل الس���وا، وأم�ا أه�ل البدع�ة فالمخ��الفون ألم�ر الل��ه ورس��وله، وإن قل تعالى وكتابه ولرسوله، والعاملون برأيهم وأهوائهم، وإن ك��ثروا،ها وقد مضى منهم الف��وج األول، وبقيت أف��واج، وعلى الل��ه فض��

(1)واستئصالها عن جدبة األرض(

نة، والبدع��ة، والفرق��ة والجماع��ة، وس��أله رج��ل عن الس��نة: فس��نة رس��ول الل��ه وأم��ا البدع��ة، فم��افق��ال: )أم��ا الس��

خالفها، وأما الفرقة، فأه�ل الباط��ل وإن ك�ثروا، وأم�ا الجماع�ة، (2)فأهل الحق وإن قلوا(

فنسألك يا سيدي يا رسول الله، ي��ا عظيم الج��اه، بم��ا ل��ك من وس��يلة عن��د الل��ه، أن تجعلن��ا من الم��ؤتمين ب��ك في ك��ل شؤوننا، وأن نسير على هديك، وعلى سراطك المس��تقيم ال��ذي لم يغ��ير ولم يب��دل، ح��تى نلق��اك، وأنت راض عن��ا، ف��رح بن��ا، لتسقينا بيدك الشريفة ماء االستقامة والطهارة الذي ال نضل وال

نظمأ بعده أبدا.

.55/ 1)( الكافي، 3

.44216 | 184/ 16)( كنز العمال، 1

.211)( تحف العقول، 2

64

القائد الملهم س��يدي ي��ا رس��ول الل��ه.. أيه��ا القائ��د الملهم الحكيم ال��ذي اس��تطاع من غ��ير جي�وش ج�رارة، وال إرث حض��اري عري��ق، أن يخرج أم��ة من الب��دو واألع��راب، وفي في��افي ومف��ازات مجدب��ة قاحل��ة، من ك��ل آث��ار التخل��ف والب��داوة، إلى ك��ل قيم التق��دم والحضارة.. وفي س��نين مع��دودات، على ال�رغم من ك�ل أل�وان المواجهات التي تعرض لها.. ولم يكتف ب��ذلك، ب��ل اس��تطاع أن يؤس���س لدول���ة ص���ارت له���ا الق���درة على مواجه���ة أك���بر

اإلمبراطوريات وتحديها. ولم يحصل � سيدي � مثل هذا في التاريخ جميعا.. ال للقادة الت��اريخيين، وال لألنبي��اء والمرس��لين.. وك��ان ذل��ك وح��ده كافي��ا للعقول الج��ادة الص��ادقة أن تبحث عن س��ر ذل��ك الم��دد اإللهي الذي أمددت به، واإللهام العظيم الذي ألهمك الل��ه إي��اه، لتس��ير في ركاب النصر، متحديا كل العقبات إلى أن بلغت أمتك أوجه��ا

بين األمم.. وكان ذلك كله بقيادتك الحكيمة. وقد كان في إمكان األم��ة ل�و ال�تزمت ه�ديك، ولم تخ��الف وص��اياك، أن تنش��ر علم الهداي��ة في األرض جميع��ا، ومن غ��ير جي��وش وال س��يوف.. لكن داء األمم من قبله��ا تس��رب إليه��ا، فخالفت ما عاهدتك عليه، فح��اق به��ا م��ا ن��زل بك��ل المخ��الفين

لرسلهم، وكنت البريء، وكانوا الضحايا. ال أزال أذك��ر س��يدي كي��ف كنت في مك��ة المكرم��ة، وبين قوم��ك الممتل��ئين بالقس��وة، وأنت تق��ول لهم، بع��د أن عرض��وا عليك أن تملكهم، وتقودهم بما يرغب��ون، ال بم��ا ت��رغب الحقيق��ة

65

مخاطبا عمك الولي الصالح: )يا عم والل��ه ل��و وض��عوا الش��مس في يميني والقم��ر في ش��مالي على أن أت��رك ه��ذا األم��ر ح��تى

(1) يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته(

وال أزال أردد معها ما أن��زل الل��ه علي��ك حينه��ا ي��أمرك ب��أن تخاطب الك��افرين، وتت��برأ من ك��ل الج��رائم ال��تي ي��دعونك إلى

ه��اتأيي��دها ح��تى تن��ال القب��ول عن��دهم، ق��ال تع��الى: ق��ل ياأي��د )2( ال أعبد ما تعبدون )1الكافرون ) ( وال أنتم عابدون م��ا أعب

��د )4( وال أنا عابد ما عبدتم )3 ��دون م��ا أعب ( لكم5( وال أنتم عاب[6 - 1 ]الكافرون: 6دينكم ولي دين )

لقد كنت حينها � سيدي � وكان أتباع��ك في منتهى الض��عف والفاقة والحاجة، وكانوا يضربون بك��ل الس��ياط، ويس��لط عليهم كل ألوان البالء.. لكنك كنت تأبى أن تضحي بالمب��ادئ من أج��ل

المصالح.. أو أن تبيع شريعة الله بشريعة األهواء. كان بعض المش�ركين حينه�ا ق�د رأى في�ك مخاي�ل النجاب�ة والعبقري��ة، وعلم أن��ه س��يكون ل��ك ش��أن عظيم، وأن دعوت��ك ستنتص��ر؛ فل��ذلك راح يبته��ل الفرص��ة، ويق��ول لص��احبه، وه��و يحاوره: )والله، لو أني أخذت هذا الف��تى من ق��ريش، ألكلت ب��ه الع��رب(، ثم راح يس��اومك في تل��ك األوق��ات الص��عبة، ق��ائال: )أرأيت إن نحن بايعن��اك على أم��رك، ثم أظه��رك الل��ه على من خالفك، أيكون لنا األمر من بعدك؟(، فقلت له، بك��ل ه��دوء، م��ع أنك محتاج��ا لمن ينص��رك، ويعين��ك على قوم��ك المن��اوئين ل��ك: )األمر إلى الله يضعه حيث يشاء(، فقال ل��ك: )أفته��دف نحورن��ا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله ك��ان األم��ر لغيرن��ا! ال حاج��ة لن��ا

(45/ 3)( الروض األنف )1

66

(1) بأمرك(

وهكذا كنت ��� س��يدي ��� تحمي دعوت��ك من ك��ل المندس��ين واالنتهازيين الذين يريدون تشويه المبادئ لحساب المص��الح.. ال كم��ا يفع��ل أولئ��ك الق��ادة ال��ذين ي��تركون ك��ل قيمهم من أج��ل

مصالح محدودة. ولم يكن هذا الجانب الفريد في قيادتك.. بل كنت مدرس��ة للقي��ادة، وفي أجم��ل ص��ورها، وأكم��ل معانيه��ا.. ول��و أن البش��ر جميعا تخلوا عن ك��ل م��ا درس��وه في القي��ادة، وراح��وا يت��أملون حياتك، وكيف كنت وال تزال القائد المخلص، لنهل��وا القي��ادة من

أعذب مواردها. إنهم يرون القادة، يتبجحون، ويستكبرون، وقد يص��لون إلى بعض أهدافهم المحدودة، بعد أن يذيقوا من ك��ان معهم أص��ناف الهوان.. لكنهم عندما يتأملون قيادتك الحكيمة، ي��رون تواض��عك ألصحابك، ورأفتك بهم، ومخالطتك لهم، وكأنك أحدهم، ال تتم��يز عنهم بشيء، وقد قال بعضهم يصفك: )والله ما كان رسول الله

تغلق دونه األبواب، وال يقوم دون��ه الحج��اب، وال يغ��دى علي��ه بالجفان، وال يراح بها عليه، ولكن��ه ك�ان ب�ارزا، من أراد أن يلقى

لقي���ه، ك���ان يجلس على األرض، ويطعم ويلبسن���بي الل���ه (2)الغليظ، ويركب الحمار، ويردف خلفه، ويلعق يده(

خص��الووص��فك آخ��ر، فق��ال: ك��انت في رس��ول الل��ه

(424/ 1)( سيرة ابن هشام )1

)( رواه أحمد في الزهد، وابن عساكر � وقال: هذا حديث مرسل � وقد جاء معناه2في األحاديث المسندة.

67

ليست في الجبارين، كان ال يدعوه أحم��ر، وال أس��ود، إال أجاب��ه، وكان ربما وجد تمرة ملقاة فيأخذها، فيرمي به��ا إلى في��ه، وإن��ه ليخشى أن تكون من الصدقة، وكان ي��ركب الحم��ار عري��ا، ليس

(2عليه شيء( ) وعن��دما لقي��ك بعض��هم، وت��وهم أن��ك تش��به ك��ل الق��ادة والزعماء أص��ابته رع��دة، فقلت ل��ه مه��دئا: )ه��ون علي��ك، ف��إنيلست بملك، إنما أنا ابن امرأة من ق��ريش ك��انت تأك��ل القدي��د(

(1)

وعندما رآك بعض األع��راب جاثي��ا على ركبتي��ك، كم��ا يجث��و العبيد، مع أنك كنت حينها في قمة قوت��ك، ق��ال ل��ك: ي��ا رس��ول الله ما هذه الجلس��ة؟ فقلت: )إن الل��ه ع��ز وج��ل جعل��ني عب��دا

(2)كريما، ولم يجعلني جبارا عنيدا(

لقد أش��فق حينه�ا بعض أص��حابك علي��ك من ك��ثرة ازدح�ام الناس ومخ��الطتهم، وق��ال ل�ك: )ي��ا رس��ول الل��ه إني أراهم ق��د آذوك، وآذاك غبارهم، فل�و اتخ�ذت عريش�ا تكلمهم في��ه(، فقلت ل��ه: )ال أزال بين أظه��رهم يطئ��ون عق��بى وين��ازعوني ث��وبي،

(3) ويؤذيني غبارهم، حتى يكون الله هو الذي يرحمني منهم(

الحج�اب نوع�ا من االس�تبداد، وق�د قلتوله�ذا كنت تعت�بر

)( رواه ابن سعد.1

)( رواه ابن ماجه.2

)( رواه ابن إسحاق الزجاجي في تاريخه.3

68

محذرا من يتولون القيادة في أمت�ك من االحتج�اب عن الرعي�ة: )من واله الله شيئا من أمور المسلمين، فاحتجب دون ح��اجتهم وخلتهم وفق��رهم، احتجب الل��ه دون حاجت��ه وخلت��ه وفق��ره ي��وم

(1) القيامة(

وهم ي��رون الق��ادة ��� م��ع ض��عفهم وقص��ورهم ��� يس��تبدون ب���الرأي، وال يش���اورون رعيتهم، وال من يكون���ون معهم.. لكنهم يرونك بخالف ذلك؛ فمع أن الله تع��الى أم��دك بإلهام��ه ووحي��ه.. وم��ع أن��ك في ذات��ك في قم��ة العبقري��ة والحكم��ة إال أن��ك كنت تستشيرهم، وتنزل عند رأيهم، ولو خالف رأي��ك، وق��د ق��ال الل��ه تعالى يث��ني علي��ك ب��ذلك، وي��دعوك إلى االس��تمرار علي��ه، ح��تى

��ويكون ذلك قدوة لكل القادة: �ه لنت لهم ول فبما رحمة من الل كنت فظا غليظ القلب النفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر�ه �ه إن� الل �ل على الل اورهم في األم��ر ف��إذا ع��زمت فتوك لهم وش��

لين [159 ]آل عمران: يحب المتوك وقد نزلت هذه اآلية الكريمة بعد غزوة أحد، والتي خ��الفت فيها رأيك، ونزلت فيها عند رأيهم، وك��ان ذل��ك س��بب م��ا حص��ل من انتكاس��ة، وكأنه��ا تق��ول ل��ك: )اس��تمر على مش��اورتهم، وال تتراجع بسبب ما حصل.. ففي ذلك الخ��ير والبرك��ة، وإن ج��اءت

النتيجة في إحدى المرات على غير ما تحب، فالعبرة بالعاقبة( ولذلك تروي كتب السيرة والسنن الكث��ير من مش��اوراتك؛ فقد شاورتهم في غزوة بدر، قب��ل القت��ال، وفى أثنائ��ه، وبع��ده.

ولم تدخل المعركة إال بعد أن اطمأننت على رضا جمهورهم. وشاورتهم في غزوة أح��د؛ ف��نزلت إلى رأى األكثري��ة ال��تي

)( رواه أبو داود، والترمذي.1

69

تخالف رأيك، وخرجت إلى المشركين، مع أنك كنت ترى البق��اءوالقتال داخل المدينة.

وش��اورتهم في الخن��دق، وق��د أش��ار علي��ك حينه��ا س��لمان الفارسي باالقتداء بما كان الفرس يفعلونه لل��دفاع في الح��رب، وقال لك: )يا رسول الله كنا بفارس إذا حوصرنا خن��دقنا علين��ا(؛ ففعلت ما ذكره، ورحت كواحد من الناس تشتغل بالحفر معهم،

وكلما صعب عليهم الحفر في موضع، انتدبوك لتقوم بذلك. لقد ك��انت تل��ك الغ��زوة ال��تي اجتمعت فيه��ا ك��ل األح��زاب لتستأصل اإلسالم من جذوره، أعظم دليل على قيادتك الحكيمة لألم��ة، فق��د أنق��ذت المس��لمين من تل��ك الم��ؤامرة بص��برك وحكمتك، وارتد المشركون والمن��افقون واليه��ود وغ��يرهم ممن تألبوا عليك فارغي الوفاض، ال يق��درون على ش��يء.. ب��ل زادت

مهابتك في قلوبهم، فلم يتجرؤوا على أن يجتمعوا مجددا. لقد ذكر الله تع��الى تل��ك المواق��ف الحرج��ة ال��تي م��ر به��ا

المس��لمون، وكي��ف كنت الس��بب في خالص��هم، فق��ال: إذار وبلغت جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت األبص��

���ا ) �ه الظنون ون بالل ���اجر وتظن ���وب الحن ���ك ابتلي10القل ( هنالديدا ) ��زاال ش�� ��وا زل ��ون وزلزل ��افقون11المؤمن ( وإذ يق��ول المن

�ه ورسوله إال� غ��رورا ) �ذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الل (12وال��رب ال مق��ام لكم ف��ارجعوا وإذ ق��الت طائف��ة منهم ياأه��ل يث��ا ع��ورة وم��ا هي ��ون إن� بيوتن �بي� يقول تأذن فري��ق منهم الن ويس��

[13 - 10 ]األحزاب: بعورة إن يريدون إال� فرارا وهكذا كان الجمي��ع يت��ذرعون للف��رار من المعرك��ة.. لكن��ك

بحكمتك استطعت أن تنتصر، ومن غير سفك للدماء.

70

وف��وق ذل��ك كل��ه ك��انت قيادت��ك لمجتم��ع متن��وع، في��ه ك��ل أصناف التمييز والطبقية والعنصرية، ومع ذلك استطعت أن تمأل حياتهم باالنسجام، وأن تخلصهم من تلك العص��بيات، وأن تنش��ر

موابينهم قيم األخوة، لقد ذكر الله تعالى ذل��ك، فق��ال: واعتص���ه عليكم إذ كنتم ��روا نعمت الل ق��وا واذك �ه جميع��ا وال تفر� بحبل الل�ف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا أعداء فأل�كم ��ه لعل �ه لكم آيات ن الل ��ذلك يبي �ار فأنق��ذكم منه��ا ك حفرة من الن

[103 ]آل عمران: تهتدون لقد استطعت � سيدي � في ظل قيادتك الحكيمة أن تمح��و كل تلك الفوارق االجتماعي��ة ال�تي ك�انت تمأل حي��اة المجتمع�ات جميعا، فقد كنت تردد عليهم كل حين: )إن الله ق��د أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها باآلباء، مؤمن تقى وفاجر شقى، أنتم بن��و آدم وآدم من تراب، ليدعن رجال فخ��رهم ب��أقوام إنم��ا هم فحم من فحم جهنم، أو ليك��ونن أه��ون على الل��ه من الجعالن ال��تى

(1) تدفع بأنفها النتن(

وهكذا كانت قيادتك ��� س��يدي ��� على خالف قي��ادة غ��يرك، ممتلئ��ة بالتواض��ع والرحم��ة واللط��ف والقيم.. وف��وق ذل��ك كل��ه كانت ممتلئة بالزهد والعفاف والنب��ل.. فلم تكن تطلب من وراء تلك الخدمات العظيمة التي قدمتها لألمة أي أج��ر.. وق��د أم��رك

��رىالله تعالى أن تقول: ��ه أج��را إن ه��و إال� ذك ألكم علي ال أس����ه من أج��ر(، وأن تقول: 90للعالمين( )األنعام: ما أسألكم علي

ه سبيال �خذ إلى رب (، وأن تق��ول:57 )الفرقان:إال� من شاء أن يتفين (86 )ص: ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكل

/5(. وأخرجه أيضا: الترمذى )20851، رقم 232/ 10(، والبيهقى )5116، رقم 331/ 4(، وأبو داود )10791، رقم 523/ 2)( رواه أحمد )1

(3956، رقم 735

71

ولهذا اعتبر من أدلة ص�دقك لك��ل المن�اوئين والمش�ككين،عفافك عن األموال والمص��الح، ق��ال تع�الى: ألهم أج��را أم تس��

(، وقال: 40 )الطور:فهم من مغرم مثقلون أم تسألهم خرجاازقين ك خير وهو خير الر� (72 )المؤمنون:فخراج رب

فأنت � سيدي � لم تكن لتنال على تلك الوظيف��ة الخط��يرة التي كلفت بها، والتي جعلتك مشغوال في كل األوقات، ال ترت��اح

ليل نهار، أي أجر سوى األجر الذي أعده الله لك. بل إن الله تعالى فوق ذلك أمر ب��أن تعيش جمي��ع حيات��ك � مهما فتح الله عليك من الدنيا � بتواضع وزهد وبعد عن الملذات

��ك إلى م��االتي يتهافت عليها الناس، قال تعالى: ال تم��د�ن� عيني�عنا به أزواجا منهم وال تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين مت

:(، وقال تعالى: 88 )الحجر��ه ��ا ب �عن وال تمد�ن عينيك إلى ما مت��ر ك خي ��اة ال��دنيا لنفتنهم في��ه ورزق رب أزواج��ا منهم زه��رة الحي

(131 )طه:وأبقى ه��ذه س��يدي بعض مالمح قيادت��ك لألم��ة.. وهي كافي��ة ألن تجعلك أسوة ص��الحة للقي��ادة الحكيم��ة، ال��تي ال تري��د ج��زاء وال شكورا، وإنما تهدف إلى تحقيق الع��دل والرحم��ة، ونش��ر الخ��ير

والبركة. ولو أن األمة استنت بسنتك.. لم��ا حص��ل له��ا ه��ذا التخل��ف واالس��تبداد ال��ذي نعاني��ه، ذل��ك أنه��ا تركت��ك، وت��ركت وص��اياك، وراحت تس��تن بس��نة كس��رى وقيص��ر، وح��ولت دين��ك من دين العدال��ة إلى دين الج��ور، ومن دين الرحم��ة إلى دين االس��تبداد

والقسوة. فنسألك يا سيدي يا رس��ول الل��ه، وأنت وس��يلتنا العظمى،

72

أن تكون أنت قائدنا وقدوتنا، حتى ال تمزقنا الطوائف، وال تشتتناالمذاهب، وال تفرقنا الملل.

واجعلنا سيدي تحت لوائك في ال��دنيا واآلخ��رة، ح��تى نن��ال ش��رف الجندي��ة ض��من جن��ودك ال�ذين ال ينقطع�ون، وفي جمي�ع

األزمنة. ونعوذ بك أن نفرق صف أمت��ك، أو نخلف��ك فيه��ا بس��وء، أو نسيء إلى تعاليمك المقدسة، أو يدب إلينا داء األمم من قبلن��ا.. إنك تجير من اس��تجار ب��ك، وتحمي من التج��أ إلي��ك، وتجيب من سألك، فجاهك العظيم عند الله، ومقامك الرفيع عنده أرف��ع من

أن يرد يدي خائبتين.

73

المبلغ األمين سيدي يا رسول الله.. يا من اختاره الله لتبليغ آخر كلمات��ه المقدسة للبشر، فبلغها كما سمعها، لم يغير ولم يب��دل.. وبلغه��ا لكل الناس بجميع طبقاتهم، فلم يستثن منهم أحدا.. وبلغه��ا في كل الظروف اللينة والقاس��ية.. وك��ان أمين��ا في ك��ل ذل��ك.. فلم تختلط كلماته بكلمات الل��ه، وال اله��دي ال��ذي نط��ق ب��ه باله��دي

الذي أنزل عليه مع أن المنبع واحد، والسراج واحد. ولو أن أولئك المتحذلقين الم��دعين للعقالني��ة، ص��دقوا م��ع عق��ولهم، واكتف��وا من��ك به��ذا الب��اب من أب��واب الدالل��ة علي��ك،

ألوصلهم إليك، ولكان مقدمة لهم ليعرفوك. فلو أنهم نظروا إلى الظروف التي كانت تتنزل عليك فيه��ا كلمات ربك، وقارنوها بالظروف التي كتب فيها كل العباقرة م��ا كتبوه لوج��دوا أن الكلم��ات ال��تي بلغته��ا يس��تحيل أن تك��ون من

عندك. فالعب��اقرة أو من يظن��ون أنفس��هم ك��ذلك، ك��انوا يكتب��ون كلماتهم في ظل التمجيد والتعظيم والتق��ديس، بينم��ا كنت تبل��غ كلمات ربك، وأنت محاط بأولئك القساة الذين ك��انوا يس��خرون منك ومنها، ويستعملون كل وسائل اإليذاء والتنفير التي وص��فها

معوا له��ذا الق��رآنالله تعالى بقوله: �ذين كفروا ال تس�� وقال ال�كم تغلبون �ذين[، وبقوله: 26 ]فصلت: والغوا فيه لعل وقال ال

كفروا إن هذا إال� إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا��ه4ظلما وزورا ) ( وقالوا أساطير األو�لين اكتتبه��ا فهي تملى علي[5، 4 ]الفرقان: بكرة وأصيال

74

وقد كان الوحي حينها يتنزل عليك بكل أصناف الحجج التي ترد عليهم، وت��بين لهم أن مص��در الكلم��ات ال�تي جئتهم به�ا من

ر�الله، وليس من عندك، قال تعالى: �ذي يعلم الس قل أنزله ال��ان غف��ورا رحيما �ه ك ماوات واألرض إن [،6 ]الفرق��ان: في الس���

رون )وقال: رون )38فال أقسم بما تبص�� �ه39( وم��ا ال تبص�� ( إن��ون )40لقول رسول كريم ) ( وما هو بقول شاعر قليال م��ا تؤمن

�رون )41 ��ذك ��اهن قليال م��ا ت ( تنزي��ل من رب42( وال بق��ول ك��ه44( ولو تقو�ل علينا بعض األقاوي��ل )43العالمين ) ( ألخ��ذنا من��وتين )45باليمين ) ��ه ال ��ا من ( فم��ا منكم من أح��د46( ثم� لقطعن

[47 - 38 ]الحاقة: عنه حاجزين وغيرها من اآليات الكريمة التي تخ��بر أن��ك مبل��غ عن الل��ه، وأن ال��ذي جئت ب��ه ليس من عن��دك..وق��د ك��ان في إمكان��ك � سيدي لو كنت كم��ا ي��ذكرون ��� أن تنس��ب تل��ك الكلم��ات إلي��ك، وحينها سينبهرون ب��ك، وببالغت��ك المعج��زة، وسيص��بحون جميع��ا من أتباعك، وليس أولئ��ك العبي��د والفق��راء فق��ط.. وحينه��ا ك��ان

يمكن أن يتوجوك بتاج الملك عليهم.. وهذا وح�ده ك�اف للعق��ول في كون��ك رس��وال لل��ه، وأن م��ا جئت به ليس من عندك.. وإال ف��إنهم ل��و الحظ��وا ك��ل الش��عراء واألدباء والفالسفة وغيرهم، وحرص��هم على نس��بة ك��ل كلم��ة أو جمل��ة إليهم، وف��رحهم بم��ا يكتبون��ه أو يذكرون��ه، لعرف��وا أن��ه

يستحيل أن تكون تلك الكلمات النورانية المعجزة من عندك. وكيف تكون من عندك، وهي تدعوك، وفي تل��ك الظ��روف القاسية، أن تترك األمر لله، ليع��ذبهم، أو ي��رحمهم، ألن��ك مج��رد مبلغ عن الله، ولست مكلفا بهدايتهم أو الس��يطرة عليهم، ق��ال

��دىتع��الى: ��الحق فمن اهت �اس ب ��اب للن ��ك الكت ��ا علي �ا أنزلن إن

75

ل عليه��ا وم��ا أنت عليهم بوكي��ل �م��ا يض�� ل� فإن فلنفسه ومن ض���ه حفي��ظ(، وقال: 41)الزمر: ��اء الل �خذوا من دونه أولي �ذين ات وال

نحن أعلم(، وق��ال: 6 )الشورى:عليهم وما أنت عليهم بوكيلر بالقرآن من يخاف وعي��د �ار فذك بما يقولون وما أنت عليهم بجب

:(، وق��ال: 45 )قيطر ت عليهم بمص�� (،22 )الغاش��ية:لس�� وغيرها من اآليات الكريمة التي ت��نزع عن��ك ك��ل مس��ؤولية على

العباد، وتجعل األمر لله وحده. ولو أنهم � س��يدي ��� نظ�روا في تل��ك اآلي�ات ال�تي ت�دعوك لمقابلة سخرية الساخرين واستهزاءهم بالعفو والص��فح والحلم، لعلموا أن األمر خارج عن ع��الم البش��رية، وأن ال��ذي ق��ال تل��ك الكلمات أقدس من أن تؤثر فيه البيئ��ة أو الظ��روف المختلف��ة..

��ارب إن� ه��ؤالءفقد كان القرآن حينها ينزل ليقول لك: وقيله يوف يعلم��ون88قوم ال يؤمنون ) الم فس�� ( فاصفح عنهم وقل س��

:[، ويقول: 89،� 88 ]الزخرفك يضيق صدرك� ولقد نعلم أن��ون ) اجدين )97بما يقول ك وكن من الس��� ح بحم��د رب ب (98( فس��

�ى يأتيك اليقين �ك حت [99 - 97 ]الحجر: واعبد رب ولو أنهم � سيدي � تأملوا في تلك اآليات التي تعاتب��ك، ب��ل تش��تد علي��ك، لعلم��وا أن��ه يس��تحيل أن يع�اتب الش��خص نفس��ه، وبتلك الشدة، وق��د ق��الت عائش��ة تخ��بر عن بعض تل��ك اآلي��ات، وأنه��ا دلي��ل على كون��ك لم تكتم ش��يئا من ال��وحي ال��ذي أن��زل

كاتما شيئا مم��ا أن��زل الل��ه علي��ه،عليك: )لو كان رسول الله ��هلكتم ه��ذه اآلي��ة على نفس��ه: �ه علي �ذي أنعم الل وإذ تق��ول لل

ك �ه وتخفي في نفس�� �ق الل وأنعمت عليه أمسك عليك زوج��ك واتى اه فلم�ا قض�� �ه أح��ق أن تخش�� �اس والل �ه مبديه وتخشى الن ما الل�ون على الم��ؤمنين ح��رج في زيد منها وطرا زو�جناكها لكي ال يك�ه مفع��وال ��ان أم��ر الل ��را وك وا منهن� وط أزواج أدعيائهم إذا قض��

76

(1)[(37]األحزاب:

�بي من ح��رجوقد جاء بعدها قوله تعالى: ��ان على الن ما ك��ان أم��ر �ذين خلوا من قبل وك �ه في ال �ة الل �ه له سن فيما فرض الل

�ه قدرا مقدورا [، وهو يدل على أنك �� س�يدي38 ]األحزاب: الل � لحرصك على إيمان الناس كنت تتم��نى أن ت��وافقهم في بعض ما يطلبونه من الشؤون الخاصة ب��ك، ح��تى ال يك��ون ذل��ك فتن��ة

لهم. لكن الله تع��الى ك��ان ينه��اك عن ذل��ك، ويخ��برك أن الفتن��ة ضرورية للتمحيص، حتى يت��بين الص��ادق من الك��اذب، كم��ا ق��ال

�تيتعالى: ؤيا ال �اس وما جعلنا الر �ك أحاط بالن وإذ قلنا لك إن� رب�ة في الق��رآن ونخ��وفهم جرة الملعون �اس والش� أريناك إال� فتنة للن

[60 ]اإلسراء: فما يزيدهم إال� طغيانا كبير ولذلك ورد في القرآن الكريم بعض الشؤون الخاص��ة ب��ك، والتي ال يزال الن��اس يمحص��ون به��ا.. فالل��ه تع��الى في الق��رآن

��كالكريم يعاتب��ك ق��ائال: �ه ل م م��ا أح��ل� الل �بي لم تح��ر ه��ا الن ياأي�ه غفور رحيم ) �ه لكم1تبتغي مرضات أزواجك والل ( قد فرض الل

�ه م��والكم وه��و العليم الحكيم ) �ة أيم��انكم والل ر�2تحل ( وإذ أس����ه �ه علي ��ه وأظه��ره الل �أت ب �بي إلى بعض أزواجه ح��ديثا فلم�ا نب الن�أها به قالت من أنبأك هذا ف بعضه وأعرض عن بعض فلم�ا نب عر�

�أني العليم الخبير [3 - 1 ]التحريم: قال نبتيويقول لك فيه: ��ك أزواج��ك الال� ��ا ل �ا أحللن �بي إن ها الن ياأي

�ه عليك وبنات عمك آتيت أجورهن� وما ملكت يمينك مم�ا أفاء اللتي ه��اجرن مع��ك ��ك الال� ��ات خاالت ��ك وبن وبنات عم�اتك وبنات خال

(3208(، و الترمذي )166/ 43)( رواه أحمد )1

77

�بي أن �بي إن أراد الن ها للن �����ة إن وهبت نفس����� وام�����رأة مؤمننا ��ا م��ا فرض�� ��ك من دون الم��ؤمنين ق��د علمن يستنكحها خالصة ل��ك ح��رج ��ون علي عليهم في أزواجهم وما ملكت أيم��انهم لكيال يك

�ه غفورا رحيما [50 ]األحزاب: وكان الل وغيرها من اآليات الكريمة ال��تي ك��ان يمكن أال ي��نزل فيه��ا القرآن الكريم، ولكن الله شاء أن يتنزل به��ا، ح��تى تك��ون فتن��ة وتمحيص��ا ألولئ��ك ال��ذين يزعم��ون أنهم يعمل��ون عق��ولهم، ثم

ليعطلونها بما تشاء لهم أهواؤهم، كما قال تعالى عنهم: ��ز ونن من القرآن ما هو شفاء ورحمة للم��ؤمنين وال يزي��د الظ�المين إال�

ورة فمنهم[، وق��ال: 82 ]اإلسراء: خسارا ��زلت س�� وإذا م��ا أن��ا �ذين آمنوا فزادتهم إيمان كم زادته هذه إيمانا فأم�ا ال من يقول أي

�ذين في قلوبهم م��رض ف��زادتهم124وهم يستبشرون ) ( وأم�ا ال��افرون ) �هم125رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم ك ��رون أن ( أوال ي

�رون ��ذ�ك تين ثم� ال يتوبون وال هم ي ة أو مر� يفتنون في كل عام مر� :[126 - 124 ]التوبة

ولذلك كنت المبل��غ عن الل��ه األمين في تبليغ��ك؛ فلم ت��راع حرصك على إيمان الناس، وإنما راعيت م�ا كلفت ب��ه، ح�تى ل�و كنت خائفا من أن يكون ذلك فتنة لبعض من اتبعوك، وق��د ق��ال الله تعالى يأمرك بالبالغ في شأن إمامة اإلمام علي من بع��دك:

ك وإن لم تفع�ل فم�ا �ك من رب �زل إلي غ م�ا أن سول بل ها الر� يا أي�ه ال يه��دي الق��وم �اس إن� الل مك من الن �ه يعص�� الته والل �غت رس�� بل

(67 )المائدة:الكافرين وحين نزلت عليك هذه اآلية الكريم��ة، وكنت تعلم أن تبلي��غ ما كلفت بتبليغه سيكون فتنة عظيمة، لكن��ك فعلت تنفي��ذا ألم��ر الله.. وقد ورد في الحديث المتواتر أنك بعد نزولها عليك طلبت

78

أن يق��ام ل��ك من ح��دائج اإلب��ل، فص��عدت علي��ه، ثم قلت: )إني أوشك أن أدعى فأجيب، وإني مسئول، وأنتم مسئولون، فم��ا ذا��ك ق��د بلغت، ونص��حت وجه��دت أنتم قائلون؟(، فقالوا: نشهد أن فجزاك الله خيرا.. ثم قلت لهم: )ألس��تم تش��هدون أن ال إل��ه إال الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن جنته ح��ق، وأن ن��اره ح��ق، وأن الموت حق، وأن الساعة آتي��ة ال ريب فيه��ا، وأن الل��ه يبعث من في القب���ور...(، فق���الوا: بلى نش���هد ب���ذلك، فقلت: )اللهم اش��هد(، ثم قلت: )إني ف��رط على الح��وض، وأنتم واردون علي الحوض، وإن عرض��ه م��ا بين ص��نعاء وبص��رى، في��ه أق��داح ع��دد النجوم من فضة، فانظروا كيف تخلف��وني في الثقلين؟.. الثق��ل األكبر كتاب الل��ه، ط��رف بي��د الل��ه ع��ز وج��ل، وط��رف بأي��ديكمكوا ب��ه ال تض��لوا، واآلخ��ر األص��غر ع��ترتي، وإن اللطي��ف فتمس�� الخبير نبأني أنهما لن يتفرق��ا حتى ي��ردا علي الح��وض، فس��ألت ذل��ك لهم��ا ربي، فال تق��دموهما فتهلك��وا، وال تقص��روا عنهم��ا

فتهلكوا( ثم أخذت يد اإلمام علي بيدك الش��ريفة، ثم رفعته��ا، ح��تى ب��ان بي��اض إبطيهم��ا، ثم قلت مخاطب��ا الجم��وع الكث��يرة: ))أيه��ا الناس، من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟(، فأجابوا: الل��ه ورسوله أعلم، فقلت: )إن الله موالي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن كنت مواله فعلي م��واله(، ثم كررت ذلك، وأكدته، ثم ختمه بقوله: )اللهم وال من وااله، وعاد���ه، وأبغض من أبغض���ه، وانص���ر من من ع���اداه، وأحب من أحب�غ نصره، واخ�ذل من خذل�ه، وأدر الح��ق مع�ه حيث دار، أال فليبل

(1)الشاهد الغائب(

( واللف��ظ ل�ه.3788( والترم��ذي )2408)( ما أوردناه هنا هو من روايات متفرقة وردت في الصحاح والسنن وغيرها، انظر: ص��حيح مس�لم )1

وغيرهما كثير.

79

لقد كنت تعلم تأثير ذلك في الناس، وخاصة في القرشيين الذين كانوا يتوهمون أن اإلمامة منصب دني��وي، وأن��ه كم��ا ك��ان لبني هاشم النبوة، كان لغيرهم من القرشيين اإلمامة، لكنك مع

ذلك بلغت أمر الله، ولو أنك كنت تعلم أنهم لن ينفذوه.. ولذلك أثنى الله تعالى عليك، وأنك كنت المبلغ لكل حقائق

غ��ونال��دين وقيم��ه، وبأحس��ن ص��ورة، ق��ال تع��الى: �ذين يبل ال�ه �ه وكفى بالل ون أح��دا إال� الل ونه وال يخش�� �ه ويخش�� االت الل رس��

[39 ]األحزاب: حسيبا هذه بعض جوانب أمانت��ك في التبلي�غ، وحرص�ك علي�ه.. وال يمكننا أن نحيط بها جميعا.. فقد كنت الق��رآن الن��اطق ال��ذي لم يكت��ف بتبلي��غ الكلم��ات، وإنم��ا أعطى النم��وذج ال��دال عليه��ا، والشارح لها.. فكانت حياتك كلها بالغا عن الله، وبك��ل جزئياته��ا

وتفاصيلها. وكانت كذلك على الرغم من ثقل التكليف الذي كلفت ب��ه، والذي جعلك ال ترتاح ليال وال نه��ارا.. وق��د ق��ال تع�الى يخ��بر عن

هاتلك المشقة التي كنت تلقاها، والتعب الذي كان يصيبك: ياأيمل ) �يل إال� قليال )1المز� (3( نصفه أو انقص منه قليال )2( قم الل

ل القرآن ترتيال ) �ك ق�وال ثقيال )4أو زد عليه ورت �ا سنلقي علي ( إن�يل هي أشد وطئا وأقوم قيال5 [6 - 1 ]المزمل: ( إن� ناشئة الل

لقد كان ذلك البالغ الذي كلفت به غير خاص بالخلق فقط، وإنما كان يبدأ بك، بل كانت أشد التكاليف تت��نزل علي��ك، وتعفي غيرك، فمع أن غيرك من المؤمنين أعفي من قيام الليل إال أنك كنت مطالبا به على الرغم من تعبك الطويل في النهار، ومشقة األعمال الكثيرة التي كنت تق��وم به��ا.. لق��د ق��ال تع��الى ي��أمرك

80

كبذلك: ��ك رب ى أن يبعث ��ك عس�� ��ة ل ��ه نافل ��ل فتهج�د ب �ي ومن الل[79 ]اإلسراء: مقاما محمودا

وكنت لذلك تس��هر أك�ثر اللي��ل قائم��ا لل��ه إلى أن تفط��رت قدماك.. ثم إذا اس��تيقظ الن��اس لص��الة الفج��ر كنت أولهم، ب��ل م��وقظهم.. ثم تقض��ي بع��د ذل��ك س��ائر النه��ار في تل��ك األعب��اء الكث���يرة ال���تي كلفت به���ا.. وفي وس���ط ممل���وء بالمعان���دين والمن���افقين والمش���اغبين ال���ذين ال يك���اد أح���د يطيقهم، وهم

متفرقون، لكنك أطقتهم وهم مجتمعون. ولم تكن تطلب من ذلك التعب الكبير جزاء وال شكورا، بل إن الوحي كان يتنزل عليك حينها ليأمرك بالزهد في كل المتاع،

��ه أزواج��ا منهمقال تع��الى: ��ا ب �عن ��ك إلى م��ا مت وال تم��د�ن� عيني��ر وأبقى ك خي ]ط��ه:زهرة الحياة ال�دنيا لنفتنهم في��ه ورزق رب

131] وحينما اش��تكى أزواج��ك تل��ك الح��ال ال��تي ك��انوا يعيش��ون عليها من الفاقة، وطلبوا منك تحس��ين وض��عية معيش��تهم أن��زل

�بي قل ألزواجك إن كنتن� تردن الحياةالله عليك قوله: ها الن ياأيحكن� سراحا جميال ) عكن� وأسر ( وإن28الدنيا وزينتها فتعالين أمت

نات � للمحس�� �ه أعد �ه ورسوله والد�ار اآلخرة فإن� الل كنتن� تردن الل[29، 28 ]األحزاب: منكن� أجرا عظيما

وقد ورد في التفسير أنه��ا بمج��رد أن أن��زلت علي��ك، رحت تدعوهن ليخيرنك أو يخيرن زهرة الحياة الدنيا، فاخترنك جميعا..

وهل يمكن لعاقل أن يختار غيرك. فأسألك � يا سيدي يا رسول الله � أن تتوسل إلى الله ب��أن أكون وارثا لك في البالغ؛ فأصبر كما صبرت، وأدعو كما دعوت،

81

وأتحمل كما تحملت، وال ألين كما لم تلن.. حتى أك��ون من أه��ل قولك: )نضر الله عبدا سمع مقالتي هذه فحمله��ا، ف��رب حام��ل الفقه فيه غير فقيه، ورب حامل الفق��ه إلى من ه��و أفق��ه من��ه(

(1)

وحتى أحشر مع الذين وصفهم الله تعالى بأنهم ال يخ��افون في�ه لوم�ة الئم.. وح�تى أك�ون تحت ل�واء الص�ادقين مع�ك ي�وم القيامة.. فال ينال شرف الدخول تحت ذلك اللواء في اآلخرة إال

من كان تحته في الدنيا. وأس��ألك أال أك��ون من ال��ذين يبلغ��ون م��ا ال يفهم��ون، أو يدعون إلى ما ال يس��توعبون، أو يخ��الفون بأفع��الهم م��ا يبلغون��ه بأقوالهم، حتى ال يكون بالغي فتن��ة وتش��ويها ل��دينك ورس��التك.. فإنك يا سيدي يا رس��ول الل��ه ال ت��رد من اس��تجار ب��ك، أو طلب

شفاعتك..

(7514(، والبيهقي في الشعب )236(، وابن ماجه )60/ 21)( رواه أحمد )1

82

الواعظ الخطيب جع��ل الل��ه كلمات��ك البليغ��ةسيدي يا رس��ول الل��ه.. ي��ا من

ترياقا للقلوب، وشفاء للصدور، ومحركا للج��وارح.. فال يس��معها صادق إال تخلى عن كسله، وأخذ كتابه بقوة، وتح��ول من متم��رد

معارض إلى مؤمن مسالم. لقد رحت أتأمل كلمات�ك ومواعظ�ك ال�تي بلغتن��ا، وقارنته�ا بكل مواعظ البلغاء والخطباء واألئمة، من المس��لمين وغ��يرهم،فوجدت أنك ملك الخطباء والوعاظ، وأصدقهم، وأكثرهم تأثيرا.

ووجدت أن كلماتك ال تبليها األيام، وال ت��ؤثر فيه��ا الس��نون، وال يجعلها التكرار مملة، بل هي دائمة الجدة والحياة، وتؤثر في كل األوقات.. ألن معانيها تنبع من بحر الحقيقة ال��ذي لم تك��دره

دالء األهواء والوساوس. وكي��ف ال تك��ون مواعظ��ك ك��ذلك، وأنت ال��ذي لم تع��ظ إال

وعظهم ﴿باإلذن اإللهي الخاص، الذي دع��اك إلي��ه رب��ك، فق��ال: )النساء: (، والل��ه م��ا دع��اك63﴾وقل لهم في أنفسهم قوال بليغا

لذلك إال بعد علمه بتوفر كل القدرات المرتبطة به لديك.. ول��ذلك لم تكن مواعظ��ك س��يدي مطرب��ة لآلذان ببالغته��ا فقط، وإنما كانت مطرب��ة أيض��ا لألرواح واألنفس، حيث تتس��لل إليها بكل رفق، ألنها تنطلق من تلك المعرفة اللدنية التي وهبك الله، والتي جعلتك ترى الحقيقة اإلنسانية أمام��ك بك��ل لطائفه��ا وجوانبه��ا، فتخاطبه��ا جميع��ا، لتث��ير أش��واقها لس��لوك طري��ق

الحقيقة المستقيم.

83

وكيف ال تك��ون مواعظ��ك ك��ذلك، وأنت ال��ذي ت��نزل علي��ك الق��رآن الك��ريم بحروف��ه ومعاني��ه، والق��رآن الك��ريم ه��و كت��اب المواعظ األكبر، ال��ذي يخ��اطب ك��ل اللط��ائف، وبجمي��ع اللغ��ات�اس ق��د ج��اءتكم ه��ا الن ﴿التي تفهمها، كما قال تعالى يصفه: يا أيدور وه��دى ورحم��ة فاء لم��ا في الص�� كم وش�� موعظ��ة من رب

��ات57﴾للمؤمنين )يونس: ن ��ات مبي ﴿(، وقال: ولقد أنزلنا إليكم آي�قين )الن��ور: �ذين خلوا من قبلكم وموعظة للمت (،34﴾ومثال من ال

�قين )آل عم��ران: �اس وهدى وموعظ��ة للمت ﴾وقال: هذا بيان للن ﴿138)

وكيف ال تكون مواعظك كذلك، وأنت ال��ذي اجتمعت ل��ديك كل المع��اني واألدوات ال��تي لم تجتم��ع للخطب��اء جميع��ا.. ف��أنت مثل ذلك الذي يصف شيئا يراه، وي��دعو إلي��ه، عن عي��ان، ال عن سماع، ولذلك كانت مواعظك ممتلئ��ة بالحي��اة، وق��د ع��برت عن ذلك، فقلت: )إن الله لم يحرم حرمة إال وقد علم أنه س��يطلعها منكم مطلع، أال وإني آخذ بحجزكم أن تهافتوا في النار كته��افت

(1)الفراش والذباب(

ب��ل إن الل��ه تع��الى وص��فك ب��ذلك، ووص��ف مع��ه حرص��ك الش��ديد على إيم��ان الن��اس وص��الحهم، ألن��ك ت��رى رأي العين

لق��د ج��اءكمالنيران التي يقحمون فيها أنفس��هم، ق��ال تع��الى: م ح���ريص عليكم ���ه م���ا عنت كم عزي���ز علي ول من أنفس��� رس���

[128 ]التوبة: بالمؤمنين رءوف رحيم وكي��ف ال تك��ون ك��ذلك، وأنت عين من عي��ون رحم��ة الل��ه لعباده، بل أنت الرحمة الكبرى، بل شمس الرحم��ة ال��تي تف��يئ

(210/ 7)( رواه أحمد، وأبو يعلى، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد )1

84

إلى دفئها جميع الخالئق؟ ولذلك كانت كلماتك ترياقا يعالج النف�وس، ومعراج�ا تع�رج به األرواح، وإكسيرا تتحرك فيه الذوات أس��مى حرك��ة جوهري��ة

عرفها الوجود.. ال أزال أذكر سيدي تلك الموعظة البليغة ال��تي وعظت به��ا شابا صغيرا هو ابن عم��ك ابن عب��اس.. وق��د مألني ذل�ك انبه�ارا وإعجابا وتأثرا؛ فأنت تعظ الجميع، وفي ك�ل المح��ال، وال يعني��ك

أن تنصب لك المنابر، أو يجتمع الناس حولك.. كنت خل��ف الن��بيلقد ذكر ابن عباس موعظتك له، فق��ال:

،ه يحفظ��ك� يوما فقال:)يا غالم إني أعلمك كلمات: احف��ظ الل�ه، وإذا اس��تعنت �ه تجده تجاه��ك، إذا س��ألت فاس��أل الل احفظ الل�ه، واعلم أن األم��ة ل��و اجتمعت على أن ينفع��وك فاس��تعن بالل�ه لك، وإن اجتمع�وا على بشيء لم ينفعوك إال بشيء قد كتبه الل�ه علي��ك، أن يضروك بش��يء لم يض��روك إال بش��يء ق��د كتب��ه الل

(1)رفعت األقالم وجفت الصحف(

ما أجمل هذه الكلم��ات، وأعظم تأثيره��ا، فهي تتس��لل إلى النف���وس والقل���وب لتمأله���ا بالحكم���ة والج���د.. فهي ال ت���ذكر المط��الب فق��ط، وإنم��ا تع��د ب��المواهب.. لعلمه��ا أن النفس اإلنسانية مثل ذلك التاجر ال�ذي ال ينش�ط إال حيث يج��د األرب�اح،

وال يتكاسل إال حيث يفقدها..

( مختصرا، وقال حديث حسن صحيح،2518(، والترمذي )307/ 1)( رواه أحمد )1 وفي رواية غير الترمذي:» احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك

في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أنالنصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا «.

85

ولذلك ذكرت له أن ك��ل معامل��ة يعام��ل ب��ه اإلنس��ان رب��ه، سيعامله ربه بها.. فإن حفظ الله حفظه.. وإن سأل الله أجابه.. وإن توكل على الل��ه أعان��ه.. وإن رج��ا الل��ه حق��ق رج��اءه.. وإن خاف الله أمنه من كل مخافة.. وهك��ذا ك��ان يمكن البن عب��اس، ولكل من سمع هذه الموعظة البليغة أن يبحر فيه��ا إلى مع��اني كثيرة جدا، ال تفيد عقله فقط.. إنم��ا تفي��د قلب��ه وروح��ه ونفس��ه وكل لطائفه، لتحركها جميعا نحو شمس الحقيقة، وتجعل��ه مقبال

عليها برغبته وكليته. وهكذا كانت كل مواعظك، ولذلك كان الجالسون إلي��ك، أو إلى مواعظ��ك ال��تي ال ن��زال نحفظه��ا، ال يج��دون أنفس��هم إال

وأعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق. وقد وصف بعض أصحابك ذلك، فقال:)وعظنا رس��ول الل��ه

)..موعظة بليغة، ذرفت منه��ا العي��ون، ووجلت منه��ا القل��وب (1)

وه��و ال يري��د من كونه��ا بليغ��ة م��ا يتوهم��ه المتكلف��ون والمتنطعون والمتقعرون من كثرة محسناتها البديعية، وسجعها، وغ��ريب ألفاظه��ا، ف��أنت أبع��د الن��اس عن ذل��ك، وبالغت��ك ال��تي استفدتها من الوحي المنزل عليك أعظم من أن تس��جن نفس��ها في سجون األلفاظ وال�تراكيب.. ول��ذلك ك�انت بالغ��ة موعظت��ك في ق��درتها على التوص��ل إلى إفه��ام المع��اني، وإيص��الها إلىقلوب السامعين بأحسن صورة وأجملها وأحالها وأكثرها تأثيرا.

ذلك التكلف الممقوت ال��ذي راح بعض الخطب��اء يش��وهأما

/1(، الحاكم )127، 126/ 4(، أحمد )42(، وابن ماجة )4607)( رواه أبو داود )196 /97.)

86

به المعاني التي جئت بها، فقد كنت تنهى عنه، وتحذر منه، وق��د��ذي قلت في ذلك: )إن الله عز وجل يبغض البليغ من الرج��ال ال

(1)يتخلل بلسانه تخلل البقرة بلسانها(

وكنت تعتبر أولئك المتكلفين المتنطعين أبعد الن��اس عن��ك، وعن الهدي الذي جئت ب��ه، وق��د قلت في ذل��ك: )إن من أحبكم إلي وأقربكم مجلسا م��ني ي��وم القيام��ة: أحاس��نكم أخالق��ا، وإن أبغض����كم إلي، وأبع����دكم م����ني ي����وم القيام����ة الثرث����ارون،

(2)والمتشدقون، والمتفيهقون(

ولذلك كانت مواعظك � س��يدي ��� مرس��لة س��هلة بس�يطة، ولكنها مع ذلك عميقة دقيق�ة، ال يمكن تغي�ير لفظ�ة عن محله�ا،

وال تبديلها بأخرى. وكانت لذلك قصيرة يمكن لمن شاء أن يحفظه��ا، ليردده��ا كل حين ويتأثر لمعانيها.. فالكالم الطويل يؤثر بعضه على بعض، وينسخ بعض�ه بعض��ا، وق�د ورد في الح��ديث أن�ك لم تكن تطي�ل

كانالخطبة يوم الجمعة، وقد ذكر ذلك آخر، فقال:)إن النبي (3)يحدث حديثا لو عده العاد ألحصاه(

وكنت س��يدي في مواعظ��ك تنتهج م��ا أم��رك ب��ه الق��رآن ؛ ف��أنت المبش��ر الن��ذيرالموازنة بين التبشير واإلنذارالكريم من

( وقال: حديث حسن غ��ريب من2853( واللفظ له، الترمذي )5005)( أبو داود )1هذا الوجه.

( 4799( وأبو داود )446/ 6)( رواه أحمد )2

(7/167( ومسلم )4/231)( رواه البخاري )3

87

الذي يع��رف النف��وس ودوافعه��ا، فيحركه��ا بك��ل لط��ف، لته��ذبنفسها بنفسها، وبلين ولطف من غير إكراه وعنف.

وكنت سيدي في مواعظك تستعمل كل م��ا آت��اك الل��ه من األس��اليب.. فتقص عليهم القص��ص، وت��ذكر لهم األمث��ال، وت��بين

لهم أنواع العبر التي يمكن أن يعتبروا بها. وأنت في ذلك تنفذ م�ا أم�رك ب��ه رب�ك من تل��ك األس��اليب التي ال يزال البشر يعتبرونها أرقى أساليب التأثير والتربية، وق��د

�رون )ألع��راف: ﴿قال ل��ك رب��ك: �هم يتفك ص لعل ص القص�� ﴾فاقص��176)

ب��ل إن الل��ه تع��الى ه��و ال��ذي ت��ولى تعليم��ك فن القص��ص��ا ص بم��ا أوحين ن القص�� ��ك أحس�� ﴿التربوي، فقال: نحن نقص علي

(،3﴾إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين )يوس��ف: وكال نقص﴿:وأخبر عن تأثير القص��ص في نفس المتلقي، فق��ال

ت به فؤادك سل ما نثب (120هود:﴾ )عليك من أنباء الر وهكذا كنت تضرب في مواعظ��ك األمث��ال، وتع��بر لهم عن معانيه��ا، تأدب��ا بم��ا علم��ك رب��ك؛ ف��القرآن الك��ريم ه��و مدرس��ة األمثال الكبرى، وأنت تلميذه األك��بر، ول��ذلك ال غراب��ة أن تك��ون

أمثالك مدرسة لهذا الفن العظيم من فنون المواعظ. لست أدري ما أقول ل��ك س��يدي.. وكي��ف أش��كو ل��ك ح��ال المواعظ بعدك، وكيف تحولت إلى بضاعة يتاجر به��ا المتكلف��ون المتنطع��ون الس��تدرار العواط��ف من غ��ير أن يك��ون له��ا ت��أثير حقيقي.. حيث يكون همهم ذلك التأثير العاطفي المح�دود ال�ذي ال ينبني عليه أي عمل.. بخالف مواعظ�ك س��يدي، وال�تي تص��ف الداء والدواء.. وتتسلل إلى النف��وس والقل��وب والج��وارح، وتمأل

88

الحياة بالحركة اإليجابية النافعة الممتدة، التي ال يتوقف تأثيره��اعلى تلك اللحظات المحدودة.

فأسألك � يا سيدي يا رسول الل��ه ��� وأتوس��ل ب��ك إلى ربي أن يجعل�ني من المس�تنين بس�نتك في الوع�ظ والهداي�ة.. ح�تى تك��ون كلم��اتي دواء ال داء.. وترياق��ا ال س��ما.. ومعراج��ا يص��عد باإلنسان، ال هاوية يسقط فيها.. فإن قوما من ال��واعظين ال��ذين زعموا أنهم يستنون بسنتك راحوا يعظون باسمك؛ فمألوا ال��دنيا خرابا، ومألوا حياة الناس شقاء.. وشوهوك وشوهوا دينك أعظم

تشويه.

89

البشير النذير سيدي يا رس��ول الل��ه.. ي��ا من أرس��له الل��ه ليحم��ل أعظم الحق��ائق للبش��ر، وأكثره��ا تعلق��ا بس��عادتهم وش��قاوتهم، فك��ان البش��ير ال��ذي يبش��ر بالس��عادة وأبوابه��ا ومفاتيحه��ا في ال��دنيا واآلخرة، وكان النذير الذي يحذر من كل ما يحرم من الس��عادة،

ويجلب الشقاء، وفي كل الشؤون، وكل األزمنة. لقد تأملت كل المبشرين والمن��ذرين في ال��دنيا؛ فوج��دتهم أقزاما بجنبك، وبجنب ما جئت ب��ه.. ف��الطبيب يبش��رنا بالص��حة، ويحذرنا من المرض.. لكن الصحة سرعان م�ا تته�دم، والم�رض سرعان ما يتغلب.. والنشوة التي حصلت به��ا البش��ارة س��رعان

ما تزول. واألس��تاذ يبش��رنا بالنج��اح، ويح��ذرنا من الرس��وب.. لكن نشوة النجاح تذهب مع األيام.. والسرور الذي صاحبها يتالش��ى.. وال تبقى منه إال الذكريات التي قد تنس��ى حالوته��ا، وق��د تتح��ول

إلى مرارة. وهكذا.. فإن كل المبشرين أو المن��ذرين غ��يرك.. يبش��رون بشؤون قاصرة محدودة.. أو ينذرون من أمور يفيد إنذارهم فيها زمن��ا مح��دودا، ال مم��دودا.. ول��ذلك يتالش��ى التبش��ير واإلن��ذار

بتالشيها. أما أنت يا سيدي يا رسول الله.. فتبش��يرك وإن��ذارك يمت��د لألبد.. فأنت جئت لذلك اإلنسان البس��يط المح��دود ال��ذي ينظ��ر إلى تعاقب الليل والنهار كل حين، لينتظر اللحظ��ات ال��تي يح��ل عليه فيها العجز والمرض والموت.. وهو ممتلئ ب��الخوف منه��ا..

90

ومن المصير الذي سيصير إليه.. جئت إليه لتخبره أنه ال داعي لكل تلك اآلالم.. فم��ا يعيش��ه في ال��دنيا ليس س��وى مرحل��ة اختب��ار.. وأن��ه بع��د نجاح��ه في االختبار سيتحول إلى عالم مملوء بالجمال، تتحقق ل��ه في��ه ك��ل األمنيات.. ف��الفقير يغت��ني.. والم��ريض يش��فى.. والش��يخ يص��ير شابا.. والمبتلى يصير معافى.. والذي فقد أحبابه يعودون إلي��ه.. والذي فقد مسكنه أو لم يجد أين يلجأ س��يجد القص��ور في تل��ك ال��دار ال��تي ال يص��يبها الم��وت، وال الفن��اء.. وال ت��نزل بأرض��ها

الزالزل.. وال تتنزل من سمائها حمم البراكين. ولم تأت لتخبره بذلك فقط.. وإنم��ا جئت ت��ذكره ب��الطريق المس��تقيم المختص��ر ال��ذي يوص��له إلى تل��ك المح��ال الش��ريفة

الممتلئة بالسعادة من غير معاناة وال ألم. وجئت لتخبره بالعقبات التي تق��ف بين��ه وبين تل��ك المح��ال السعيدة.. والشقاوة التي تنتظره إن هو لم يتجاوزه��ا، أو س��كن

إليها، أو سكن إلى أعدائه ووسوستهم. وكل هذه المعاني ال يمكن أن تكون لغيرك � س��يدي. فك��ل المبشرين أو المنذرين السائرين على غير طريقك، لم يتجاوزوا هذه ال��دنيا، وم��ا يرتب��ط به��ا من س��عادة ورف��اه.. ول��ذلك ك��انت بشاراتهم وإن�ذاراتهم مح��دودة قاص�رة، ال تل��بي حاج�ات النفس

التي ال تنتهي.. وطمعها الذي ال يملؤه إال الخلود. لذلك كنت � سيدي � باب السعادة األكبر.. فمن وصل إليك

دخل مدينة السعادة التي لن يخرج منها أبدا.. وال أقصد بالسعادة � س��يدي ��� س��عادة اآلخ��رة فق��ط.. ب��ل

91

سعادة الدنيا أيضا.. فأنت لم تبشرنا بالجنان فقط، وإنما بشرتنا بربنا.. وأخبرتنا أننا لسنا مهملين على هذه األرض، وإنما لنا رب رحيم كريم لطيف، نحن نأوي إلى كنفه، ونأكل من رزقه، وننهل من خيره، فكل مفاتيح سعادتنا بيده.. فلذلك كانت صلتنا به هي الجنة، وكان تواصلنا معه هو الحي��اة الحقيقي��ة ال��تي ال يحلم به��ا

من لم يعرفه، أو يعرف لذة وصاله. سيدي يا رسول الله.. لم تكن تلك المعاني العظيم��ة ال��تي مألت قلوبنا بشارة بها مجرد أماني أو أحالم أو أفكار فيلس��وف، أو خياالت أديب.. وإنما كانت حقائق مؤيدة بالمعجزات الباهرة، والدالئل الواضحة.. فأنت لم تكن تنطق من عن�د نفس��ك، وإنم�ا

من وحي ربك. فربك هو الذي أمرك بأن تخبر عبادك عن��ه، وتع��رفهم ب��ه..

حيم وأن� ﴿وربك هو الذي قال لك: ي أنا الغفور الر� ئ عبادي أن نب (، وهو الذي قال لك:50 � 49﴾عذابي هو العذاب األليم )الحجر:

يء ��ل� ش�� عت ك اء ورحمتي وس�� ��ه من أش�� يب ب ﴾ ع��ذابي أص�� ﴿ كم لئن شكرتم156)ألعراف: �ن رب ﴿(، وهو الذي قال لك: وإذ تأذ

�كم ولئن كفرتم إن� عذابي لشديد )ابراهيم: (7﴾ألزيدن ولذلك كان من وظائفك التي ندبك لها، وسماك بها، كون��ك

��ذيرا وال ﴿:بشيرا ونذيرا، قال تعالى يرا ون �ا أرسلناك بالحق بش�� إن )البقرة: ﴿(، وقال: وما أرسلناك119﴾تسأل عن أصحاب الجحيم

�اس ال يعلم���ون ���ر الن ���ذيرا ولكن� أكث يرا ون �اس بش��� ﴾إال� كاف�ة للن28)س��بأ: ير لق�وم �ذير وبش� �ا إال� ن ﴿(، وق�ال على لس�انك: إن أن

��ون )ألع��راف: �ني لكم188﴾يؤمن �ه إن ��دوا إال� الل ﴿(، وق��ال: أال� تعب(2﴾منه نذير وبشير )هود:

92

وهكذا، فإن كل تفاصيل البش��ارات واإلن��ذارات ال��تي جئت به��ا، وال��تي تمأل ال��دنيا واآلخ��رة بالس��عادة الحقيقي��ة لم يكن مصدرها إال الله.. فالله هو ال��ذي أعط��اك البش��ارة، وه��و ال��ذي أعلمك بمصير المبشرين، وباإلعمال التي عليهم القيام بها ثمن��ا

الحات أن� ﴿:للبشارة.. قال تعالى �ذين آمنوا وعملوا الص��� ر ال وبش�م��ا رزق��وا منه��ا من ثم��رة �ات تجري من تحته��ا األنه��ار كل لهم جنابها ولهم فيه�ا ��ه متش� �ذي رزقنا من قبل وأتوا ب رزقا قالوا هذا ال

�ه ﴿(، وق��ال: 25﴾أزواج مطه�رة وهم فيها خالدون )البقرة: إن� الل�ة يق��اتلون ��أن� لهم الجن اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ب�وراة ��ه حق��ا في الت ��ون وع��دا علي ��ون ويقتل �ه فيقتل بيل الل في س��روا ببيعكم �ه فاستبش�� واألنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الل

�ذي بايعتم به وذلك هو الف��وز العظيم )التوب��ة: ﴿:(، وق��ال111﴾الاجدون اكع��ون الس��� ائحون الر� ��دون الحام��دون الس��� �ائبون العاب الت�ه �اهون عن المنكر والحافظون لحدود الل اآلمرون بالمعروف والن

ر المؤمنين )التوبة: (112﴾وبش وغيره��ا من اآلي��ات الكريم��ة ال��تي ت��بين حقيق��ة البش��ارة، ومظاهرها، ووسائطها التي تكفل تحققها، أو التي ال تتحق��ق من دونها.. ولذلك لم تكن بشاراتك مجرد نشوة أو فرح زائل، وإنما

كانت مصدرا لهمة عظيمة، وتغيير يرتبط بالحياة جميعا.. وله��ذا ك��ان المؤمن��ون ب��ك، الص��ادقون مع��ك، ال يفرح��ون بشيء كما يفرحون بتلك البشارات التي تزفه��ا إليهم، لتنس��يهم كل همومهم.. فقد كانت سلوى آل ياسر لمواجه��ة م��ا أع��د لهم الطواغيت من عذاب ه��و م��ا ذكرت��ه لهم، وأنت ت��رى عظيم م��ايعانون��ه.. لق��د قلت لهم: )ص��برا آل ياس��ر إن موع��دكم الجن��ة(

93

.. فما إن سمعوها من��ك ح��تى ط��ارت نفوس��هم ش��وقا إلى(1)الجنة، وخرجوا من الدنيا، وهم يبتسمون.

وفي معركة بدر، حين اشتد البالء على المسلمين، ورأيت قل��ة ع��ددهم، وض��عف عت��ادهم، ك��انت جائزت��ك العظمى ال��تي حولت كل واحد منهم إلى جبل من جب��ال العزيم��ة، وحص��ن من حصون الق��وة قول��ك لهم: )قوم��وا إلى جن��ة عرض��ها الس��موات واألرض، والذي نفس محمد بيده ال يقاتلهم الي��وم رج��ل فيقت��ل

(2)صابرا محتسبا مقبال غير مدبر، إال أدخله الله الجنة(

حينه��ا ه��زت البش��رى قل��وب أص��حابك؛ فق��ام عم��ير بنالحمام، وق��ال مندهش��ا:)عرض��ها الس��موات واألرض؟(، فقلت: )نعم(، فقال، والفرحة تكاد تطير به:)بخ بخ(، فقلت: )ما يحملك على قول��ك بخ بخ؟(، ق��ال:)رج��اء أن أك��ون من أهله��ا(، فقلت

مبشرا، وقد علمت صدقه:)فإنك من أهلها( فتق��دم الرج��ل حين س��مع تل��ك البش��ارة ممتلئ��ا س��رورا؛ فكسر جفن سيفه، وأخرج تم��رات فجع��ل يأك��ل منهن، ثم ألقى بقيتهن من يده، وهو يقول: )لئن أنا حييت حتى آكلهن إنها لحياة

طويلة(، ثم تقدم فقاتل حتى قتل. وهكذا عندما كنت في مكة المكرمة، حيث فق��دت الناص��ر والمعين.. ولم يكن بج��وارك إال عم��ك، كنت ت��ذهب إلى أس��واق عكاظ ومجنة، وفي المواسم، وأنت تخاطب الن��اس ق��ائال: )من

.388 / 3)( رواه الحاكم 1

(3985 الحديث 306/ 7)( رواه البخاري )فتح الباري 2

94

..(1)يؤويني؟ من ينصرني؟ حتى أبلغ رس��الة ربي ول��ه الجن��ة( فقد كانت الجنة هي بشارتك لهم.. ال الدنيا.. وال الرفاه.. وال أي شيء آخ�ر.. وه�ل هن�اك ش�يء أفض��ل من الجن�ة؟ وه�ل هن�اك

طريق للرفاه والحياة السعيدة أفضل من اإليمان بالجنة؟ وهكذا عن��دما رح��ل إلي��ك الس��بعون ال��ذين التق��وا ب��ك فيش��عب العقب��ة، وق��الوا:)ي��ا رس��ول الل��ه عالم نبايع��ك؟(، فقلت: )تبايعونني على السمع والطاعة في النشاط والكس��ل، والنفق��ة في العسر واليسر، وعلى األمر ب��المعروف والنهي عن المنك��ر، وأن تقول��وا في الل��ه ال تخ��افوا في الل��ه لوم��ة الئم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفس��كم وأزواجكم وأبن��اءكم(، فق��الوا: )ي��ا رس��ول الل��ه إن بينن��ا وبين الرجال حباال وإن��ا قاطعوه��ا، وإن��ا نأخ��ذك على مص��يبة األم��وال وقتل األشراف، فما لنا ب��ذلك ي��ا رس��ول الل��ه إن نحن وفين��ا؟(، فقلت:)الجنة(، فقالوا:)ابسط ي��دك(، فبس��طت ي��دك الش��ريفة،

.(2)وبايعوك

وهكذا كنت تحفز على ك��ل أعم��ال الخ��ير بتل��ك البش��ارات العظيمة التي أتاحها الله لك.. فحولت من المجتمع المسلم إلى مجتمع صالح من غير أن تقدم لهم أي ج��ائزة مادي��ة، أو تع��دهم بأي وعود كاذبة.. بل كان وعدك األعظم، وبشارتك الكبرى جن��ة

الله التي ال يشقى من دخل إليها. لق��د كنت تحثهم على ش��د الع��زم على العم��ل الص��الح،

(347/ 22)( رواه أحمد )1

(93/ 25)( رواه أحمد )2

95

وتقول لهم: )من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل أال أن س��لعة(1)الله غالية أال إن سلعة الله الجنة(

وله��ذا ك��انت تل��ك الج��ائزة أعظم محف�ز للص��الح والتق��وى وتجاوز كل العقبات، وتحدي كل الهم��وم، فمن يعلم أن مص��يره

الجنة جد واجتهد وضحى ونسي كل شيء في سبيلها.. حتى أنك استطعت سيدي أن تهذب أولئ��ك الجف��اة الغالظ من األع��راب بس��بب ذك��رك للجن��ة، وح��ديثك عنه��ا، وعن النعيم الذي أعد فيها.. وقد روي أن بعض األعراب ج��اءك، فق��ال: )م��ا

.. وج��اء أع��رابي آخ��ر(2)ثمن الجن��ة؟(، فقلت:)ال إل��ه إال الل��ه( فق��ال:)ي��ا رس��ول دل��ني على عم��ل إذا عملت��ه دخلت الجن��ة(، فقلت:)تعبد الله وال تشرك به شيئا وتقيم الصالة وت��ؤتي الزك�اة المفروضة وتصوم رمضان(، فقال:)وال��ذي نفس��ي بي��ده ال أزي��د على هذا شيئا أبدا وال أنقص منه(، فلما ولى قلت:)من سره أن

(3)ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا(

وهك��ذا اس��تطعت أن ته��ذب أم��ة من الن��اس.. ال في ذل��ك الجيل فقط.. بل في األجيال جميعا بتلك البشارات اإللهية ال��تي أتاحها الله لك.. وبتلك اإلن��ذارات ال��تي مألت القل��وب بالمخاف��ة والحذر والحيطة، وجعلتها تلج��أ إلى التق��وى واالس��تقامة، لتقه��ر

كل دواعي النفس األمارة.

( 2452)( رواه الترمذي رقم )1

(48)( رواه أبو نعيم األصبهانى في صفة الجنة )2

( 14(، ومسلم )1397)( رواه البخاري )3

96

فيا سيدي يا رسول الله.. يا وسيلة الل��ه العظمى لعب��اده.. فكما بشرت أص�حابك وأحباب��ك.. فبش�رنا.. وكم�ا مألت قل��وبهم بالس��رور، ف��امأل قلوبن��ا.. وارزقن��ا رؤيت��ك في ال��دنيا واآلخ��رة.. فروحك الجميلة، ونورك الساطع، وسراجك المنير أعظم بشارة تتلقاها قلوبنا.. فمن رآك في الدنيا رآك في اآلخرة.. ومن س��عد بك هنا سعد بك هناك.. فاجعلنا من الس��عداء ب��ك في ال��دارين.. لنعيش مع���ك وفي ص���حبتك ننه���ل من بش���اراتك ونته���ذب

بإنذاراتك.. واجعلن��ا ي��ا وس��يلة الل��ه العظمى.. وي��ا ص��احب المق��ام المحمود.. من الذي ورثوا منك البشارة والن��ذارة.. فص��اروا من المبشرين المنذرين على أقدام الرس��ل وأوص��يائهم وأولي��ائهم..

حتى ال تميل بنا األهواء، وال تزج بنا البدع فيما حذرتنا منه. واجعلنا يا وسيلة الله العظمى من ال��ذي يعط��ون للبش��ارة حقها.. فمن وفى للبشارة نالها، ومن قصر في الوف��اء أو ف��رط فيه كان من الخاسرين.. فنعوذ بك من ذلك، ونس��ألك أن نك��ون

من الناجين السعداء الفائزين..

97

الحكيم البليغ آت�اه الل�ه فص�احة اللس�ان،سيدي يا رس�ول الل��ه.. ي�ا من

وبالغة البيان، واختصر له الكالم اختصارا.. فصارت كلماته دررا، يحفظها الحكماء، ويتتلمذ عليها العقالء، ويجتنون من أطايبها كل فنون الحكمة.. ف��أنت س��يد الحكم��اء، وأنت معلمهم وأس��تاذهم

ومربيهم. وكيف ال تكون كذلك � سيدي � وقد أخبر الله تعالى أن من فضائله علي��ك تعليم��ك الحكم��ة، من غ��ير أس��تاذ تف��د علي��ه، وال معلم تتذلل بين يديه.. بل كان الله هو معلمك ال��ذي أغن��اك عن

��اب والحكم��ةك��ل معلم، ق��ال تع��الى: ��ك الكت �ه علي ��زل الل وأن��ك عظيم��ا �ه علي ل الل ��ان فض�� �م��ك م��ا لم تكن تعلم وك وعل

[113]النساء: وكيف ال تكون كذلك � سيدي � وقد أخبر الله تعالى أن من أوتي الحكمة أوتي خيرا كثيرا، وهل هناك من أوتي الخير الكثير

��ؤت الحكم��ةمثلك، قال تعالى: يؤتي الحكمة من يشاء ومن ي�ر إال� أولو األلباب �ك [269 ]البقرة: فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذ

وكيف ال تكون كذلك � سيدي � وأنت الذي أم��رت بال��دعوة إلى الل��ه بالحكم��ة، وه��ل يمكن أن ي��أمرك الل��ه ب��أمر ليس في

ك بالحكم��ة والموعظ�ةطاقتك، قال تعالى: بيل رب ادع إلى س��[ 125 ]النحل: الحسنة

وكيف ال تكون كذلك � س��يدي ��� وأنت ال��ذي ذك��ر الل��ه من وظائفك تعليم الحكمة، ف��أنت لس��ت حكيم��ا فق��ط، وإنم��ا معلم الحكماء، قال تعالى ذاكرا دع�اء ج��دك إب��راهيم علي��ه الس��الم:

98

��اب مهم الكت �نا وابعث فيهم رسوال منهم يتلو عليهم آياتك ويعل رب�ك أنت العزيز الحكيم يهم إن [129 ]البقرة: والحكمة ويزك

وله��ذا، فإن��ك س��يدي ��� كم��ا ذك��رت عن نفس��ك ��� مدين��ة الحكم���ة، وأميره���ا، ومعلمه���ا، وأس���تاذها، ومن ش���اء أن يلقن الحكمة، فإنه ال يمكن أن يجدها في غ��ير م��دينتك وال مدرس��تك، لقد قلت في ذلك: )أنا مدينة الحكمة، وعلي بابه��ا، فمن أراده��ا

(1)آتاها من بابها(

ول��ذلك ك��انت كلم��ات اإلم��ام علي ��� لط��ول ص��حبته ل��ك، وتلمذت��ه على ي��ديك ��� من أفض��ل مص��ادر الحكم��ة، وأوثقه��ا، وأجملها.. وعندما تعجب بعضهم من كالمه، وق��ال ل��ه: )ي��ا أم��ير المؤمنين أفنبي أنت؟(، فقال ل��ه اإلم��ام علي: )ويل��ك، إنم��ا أن��ا

)(2)عبد من عبيد محمد

لقد رجعت � سيدي � إلى كلماتك التي لم يؤثر فيها تدليس المدلسين، وال عبث العابثين.. تلك ال��تي تن��ورت بن��ور الق��رآن.. وحفظت كما حفظ الذكر الحكيم.. ولم تمتد إليه��ا ي��د اللص��وص واألم��راء.. فوج��دتها ممتلئ��ة بالحكم��ة.. كافي��ة ألن تك��ون زادا للعقالء لينهلوا منها كل ما يفيدهم في دنياهم وأخراهم، فالكلمة

الواحدة من كلماتك، تغني من تدبرها عن األسفار الكثيرة. وكيف ال تك�ون ك�ذلك س��يدي، وق�د قلت عن نفس�ك، وم�ا وهبك الل��ه من الق��درة على التعب��ير عن الحق��ائق، وفي أخص��ر

(.2069/ 4)( الشريعة لآلجري )1

.3/ 174)( التوحيد: 2

99

(1) عبارة: )أعطيت جوامع الكلم واختصر لى الكالم اختصارا(

ال أزال أحفظ سيدي من كلماتك تلك ال��تي اختص��رت فيه��ا أسباب هالك المجتمعات وانحرافها وتس��لط المس��تبدين عليه��ا، حيث قلت: )يا معشر المه��اجرين خمس إذا ابتليتم بهن، وأع��وذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط، حتى يعلن��وا��تي لم تكن مض��ت في به�ا إال فش��ا فيهم الط��اعون واألوج�اع ال أسالفهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والم��يزان، إال أخ��ذوالطان عليهم، ولم يمنع��وا نين وش��دة المؤون��ة، وج��ور الس�� بالس��ماء، ول��وال البه��ائم لم زك��اة أم��والهم إال منع��وا القط��ر من الس����ه ��ه وعه�د رس��وله، إال س��لط الل يمط��روا، ولم ينقض��وا عه�د الل عليهم ع��دوا من غ��يرهم فأخ��ذوا بعض م��ا في أي��ديهم، وم��ا لم��ه تحكم أئمتهم بكتاب الله، ويتخيروا مما أنزل الله، إال جع��ل الل

(2)بأسهم بينهم(

لقد رحت أتأمل ه��ذه الكلم��ات الخمس، فوج��دتها التري��اق الذي يعالج كل المصائب والمشاكل التي وقع فيها البش��ر.. ول��و عمل��وا به��ا، لص��لحت أح��والهم جميع��ا.. لكنهم يعرض��ون عنه��ا، ليذهبوا ألولئك الذين يضلونهم باسم الحكمة والعلم والدراس��ات

العلمية. وهكذا وجدت الكثير من درر الحكمة الواردة عن��ك، وال��تي

(، وروى أول��ه البخ�اري1436، رقم 2/160)( رواه ال��بيهقى فى ش�عب اإليم�ان )1(523، ومسلم رقم )90 / 6

،4/583(، والح���اكم )8/333(، وأب���و نعيم )4019، رقم 2/1332)( ابن ماج���ه )2(، وابن عس����اكر )3315، رقم 3/197(، وال����بيهقى فى ش����عب اإليم����ان )8623رقم

35/260)100

ترتبط بسنن الل��ه في المجتمع��ات، وال��تي تجع��ل المتأم��ل له��ا، المت��دبر في معانيه��ا، عالم��ا من علم��اء االجتم��اع الحقيقي ال

المزيف، ذلك الذي اختلط فيه الحق بالباطل، والعلم باألهواء. ومن أمثلة ذلك سيدي تلك الحكمة العظيمة التي تبين فيها سبب هالك المجتمع��ات، فق��د قلت: )اتق��وا الظلم؛ ف��إن الظلم ظلمات يوم القيام��ة، واتق�وا الش��ح ف��إن الش��ح أهل��ك من ك��انقبلكم؛ حملهم على أن س��فكوا دم��اءهم واس��تحلوا مح��ارمهم(

، ثم فس��رت ذل��ك في ح��ديث آخ��ر، فقلت: )إي��اك والش��ح،(1) فإنم��ا هل��ك من ك��ان قبلكم بالش��ح، أم��رهم بالبخ��ل فبخل��وا،

(2)وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا(

فلو أن البشر جميعا ال��تزموا به��ذه الحكم��ة، وس��اروا على منهاجها، لما حص��ل االس��تعمار واالس��تبداد واالس��تغالل والظلم؛ فكل ذلك نتيج��ة البخ��ل ال��ذي امتألت ب��ه تل��ك النف��وس ال��تي ال تشبع، وال��تي راحت تس��رق خ��بز غيره��ا، وتقه��رهم، وتس��خرهم

لمصالحها. ولو أن الخلق التزموا بتلك الحكم العظيمة التي تأمر فيه��ا بالتحكم في اللسان، وعدم إتاحة الفرصة له ليعبر عما يريد من غير ضوابط تحكمه، لوقوا أنفس��هم من فتن كث��يرة، ومفس��اد ال نهاية لها.. فقد كنت ت��ردد ك��ل حين، وعلى مس��مع ك��ل األجي��ال

.. )الص��مت زين للع��الم(3))الصمت حكم وقليل فاعل��ه(قائال:

)( رواه أبو داود والحاكم.1

)( رواه البخاري.2

101

.. )الصمت سيد األخالق، ومن مزح اس��تخف(1)وستر للجاهل( ..(3).. )قولوا خيرا تغنموا، واسكتوا عن شر تس��لموا((2)به(

.. )رحم الل��ه من حف��ظ لس��انه، وع��رف(4))من ص��مت نج��ا( .. )من كثر كالم��ه ك��ثر س��قطه،(5)زمانه، واستقامت طريقته(

ومن كثر سقطه كثر كذب��ه، ومن ك��ثر كذب��ه ك��ثرت ذنوب��ه، ومن .. )من ك��ف لس��انه عن(6)كثرت ذنوب��ه ك��انت الن��ار أولى ب��ه(

.. )ال تدخل(7)اعراض المسلمين أقال الله عثرته يوم القيامة( حالوة االيمان قلب امرئ حتى يترك بعض الحديث خوف الكذب

.. )ال تق��ل(8)وإن كان صادقا، وي��ترك الم��راء وإن ك��ان محق��ا(

)( رواه القضاعي والديلمي في مسند الفردوس.3

)( رواه أبو الشيخ.1

)( رواه الديلمي في مسند الفردوس.2

)( رواه القضاعي.3

)( رواه أحمد والترمذي.4

)( رواه الحاكم في تاريخه.5

)( رواه العسكري في االمثال.6

)( رواه الديلمي.7

)( رواه الديلمي.8

102

.. )كل كالم(1)بلسانك إال معروفا، وال تبسط يدك إال إلى خير( ابن آدم عليه ال له إال أم��ر بمع��روف، أو نهي عن منك��ر، أو ذك�ر

��ه، ف��إن ك��ثرة الكالم(2)الله( .. )ال تك��ثروا الكالم بغ��ير ذك��ر الل�ه القلب �اس من الل ��ه قس��وة للقلب، وإن أبع�د الن بغير ذك�ر الل

..(4).. )من حسن إسالم المرء تركه ما ال يعني��ه((3)القاسي(��ة( )من يضمن لي ما بين لحييه وم��ا بين رجلي��ه أض��من ل��ه الجن

.. وغيرها من الحكم الكثيرة التي تحفظ من يل��تزم به��ا من(5) كل المصائب التي يجلبها له لسانه، كما تلقنه كل الثمار الطيب��ة

للسان الذي التزم عبودية ربه، فلم ينطق إال بما يرضيه. وهك��ذا نج��د ��� س��يدي ��� درر حكم��ك في ك��ل المج��االت النفس��ية واالجتماعي��ة واالقتص��ادية والروحي��ة.. وك��ل م��ا يخط��ر بالبال، وما ال يخطر بالب��ال.. ومن اكتفى به��ا وقي من ك��ل تل��ك التلبيسات ال��تي ينص��ح به��ا من ال يعرف��ون حقيق��ة اإلنس��ان، وال روحه، وال نفسه، وال مص�يره.. فينص�حونه باقتح��ام الحي��اة بك�ل جرأة متخليا عن كل القيم.. لكنك س��يدي ته��دم ك��ل ذل��ك بتل��ك المبادئ األخالقية العظيمة التي أسست له��ا، وال��تي تق��وم على

)( رواه البخاري في التاريخ، وابن أبي الدنيا في الصمت والبغوي والباوردي وابن1السكن وابن قانع وابن منده والبيهقي في الشعب وأبو نعيم وتمام وغيرهم.

)( رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب، وابن ماجة.2

)( رواه الترمذي واللفظ له وقال: هذا حديث حسن غريب، والبيهقي.3

)( رواه مالك في الموطأ والترمذي وقال: هذا حديث غريب، وابن ماجة.4

)( رواه البخاري واللفظ له. والترمذي.5

103

الحياء، ورعاية مشاعر اآلخرين.. لق��د قلت في ذل��ك: )اس��تحيوا ، ثم فس�رت ذل�ك بقول�ك: )االس�تحياء(1)من الله حق الحي�اء(

من الله حق الحياء: أن تحف��ظ ال��رأس وم��ا وعى، والبطن وم��ا حوى، ولتذكر الموت والبلى، ومن أراد اآلخرة ترك زين��ة ال��دنيا،

فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء( وهكذا كانت حكمك تحض على الكرم وال��ترفع، وتنهى عن��ه ك��ريم يحب األنانية وكل ما يرتبط بها، فقد كنت تقول: )إن الل

(2)(الكرم، ويحب معالي األخالق، ويكره سفسافها

وهكذا ك��انت حكم��ك تحض على مخالط�ة الن�اس، والص��بر على أذاهم، فقد كنت تق��ول:) الم�ؤمن م��ألف م�ألوف ح��يي وال

،(3)خير فيمن ال يألف وال يؤلف، وخير الن��اس أنفعهم للن��اس( وتق��ول: )إن أحبكم إلي أحاس��نكم أخالق��ا، الموطئ��ون أكناف��ا،اءون بالنميم��ة الذين يألفون ويؤلف��ون، وإن أبغض��كم إلي المش��

��ة الملتمس��ون لل��براء العيب( ، وتق��ول:(4)المفرقون بين األحب )مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا

(5)اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى( )( رواه الترمذي وقال: غريب، ورواه أحمد والحاكم والبيهقي. وقال الحاكم:1

صحيح وأقره الذهبي.

)( رواه الحاكم واللفظ له وقال: صحيح اإلسناد، ورواه الطبراني في الكبير.2

)( رواه الديلمي في الفردوس.3

)( رواه الطبراني في الصغير واألوسط والبزار.4

)( رواه البخاري ومسلم.5

104

وهكذا ك��انت حكم��ك تحض على الرف��ق واللين، حيث كنت تردد كل حين: )إن الرفق ال يكون في ش��يء إال زان��ه، وال ي��نزع

.. وتقول: )اللهم من ولي من أمر أمتي(1)من شيء إال شانه( شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أم��ر أم��تي ش��يئا

.. وتقول: )إن الله إذا أراد بأه��ل بيت(2)فرفق بهم فارفق به( .. وتق��ول: )أال أخ��بركم بمن(3)خ��يرا دلهم على ب��اب الرف��ق(

��ار، على ك��ل ق��ريب هين يحرم على النار، وبمن تحرم علي��ه النروا وس��كنوا وال تنف��روا((4)سهل( روا وال تعس�� .. وتق��ول: )يس��

.. وتقول: )من أعطي حظ��ه من الرف��ق فق��د أعطي حظ��ه(5)من الخير، ومن حرم حظ��ه من الرف��ق ح��رم حظ��ه من الخ��ير(

(7).. وتقول: )من يحرم الرفق يحرم الخير((6)

وهك���ذا ك���انت حكم���ك تحض على اإلحس���ان، وفي ك���ل�ه كتب اإلحس�ان على ك�ل المج��االت، حيث كنت تق�ول: )إن الل

)( رواه مسلم.1

)( رواه مسلم.2

)( رواه أحمد والبزار.3

)( رواه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب.4

)( رواه البخاري ومسلم.5

)( رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.6

)( رواه مسلم.7

105

شيء ف��إذا قتلتم فأحس��نوا القتل��ة، وإذا ذبحتم فأحس��نوا ال�ذبح، (1)وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته(

وهكذا كانت حكمك � س��يدي ��� كافي��ة لمن يري��د أن يس��ير على سراطك المستقيم، الذي لم ينح��رف ذات اليمين، وال ذات الشمال، ذلك السراط الذي ارتضاه الله لعباده، ولم يقبل منهم

المرور على غيره. وهي جميع����ا مدرس����ة في األخالق واآلداب والسياس����ة والحض��ارة.. وال تل��تزم أم��ة به��ا إال، وت��رقت.. وال نفس به��ا إال تطه��رت.. وال مجتم��ع به��ا إال ك��ان مجتمع��ا متك��افال متناص��را

متراحما ممتلئا بالحكمة. فأسألك سيدي، وأتوسل بك إلى الل��ه تع��الى أن أك��ون من أولئك الذين تتلمذوا على كلماتك وهديك، فصار لهم من الحكمة ما يصلحون به شؤون دينهم ودنياهم.. حتى تتحكم عق��ولهم في

نفوسهم، ويتحكم دينهم في دنياهم. وأسألك سيدي أن ترفع درجتي حتى أكون من ال��دعاة إلى الل��ه بالحكم��ة والموعظ��ة الحس��نة، أولئ��ك ال��ذين س��اروا على هديك، وه��دي ورثت��ك؛ فص��ارت لهم من حكم��ة الق��ول والفع��ل والتدبير م��ا يجعلهم دع��اة إلى الل��ه على بص��يرة، ال على ه��وى،

وعلى هدى، ال على ضاللة. وأسألك سيدي أن ينالني بعض فضل الله عليك في البالغة التي تيسر لي تبليغ الحكمة، والدعوة إليها، حتى يفهمني قومي، وح��تى أبل��غ لهم دين الل��ه بم��ا ييس��ر بلوغ��ه لعق��ولهم وقل��وبهم

)( رواه مسلم.1

106

وأرواحهم.. فأنت وسيلة الله العظمى، وباب رحمته األكبر.

107

المعلم الناصح سيدي يا رسول الله.. يا معلم المعلمين، وأستاذ األساتذة، وحكيم الحكماء.. يا من ال يتتلمذ على يديه ص��ادق إال ون��ال ك��ل

فنون العلم والحكمة واألدب والصالح. يا من ال يزال تعليم��ه مس��تمرا ع��بر األجي��ال في مدرس��ته التي ال يتخرج منه��ا إال المخلص��ون والمخلص��ون.. أولئ��ك ال��ذين استناروا بنور النبوة، واهتدوا بهديها.. فارتفعوا من ذل��ك التثاق��ل إلى األرض والطين، وس���موا ب���أرواحهم إلى آف���اق الس���ماء

السامية. وكي��ف ال تك��ون ك��ذلك س��يدي، وأنت ص��احب اإلذن اإللهي في أن تك��ون معلم��ا، وأن يجث��و بين ي��ديك ك��ل الخل��ق تالمي��ذ ومريدين.. وقد قال رب�ك مخ�برا عن فض��له على العب�اد بجعل��كوال �ه على الم��ؤمنين إذ بعث فيهم رس�� ﴿معلم��ا لهم: لق��د من� اللمهم الكتاب والحكم��ة يهم ويعل من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزك

[164﴾وإن كانوا من قبل لفي ضالل مبين ]آل عمران: ودعانا إلى شكر هذه النعمة العظيم��ة بإتاح��ة الفرص��ة لن��ا

لنالتكون أنت معلمنا وأستاذنا ومربينا، ق��ال تع��الى: كم��ا أرس����اب مكم الكت يكم ويعل ��زك ��ا وي ��و عليكم آياتن فيكم رسوال منكم يتل

��وا تعلم��ون ) مكم م��ا لم تكون ( ف��اذكروني151والحكم��ة ويعل[152، 151 ]البقرة: أذكركم واشكروا لي وال تكفرون

وقد أخبرت عن نفس��ك ب��أن وظيفت��ك العظمى ال��تي جئت بها، ليست ذل�ك العن��ف ال�ذي توهم��ه المحجوب��ون عن��ك، وإنم��ا وظيفتك التعليم، وكل ما يرتبط به من إصالح وتربي��ة، وق��د ورد

108

في الح��ديث أن��ك دخلت المس��جد يوم��ا، ف��إذا أنت بحلق��تين، إح��داهما يق��رؤون الق��رآن، وي��دعون الل��ه، واألخ��رى يتعلم��ون ويعلم��ون، فقلت: )ك��ل على خ��ير، ه��ؤالء يق��رؤون الق��رآن، وي��دعون الل��ه، ف��إن ش��اء أعط��اهم، وإن ش��اء منعهم، وه��ؤالء

.(1)يتعلمون ويعلمون، وإنما بعثت معلما(، ثم جلست معهم

وقد كنت لذلك � سيدي � قدوة لكل المعلمين، بل مدرس��ة في فن التربية والتعليم، ولو أنهم تركوا أهواءهم، واتبعوك فيها،

لما رسب تلميذ، وال فشل أستاذ. لقد رحت أبحث عن منهجك في التعليم، وسر قدرتك على تحويل أولئك البدو البسطاء، الذين كان هم أحدهم قاص��را على غنائم يغنمها، أو س��لب يحص��ل علي��ه، أو طع��ام يأكل��ه، فوج��دت عجبا عجابا.. فأنت أخرجتهم من تلك الحال من غ��ير أن تع��دهم ب��أي وع��ود مرتبط��ة ب��دنياهم، ب��ل اكتفيت معهم بتل��ك الوع��ود

اإللهية العظيمة التي رفعت هممهم. لق��د ك��ان ذل��ك أول م��ا ش��د انتب��اهي في تعليم��ك.. فتل��ك الدوافع السامية التي وفرته��ا لتالمي��ذك، وفي ك��ل األزمن��ة، هي التي جعلتهم يضحون بكل راحتهم ومتعهم في س��بيل التحص��يل والتعلم، م���ع أنهم ال يحص���لون من ج���راء ذل���ك على ش���هادة يفتخ��رون به��ا، أو م��ال يكس��بونه، أو مناص��ب تض��من لهم حي��اة

مستقرة. فق��د ربطت لهم العلم بالل��ه، ح��تى يتج��ردوا عن األه��واء.. وربطت جوائزه بفضل الله حتى ال يص��بح العلم وس��يلة لتحقي��ق

المآرب والمصالح المحدودة...229)( رواه ابن ماجه برقم 1

109

ول��ذلك كنت تعت��بر المتعلم والع��الم في أقص��ى درج��ات الصالح.. وأن مدادهم كدماء الشهداء، وسهرهم كقيام القائمين،

وصوم الصائمين.. وقد كنت تقول لهم مرغبا في التعلم: )تعلم��وا العلم، ف��إن تعلمه لله خشية وطلبه عب��ادة، ومذاكرت��ه تس��بيح، والبحث عن��ه جهاد، وتعليمه لمن ال يعلمه صدقة، وبذله ألهله قربة النه معالم الحالل والح���رام ومن���ار س���بل أه���ل الجن���ة، وه���و األنيس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدث في الخل��وة، وال��دليل على السراء والضراء، والسالح على األعداء والزين عند األخالء، يرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قادة قائمة تقتص آثارهم ويقتدى بفعالهم، وينتهى إلى رأيهم، ترغب المالئك��ة في خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم، ويس��تغفر لهم ك��ل رطب وي��ابس، وحيت��ان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعام��ه ألن العلم حي��اة القل��وب من الجهل، ومصابيح األبص��ار من الظلم، يبل��غ العب��د ب��العلم من��ازل األخيار والدرجات العلى في ال��دنيا واآلخ��رة، التفك��ر في��ه يع��دل الصيام، ومدارسته تعدل القيام، به توص��ل األرح��ام وب��ه يع��رف الحالل من الح��رام، وه��و إم��ام العم��ل، والعم��ل تابع��ه، يلهم��ه

(1)السعداء، ويحرمه األشقياء(

وكنت تخ��برهم أن�ه يمكن ب�التعلم أن ين�الوا ك�ل المناص�ب اإللهية الشريفة التي وفره��ا الل��ه لعب��اده، لين��الوا أن��واع الج��زاء العظيم.. فقد كنت تق��ول لهم: )أفض��ل العب��ادة الفق�ه، وأفض��ل

: )فضل العلم خير من فض��ل العب��ادة،، وتقول(2)الدين الورع(

)( ( رواه ابن عبد البر في كتاب العلم.1

)( ( رواه الطبراني في معاجيمه الثالثة.2

110

: ) قلي��ل العلم خ��ير من كث��يروتق��ول، (1)وخ��ير دينكم ال��ورع( العبادة، وكفى بالمرء فقها إذا عب��د الل��ه، وكفى ب��المرء جهال إذا

: )ما عبد الله بش��يء أفض��ل من فق��هوتقول، (2)أعجب برأيه( في دين ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عاب��د، ولك��ل

(3)شيء عماد وعماد هذا الدين الفقه(

وعن��دما رأيت ح��رص بعض أص��حابك على النواف��ل، ابتغ��اء ألجرها العظيم، قلت له ناصحا: )ألن تغ�دو فتعلم آي��ة من كت��اب الله خير لك من أن تصلي مائة ركعة، وألن تغدو فتعلم باب��ا منالعلم عمل به أو لم يعمل به خير لك من أن تصلي ألف ركع��ة(

(4)

وعندما رأيت آخر حريصا على الصدقات، أخبرت��ه أن تعليم العلم ال يختل��ف عن الص��دقات، وقلت ل��ه: )أفض��ل الص��دقة أن

(5)يتعلم المرء المسلم علما ثم يعلمه أخاه المسلم(

ويروى أنه ذكر عندك رجالن: أح��دهما عاب��د واآلخ��ر ع��الم، فقلت: ) فض��ل الع��الم على العاب��د كفض��لي على أدن��اكم(، ثم قلت: )إن الله ومالئكته، وأه��ل الس��موات واألرض ح��تى النمل��ة

)( ( الطبراني في األوسط، والبزار بإسناد حسن.1

)( ( الطبراني في األوسط.2

)( ( الدارقطني والبيهقي.3

)( ( ابن ماجه بإسناد حسن.4

)( ( رواه ابن ماجه بإسناد حسن.5

111

(1)في جحرها، وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير(

وهكذا كنت تخبرهم أن العلم � لفضله العظيم � يحت��اج إلى الص��بر واالجته��اد، وق��د يتطلب الغرب��ة والرحل��ة، وك��ل أن��واع المتاعب، وقد كان من كلماتك في هذا قول��ك: ) ي��ا أيه��ا الن��اس إنما العلم بالتعلم، والفقه بالتفقه، ومن يرد الله به خ��يرا يفقه��ه

��اده العلم��اء في ال��دين، و �ه من عب ى الل �م��ا يخش�� ]ف��اطر:إن ، وقولك: )من س��لك طريق��ا يلتمس في��ه علم��ا س��هل(2)([28

الله له طريقا إلى الجن��ة، وإن المالئك��ة لتض��ع أجنحته��ا لط��الب العلم رضا بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في الس��موات ومن في األرض ح��تى الحيت��ان في الم��اء، وفض��ل الع��الم على العاب��د كفض��ل القم��ر على س��ائر الك��واكب، وإن العلم��اء ورث��ة األنبياء، إن األنبياء لم يورثوا دين��ارا وال درهم��ا إنم��ا ورث��وا العلم

، وقول��ك: )م��ا من رج��ل تعلم(3)فمن أخذه أخ��ذ بح��ظ واف��ر( كلمة، أو كلمتين، أو ثالثا، أو أربعا، أو خمسا مما فرض الله ع��ز

(4)وجل فيتعلمهن ويعلمهن إال دخل الجنة(

وعندما جاءك بعضهم، وأخبرك أنه ج��اء يطلب العلم، قمت إليه فرحا مسرورا، وقلت له: )مرحب��ا بط��الب العلم، إن ط��الب العلم تحف��ه المالئك��ة بأجنحته��ا، ثم ي��ركب بعض��هم بعض��ا ح��تى

)( ( الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.1

)( ( الطبراني في الكبير.2

)( ( أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والبيهقي.3

)( ( أبو نعيم.4

112

(1)يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يطلب(

بل إنك سيدي كنت تخبر أن العلم ال حدود لطلبه، وأنه من المهد إلى اللحد، ولذلك كان أشرف الموت أن يموت الم��ؤمن، وه��و يطلب العلم، وق��د ك��ان من ترغيب��ك في ه��ذا قول��ك: )من ج���اءه أجل���ه وه���و يطلب العلم لقي الل���ه ولم يكن بين���ه وبين

، وقول��ك: )من طلب علم��ا فأدرك��ه(2)النبي�ين إال درجة النبوة( كتب الله له كفلين من األجر، ومن طلب علما فلم يدرك��ه كتب

(3)الله له كفال من األجر(

بل إنك سيدي كنت تعتبر العلم من األعمال التي ال ينقط��ع أجرها، ولو بعد الموت.. وقد كنت تقول لكل ط��البي العلم: )إذا

نقط��ع عمل��ه إال من ثالث: ص��دقة جاري��ة، أو علمٱمات ابن آدم ، وكنت تقول لهم: ) إن مما(4)ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له(

يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علم��ا علم��ه ونش��ره وولدا صالحا تركه أو مصحفا ورثه، أو مس��جدا بن��اه أو بيت��ا البن الس��بيل بن��اه، أو نه��را أج��راه، أو ص��دقة أخرجه��ا من مال��ه في

)( ( أحمد والطبراني بإسناد جيد واللفظ له، وابن حبان في صحيحه، والحاكم1وقال: صحيح اإلسناد.

)( ( الطبراني في األوسط.2

)( ( الطبراني في الكبير.3

)( ( مسلم وغيره.4

113

(1)صحته وحياته تلحقه من بعد موته(

لقد كانت هذه األحاديث، وما تتضمنه من الرتغيب يف طلب العلم، ومهما اختلفت الظروف سببا يف قيام أكرب حضارة علمية عرفها التاريخ، وهي تلك احلضارة املستندة لتلك التعليمات املقدسة اليت

كنت تبثها يف تلك األمة األمية اليت مل تكن تعطي العلم أي قيمة.

وال تزال سيدي كلماتك حاضرة يف كل األجيال، يسمع هلا كل الصادقني الذي يضحون بكلأهوائهم ومتعهم يف سبيل أن ينالوا فضل املتعلمني والعلماء الذي وعدت به، وأخربت عنه.

ولم يكن ذلك فقط � سيدي ما جئت به � بل إنك وضعت منظومة كاملة للتعليم، ال يتبعها صادق إال وتحقق بالتلمذة

الحقيقية، وأول مظاهر تلك المنظومة احترام العلوم، كل العلوم.. ألنها جميعا تؤدي إلى الله، وتهذب النفس، وتخدم المجتمع.. ولذلك

كنت تعلم أصحابك من علوم كل شيء، وقد حدث بعضهم عنك ، وما يقلب طائر جناحيه فيقال: )ولقد تركنا رسول الله (2)السماء إال ذكر لنا منه علما(

ومن أرك��ان تل��ك المنظوم��ة تل��ك اآلداب ال��تي كنت ت��دعو المتعلمين والمعلمين إليها، حتى ال يكون التعليم منفرا، وحتى ال يكون المعلم سببا ألي عقد نفسية يس��ببها لتالمي��ذه.. وق��د روي في الحديث عن بعض أصحابك قال: )بينا أنا أص��لي م��ع رس��ول

إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الل��ه، فرم��انيالله القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه، ما ش��أنكم تنظ��رون إلي؟

)( ( ابن ماجه بإسناد حسن والبيهقي، ورواه ابن خزيمة في صحيحه مثله.1

)( رواه ابن جرير وأحمد وعبد الرزاق، واللفظ ألحمد.2

114

فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم. فلما رأيتهم يص��متونني، ، فب��أبي ه��و وأمي، م��الكني سكت فلم��ا ص��لى رس��ول الل��ه

رأيت معلما قبله وال بعده أحسن تعليما منه، فوالله م��ا كه��رني، وال ضربني، وال شتمني، بل قال: إن هذه الص��الة ال يص��لح فيه��ا ش��يء من كالم الن��اس، إنم��ا هي التس��بيح والتكب��ير وق��راءة

(1)القرآن(

ولذلك كنت تقول لهم: )إن الله لم يبعثني معنتا وال متعنتا،را( (2) ولكن بعثني معلما وميس

وقد كنت � ألجل تحقيق ذلك � تمارس كل أس��اليب التعليم الذي يوصل المعلومة إلى العقل والنفس بكل هدوء.. وقد ك��ان من ذلك تلك األسئلة التي كنت تحفز بها عقولهم، لتعلمهم كيف

يفكرون، ويعتبرون، فال علم من دون تفكر وال اعتبار.. ..(3)فق��د كنت تق��ول لهم متس��ائال:)أت��درون م��ا الغيب��ة(

.. )أتدرون ما أخباره��ا؛ ف��إن أخباره��ا(4))أتدرون من المفلس( أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عم��ل على ظهره��ا، أن تق��ول

(931( و )930(، وأبو داود رقم )537)( رواه مسلم رقم )1

.1478)( رواه مسلم برقم 2

)( رواه مسلم وأبو داود وغيرهما. 3

)( رواه مسلم وغيره. 4

115

..(1)علي عمل كذا وكذا، في ي��وم ك��ذا وك��ذا، فه��ذه أخباره��ا( (2))أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون الناس(

وكنت تلغز لهم أحيانا، ح��تى يت��وفر لهم ج��و المنافس��ة في طلب العلم، وحتى يختلط العلم عندهم بالتس��لية والم��رح، ومن أمثلة ذلك قولك لهم: )إن من الش��جر ش��جرة ال يس��قط ورقه��ا

(3)وإنما مثلها مثل المسلم فأخبروني ما هي؟(

وكنت تستعمل معهم كل وس��ائل التوض��يح الممكن��ة، ومن أمثلة ذلك استعمالك للغ��ة الجس��د، فق��د كنت تق��ول لهم، وأنت

، وكنت(4)تشير بالسبابة والوسطى: )أنا وكافل اليتيم كهاتين( تقول لهم، وأنت تشير بيدك إلى المشرق: )الفتنة من هاهنا من

(5)حيث يطلع قرن الشيطان(

وكنت أحيانا في سبيل توضيح المعلوم��ة تس��تعمل الرس��م للتبسيط والتيسير، وقد حدث بعض أصحابك قال: )خط رس��ول

خطا مربعا، وخط خطا في الوس��ط خارج��ا من��ه، وخ��طالله خططا صغارا، إلى هذا الذي في الوس��ط، من جانب��ه ال��ذي في الوسط، فقال: »ه�ذا اإلنس��ان، وه��ذا أجل��ه محي��ط ب�ه ��� أو ق�د

)( رواه الترمذي وأحمد والحاكم. 1

)( رواه أحمد. 2

)( رواه البخاري. 3

)( رواه البخاري وأبو داود. 4

)( رواه مسلم. 5

116

أحاط به � وهذا الذي ه��و خ��ارج أمل��ه، وه��ذه الخط��ط الص��غار: األعراض، فإن أخطأه هذا، نهشه ه��ذا، وإن أخط��أه ه��ذا، نهش��ه

(1)هذا(

وكنت تقص عليهم القص��ص، وتض��رب لهم األمث��ال ال��تي تبسط لهم الحقائق، ومن ذلك قولك لهم:)مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فكان بعض��هم أسفلها وكان بعضهم أعالها، وكان الذين في أسفلها إذا اس��تقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقن��ا في نص��يبنا خرقا فلم نؤذ من فوقن��ا، ف��إن أخ��ذوا على أي��ديهم نج��وا ونج��وا

(2)جميعا، وإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا(

وهكذا كنت تستعمل كل ما أمكنك وتوفر ل��ديك من فن��ون البيان والتيس��ير والتوض��يح، ح��تى تص��ل المعلوم��ة إلى العق��ول

والقلوب بكل يسر وسهولة.. ولم تكن تكتفي بإيص��ال المعلوم�ات المج�ردة، وإنم�ا كنت تنصح المتعلمين، وتربيهم، وتهذب نفوسهم، حتى ال يك��ون العلم س��ببا لهالكهم، وح��تى ين��الوا العلم الن��افع ال��ذي ال ين��ال أج��ر

المتعلمين والعلماء والمعلمين إال من توفر لديه. فأسألك يا سيدي يا رسول الله، وأتوس��ل ب��ك إلى ربي أن يجعلني من المتعلمين في مدرس��تك، ومن ك��ل علومه��ا وآدابه��ا ومعارفها، ح��تى أن��ال ش��رف التخ��رج منه��ا، بش��هادتك العظمىالتي فيها توقيعك السامي، والتي ال تعدلها أي شهادة في الدنيا.

(2456، والترمذي رقم )12 و 14/11)( رواه البخاري 1

)( رواه البخاري. 2

117

وأس��ألك، وأتوس��ل ب��ك إلى ربي أن يجعل��ني من معلمي الخير، الس��ائرين على ق��دمك، المهت��دين به��ديك، أولئ��ك ال��ذين نفعهم العلم، ولم يض���رهم، وأص���لح نفوس���هم، ولم يفس���دها، وقربهم منك، ولم يبعدهم.. إنك أنت الوس��يلة العظمى، فال ي��رد

من توسل بك، وال يخيب من توجه إلى الله بوجهك، وبجاهك.

118

الشهم الشجاع سيدي يا رسول الله.. أيه��ا الش��هم الش��جاع ال��ذي اكتملت فيه كل أركان الشخصية القوية بجميع معانيها؛ فص��ار أنموذجه��ا

األمثل، وقدوتها األعلى، وأسوتها الحسنة. عندما أتأمل مواقفك طيلة حياتك، وخاصة في تلك الف��ترة التي كلفت فيها بأعظم رسالة، وبين أش��رس ق��وم، وفي أحل��ك ظ���روف.. أعلم يقين��ا أن القلب ال��ذي اس���تطاع تحم���ل تل���ك التك���اليف الثقيل���ة ال يمكن إال أن يك���ون في قم���ة الش���جاعة والقوة.. وإال فمن يجرؤ على مواجهة أقوام تجذر فيهم الشرك، وك��ل ع��ادات الجاهلي��ة، ب��ذلك التح��دي، وبتل��ك ال��دعوات ال��تي

جعلتهم ينهضون جميعا على بكرة أبيهم لمواجهته. ولو أن أولئك المشككين المخدوعين عن الحقيق��ة، ت��أملوا

�ه أعلمفي هذه الناحية وح��دها، له��دتهم إلي��ك، ولعرف��وا أن الل [، فيس��تحيل على من ك��ان124 ]األنعام: حيث يجعل رسالته

كاذبا أو مخدوعا أو مخادعا أن يتجرأ على تلك الدعوات التي لن ينال منها إال المواجهة والحرب والتش��ويه والتش��ويش.. م��ع أن��ه يمكن أن ين��ال ك��ل أغراض��ه بمج��رد أن يس��مع قوم��ه فص��احته

وبالغته وحكمته. فالمواجهة � يا سيدي يا رس��ول الل��ه ��� والش��جاعة األدبي��ة المرتبطة بها أعظم من الش��جاعة ال��تي يبرزه��ا المح��اربون في

حربهم، أو الشجعان في منازالتهم.. ولذلك قلت مبينا عظم ش��هادة من ق��ال كلم��ة الح��ق عن��د س��الطين الج��ور: )من أعظم الجه��اد كلم��ة ع��دل عن��د س��لطان

119

(1)جائر(

ال ت��زال ذكري��ات ش��جاعتك في ه��ذا الج��انب ت��رد على خاطري، وتملؤني بالنشوة، وأنا أشعر بأن ذلك الح��بيب العظيم الذي امتأل قلبي حبا له وشوقا إلي��ه، ليس عارف��ا، وال عالم��ا، وال عابدا، وال عبقريا فقط.. وإنما هو ف��وق ذل��ك ي��تربع على ع��رش

الشجاعة الذي ال ينافسه فيه أحد. فالش����جاعة ال����تي واجهت به����ا المش����ركين واليه����ود والمنافقين.. وكل المناوئين.. لم يكن ليجسر على اإلقدام عليها

غيرك.. وغير من اهتدى بهديك. ال أزال أذكر سيدي ذلك الموقف الذي وقفته على الص��فا، وأنت تعلم خطورت����ه، وت����أثيره في قوم����ك الحريص����ين على أصنامهم وأوثانهم.. لق��د رحت تن��اديهم بك��ل ق��وة، وتق��ول لهم: )أرأيتم لو أخ��برتكم أن خيال ب��الوادي تري��د أن تغ��ير عليكم أكنتم مص��دقي(، ق��الوا: نعم، م��ا جربن��ا علي��ك إال ص��دقا.. فقلت لهم: )فإني نذير لكم بين ي�دي ع�ذاب ش��ديد(، حينه�ا ق�ام عم�ك أب�و

(2)لهب غاضبا، وهو يقول: )تبا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟(

لكن ذلك الموقف لم يؤثر في��ك.. ب��ل ظللت تن��ادي فيهم..

وهم يرمونك بالحجارة، ويحرضون األطف��ال والمج��انين علي��ك.. وأنت ال تبالي بهم.. وال بسخريتهم.. وال برميهم لك بكل أص��ناف

السباب.

(4344( وأبو داود )2174)( الترمذى )1

(4971، 4770 )االحاديث رقم 609، 360/ 8)( البخاري- فتح الباري 2

120

وعندما لم تجد منهم آذان��ا ص��اغية رحت تس��ير المس��افات الطويلة إلى الطائف، وأنت تعلم أن قس��وتهم وغلظتهم ال تق��ل عن قوم��ك.. وواجهتهم بش��جاعة، وط��رحت لهم بك��ل ق��وة م��ا كلفك الله به.. وقابلت بك��ل ش��جاعة م��ا واجه��وك ب��ه.. وعن��دما اضطررت إلى الشكوى، لتنفس عن قلب��ك بعض حزن��ك عليهم، لم تشك لهم كما يفعل الجبناء، وإنم��ا ش��كوت إلى الل��ه.. ال م��ا

زجك فيه من بالء.. وإنما شكوت له تقصيرك في حقه.. ولم تقتص��ر مواق��ف ش��جاعتك على ذل��ك، ب��ل ك��انت ك��ل حياتك مواقف شجاعة وبطول��ة ن��ادرة.. وكي��ف ال تك��ون ك��ذلك، وأنت ال��ذي جعلت الع��رب جميع��ا مش��غولين ب��ك.. وبكيفي��ة

مواجهتك، وأنت فرد واحد.. ومعك الكثير من المستضعفين. ولم تكن شجاعتك قاصرة على شجاعة الكلمة.. بل ك��انت تشمل كل أنواع الشجاعة ومجاالتها.. حتى الحربية منها.. ف��أنت في كل الح��روب ال��تي فرض��ت علي��ك كنت المقب��ل ال الم��دبر.. والثابت ال المتولي.. حتى كان الشجعان واألبط��ال يل��وذون ب��ك، ويحتمون، وق��د ق��ال بعض��هم ي��ذكر ذل��ك: )كن��ا إذا حمي الب��أس

ت الحدق، اتقينا برسول الله ، فما يكون أحد)القتال(، واحمر� (1)أقرب إلى العدو منه(

أحسنوقال بعض أصحابك يصف شجاعتك: )كان النبي الناس وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ليلة، فخرجوا نح��و

، وقد استبرأ الخبر وهو على فرسالصوت، فاستقبلهم النبي ألبى طلحة عري )مجرد من السرج(، وفي عنق�ه الس�يف، وه�و

)( رواه الطيالسى، وابن أبى شيبة، وأحمد، وأب��و عبي��دة فى الغ��ريب، والنس��ائى،1 وأبو يعلى، والحاكم، وابن جرير وصححه، والحارث، وال��بيهقى فى ال��دالئل، ]ك��نز العم��ال

35463]121

يقول: لم تراعوا، لم تراع�وا )ال تخ��افوا وال تفزع�وا(، وق��ال عن الفرس: )وجدناه بحرا، وإنه لبحر(، قال الراوي: )وكان الف��رس

(1)قبل ذلك يبطأ، فما سبق بعد ذلك(

وقال آخر: )ما رأيت أش��جع وال أنج��د )أس��رع في النج��دة( )(2)من رسول الله

وكيف ال تكون ك�ذلك س��يدي، وأنت الق�رآن الن��اطق ال�ذي��ل مع��هتمثلت في��ه ح��روف قول��ه تع��الى: ن من نبي قات ��أي وك

�ه وما ضعفوا وما ون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الل ي ربابرين ) �ه يحب الص��� تكانوا والل ��ان ق��ولهم إال� أن146اس�� ( وم��ا ك

ت أق��دامنا ��ا وثب رافنا في أمرن ��ا وإس�� ��ا ذنوبن ��ا اغف��ر لن �ن ق��الوا رب��افرين رنا على الق��وم الك [،147،�� 146 ]آل عم��ران: وانص��

فهذه اآليات الكريمة، وإن كانت تصف أتباع األنبياء، ف��أنت أولى بها.. وكيف ال تكون ك�ذلك، وأنت س��يد األنبي��اء، وس��يد أتب��اعهم،

ونموذجهم األمثل، وقدوتهم العظمى. وكيف ال تكون كذلك، وأنت ص��احب اإليم��ان العظيم ال��ذي يرى الحقائق رأي العين، فلذلك ال يؤثر فيه ذلك البهرج الك��اذب

الذي يؤثر في الجبناء.. فيمألهم بالمخافة والرهبة. وكيف ال تكون كذلك، والله تعالى هو ال��ذي أم��رك بالثب��ات والغلظة على أولئك الذين يجاوزون حدودهم، فيظلمون الناس،

�بي جاه��دويعتدون على الحرم��ات، ق��ال الل��ه تع��الى: ه��ا الن ياأي

(، ومس��لم6033( و )3040( و )2908( و )2866( و )2820)( رواه والبخاري )1(2307( )48)

(116/ 1)( الشفا بتعريف حقوق المصطفى - وحاشية الشمني )2

122

�م وبئس المصير الكف�ار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهن[73]التوبة:

ول��ذلك، فإن��ك ��� س��يدي ��� كم��ا كنت لين��ا رحيم��ا لطيف��ا ب���المؤمنين والمس���المين والص���الحين، كنت في نفس ال���وقت شديدا على الطغاة والمجرمين والمحاربين.. فاكتملت لك بذلك اإلنسانية في أجم��ل جوانبه��ا.. واكتملت ل��ك الش��هامة في أروع

صورها. فقد كنت تحفظ شجاعتك بشهامتك، فال تظلم، وال تعت��دي، وإنما تكتفي بمواجهة من يظلم المستضعفين، أو يري��د التس��لط

عليهم.. ولهذا كنت في ك��ل حروب��ك ال��تي فرض��ت علي��ك، ص��احب شهامة ونبل، تكتفي بقتال من قاتلك، وبح��رب من حارب��ك، من

دون أن تجاوز الحدود التي أتاحها الله لك. وقد شهد لك ك��ل أص��حابك بأن��ك في غزوات��ك جميع��ا كنت البطل األكبر، ففي غزوة ب��در وأح��د وغيرهم��ا كنت أنت القائ��د،ج� ال��ذي يق��دم على غم��ار الم��وت، بش��جاعة وبطول��ة، ح��تى ش��

وجهك، وكسرت رباعيتك. وفي ي��وم حنين ثبت في وج��ه اآلالف من ه��وازن، بع��د أن تفرق عنك الناس خوفا واض�طرابا من الكمين المف�اجيء ال��ذي تعرضوا له.. وقد وصف بعض صحابتك ثباتك، فق��ال لمن س��أله:

م��ا ول�ى،)أكنتم وليتم ي��وم ح��نين؟(: )أش��هد على ن��بي الل��ه ر )من ال س��الح معهم( إلى ولكنه انطلق أخف�اء من الناس وحس��� هذا الحي من هوازن وهم قوم رماة، فرم��وهم برش��ق من نب��ل كأنها رجل )قطيع( من جراد فانكشفوا، فأقبل القوم إلى رسول

123

وأب��و س��فيان بن الح��ارث يق��ود ب��ه بغلت��ه، ف��نزل ودع��االل��ه واستنصر وهو يقول: أن��ا الن��بي ال ك��ذب، أن��ا ابن عب��د المطلب(

(1)

وذكر صحابي آخر بعض مواق��ف ش��جاعتك، فق��ال: )غزون��ا��ل نج��د، فأدركن��ا رس��ول الل��ه مع رسول الله في غزاة قب

القائلة في واد كثير العضاه )ش��جر في��ه ش��وك(، ف��نزل رس��ولن من أغص��انها، وتف��رقالله ��ق س��يفه بغص�� تحت شجرة فعل

الناس في ال��وادي يس��تظلون بالش��جر، فق��ال رس��ول الل��ه: إن� رجال أتاني وأنا نائم فأخ��ذ الس��يف فاس��تيقظت وه��و ق��ائم على رأسي، والسيف صلتا )مسلوال( في يده فقال: من يمنعك مني؟ قلت: الله، فشام السيف )رده في غمده(، فها هو ذا جالس، ثم

)(2)لم يعرض له رسول الله

وما ذلك � سيدي � إال لمعرفتك بالله.. فيستحيل أن تجتم��ع المعرف��ة م��ع الجبن.. ف��أول عالم��ات الع��ارف بالل��ه ش��جاعته.. وكيف ال يكون شجاعا، وهو يرى الله في كل شيء.. ويرى ق��وة الله في كل محل، ولذلك كنت تردد متأس��فا: )انت��دب الل��ه لمن خ��رج في س��بيله ال يخرج��ه إال إيم��ان بي وتص��ديق برس��لي أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة، أو أدخله الجنة. ولوال أن أش��ق على أمتي ما قعدت خلف سرية، ولوددت أني أقت��ل في س��بيل

(3)الله ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل((79( )78( )1776(، ومسلم )2930)( رواه البخاري )1

(14 )1787(، ومسلم ص 4134( و )2913( و )2910)( رواه البخاري )2

(1876( ومسلم )36 )1)( البخاري- الفتح 3

124

باإلضافة إلى ذلك كله � سيدي � اتفق كل من رآك وعرفك وصحبك على تلك القوة التي كنت عليها.. والتي عج��ز من ك��ان يزعم لنفسه القوة على مجاراتك فيها.. وكي��ف ال تك��ون ك��ذلك، وق��وة الجس��د من ق��وة القلب.. وق��وة القلب من ق��وة ال��روح.. وق��وة ال��روح من ص��لتها بربه��ا.. وأنت أعظم المتص��لين بالل��ه، والمتواص��لين مع��ه.. فل��ذلك تجلى علي��ك باس��مه الق��وي، فلم

يغلبك أحد. وقد ورد في الحديث أن رجال من العرب كان يطل��ق علي��ه ركانة، ولم يكن أحد يستطيع مواجهته، أو منازلته، وعندما س��مع بك، طلب أن يصارعك، فاستجبت لطلبه، وسرعان ما ص��رعته، فلم يصدق عين��ه، فطلب اإلع��ادة، فص��رعته م��رة ثاني��ة، فق��ال: عاودني، فصرعته الثالثة، فقال: )يا محمد، ما وضع ظه��ري إلى األرض أحد قبلك، وما كان أحد أبغض إلي� منك، وأنا أشهد أن ال

)(1)إله إال الله وأنك رسول الله

ولهذا كان الصحابة يلجؤون عليك عن��د ك��ل ش��دة، أو ثق��ل ينوء بهم، فقد روي أنهم يوم حفر الخن��دق في غ��زوة األح��زاب، عجزوا عن كسر صخرة عظيمة عرضت لهم في طريق الحف��ر، فاس��تنجدوا ب��ك، فأخ��ذت المع��ول، وض��ربتها ح��تى ع��ادت كثيب��ا

أهيل، أو كالرمل الذي ال يتماسك.

ومعه ثلثمائة)( من الروايات الواردة للحديث أن يزيد بن ركانة جاء إلى النبي 1 : وما تجعل لي إن صرعتك؟من الغنم فقال: يا محم�د، هل لك أن تصارعني؟ قال

: وما تجعلقال: مائة من الغنم، فصارعه، فصرعه، ثم قال: هل لك في العود؟ فقال لي؟ قال: مائة أخرى، فصارعه، فصرعه، وذكر الثالثة، فقال: يا محم�د، ما وضع جنبي في

األرض أحد قبلك، وما كان أحد أبغض إلي منك وأنا أشهد أن ال إله إال الله وأنك رسولالله، فقام عنه ورد عليه غنمه( ]رواه الخطيب وصححه األلباني في إرواء الغليل )

1501])125

فأسألك � يا سيدي يا رسول الله بجاهك العظيم عند الله � أن أن��ال حظ��ا من ش��جاعتك وقوت��ك، فال ألين م��ع الطغ��اة، وال أسكن للظلمة، وال أخاف في الله لومة الئم.. ب��ل أك��ون ش��هما شجاعا أقف مع المستضعفين المظلومين، كما كنت تقف، وكما دعوتن��ا أن نق��ف.. إن��ك أنت ص��احب الوس��يلة العظمى، والج��اه

العظيم.

126

المخلص المخلص س��يدي ي��ا رس��ول الل��ه.. أيه��ا المخلص المخلص.. ي��ا من توجهت إلى الله بكليتك؛ فلم يختلط توجهك إليه بغيره.. فقابلك الله بكرمه ولطفه بتخليصك الخالص كله.. فكنت الحافظ لل��ه..

وكان الله الحافظ لك. سيدي.. لو أن جميع أولئك المش��تبهين في ش��أنك الحظ��وا تلك الحرب المعلنة عليك من طرف أولئ��ك الجف��اة الغالظ، من المشركين واليه��ود والمن��افقين وجف��اة األع��راب.. ورأوك وأنت تسير بينهم خال من كل سالح، وليس مع��ك أي ح��رس، لعلم��وا أنك محف��وظ من الل��ه، وأن ت��ركهم ل��ك، أو ع��دم ق��درتهم على إيذائك ليس رغبة منهم في ذلك، وإنما ألن األمر كان خارجا من

أيديهم. وقد أخبر الل��ه تع��الى أن��ه حفظ��ك ب��ذلك الحف��ظ الخ��اص، لتكمل دينك، وتؤدي رسالتك، ويتم نعمته على عب��اده ب��ك، ق��ال

ك وإن لم تفعلتعالى: غ ما أنزل إليك من رب سول بل ها الر� ياأي�ه ال يه��دي �اس إن� الل مك من الن �ه يعص�� الته والل �غت رس�� فم��ا بل

[ 67 ]المائدة: القوم الكافرين وأخبر أن كيد ك��ل أع��دائك س��يرتد عليهم، ألن الل��ه تع��الى تولى حفظك، ولن يستطيع أح��د أن يواج��ه الل��ه، ق��ال تع��الى:

�هم يكيدون كيدا ) ( فمهل الكافرين أمهلهم16( وأكيد كيدا )15إن[17 - 15 ]الطارق: رويدا

ولذلك كنت تتح��رك في القي��ام بأعب��اء دعوت��ك بك��ل حري��ة على الرغم من التضييق الشديد ال��ذي ض��يقوا ب��ه علي��ك، وعلى

127

عشيرتك، وحصارهم لك ولهم.. ولكنهم م��ع ذل��ك لم يس��تطيعواخنق صوتك، وال القضاء المبرم عليك.

ول���ذلك اكتف���وا بالس���خرية واالس���تهزاء.. وك���ل أس���لحة الضعفاء.. ومع ذلك، فقد كفاك الله شأنهم، وسرعان ما ارت��دت سخريتهم واستهزاؤهم عليهم، كما وعدك ربك ب��ذلك، فق��ال:

تهزئين ) �ا كفيناك المس�� �ه إله��ا آخ��ر95إن ��ون م��ع الل �ذين يجعل ( ال[96، 95 ]الحجر: (96فسوف يعلمون )

وهذه سنة الله مع عب��اده المخلص��ين، كم��ا ق��ال تع��الى: خروا منهم م�ا �ذين س�� ��ك فح�اق بال ل من قبل ولقد استهزئ برس��

��ف10كانوا به يستهزئون ) ( قل سيروا في األرض ثم� انظروا كيبين [11، 10 ]األنعام: كان عاقبة المكذ

وق��د ذك��ر أص��حابك بعض م��ا حص��ل ألولئ��ك الس��اخرين والمستهزئين والمؤذين لك.. ومنها ما حصل للوليد بن المغ��يرة، واألس��ود بن عب��د يغ��وث، واألس��ود بن المطلب، والح��ارث بن عيطلة السهمي، فقد رووا أن�ه لم�ا أك�ثروا االس�تهزاء ب�ك أت�اك جبري��ل، ف�أراك الولي��د، ثم أوم��أ إلى أكحل��ه، وق��ال: كفيت��ه.. ثم أراك األس��ود بن المطلب فأوم��أ إلى عيني��ه، وق��ال: كفيت��ه.. ثم

أراك األسود بن عبد يغوث، فأومأ إلى رأسه، وقال: كفيته.. ثم تبين بعد ذلك سر تلك اإلش�ارات، ذل�ك أن�ه م�ر بالولي�د رجل من خزاعة، وهو يريش نبال له، فأص��اب أكحل��ه، فقطعه��ا.. وأما األسود بن المطلب فنزل تحت سمرة، فجعل يقول: يا بني أال تدفعون عني فجعلوا يقولون: ما نرى ش��يئا، وه��و يق��ول: ق�د هلكت ها هو ذا أطعن بالشوك في عيني،فلم ي��زل ك��ذلك ح��تى عميت عيناه.. وأما األسود بن عبد يغوث فخرج في رأسه قروح

128

فمات منها.. وأما الحارث فأخذه الم��اء األص��فر في بطن��ه ح�تى خرج من فيه فمات منها.. أما العاص ف��ركب إلى الط��ائف على حم��ار ف��ربض على ش��برقة، ف��دخل في أخمص قدم��ه ش��وكة

.(1)فقتلته

وهكذا رووا أن رجال كان يجلس إليك، ف��إذا تكلمت بش��يء اختلج بوجهه، وهو يس��خر من��ك ب��ذلك، فقلت ل��ه: )كن ك��ذلك(،

.(2)فلم يزل يختلج حتى مات

ورووا أنك م��ررت على ن��اس بمك��ة، فجعل��وا يغم��زون في قفاك، ويقولون: هذا الذي يزعم أنه ن��بي، ومع��ه جبري��ل، فغم��ز جبريل، فوقع مثل الظف��ر في أجس��ادهم فص��ارت قروح��ا ح��تى

.(3)نتنوا، فلم يستطع أحد أن يدنو منهم

ورووا أن عدوك اللدود أبا جهل قال: هل يعفر محمد وجهه بين أظه��ركم؟ فقي��ل: نعم، فق��ال: والالت والع��زى، لئن رأيت��ه يفعل ذلك ألطأن على رقبته، أو ألعفرن وجهه في ال��تراب.. ثم إنه أتاك، وأنت تصلي ليط��أ على رقبت��ك، لكن��ه ارت��د على عقب��ه فجأة، وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه، فقي��ل ل��ه: م��ا ل��ك؟ فقال: إن بيني وبينه خندقا من ن��ار، وه��وال وأجنح��ة.. وق��د قلتحينها تذكر ما حصل له: )لو دنا الختطفته المالئكة عضوا عضوا(

)( رواه أبو نعيم والبيهقي وصححه الضياء في المختارة، سبل الهدى والرشاد في1(254/ 10سيرة خير العباد )

)( رواه أبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي، سبل الهدى والرشاد في سيرة خير2(254/ 10العباد )

(255/ 10)( رواه البزار والطبراني، سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد )3

129

(1)

وقد روي أنه نزل علي��ك حينه��ا آخ��ر س��ورة العل��ق، وال��تي�اصيةيقول الله تعالى فيها متوعدا: كال� لئن لم ينته لنسفعا بالن

بانية17( فليدع ناديه )16( ناصية كاذبة خاطئة )15) ( سندع الز�[ 19 - 15 ]العلق: ( كال� ال تطعه واسجد واقترب 18)

ورووا أن بعض أعدائك قال: )يا معشر ق��ريش، إن محم��دا قد أبى إال ما ترون من عيب ديننا، وشتم آبائنا، وتسفيه أحالمنا، وسب آلهتنا، وإني ألعاهد الله ألجلسن له غدا بحجر ف��إذا س��جد في صالته فضحت به رأسه، فليصنع بعد ذلك بنو عبد من��اف م��ا بدا لهم(، فلما أصبح أخذ حجرا، واقترب منك، وأنت تصلي، وقد غ��دت ق��ريش، فجلس��وا في أن��ديتهم ينظ��رون، فلم��ا س��جدت احتمل الحجر، ثم أقبل نحوك حتى إذا دنا منك رجع فارا منتقع��ا لونه، قد يبست يداه على حج��ره، ح��تى ق��ذف الحج��ر من ي��ده، فعندما سألوه عن سر ما فعله، قال: )لما قمت إلي�ه ع�رض لي فحل من اإلب��ل، ف��و الل��ه م��ا رأيت مث��ل هامت��ه وال قص��رته، وال أنيابه لفحل قط، فهم أن يأكلني(، وقد قلت حينها مبينا س��ر م��ا

(2)حصل له: )ذاك جبريل، لو دنا مني ألخذه(

ورووا أنه لما نزلت سورة المسد، أقبلت أم جميل، ام��رأة أبي لهب، ولها ولولة، وفي يديها فهر، وهي تقول: )مذمما أبين��ا، ودينه قلينا، وأمره عصينا(، وأنت جالس في المس��جد م��ع بعض

(.255/ 10)( رواه أحمد والنسائي، سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد )1

)( رواه ابن إسحاق وأبو نعيم والبيهقي، سبل الهدى والرشاد في سيرة خير2(255/ 10العباد )

130

أصحابك، فق��ال ل��ك: )لق��د أقبلت ه��ذه، وأن��ا أخ��اف أن ت��راك(، فقلت له مطمئنا: )إنه��ا لن ت��راني(، ف��راحت تص��رخ: أين ال��ذي هجاني وهجا زوجي؟.. فسألها من معك عن رؤيتها لك، فق��الت: )أتهزأ بي والله، ما أرى عندك أحدا(، ثم انصرفت، فس��ئلت عن سر عدم رؤيتها لك، فقال: )حال بي��ني وبينه��ا جبري��ل، يس��ترني

(1)بجناحيه حتى ذهبت(

وهكذا كنت محجوبا عن كل أعدائك الذين يتربص��ون ب��ك.. وكيف ال تكون كذلك، وأنت القرآن الناطق، وقد قال الله تعالى

�ذين الفي��ك وفي��ه: ��ك وبين ال ��ا بين وإذا ق��رأت الق��رآن جعلن[45 ]اإلسراء: يؤمنون باآلخرة حجابا مستورا

وقد روي أن نفرا من قومك تواصوا بك ليقتلوك، منهم أب�و جه��ل والولي��د بن المغ��يرة وغيرهم��ا، فبينم��ا أنت ق��ائم تص��لي، سمعوا قراءت��ك، فأرس��لوا إلي��ك الولي��د ليقتل��ك، ف��انطلق ح��تى انتهى إلى المكان الذي تص��لي في��ه، فجع��ل يس��مع قراءت��ك وال يراك، فرج��ع إليهم ف��أعلمهم ب��ذلك، فأت��اك من بع��ده أب��و جه�ل والوليد ونفر منهم، فلم�ا انته�وا إلى الص�وت، ف�إذا الص��وت من خلفهم، فينتهون إليه فيس��معونه أيض��ا من خلفهم، ثم انص��رفوا

.(2)ولم يجدوا إليك سبيال

وغيرها من الروايات الكث��يرة المت��واترة، وال��تي دل عليه��ا،دا ومنوعلى صحتها قوله تع��الى: ��ديهم س�� ��ا من بين أي وجعلن

)( رواه أبو يعلى وابن حبان والحاكم، وصححه ابن مردويه، والبيهقي، سبل الهدى1(256/ 10والرشاد في سيرة خير العباد )

(257/ 10)( رواه البيهقي، سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد )2

131

[9 ]يس: خلفهم سدا فأغشيناهم فهم ال يبصرون بعض المشركين وقفوا أماموقد روي في سبب نزولها أن

:بيتك، يريدون قتلك، فخ��رجت عليهم، وأح��دهم يق��ول ألص��حابه )إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه كنتم ملوك��ا، ف��إذا متم بعثتم بعد م�وتكم، وك�انت لكم جن�ان خ�ير من جن��ان األردن وأنكم إن خالفتموه كان لكم منه ذبح، ثم بعثتم بعد موتكم وكانت لكم نار تعذبون بها(، ف��التفت إليهم من غ��ير أن يش��عروا ب��ك، فوض��عت التراب على رؤوسهم، وأنت تقرأ بداية سورة يس، ولم يفطن��وا

.(1)ألنفسهم إال بعد أن تساقط التراب من على رؤوسهم

وهكذا شملك الله بحفظه في أشد الظروف صعوبة، مثلما حص��ل لج��دك إب��راهيم علي��ه الس��الم عن��دما ص��ارت الن��ار ب��ردا

وسالما عليه، ليستطيع أداء الوظيفة التي كلف بها. وعندما هاجرت إلى المدينة أرسلوا في طلبك حيا أو ميتا.. لكن الله نص��رك عليهم، وأي��دك بحفظ��ه.. كم�ا ذك��ر ذل�ك قول��ه

��وك أوتع��الى: ��وك أو يقتل �ذين كف��روا ليثبت ��ك ال ��ر ب وإذ يمك�ه خير الم��اكرين �ه والل ]األنف��ال:يخرجوك ويمكرون ويمكر الل

30] إال�وأمام الغار، حصل الموقف الذي أرخ له قول��ه تع��الى:

�ذين كفروا ثاني اثنين إذ هما �ه إذ أخرجه ال تنصروه فقد نصره الل�ه ��ا ف��أنزل الل �ه معن احبه ال تح��زن إن� الل في الغ��ار إذ يق��ول لص���ذين كف�روا �ود لم تروه�ا وجع�ل كلم�ة ال �ده بجن �ه وأي سكينته علي

�ه عزيز حكيم �ه هي العليا والل فلى وكلمة الل [40 ]التوبة: الس

(564/ 6)( انظر الروايات الواردة في ذلك في: تفسير ابن كثير )1

132

لقد مكثت حينها في غار ثور ثالثة أيام حتى ل��و أن أح��دهم نظر إلى قدميه ألبصر تحتهما، وحينها امتأل صاحبك المرافق ل��ك

الحزنا، فقلت له بكل ه��دوء، وأنت تعلم أن الل��ه لن يض��يعك: �ه معنا (2)[ 40 ]التوبة: تحزن إن� الل

لقد كان ذلك الموقف يشبه كثيرا موقف نبي الل��ه موس��ى�اعندما كان فرعون خلفه، والبحر أمامه، فقال ل��ه أص��حابه: إن

كال� إن�[، ف��رد عليهم بك��ل ه��دوء: 61 ]الش��عراء: لم��دركوني سيهدين [62 ]الشعراء: معي رب

وعن��دما ذهبت إلى المدين��ة، وزاد أع��داؤك، بع��د أن انض��م إليهم اليهود والمن��افقون، وأعلنت ك��ل الح��روب علي��ك، وج��رت

الكثير من محاوالت اغتيالك، فشلت جميعا.. �م��اومن تلك المحاوالت ما أشار إلي��ه قول��ه تع��الى: أفكل

��ذ�بتم تكبرتم ففريق��ا ك كم اس� ول بم��ا ال ته�وى أنفس�� جاءكم رس�� [، فقد روي أنك ذهبت إليهم لبعض87 ]البقرة: وفريقا تقتلون

األم��ور بن��اء على المعاه��دة ال��تي ك��انت بين المس��لمين وبينهم، فأجلس��وك في حائ��ط لهم ثم عزم��وا على قتل��ك، بق��ذف رحى عظيمة من فوق الحائط، لكن الله تع��الى عص��مك من ش��رهم، وأحبط كيدهم، وأبلغك بع��زمهم فف��ارقت موض��عك، وك��ان ذل��ك من أسباب جالئهم عن المدين��ة كم��ا ذك��ر الل��ه تع��الى ذل��ك في

سورة الحشر. لقد رأى بعض الصحابة حينها أو بعدها أن يتخذوا لك حرسا يحرس��ك، بع��د أن ك��ثر المن��افقون والمتربص��ون ب��ك من البالدمك من ﴿المختلفة.. لكن الله تعالى أنزل عليك قوله والله يعص��

(2381( مسلم برقم )3653)( البخاري برقم )2

133

�اس ]المائ��دة: [، فص��رفت الح��رس عن��ك، وم��ا حاجت��ك67﴾النإليهم، وأنت في حفظ الله.

وهك��ذا ك��ان أع��داؤك يخطط��ون ك��ل حين لقتل��ك.. لكن محاوالتهم جميعا باءت بالفشل.. ومنها تلك المحاولة ال��تي ق��ام بها الطلق��اء، ومن معهم من المن��افقين ال��ذين أجمع��وا على أن يقتلوك، فلما أردت أن تسلك العقب��ة أرادوا أن يس��لكوها مع��ك، ليدفعوك عن راحلتك في الوادي، فأخبرك الله تع��الى بمك��رهم، فلما بلغت تلك العقبة، طلبت أن ين��ادى في الن��اس: إن رس��ول

أخذ العقبة فال يأخذها أحد، واسلكوا بطن ال��وادي، فإن��هالله أسهل لكم وأوسع، فسلك الن��اس بطن ال��وادي إال النف��ر ال��ذين مكروا بك؛ فلما سمعوا ذلك استعدوا وتلثموا، وس��لكت العقب��ة، وأمرت عمار بن ياسر أن يأخذ بزم��ام الناق��ة ويقوده��ا، وأم��رت حذيف��ة بن اليم��ان أن يس��وق من خلف��ه، فبين��ا كنت تس��ير من العقبة إذ سمعت حس القوم ق��د غش��وك، فنف��روا ناقت��ك ح��تى سقط بعض متاعك.. ف��أمرت حذيف��ة أن ي��ردهم، فرج��ع حذيف��ة إليهم، ومع��ه محجن، فجع��ل يض��رب وج��وه رواحلهم ويق��ول: )إليكم إليكم يا أعداء الل��ه تع��الى(.. حينه��ا علم الق��وم أن��ك ق��د اطلعت على مك��رهم، ف��انحطوا من العقب��ة مس��رعين ح��تى خالطوا الناس، وأقبل حذيفة إليك، فقلت له: اضرب الراحلة ي��ا حذيفة، وامش أنت ي��ا عم��ار، فأس��رعوا ح��تى اس��توى بأعاله��ا،

.(1)وخرجت من العقبة تنتظر الناس

وهكذا باءت كل محاوالتهم بالفشل إلى أن أذن الله لبعض

)( روى الحادثة أحمد عن أبي الطفيل، والبيهقي عن حذيفة، وابن سعد عن جبير1 بن مطعم وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك والبيهقي عن عروة، والبيهقي عن ابن

(466/ 5إسحاق، وغيرهم، سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد )134

كيدهم أن يصل إلي��ك، ال لينهي ال��دور ال��ذي كلفت ب��ه، فتم��وت قبل أن تكمل رسالة ربك، وإنما ليختم لك بالش��هادة ال��تي كنت

تتمنى أن يختم لك بها.. فق��د روي أن ام��رأة يهودي��ة أتت إلي��ك بش��اة مس��مومة، فأكلت منها، فجيء بها إليك، فس��ألتها عن ذل��ك، فق��الت: أردت

(1)قتلك، فقلت لها: )ما كان الله ليسلطك على ذاك(

وبالفعل لم يسلطها الله على ذلك، فق��د ك��ان ذل��ك الس��م شديدا، ويقتل من تناوله في نفس اللحظة ال��تي يتناول��ه فيه��ا.. لكن الله شاء أال يفعل ذلك بك في تلك اللحظة التي لم تكتم��ل

فيها دعوتك.. وعندما اكتملت دعوتك، وأذن ألجلك أن ينتهي، بعد أن علم الله شوقك الشديد للقائه.. أذن لذلك الس��م أن يع��اود مفعول��ه من جديد، ليختم لك بالشهادة، كما أشرت إلى ذلك بقولك: )م��ا أزال أج��د ألم الطع��ام ال��ذى أكلت بخي��بر، فه��ذا أوان وج��دت

(2)انقطاع أبهرى من ذلك السم(

ه���ذه بعض مظ���اهر حف���ظ الل���ه ل���ك مم���ا حفظ���ه لن���ا المؤرخون.. وال يمكننا � سيدي � أن نحيط بها جميعا.. فقد كانت حياتك كلها في كنف الله.. وك��ان جمي��ع ش��ياطين اإلنس والجن يتربص��ون ب��ك.. ول��ذلك كنت محفوظ��ا في ك��ل ثاني��ة من أنيتسرب إليك منهم ما يحول بينك وبين أدائك لرسالتك العظيمة.

(2190 ( ومسلم ) 2474)( رواه البخاري ) 1

(4165)( رواه البخاري ) 2

135

فأسألك � سيدي � وأتوسل بك إلى الله أن أنال من ثمرات حفظ الله ل��ك، م��ا يحفظ��ني من ك��ل س��وء.. ح��تى ال أستس��لم أله��واء المح��رفين والمب��دلين والمغ��يرين، أو أركن لتخ��ويفهم وإرهابهم، بل أوقن بم�ا أوص�يتنا ب�ه في وص�اياك العظيم�ة حين قلت: )إن العباد ل��و اجتمع��وا على أن ينفع�وك بش��يء لم يكتب��ه الله ل��ك، لم يق��دروا على ذل��ك، ول��و اجتمع��وا على أن يض��روك بشيء لم يكتبه الله عليك، لم يق��دروا على ذل��ك، جفت األقالم،

(3)وطويت الصحف(

وأتوسل بك إلى الله ��� س��يدي ��� أن يحف��ظ قلوبن��ا من أن تن��دس إليه��ا األه��واء، أو تمأله��ا الش��ياطين بوساوس��ها، أو تغ��ير عليها جنود الخ��وف والف�زع، فتمنعه�ا من أداء م��ا كلفت ب��ه من

واجبات.. إنك أنت الوسيلة العظمى، وصاحب الجاه العظيم.

(2516( والترمذي )2763( )1/303( وفي )2669( )1/293)( رواه أحمد )3

136

رسول العالمين سيدي يا رسول الله.. أيه��ا المبع��وث رحم��ة للع��المين.. ي��ا من جعله الله الوسيلة لتحقي��ق ك��ل غاي��ات الوج��ود اإلنس��اني.. فكنت الس��بيل الوحي��د لالنتص��ار على جمي��ع الش��ياطين.. ح��تى يظهر بك الحق على الباطل.. وينتصر بك النور على الظلمات.. ويظهر دينك على الدين كله.. وب��ك تتحق��ق جمي��ع أحالم األنبي��اء

والشهداء واألولياء.. لقد ذكر الل�ه تع�الى عالمي��ة رس�التك، وأن�ك كنت الم�دخر للبشر، لتكون خاتمة عقد النبوة، فال نبي بعدك، وك��ل من ادعى النبوة بعدك كذاب، وكل من اتبع غيرك � بعد علمه ب��ك ��� ك��افر

وضال.. فال يقبل الله بأن يؤتى من غير بابك. وكيف يقبل الله ممن سمع بك، ثم أعرض عنك، وق��د أخ��ذ رب��ك الميث��اق على أنبيائ��ه بل��زوم اتباع��ك في ح��ال ك��ان زمنهم

ين لمامطابقا لزمانك، قال الله تعالى: �بي �ه ميثاق الن وإذ أخذ اللدق لم��ا معكم ول مص�� ��اب وحكم��ة ثم� ج��اءكم رس�� آتيتكم من كتري �ه ق�ال أأق�ررتم وأخ�ذتم على ذلكم إص� رن �ه ولتنص� �ؤمنن� ب لت

اهدين ) ��ا معكم من الش��� ( فمن81قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأن�ى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون [82، 81 ]آل عمران: تول

وقد قال اإلمام علي في بيانها وتفسيرها: )ما بعث الله نبيا من األنبي��اء إال أخ��ذ علي��ه الميث��اق، لئن بعث محم��دا وه��و حي ليؤمنن ب��ه ولينص��رنه، وأم��ره أن يأخ��ذ الميث��اق على أمت��ه: لئن

�ه(بعث محمد (1)، وهم أحياء ليؤمنن� به ولينصرن

(، وتفس��ير386/�� 1(، وتفس��ير ابن كث��ير )236/�� 2)( تفسير ابن جرير الط��بري )1

137

وقد ذكرت سيدي ذل��ك، وح��ذرت من ال��دجالين ال��ذين ق��د يغرون الناس على أنفسهم، ويوهموهم بجواز اتباع غيرك.. لق��د قلت في ذلك: )والذي نفسي بيده، ال يسمع بي رج��ل من ه��ذه األمة، وال يهودي وال نصراني، ثم لم يؤمن بي، إال ك�ان من أه��ل

(1)النار(

وفي ح��ديث آخ��ر، قلت: )أعطيت خمس��ا لم يعطهن أح��د قبلي(.. ثم ذكرت منه��ا: )وك��ان الن��بي يبعث إلى قوم��ه خاص��ة،

(2)وبعثت إلى الناس عامة(

وفي الح��ديث الص��حيح المع��روف أن بعض أص��حابك أت��اك بكت��اب أص��ابه من بعض أه��ل الكتب، فق��رأه، فغض��بت غض��با شديدا، ثم قلت: )والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقي��ة، ال تس��ألوهم عن ش��يء فيخ��بروكم بح��ق فتك��ذبوا ب��ه أو بباط��ل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موس��ى ص��لى الل��ه علي��ه

، فكي��ف يط��الب(3)وسلم ك��ان حي��ا م��ا وس��عه إال أن يتبع��ني(األنبياء عليهم السالم بوجوب اتباعك، ثم ال تؤمر أممهم بذلك؟

وم��ا لن��ا نع��ود إلى األح��اديث ال��تي ن��راهم يس��ارعون إلى تكذيبها من غير مبرر إال األهواء المجردة، ونترك القرآن الك��ريم الذي ص��رح ب��ذلك، وفي مواض��ع كث��يرة، فالل��ه تع��الى أخ��بر أن

(322/ 1البغوي )

.240، ح 134، ص ١)( رواه مسلم: ج 1

(521، ومسلم رقم )370 و 369 / 1)( رواه البخاري 2

(.3/387)( رواه أحمد )3

138

رسالتك إلى كافة الن��اس بخالف رس��ائل س��ائر الرس��ل، وال��تي ذكر أنها ألقوامهم خاصة.. ولو أنهم قرؤوها وتدبروها لعادوا إلى

رشدهم، وكفوا عن غيرهم، وتضليلهم للخلق. لقد قال الله تعالى ينص على عالمية رسالتك التي تقتضيلناك إال� ﴿وجوب اتباعك وطاعتك في كل ما جئت ب��ه: وم��ا أرس���اس ال يعلم��ون ]س��بأ: ��ر الن ��ذيرا ولكن� أكث �اس بشيرا ون ﴾كاف�ة للن

[، وكون��ك بش��يرا ون��ذيرا لك��ل الخل��ق ي��دل على أن ك��ل28 البش��ارات أو اإلن��ذارات ال��تي نطقت به��ا، أو نط��ق ب��ه الق��رآن الكريم، وفي آح��اد األعم��ال تنطب��ق على الخل��ق جميع��ا، وليس

على األمة التي حظيت باتباعك.. فالكل مسؤول عن اتباعك. والله تعالى يدعوك ألن تخبر الناس جميعا، ب��أنهم مكلف�ون باتباع��ك، وأن��ه ال من��اص لهم من ذل��ك، ح��تى ل��و بعث أنبي��اء ال��ديانات ال��تي ينتم��ون إليه��ا؛ ف��إنهم ال يج��وز لهم اتب��اعهم، ب��ل

ق��ل﴿عليهم اتباعك، لقد قال الله تعالى يدعوك لذكر ذلك لهم: ���ه مل���ك �ذي ل �ه إليكم جميع���ا ال ول الل ي رس��� �اس إن ه���ا الن ���ا أي ي�ه ���ه إال� ه���و يحيي ويميت ف���آمنوا بالل ماوات واألرض ال إل الس�����كم �بع��وه لعل ��ه وات �ه وكلمات ��ؤمن بالل �ذي ي �بي األمي ال وله الن ورس��

(158 )ألعراف:﴾تهتدون فاآلية الكريمة ال تأمرهم بمجرد اإليمان ب��ك، وإنم��ا تض��يف إليه وجوب اتباعك، مع أن مجرد اإليم��ان ب��ك ك��اف في وج��وب اتباعك؛ فيستحيل على من يعلم أنك رسول الله، وأن الش��ريعة التي جئت بها هي شريعة الله المع��برة عن مراض��يه أن يتركه��الغيرها من الشرائع التي شهد القرآن الكريم بتحريفها وتبديلها.

وهك��ذا نج��د اآلي��ات الكث��يرة المخ��برة عن كون��ك رس��وال

139

ل الفرق��ان على﴿ورحمة للعالمين، قال تعالى: ��ز� �ذي ن ��ارك ال تب ��ذيرا إن ه��و إال�﴿ (، وق��ال:1 )الفرق��ان:﴾عبده ليكون للع��المين ن

��رى للع��المين ��ر﴿ (، وق��ال:90 )األنع��ام: ﴾ذك وم��ا ه��و إال� ذكلناك إال� رحم���ة52 )القلم:﴾للع���المين ﴿(، وق���ال: وم���ا أرس���

[107﴾للعالمين ]األنبياء: وغيره��ا من اآلي��ات الكريم��ة ال��تي ال يفهم منه��ا إال ك��ون رس��التك ش��املة للع��المين جميع��ا.. وفي ك��ل األجي��ال.. ولك��ل البشر.. وألصحاب كل األديان.. وال ع��ذر ألح��دهم بع��دم اتباع��ك

بعد سماعه بك، واطالعه على ما جئت به. سيدي يا رسول الله.. يا رحم��ة الل��ه للع��المين.. لق��د ت��رك أولئ��ك ال��دجالون المش��اغبون ك��ل ه��ذه النص��وص الص��ريحة الواضحة، وراحوا يتعلقون بالمتشابهات من النصوص، والتي دل

القرآن الكريم نفسه على معانيها.. لق��د فعل��وا مثلم��ا فع��ل المجس��مة وغ��يرهم ال��ذين تعلق��وا بنصوص متشابهة تحتمل معاني متعدد، وراح��وا يفرض��ون عليه��ا المعنى الذي يريدون، من دون أن يحاولوا الجم��ع بين النص��وصكما هو األصل في التعامل مع النصوص المقدسة عند التعارض. ومن تلك النصوص ال��تي راح��وا يس��تدلون به��ا م��ا ورد في القرآن الكريم من دعوة أهل الكتاب إلقام��ة الت��وراة واإلنجي��ل،�ى تقيموا ﴿كقوله تعالى: قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حت

كم ]المائدة: �وراة واإلنجيل وما أنزل إليكم من رب [، وقد68﴾الت توهموا أن هذه اآلية الكريمة تدعو أه��ل الكت��اب للعم��ل بكتبهم، وعدم العودة للقرآن الكريم، الذي جعل��ه الل��ه مهيمن��ا على ك��ل

الكتب.

140

وقد غفلوا عن أن تلك اآلية الكريمة قد عقبت مباشرة بم�ا يزي��ل الفهم الس��يء ال��ذي ق��د يفهم منه��ا؛ فالل��ه تع��الى عقبه��اك طغيانا وكفرا وليزيدن� كثيرا منهم ما أنزل إليك من رب ﴿بقوله:

��افرين ]المائ��دة: [، حيث اعت��برهم68﴾فال تأس على الق��وم الككافرين إلعراضهم عما أنزل من القرآن الكريم.

وب��ذلك ف��إن ال��ذي يقيم الت��وراة واإلنجي��ل مض��طر معهم��ا إلقامة القرآن الكريم، حتى ال يكون من الذين ق��ال الل��ه تع��الىأفتؤمنون ببعض الكتاب وتكف��رون ببعض فم��ا ج��زاء من ﴿فيهم: ��ردون يفعل ذلك منكم إال� خزي في الحياة الدنيا ويوم القيام��ة ي

[85﴾إلى أشد العذاب ]البقرة: فإذا فعلوا ذلك، وأقاموا القرآن الك��ريم نتيج��ة إيم��انهم ب��ه مث��ل إيم��انهم بكتبهم، ونتيج��ة إيم��انهم ب��ك، ذل��ك أن��ه ال يمكن اإليمان بك دون اإليمان بم��ا أن��زل علي��ه.. حينه��ا يص��بح اإليم��ان المجرد عن االتباع لغوا، وهو ما ينقض كل األصول التي اعتمدوا

عليها. ولو أنهم � سيدي � تركوا كبرياءهم وغرورهم � وع��ادوا إلى القرآن الكريم الذي يتوهمون أنهم يستندون إلي��ه في دع��واهم، وسألوه عن نوع اإلقامة التي طلبها الله تعالى منهم، لعلموا أنها ما ورد في كتبهم من تلك الوصايا التي أمر بها الق��رآن الك��ريم،

والتي ال يمكن تنفيذها إال بتلك الشرائع التي جئت بها. ول��و أنهم رجع��وا لكتبهم، وك��انوا ص��ادقين في رج��وعهم، لعلم��وا أن��ه ال يمكن إقام��ة كتبهم من دون اتباع��ك؛ ف��أول م��ا يجدونه فيها تلك البش��ارات ال��تي امتألت به��ا، وال��تي ت��دعو إلى وجوب اتباعك، وهي كثيرة جدا، وقد أشار إليه��ا الق��رآن الك��ريم

141

�بي� ول الن س�� �بع��ون الر� �ذين يت ﴿في مواضع منه، كقول��ه تع��الى: ال��أمرهم �وراة واإلنجي��ل ي �ذي يجدونه مكتوبا عندهم في الت األمي� الم عليهم بات ويحر بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الط�ي�ذين ��انت عليهم فال �تي ك رهم واألغالل ال الخبائث ويضع عنهم إص����زل مع��ه أولئك �ذي أن ور ال �بع��وا الن روه وات روه ونص�� آمنوا به وعز�

[157﴾هم المفلحون ]األعراف: بل أخبر القرآن الكريم أن��ه ق��د ورد في الكت��اب المق��دس من التفاصيل المرتبطة بك ما يجعلهم موقنين بك، غ��ير ش��اكين��ه كم��ا ��اب يعرفون ��اهم الكت �ذين آتين ال ﴿في��ك، كم��ا ق��ال تع��الى: ﴾يعرفون أبناءهم وإن� فريقا منهم ليكتمون الح��ق� وهم يعلم��ون

[146]البقرة: ول��و أن أولئ��ك المج��ادلين المش��اغبين ال��ذين توهم��وا أن��ه يمكن إقامة الدين من دون اتباعك، رجعوا إلى الق��رآن الك��ريم، واستمعوا بوعي لم��ا ورد في��ه من اإلخب��ار عن التحريف��ات ال��تي حصلت في كتب جميع األديان، وأن أهل الكتاب ك��انوا يش��ترون بتحريفها ثمنا قليال، لعلموا أنه ال يمكن أن يأمر الل��ه باتب��اع كتب محرفة.. فهل يعقل أن يأمر الله تعالى أهل الكتاب ب��أن يقيم��وا��وا لكم أفتطمع��ون أن يؤمن ﴿ما حرف من كت��ابهم، ق��ال تع��الى: فونه من بعد م��ا �ه ثم� يحر وقد كان فريق منهم يسمعون كالم الل

[75﴾عقلوه وهم يعلمون ]البقرة: ولو أن أولئك المجادلين المشاغبين كلفوا أنفسهم ب��العودة إلى تلك الكتب التي يدعون أن��ه يمكن أله��ل الكت��اب أن يكتف��وا بها عن اتباعك، لرأوا فيها من الطامات والخرافات والخزعبالت واألس��اطير م��ا يتن��افى م��ع دين الل��ه.. فه��ل يمكن أن يط��البوا باإليمان بكل ذلك؟.. هل يمكن أن نعتبر تلك الكتب بعد ذلك، ثم

142

نطلب من أهل الكتاب إقامتها، وأن يضيفوا إليها فقط االعترافبكونك مجرد رسول ال يجب اتباعه؟

إن ه���ؤالء س���يدي لم يفهم���وا الغ���رض من تل���ك اآلي���ات الكريمة، ألنهم حكموا أهواءهم فيها.. ولو أنهم عادوا للراس��خين في العلم ال��ذين يحكم��ون المحكم على المتش��ابه لعلم��وا أن

المراد منها غير ما فهموه. فالل��ه تع��الى في تل��ك اآلي��ة الكريم��ة ي��دعو أه��ل الكت��اب للعودة لكتابهم ليتمثلوا القيم النبيلة الموجودة فيه، ويتمثل��وا م��ا ورد فيه من أوامر باتباع�ك.. وهي ال تع�ني ب�ذلك اكتف�اؤهم بم�ا

فيها عن اتباعك. بل إن مثل ذلك مثل من يخاطب سياسيا يراه ق��د انح��رف عن مشروعه الذي طرحه، بالعودة إلى مشروعه، والعم��ل بم��ا فيه، مما كان قد وعد به، وذلك ال يع��ني أن مش��روعه معص��وم، أو أنه كاف، وإنما هو ن��وع من الت��نزل في مخاطب��ة اآلخ��ر، كم��ا��ا قل ال تسألون عم�ا أجرمن ﴿قال تعالى في مخاطبة المشركين:

[، فهل يمكن االس��تدالل به��ذه25﴾وال نسأل عم�ا تعملون ]سبأ: اآلية الكريمة على أن المسلمين كانوا مجرمين؟

ومثل ذلك تنزل إبراهيم عليه السالم مع الملك، عندما قال�ذي يحيي ويميتل��ه ي ال [، فجادل��ه المل��ك،258 ]البق��رة: رب

���ا أحيي وأميتوق���ال: [، حينه���ا لم يش���أ258 ]البق���رة: أن إبراهيم عليه السالم أن يناقشه في ذلك، وإنما انتقل ب��ه ل��دليل

آخر.. وهو ال يعني إقراره بأن الملك يحيي ويميت. وهكذا نج��دهم يس��تدلون بم��ا ورد في الق��رآن الك��ريم منإن� ﴿النصوص الدالة على نج��اة غ��ير المس��لمين، كقول��ه تع��الى:

143

�ه ابئين من آمن بالل ارى والص��� �ص�� �ذين ه��ادوا والن ��وا وال �ذين آمن الهم وال خ��وف ��د رب الحا فلهم أج��رهم عن واليوم اآلخ��ر وعم��ل ص��

��وا62﴾عليهم وال هم يحزنون ]البق��رة: �ذين آمن إن� ال ﴿[، وقول��ه: ��وم اآلخ��ر �ه والي ارى من آمن بالل �ص�� �ذين هادوا والص�ابئون والن وال

[69﴾وعمل صالحا فال خوف عليهم وال هم يحزنون ]المائدة: م��ع أن ه��ذه اآلي��ات الكريم��ة ال يمكن فهمه��ا إال في ض��وء النصوص األخرى الكثيرة الدالة على كف��ر من أش��رك بالل��ه من�ه هو �ذين قالوا إن� الل ﴿اليهود والنصارى كقوله تعالى: لقد كفر ال

يح ابن م�ريم ]المائ��دة: �ذين17﴾المس�� ﴿[، وقول�ه: لق��د كف��ر ال��ا بني يح ي يح ابن م��ريم وق��ال المس�� �ه ه��و المس�� ق��الوا إن� اللم �ه فق�د ح�ر� رك بالل �ه من يش�� �كم إن ي ورب �ه رب إسرائيل اعبدوا الل�ار وما للظ�المين من أنصار ]المائدة: �ة ومأواه الن �ه عليه الجن ﴾الل

��ة وم��ا من72 ��الث ثالث �ه ث �ذين قالوا إن� الل ﴿[، وقوله: لقد كفر ال�ذين كف��روا ن� ال إله إال� إله واحد وإن لم ينتهوا عم�ا يقولون ليمس���

[، وغيره��ا من اآلي��ات الكريم��ة73﴾منهم ع��ذاب أليم ]المائ��دة: ال��تي تنص على كف��ر من أش��رك بالل��ه تع��الى، أو لم يتبع��ك أو

كذبك. ول��و أنهم آمن��وا به��ذه اآلي��ات جميع��ا، لعلم��وا أن الق��رآن الكريم ال يتحدث عمن رأوك وعاص��روك وس��معوا ب��ك أو ج��اءوا من بع��دك، فأولئ��ك يجب عليهم اإليم��ان ب��ك واتباع��ك، وإنم��ا يتحدث عمن لم يتش��رفوا برؤيت��ك، أو لم يس��معوا ب��ك ألس��باب

زمانية أو مكانية خارجة عن قدراتهم. أم��ا الزماني��ة؛ فلك��ونهم في أزمن��ة س��بقت اإلس��الم، ولم يعرف��وا دين��ا إال تل��ك ال��ديانات، فهم غ��ير مكلفين إال به��ا.. وأم��ا المكاني���ة؛ فه��و ك���ونهم في أقص���ى األرض، ولم يتهي���أ لهم أن

144

يسمعوا باإلسالم، فهم غير مؤاخذين بسبب ذلك. ول��و أنهم تواض��عوا، ورجع��وا إلى األس��لوب الق��رآني في التعبير، لوجدوا الله تعالى يقول عند حديث��ه عن ب��ني إس��رائيل:��ه يع��دلون ]األع��راف: ��الحق وب ﴾ومن قوم موسى أم�ة يهدون ب ﴿

[، فهذه اآلية الكريم��ة ال تقص��د وج��ودهم في ك��ل األزمن��ة،159 وإنما تقصد وجودهم في األزمنة السابقة قبل رسالتك، ألنه بع��د

إرسال الله لك صار على الجميع وجوب اتباعك. ولو أن هؤالء المجادلين استمعوا بوعي وتدبر لم��ا ورد في الق��رآن الك��ريم في نص��ارى نج��ران المس��المين ال��ذي تع��املت معهم بك��ل س��ماحة ولط��ف، ولكن��ك م��ع ذل��ك لم تس��كت عن كفرهم وجحودهم عن اتباعك، ب��ل دع��وتهم إلى المباهل��ة، ال��تي ﴿نص عليها قوله تعالى: فمن حاج�ك فيه من بعد م��ا ج��اءك مننا العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفس�����اذبين ]آل �ه على الك كم ثم� نبته���ل فنجع���ل لعنت الل ﴾وأنفس���

[61عمران: ��ا ﴿وقد ورد في تلك اآليات ال��تي تخ��اطبهم قول��ه تع��الى: ي�ه وأنتم تشهدون ]آل عم��ران: ﴾أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الل

ون الح��ق� بالباط��ل70 ��اب لم تلبس�� ��ا أه��ل الكت ي ﴿[، وقوله لهم: [71﴾وتكتمون الحق� وأنتم تعلمون ]آل عمران:

وهكذا ورد في القرآن الكريم اآليات الكثيرة التي تخبر عن الموق�ف الحقيقي من أه��ل الكت��اب، وه�و الموق�ف ال��ذي ي��بين ضاللهم عن الحق، وكفرهم بسبب عدم اتب��اعهم ل��ك، في نفس

الوقت الذي تأمر فيه بالسماحة معهم، وتأليف قلوبهم.. وال تعارض بين األمرين، فالقول بكفرهم وجحودهم للح��ق،

145

ال يقتضي المعاملة السيئة لهم؛ فقد تعاملت مع وفد نجران بكل سماحة وأدب، ولكن��ك م��ع ذل��ك لم ت��داهنهم ولم تج��املهم، ولم تنزل إلى رغباتهم، بل بينت لهم حقيق��ة ض��اللهم، ودع��وتهم إلى

المباهلة عند جحودهم لها. ول���و أن ه���ؤالء المش���اغبين والمج���ادلين والمنف���رين من اتباعك، رجع�وا إلى الكتب ال�تي يص��ورون أنه�ا تع�وض الق�رآن، واألنبياء الذين يتوهمون أنهم يعوض��ونك، لوج��دوا غ��ير م��ا ك��انوا

يظنون.. ذلك أن كل البشارات التي تبشر بك في تل��ك الكتب تخ��بر أن رسالتك للعالمين، وأن على اليهود والنصارى وغيرهم وجوب اتباع��ك، ذل��ك أن ك��ل الش��رائع تنس��خ بش��ريعتك، وق��د ورد في

[ ق��ول المس��يح علي��ه الس��الم: )ال تظن��وا18-5/17إنجيل متى ] أني جئت ألنقض الناموس أو األنبياء، ما جئت ألنقض بل ألكمل، فإني الحق أق��ول لكم: إلى أن ت��زول الس��ماء واألرض ال ي��زول حرف واحد أو نقط��ة واح��دة من الن��اموس ح��تى يك��ون الك��ل(، فهذا المبشر به هو الكل الذي له الك��ل، وه�و أنت ي�ا س�يدي ي�ا

رسول الله. لقد قال هذا في نفس الوقت الذي قال فيه عن نفسه كما

[: )لم أرسل إال إلى خراف بيت24 /� 15جاء في إنجيل متى ]إسرائيل الضالة(؟

ولهذا جاء اليهود إلى المدينة المنورة، ألنهم كانوا ي��ترقبون مجيئك إليها بحسب ما تدل عليه كتبهم، والتي ت��أمرهم بوج��وب

ولم�ا جاءهم كتاب من﴿اتباعك، كما قال تعالى مخبرا عن ذلك: تفتحون على ��ل يس�� ��انوا من قب دق لم��ا معهم وك �ه مص�� ��د الل عن

146

�ه على ��ة الل ��ه فلعن �ذين كفروا فلم�ا جاءهم م��ا عرف��وا كف��روا ب ال(89 )البقرة:﴾الكافرين

فه��ذه اآلي��ة الكريم��ة تنص على أن اليه��ود ك��انوا من قب��ل مجيئك بالقرآن الك��ريم يستنص��رون بمجيئ��ك على أع��دائهم من المش��ركين إذا ق��اتلوهم، وق��د نق��ل لن��ا المؤرخ��ون ��� باألس��انيد الصحيحة � أقوالهم الدالة على ذل��ك.. فق��د ك��انوا يقول��ون: إن��ه

سيبعث نبي في آخر الزمان نقتلكم معه قتل عاد وإرم. وقد نقل بعضهم شهادة عنه في ذل��ك، فق��ال: فين��ا والل��ه، وفيهم ��� يع��ني في األنص��اروفي اليه��ود ال��ذين ك��انوا ج��يرانهم � نزلت هذه اآلية � يقصد االية السابقة � كنا قد علوناهم دهرا في الجاهلية، ونحن أهل شرك، وهم أهل كتاب، فكانوا يقولون: )إن نبيا من األنبي��اء يبعث اآلن نتبع��ه، ق��د أظ��ل زمان��ه، نقتلكم مع�ه قت��ل ع��اد وإرم(، فلم��ا بعث الل��ه رس��وله من ق��ريش واتبعن��اه

��ه﴿:كفروا به.. فذلك قوله تعالى فلم�ا جاءهم ما عرفوا كف��روا ب�ه على الكافرين (155)النساء: ﴾فلعنة الل

وقد ذكر المؤرخون بعض المحاجة التي أقامها أهل المدينة على جيرانهم من اليهود، ف��ذكروا أن مع��اذ بن جب��ل، وبش��ر بن البراء بن معرور، قاال: )يامعشر يهود، اتقوا الله وأس��لموا، فق��د

ونحن أه��ل ش��رك، وتخبرونن��اكنتم تستفتحون علين��ا بمحم��د كم أخ�و الم بن مش�� بأنه مبعوث، وتصفونه لنا بصفته(، فق��ال س�� بني النضير: )ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم

�ه﴿فأنزل الله في ذلك من قولهم: ولم�ا جاءهم كتاب من عند الل�ذين كف��روا تفتحون على ال مصدق لما معهم وكانوا من قبل يس����افرين �ه على الك ��ة الل ��ه فلعن ﴾فلم�ا ج��اءهم م��ا عرف��وا كف��روا ب

147

(1)(89)البقرة:

فيا سيدي ي�ا رس�ول الل�ه.. ي�ا رحم�ة الل�ه للع�المين.. وي�ا وسيلته العظمى.. أتوسل بك إلى ربي أن يوفقني ألن أبلغ دينك للع��المين.. فل��و س��معوا ب��ه، وعرف��وا حقيقت��ه الجميل��ة، وقيم��ه النبيل��ة، لته��افتوا علي��ه، ول��دخلوا في��ه أفواج��ا.. وه��ل يمكن أن تقارن تلك الديانات المحرفة الممتلئة بالخرفات ب�دينك الممتلئ

بالطهارة والعقالنية واألخالق العالية والقيم الرفيعة. واقبل��ني س��يدي في جمل��ة أتباع��ك الص��ادقين المخلص��ين ال��ذين لم يخلط��وا دين��ك ب��أي ه��وى أو فلس��فة أو هرطق��ة أو زندقة.. حتى يكون ديني هو دينك، أبيض نقي��ا ص��افيا كم��ا أنزل��ه علي��ك رب��ك.. إن��ك أنت الوس��يلة العظمى.. وأنت رحم��ة الل��ه

للعالمين.

(.2/233( وتفسير الطبري )1/547)( انظر: السيرة النبوية البن هشام )1

148

النبي المعصوم سيدي يا رسول الله.. أيها النبي المعصوم الذي عصم الله جس��ده من أن يتس��لط علي��ه أع��داؤه.. وعص��م نفس��ه من أن تتسلط عليها الوس��اوس.. وعص��م روح��ه من أن تتس��لط عليه��ااألهواء.. وعصم حقيقته من أن ينطفئ نورها، أو يخبو سراجها.

لقد أذن الله لك � سيدي � بك��ل ه��ذه األن��واع من العص��مة رحمة بعباده، حتى تكون علم هداية يهتدون بك.. وس��راج إن��ارة

يطفئون بك الظلمات.. وهو لم ي��أذن ل��ذلك، إبع��ادا ل��ك عن التكلي��ف، وإال لم تكن ق��دوة لخلق��ه.. وإنم��ا فع�ل ذل��ك لعلم��ه ب��ك، وبطه��ارة نفس��ك،

وسمو روحك، وكرم معدنك.. فعصمتك � سيدي � موهبة وكسب.. ولم تكن موهبة إال بعد أن كانت كسبا.. فقد كلفك الله كما كلف خلقه جميعا، واختبرك كما اخت��برهم، وعن��دما نجحت في ك��ل أن��واع البالء ال��تي ابتليت به��ا، أن��زل علي��ك س��رابيل عص��مته وحفظ��ه.. فص��رت كتل��ك الشمس التي ال تحجبها الغيوم.. وكتل��ك األن��وار ال��تي ال تطفئه��ا

الظلمات. ما عساي سيدي أقول في عصمتك.. وحياتك كله��ا ممتلئ��ة بالتقوى والطهارة والص��الح من ص��غرك الب��اكر.. إلى أن توف��اك الل��ه تع��الى، ونفس��ك أطه��ر من م��اء الم��زن، وقلب��ك أبيض من

الثلج، وأخالقك أرق من النسيم العليل. لكني سيدي ممتلئ هما وحزنا من تلك الحروب التي شنها

149

أع��داؤك من المدلس���ين والمش���وهين والمح���رفين والن��اكثين والقاسطين عليك.. حيث راحوا يدس��ون في األح��اديث المروي��ة

عنك، ما يشوه جمال عصمتك، وعظمة طهارتك. وك��أنهم ��� س��يدي ��� لم يق��رؤوا ك��ل م��ا ورد من ش��هادات التزكية اإللهية في حقك.. فقد زكى الله تعالى عقلك، فق��ال:

[، فل��ذلك لم يكن عقل��ك2 ]النجم: ما ضل� صاحبكم وما غ��وىلينسى أو يغفل أو تعتريه تلك األخطاء التي تعتري العقول.

[،3 ]النجم: وما ينطق عن اله��وىوزكى لسانك، فقال: فلذلك لم يكن لسانك إال طاهرا في الرضا والغض��ب، وفي ك��ل األحوال، فقد تق��دس أن يك��ون فاحش��ا أو ب��ذيئا أو مغتاب��ا أو أن

يقع فيما تقع فيه األلسن من أصناف الخطايا.��ذب الف��ؤاد م��ا رأىوزكى فؤادك، فق��ال: ]النجم:م��ا ك

[، فل��ذلك ك��انت م��داركك أدق الم��دارك، وعلوم��ك أوث��ق11العلوم..

ر وم��ا طغىوزكى بصرك، فق��ال: ]النجم:م�ا زاغ البص��[، ولذلك كنت أعظم الناس أدبا، وأزكاهم خلقا.. 17

ق��ل ه��ذهوزكى كل حركاتك في الدعوة إلى الله، فقال: �ه بحان الل �بعني وس�� ��ا ومن ات �ه على بصيرة أن سبيلي أدعو إلى الل

[، ولذلك يستحيل أن يقع108 ]يوسف: وما أنا من المشركينالخطأ في أي سلوك سلكته، أو دعوة دعوتها.�ك لعلى خلقوزكى أخالقك، واعتبرها عظيمة، فقال: وإن

[، وهل هناك شهادة أعظم من هذه الشهادة4 ]القلم: عظيم التي شهد لك بها ربك العظيم.

150

وهك��ذا زك��اك في ك��ل جوانب��ك.. فص��رت ممثال للحقيق��ة والقيم الطاهرة أحسن تمثيل، ولوال ذل�ك الحتج المحتج��ون ب��أن الحقيق��ة والقيم أعظم من أن تنف��ذ، ألن من ت��نزلت علي��ه لم

ينفذها كما ينبغي أن تنفذ. ول��ذلك ك��انت الج��رأة على عص��متك ليس��ت ج��رأة على شخصك فقط، وإنم��ا هي ج��رأة على القيم نفس��ها، وك��أن الل��ه

كلفنا بما ال نطيق.. وهي ج��رأة على الق��رآن الك��ريم ال��ذي ت��نزل علي��ك وحي��ه ومعناه، فصرت مثاله الناطق، وأنموذجه الحي المتح��رك.. ذل��ك

أن اختالف سلوكك معه يؤثر فيك وفيه.. وذلك مستحيل. وهي جرأة على الله تعالى الذي أمر باالقتداء بك، واتخاذك

ولأسوة حسنة في كل شيء، فق��ال: ��ان لكم في رس�� لق��د ك�ه ��ر الل ��وم اآلخ��ر وذك �ه والي ��ان يرج��و الل �ه أسوة حسنة لمن ك الل

[.. وهل يمكن أن يأمرنا الله ب��أن نتأس��ى21 ]األحزاب: كثيرا بمن تقع منه األخطاء والهفوات والذنوب؟

لقد رحت � سيدي � أذكر هذا لق��ومي، ف��اتهموني بالبدع��ة، واعتبروا القول بعص��متك المطلق��ة نوع��ا من الغل��و والمبالغ��ة.. وعن��دما ذك��رت لهم م��ا ذك��ره الل��ه تع��الى في حق��ك.. راح��وا يضربون القرآن الكريم بما يروونه من األحاديث التي تح��ط من شأنك، حتى أنهم اتهموك بأنك قد تس��ب أو تلعن أو تض��رب من ال يستحق ذلك.. ومعاذ الله أن يك��ون لس��انك ب��ذيئا، أو أن تلعن

من ال يستحق اللعن.. أو تعاقب من ال يستحق العقوبة. ولم يكتفوا بذلك � سيدي � بل راحوا يتهمونك في عقل��ك.. وأن اليه���ود اس���تطاعوا أن يس���حروك، وي���ؤثروا في م���داركك

151

العقلية، فتعتقد األشياء على خالف ما هي عليه.. وعندما قرأت عليهم ما ورد في القرآن الكريم من تنزيهك عن السحر.. وذكرت لهم أن الله تعالى أخبر أن اتهامك بالسحرولو ﴿ليست سوى مقولة المشركين، وقرأت عليهم قوله تعالى: �ذين ��ديهم لق��ال ال وه بأي ��ا في قرط��اس فلمس�� ��ك كتاب ��ا علي لن نز�

[، وقوله، وه��و يرس��م7﴾كفروا إن هذا إال� سحر مبين ]األنعام: مش��هدا من مش��اهد المواجه��ة بين دين الل��ه ودين الش��ياطين:��ات ق��الوا م��ا ه��ذا إال� رج��ل يري��د أن ن ��ا بي ﴿وإذا تتلى عليهم آياتن يصد�كم عم�ا كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إال� إفك مفترى وقالحر مبين ]س��بأ: �ذين كف��روا للح�ق لم�ا ج�اءهم إن ه��ذا إال� س�� ﴾ال

[، وقوله، وهو يحكي اتهام المحاربين ل��ك بأن��ك كنت خاض��عا43��ك تمعون إلي ��ه إذ يس�� ﴿لتأثير السحر: نحن أعلم بما يستمعون بحورا �بع��ون إال� رجال مس�� ﴾وإذ هم نجوى إذ يقول الظ�المون إن تت

[47]اإلسراء: بع��د أن ذك��رت لهم ه��ذه اآلي��ات وغيره��ا، راح��وا يص��مون آذانهم، وي��ذكرون لي تل��ك الرواي��ة ال��تي تتف��ق العق��ول على تنزيهك عنه��ا.. وعن��دما أخ�برتهم أنه�ا منافي��ة للق��رآن.. ومنافي��ة لحجج العق��ول.. راح��وا يتهمون��ني في دي��ني، وأن��ني أتج��رأ على الحديث الذي رواه رج��ال كب��ار كالبخ��اري ومس��لم وأحم��د وابن

.(1)(1)ماجة والنسائي والبيهقي وغيرهم

وعن��دما ذك��رت لهم أن ه��ؤالء بش��ر، ق��د يخطئ��ون وق��د يصيبون، وأن الرواة ال��ذين رووا عنهم، ق��د يغفل��ون أو يتس��رب

( في الطب، باب السحر، وباب هل يستخرج السحر، وباب السحر وفي الجهاد باب هل يعفى5766( الحديث رواه البخاري رقم )1)(1)

، ومسلم رقم ) إن� الله يأمر بالعدل واإلحسان ﴾الذمي إذا سحر، وفي األدب باب قول الله تعالى: ( في السالم، باب السحر، ورواه أيضا أحمد2189﴿

والنسائي وابن سعد والحاكم وعبد بن حميد وابن مردويه، والبيهقي في ))دالئل النبوة(( وغيرهم.

152

إليهم المدلسون، فيدسوا في السنة ما ليس منها.. ولذلك ك��انالحكم هو القرآن الكريم.

عندما ذكرت لهم هذا عبسوا، واعتبروني منكرا للسنة، م��ع أني أتعب��د الل��ه بق��راءة أحاديث��ك، كم��ا أتعب��د بق��راءة الق��رآن الكريم.. وما نفيت من السنة إال م��ا رأيت��ه مخالف��ا لكت��اب الل��ه، ومخالفا لكل تلك القيم التي جئت بها.. ولم أجز لنفسي أن أتبع راويا أو مجموعة رواة، ثم أحطم من خاللهم ك��ل تل��ك الث��وابت

التي رسخها القرآن الكريم في نفسي عنك. لم يقبلوا هذا مني.. فقلت لهم: أال تعلمون أن الل��ه تع��الى

قال لنبيه : �افقون ومن أه�ل ومم�ن حولكم من األعراب منبهم نعذ ف��اق ال تعلمهم نحن نعلمهم س�� ��ة م��ردوا على الن المدين

��ردون إلى ع��ذاب عظيم تين ثم� ي [.. ثم قلت101 ]التوب��ة: مر� لهم: أال يمكن أن يكون في أولئ��ك ال��رواة من وثقهم الموثق��ون

من غير معرفة كاملة بهم، فدسوا في اإلسالم ما ليس منه؟ فرفضوا ما ذكرت لهم، وظلوا على تعلقهم بأن��ك س��حرت، وأنه صار يخيل إليك أنك فعلت الشيء مع أنك لم تفعل��ه.. وهي حالة خطيرة جدا بالنس��بة إلنس��ان ع��ادي، فكي��ف بن��بي، فكي��ف

بخاتم األنبياء وسيدهم؟ إنهم � سيدي � لم يدركوا أن ذلك الشيء الذي يخيل إلي��ك أنك فعلته مع أنك لم تفعله قد يرتبط بتبلي��غ ال��دين.. وليس في الحديث الذي يروونه ما ينفي ذلك.. وبذلك يكون ج��زء مهم من الدين لم يصل إلينا بسبب أنك � تعاليت عن ذلك عل��وا عظيم��ا �

�غته مع أنك لم تبلغه.. كنت تتوهم أنك بل ولو أنهم � س��يدي �� رجع�وا لتل��ك النص��وص ال�تي تقدس�ك

153

وتنزهك وتخبر عن عصمتك المطلقة، الكتفوا بها. لو أنهم قرؤوا قول الله تعالى الواضح ال��دقيق ال��دال علىما ضل� صاحبكم وما غ��وى ﴿أن حياتك كلها دعوة وبالغ عن الله:

��وحى )3( وم��ا ينط��ق عن اله��وى )2) ﴾(4( إن ه��و إال� وحي ي [ لكفوا عن غلوهم وتعظيمهم للحديث، وهجرهم4 -� 2]النجم:

للقرآن الكريم. بل إنهم ل�و رجع�وا للس�نة نفس�ها، لوج�دوا الح��ديث ال�ذي يرويه عمرو بن ش��عيب عن أبي��ه عن ج��ده، وال��ذي يق��ول في��ه: قلت: يا رسول الله اكتب كل ما أسمع من��ك؟ ق��ال: نعم، قلت: في الرضا والغضب؟ قال: )نعم فإني ال أق��ول في ذل��ك كل��ه إال

(1 )حقا(

ولو أنهم سيدي رجعوا لتلك األح��اديث الكث��يرة ال��تي تخ��بر عن كش��ف الل��ه ل��ك لك��ل م��ا حول��ك كش��فا واض��حا، بحيث ال يستطيع أحد أن يتجرأ عليك.. الكتفوا بها.. وردوا بها تلك الرواية

الهزيلة التي تسيء إليك. لو أنهم ع��ادوا لم�ا يروون��ه من أن رجال ج��اءك، فق��ال: من أنت؟ فقلت:)أن��ا ن��بي(، فق��ال: وم��ا ن��بي؟ قلت:)رس��ول الل��ه(، فقال: متى تقوم الساعة؟ قلت:)غيب وال يعلم الغيب اال الل��ه(، فقلت: أرني س��يفك، فأعطيت��ه س��يفك، فه��زه، ثم رده علي��ك،

.. ثم(2)فقلت له:)أما إنك لم تكن تس��تطيع ذل��ك ال��ذي أردت( قلت ألص��حابك:)إن ه��ذا أقب��ل، فق��ال: آتي��ه، فاس��أله ثم آخ��ذ

)( رواه الترمذي.1

)( رواه الحاكم وصححه والطبراني.2

154

(1)السيف، فاقتله ثم أغمد السيف(

وهك��ذا كنت تخ��بر أص��حابك بم��ا يح��دثون ب��ه أنفس��هم من التعرض لك، فعن شيبة بن عثمان قال: لما فتح رسول الل��ه

مك��ة، قلت: أس��ير م��ع ق��ريش إلى ه��وازن، بح��نين فعس��ى أن اختلطوا أن أصيب غرة من محم��د ف��أكون أن��ا ال��ذي قمت بث��أر قريش كلها، وأقول: لو لم يبق من الع��رب والعجم أح��د إال أتب��ع محمدا ما أتبعه أبدا، فكنت مرصدا لما خرجت له ال يزداد األم��ر

في نفسي إال قوة، فلما اختل��ط الن��اس، اقتحم رس��ول الل��ه عن بغلته، فدنوت منه، ورفعت سيفي حتى كدت أسوره، فرف��ع لي ش��واط من ن��ار ك��البرق ك��اد يمحش��ني فوض��عت ي��دي على

وقال:)ادن م��ني(،بصري خوفا عليه فالتفت إلي رسول الله فدنوت فمسح صدري، وقال:)اللهم أعذه من الشيطان( فو الله لهو حينئذ أحب الي من سمعي وبصري ونفسي، وأذهب الله ما كان بي، فقال:)ي��ا ش��يبة، ال��ذي أراد الل��ه ب��ك خ��يرا مم��ا أردت بنفسك؟( ثم حدثني بما اضمرت في نفسي! فقلت: بأبي أشهد أن ال اله اال الله، وأنك رسول الله، استغفر لي ي��ا رس��ول الل��ه،

(2)قال:)غفر الله لك(

ومث��ل ذل��ك م��ا يروون��ه عن عم��ير بن وهب أن��ه ج��اء يري��د قتلك، فسألته: ما جاء بك ي��ا عم��ير؟ فق��ال : جئت له��ذا األس��ير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه؛ فقلت له: فم��ا ب��ال الس��يف في عنقك؟ فقال : قبحها الله من س��يوف، وه��ل أغنت عن��ا ش��يئا ؟ فقلت : اصدقني، ما الذي جئت له ؟ فقال : م��ا جئت إال ل��ذلك،

)( رواه الطبراني.1

)( رواه ابن سعد وابن عساكر.2

155

فقلت ل��ه: )ب��ل قع��دت أنت وص��فوان بن أمي��ة في الحج��ر، ف��ذكرتما أص��حاب القليب من ق��ريش، ثم قلت : ل��وال دين علي وعيال عندي لخرجت ح��تى أقت��ل محم��دا، فتحم��ل ل��ك ص��فوان بدينك وعيالك، على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبين ذل��ك(؛ فاندهش عمير حينها، وقال: )أشهد أنك رسول الل��ه، ق�د كن�ا ي�ا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وم��ا ي��نزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إال أن��ا وص��فوان، فوالل��ه إني ألعلم ما أتاك به إال الله، فالحمد لله الذي ه��داني لإلس��الم، وساقني هذا المساق، ثم ش��هد ش��هادة الح��ق(، فقلت: )فقه��وا

(1)أخاكم في دينه، وأقرئوه القرآن، وأطلقوا له أسيره(

وهكذا حماك الله تعالى من ح��وادث كث��يرة ك��ان يمكن أن تودي بك، ولكن الله تعالى أنب��أك عنه�ا قب��ل أن تق�ع.. وه�ذا م��ا يهدم كل األسس التي قام عليه��ا ذل��ك الح��ديث ال��ذي يش��وهك

أعظم تشويه.. عندما ذكرت لهم هذا، وقلت لهم: هل كان الله يخ��بر نبي��ه

عن كل تلك الحوادث، ويخبره مباشرة عما يكاد له، من غ��ير حاج��ة إلى مالك أو غ��يره.. إال في ح��ديث الس��حر.. فه��ل ك��ان للسحرة من الكيد والقدرة على التخفي م��ا لم يس��تطع رس��ول

أن يطلع عليه؟الله لم يج��دوا م��ا يجيب��ون ب��ه إال م��ا تع��ودوا أن يجيب��وا ب��ه من يخالفهم برميه بالبدعة والزندقة، وإنكار السنة، وك��أن ك��ل تل��ك األحاديث، لم تكن من السنة، وال كل تلك المعاني القرآنية التي

تتحدث عنك لم تكن من السنة.

.662/ 1)( سيرة ابن هشام: 1

156

هذا سيدي غيض من فيض من إساءتهم لك.. وأنا أب��رأ إلى الل��ه من ك��ل ح��ديث يش��وهك، أو ك��ل راو يس��يء إلي��ك.. فألن أض��حي بك��ل دواوين ال��دنيا أه��ون علي من أن أض��حي بش��عرة

منك. فأتوسل بك � سيدي يا رسول الله � إلى ربي أن يحفظني، ويحفظ أخالقي ونفسي وروحي وقل��بي وجس��دي.. ح��تى أمتلئ بالطهارة والصفاء والنبل.. وحتى أكون ص��الحا التباع��ك، وتك��ون

أنت قدوتي وأسوتي. وأسألك أن أك�ون من ال��ذابين عن��ك، الم�دافعين عن القيم ال��تي جئت به��ا، ف��أعظم الجه��اد المنافح��ة عن��ك وعن أخالق��ك

الطاهرة التي هي مراد الله من عباده.

157

خاتم النبيين سيدي يا رسول الله.. يا من جعلك الله الخاتم الذي تنتهي به النبوة، والكمال ال��ذي تنتهي إلي��ه مس��يرة ش��رائعها.. فجع��ل دين��ك مهيمن��ا على األدي��ان، وكتاب��ك مص��ححا لم��ا انح��رف من الكتب، وش��ريعتك ناس��خة للش��رائع، وه��ديك موض��حا للس��راط المستقيم ال��ذي تف��رقت ب��ه األه��واء.. فمن اقتبس ال��دين من��ك

اهتدى، ومن مال لغيرك ضل.. سيدي لقد دلت كل الدالئل القطعية على خاتميتك للنب��وة، ونص��ت عليه��ا ك��ل البش��ارات ال��تي بش��رت به��ا األنبي��اء؛ فكله��ا اتفقت على أن��ك الخ��اتم، وأن��ك الخالص��ة، وأن ك��ل من ادعى النب��وة بع��دك ض��ل.. ولم يج��ادل في ذل��ك إال أولئ��ك ال��ذين حسدوك، وتوهموا أن ختمك للنبوة يح��ول بينهم وبين المناص��ب

اإللهية التي يمنون نفوسهم األمارة بها. ولو أنهم سيدي سلموا لله تعالى الخلق واالختيار.. لعلم��وا أن الله تعالى ابتالهم بك، كما ابتلى من أمرهم بالس��جود آلدم.. أما المالئكة الطاهرون، أص��حاب المناص��ب الرفيع��ة، فس��لموا.. وأما الشيطان ذلك الذي لم يعرف أسرار االختيار اإللهي؛ ف��راح

يجادل فيه. وكذلك حصل لمن راح يجادل في ختمك لألنبياء، وخاتميتك للنبوة، فقد توهموا أنك سددت أبواب الكمال عنهم، ولم يعلموا أنك فتحتها لهم، وأنه ليس على من يريد أن يلج باب أي منصب إلهي، أو ي���رقى س���لم أي كم���ال إال أن يتبع���ك، ويس���ير على

سراطك المستقيم، ويحتذي حذو سنتك الشريفة.

158

هم لم يعلموا � سيدي � أن البش��ر بع��د أن جئتهم اس��تغنوا بك عن أن يتنزل إليهم األنبي��اء، مثلم��ا يس��تغني الم��ريض ال��ذي

يجد الطبيب الذي يعالج كل أدوائه، ويشفي كل أسقامه.. أو مثلما يكتفي التلميذ باألستاذ الذي يشرح له كل دروسه، أو يوضح له كل ما يريده من حقائق، ويربيه على كل م��ا يص��لح

من قيم. هم لم يعلموا � سيدي � أن لكل ش��يء نهاي��ة ينتهي إليه��ا.. وأن النبوة مثل سائر األشياء.. قد انتهت بك إلى الكمال الذي ال كمال بعده.. ول��ذلك جعل��ك الل��ه النه��ر ال��ذي تجتم��ع عن��ده ك��ل الروافد.. فمن شرب من��ه ش��رب منه��ا جميع��ا، ومن س��بح في��ه

سبح فيها جميعا. كمثل النب��يين في مثلي)ولو أنهم � سيدي � ت��أملوا قول��ك:

لم لبنة موضع فيها وت���رك وأكمله���ا، فأحس���نها دارا ب���نى رجل :ويقول�ون من��ه، ويعجبون بالبنيان يطوفون الناس فجعل يضعها،

(1)لو تم� موضع هذه اللبنة؟ فأنا في النبيين موضع تلك اللبن��ة(

لعلموا أن الله تعالى هو الذي ت��ولى بن��اء دار النب��وة، وه��و أعلم بمواضع كل لبنة من لبناتها.. وكما أن الدار إذا اكتملت ال تحت��اج

إلى المزيد من اللبنات؛ فكذلك النبوة. ف��النبوة منص��ب إلهي دعت إلي��ه حاج��ة الخل��ق إلى هداي��ة التشريع.. فإذا بلغت هداية التشريع إلى أجمل صورها، وأكملها، وحفظت بكل أس��اليب الحف��ظ ووس��ائله.. لم يكن هن��اك حاج��ة إليها.. بل إن رحمة الله في عدم ح��اجتهم إليه��ا.. ألن األم��ر ق��د

استقر حينها على الشريعة التي تصلح للخلق جميعا.(21281)( رواه أحمد )1

159

إن األمر في ذل��ك ��� س��يدي ��� يش��به ذل��ك الم��ريض ال��ذي يسعى لألطباء.. وهو يتمنى من كل قلبه أن يج��د الط�بيب ال�ذي يكفيه كل أدوائه، ويعالج كل ما نزل ب�ه.. وحين يج�ده، س��يمتلئ فرح��ا، وس��يكتفي ب��ه، ألن��ه يعلم أن��ه لن يحت��اج إلى التعب في البحث عن طبيب جديد، ولن يبتلى في طريق البحث بال��دجالين

والكذابين والمدعين. لقد كنت ت��ذكر ذل��ك س��يدي ك��ل حين، وتربط��ه بال��دجالين ال��ذين ي��دعون النب��وة، أو ي��دعون وظائفه��ا؛ فيحس��بون أن لهم الحق في تحليل ما ح�رمت، أو تح�ريم م�ا أحللت، أو تع�ديل م�ا شرعت.. من غير أن يسموا أنفسهم أنبياء.. وإن كانوا يزعم��ون

ألنفسهم نفس أفعال األنبياء. )ال تق��وم الس��اعة ح��تى تلح��قلق��د ذك��رت ه��ؤالء، فقلت:

قبائل من أمتي بالمشركين وحتى يعبدوا األوث�ان، وإن�ه س��يكون في أمتي ثالثون كذابون كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خ��اتم النب��يين،

(1)ال نبي بعدي(

وروي عن��ك في ح��ديث آخ��ر قول��ك: )في أم��تي ك��ذابون و دجالون، سبعة وعشرون، منهم أربع نسوة، و إني خاتم النب��يين،

(2)ال نبي بعدي(

صدقت � يا سيدي يا رسول الله � فقد رأين��ا بأعينن��ا أمث��ال هؤالء الدجالين ال��ذين يتوهم��ون أنهم يس��تدركون على م��ا جئت به.. بل رأينا من يسخر بمن يلتزم بما نص علي��ه ظ��اهر الكت��اب

.4252، وأبي داود 2219)( رواه الترمذي 1

..22849)( رواه أحمد 2

160

الذي أنزل عليك، والبيان الذي كلفت بتبليغ��ه.. ويعتق��د أن ذل��ك االل��تزام نص��يب الع��وام.. ال الخ��واص.. وأن الكم��ال في تل��ك

الفهوم الجديدة التي تبدل بها الحقائق، ويعبث فيها بالقيم. ولو سلموا لك، وعلموا أنك الخاتم، وأن ش��ريعتك ال تنقض أبدا، وأن الزمان ال يزيد حقائقها إال جالء ووضوحا.. لهداهم الل��هإلى تلك األسرار التي تنطوي عليها، والكمال الذي توصل إليه.

لقد غفلوا عن ذلك � سيدي ��� وراح��وا يتوهم��ون أن أولئ��ك ال��دجالين ال��ذي ارتق��وا تل��ك المناص��ب الرفيع��ة.. هم األولى

باالتباع، وهم األحق باالنتساب إليهم. لقد رأيت بعضهم يخالف هديا من ه��ديك.. ف��رحت أع��رض عليه قولك، وأدعمه بما ورد في كتاب الله مما يدل عليه.. فراح يقول لي: لكن شيخي وأستاذي يرفض هذا، وأنا ال أسلم إال بم��ا

يقوله شيخي وأستاذي. هل رأيت سيدي كي��ف اس��تبدلوك بغ��يرك.. وكي��ف وض��عوا الحجب بينهم وبينك.. وكيف وضعوا ألنفسهم شريعة جديدة هي

أبعد الشرائع عن شريعتك. لق��د رأيت بعض��هم يف��تي بح��رق الكن��ائس وإي��ذاء أهله��ا.. ف��ذكرت ل��ه س��ماحتك ولطف��ك م��ع المخ��الفين ل��ك في ال��دين،

هم ببعضوقرأت له قوله تع��الى: �اس بعض�� �ه الن ��وال دف��ع الل ول�ه كثيرا لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الل

�ه لق��وي عزي��ز ره إن� الل �ه من ينص�� رن� الل [،40 ]الحج: ولينص���ذين لم يق��اتلوكم في ال��دين ولموقول��ه: �ه عن ال ال ينه��اكم الل

�ه يحب طوا إليهم إن� الل وهم وتقس�� ��ر يخرجوكم من دياركم أن تب[8 ]الممتحنة: المقسطين

161

وذكرت له كيفية تعاملك مع وفد نجران.. وكي��ف أذنت لهم في الصالة في مسجدك.. فغض��ب غض��با ش��ديدا، وق��ال: )أأنت أعلم بالسنة من ش��يخي ال��ذي كتب رس��الة في ه��ذا.(.. ثم راح يسرد لي أقوال من ي��راهم علم��اء، وهم ليس��وا س��وى من��اوئين

للهدي الذي جئت به، والسماحة التي وصفت بها شريعتك. لم يكن األمر قاصرا على هؤالء سيدي، وليت��ه ك��ان قاص��را عليهم.. بل إن الكثير استبدلوا النسبة لك بالنس��بة لمش��ايخهم..��ذكر بينهم.. ول��و أنهم اكتف��وا بنس��بتهم ل��ك، فص��رت ال تك��اد ت وانتم���اءهم ل���دينك، لتوح���دت ص���فوفهم، واجتمعت كلمتهم.. وعلموا أنهم حتى لو اختلف��وا ف��أنت تجمعهم.. ول��و تف��رقت بهم بعض السبل، ف��أنت المالذ ال��ذي يحتم��ون ب��ه من أوزار الفرق��ة

والخالف والشقاق. ولم يكن األمر قاصرا على ه�ؤالء أيض�ا س�يدي.. ب��ل ظه�ر

ما كان محم�د أبا أح��د من رج��الكممن يجادل في قوله تعالى: يء عليم��ا ��ل ش�� �ه بك ��ان الل ين وك �بي �ه وخاتم الن ولكن رسول الل

[، ويؤول��ه بم��ا ش��اء ل��ه ه��واه.. ابتغ��اء أن يلغي40]األح��زاب: خاتميتك، حتى أن بعضهم راح يص�ور ألتباع�ه أن�ك الخ��اتم ال�ذي يوضع في األصبع، أو الخاتم الذي توقع به التواقي��ع.. ال م��ا أراده الل��ه من كون��ك الن��بي ال��ذي تنتهي ب��ه األنبي��اء، فال ش��ريعة بع��د

شريعتك، وال نبوة بعد نبوتك. ولو أن هؤالء رجعوا لتلك النصوص الكثيرة التي ت��ذكر ه��ذا المعنى، وتح��ذر من ك��ل دع��وى ترتب��ط ب��ه، لع��ادوا إلى وعيهم، وساروا خلفك.. فالله ابتالهم بك، ب�ل ش�رفهم ب�ك.. لكنهم أب�وا

التشريف.

162

لقد ورد في الحديث عنك أنك خرجت يوم��ا على أص��حابك كالمودع، وأنت تقول: )أنا محمد النبي األمي � ثالث مرات ��� وال

(1)نبي بعدي؛ أوتيت فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه(

بل إنك قلت لتلميذك األك��بر، اإلم��ام علي، بع��د أن أش��دت به، وبينت فضله ومكانته، وأنه السراط المستقيم ال��ذي ال يزي��غ وال يزل عن هديك: )أما ترض��ى ي��ا علي أن أك��ون أخ��اك؟.. أنت

.. ثم قلت ل��ه: )أنت م��ني بمنزل��ة(2)أخي في ال��دنيا واآلخ��رة( (3)هارون من موسى إال أنه ال نبي بعدي(

فإن كانت هذه هي المرتبة ال��تي وص��ل إليه��ا اإلم��ام علي، وهو أشرف هذه األم��ة، وأكرمه��ا على الل��ه.. وه��و ال��ذي تمثلت فيه كل القيم النبوية.. فكيف يدعي النبوة غيره، أو كيف يت��وهم أحد من الناس أنه يمكن أن يستدرك على النبوة، وه��و لم يبل��غ جزءا بسيطا من مرتبة ذلك التلمي��ذ األك��بر للنب��وة، وال��ذي ك��ان

)ي��ا أم��ير المؤم��نين أفن��بي أنت؟(، فق��ال ل��هيق��ول لمن س��أله: (4)(اإلمام علي: )ويلك، إنما أنا عبد من عبيد محمد

سيدي يا رسول الله.. يا وسيلة الله العظمى.. أتوسل ب��ك

(180/ 11)( رواه أحمد )1

(80/ 6، سنن الترمذي )14/ 3)( المستدرك للحاكم 2

)2404(، ومس�لم )4416، والبخاري )14/545 و12/60)( ابن أبي شيبة 3 �)31،) (56(، والخصائص )8141(، والنسائي في الكبرى )1170والبزار )

.3/ 174)( التوحيد: 4

163

إلى الل�ه أن يحفظ�ني من ك�ل أولئ�ك ال�دجالين ال�ذين يري�دون إبعادي عنك.. أو االنضمام للواء غير لوائك.. أو الفرح بنسبة غير

االنتساب إليك. فاجعلني من شيعتك وأنصارك والمتبعين لس��نتك وه��ديك..

حتى ال تضل بي األهواء، وال تختلف علي الطرق. وأسألك سيدي، وأتوسل بك إلى الل��ه أن أحف��ظ وص��اياك، وأركب الس��فينة النج��اة ال��تي أمرتن��ا بركوبه��ا.. فمن لم يركبه��ا غرق في طوفان الفتن، واستهواه أصحاب الراي��ات، وابتع��د عن رايت���ك، ومن لم يتش���رف بال���دخول تحت لوائ���ك لم يتش���رف الشرب من حوضك.. فنستعيذ بالله متوسلين بك من ذلك.. إنك

أنت صاحب الوسيلة العظمى والمقام المحمود.

164

المخلص الموعود سيدي يا رسول الله.. أيها المخلص الموعود ال�ذي بش�رت به األنبياء، وحن له األولياء، وتحركت قل��وب ك��ل األجي��ال ش��وقا إلي��ه.. ب��ل تمنت األنبي��اء أن تك��ون من أمت��ه، وتظف��ر بص��حبته،

وتلقى الله، وهي في ركابه. فأنت الهدية الكبرى التي أعدها الله للبشرية، ووعدها به��ا، ليقضى بها على كل التحريفات والتغييرات التي حصلت لألديان،

وتسربت إليها من لدن معسكر الشيطان. س��يدي.. ل��و أن ك��ل أص��حاب األدي��ان، تخل��وا عن أن��انيتهم وحرص���هم على مص���الحهم، وراح���وا إلى كتبهم يس���تنطقونها، ويسألونها عنك، لوجدوك أقرب إليهم من المس��لمين أنفس��هم.. فقد أقام الله الحجة عليهم من كتبهم.. فمن شاء أن يجدك فيها وجدها، ومن شاء أن يتبع هواه، ويغض الطرف عن��ك فع��ل، ولم يكن إال ملوم��ا، ألن��ه أع��رض عن��ك، وأع��رض عن الحجج ال��تي

أقامها الله لك، وفي الكتب التي يقدسها. وقد أخبر الله تعالى عن أولئ��ك الص��ادقين ال��ذين أس��رعوا إليك بمجرد علمهم بك، بعد أن رأوا فيك كل م��ا ورد في كتبهم،

�ذيفق��ال مثني��ا عليهم: �بي� األمي� ال ول الن س�� �بع��ون الر� �ذين يت ال��المعروف ��أمرهم ب �وراة واإلنجي��ل ي يجدونه مكتوبا عندهم في الت��ائث م عليهم الخب ��ات ويح��ر ب وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الط�ي��ه ��وا ب �ذين آمن �تي كانت عليهم فال ويضع عنهم إصرهم واألغالل ال���زل مع���ه أولئك هم �ذي أن ور ال �بع���وا الن روه وات روه ونص��� وع���ز�

[157 ]األعراف: المفلحون

165

ومنهم عبد الله بن سالم ذلك الذي بمجرد أن رآك، وس��مع ح���ديثك، وقارن���ه بم���ا ورد في كتب اليه���ود، علم أن���ك الن���بي الموعود، وقد قال يحدث عن نفسه: ) أول ما قدم رس��ول الل��ه

المدينة انجفل ) أسرع ( الناس إليه، فكنت فيمن جاءه، فلما ت��أملت وجه��ه، واس��تثبته علمت أن وجه��ه ليس بوج��ه ك��ذاب!، وكان أول م�ا س�معت من كالم�ه أن ق�ال: أيه�ا الن�اس! أفش�وا السالم، وأطعموا الطعام، وص��لوا باللي��ل والن��اس ني��ام، ت��دخلوا

الجنة بسالم ( ولم يكتف بذلك، ب��ل راح يس��ألك ب��العلم ال��ذي ال يج��ده إال في كتبهم؛ فلم��ا رأى أن��ك الموع��ود الحقيقي، راح يش��هد ل��ك ب��النبوة، ويق��ول ل��ك: )ي��ا رس��ول الل��ه، إن اليه��ود ق��وم بهت،

ي قبل أن يعلموا بإسالمي( فاسألهم عن فلما جاء اليه�ود، وقلت لهم: أي رج�ل عب��د الل��ه بن س��الم فيكم؟!، قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وأفض��لنا وابن أفض��لنا.. فقلت لهم ���� لتقيم الحج���ة عليهم بمن يعتبرون���ه ح���برهم وع���المهم المفضل �: أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سالم؟!.. فقالوا: أع��اذه الله من ذلك.. وحينها خرج إليهم عبد الله وهو يقول: )أشهد أن ال إله إال الله، وأن محمدا رسول الله(، حينها تغير م�وقفهم من��هنا(، وتنقصوه، فقال عبد الل��ه بن س��الم: نا وابن شر وقالوا: )شر

)هذا ما كنت أخاف يا رسول الله ( ولم يكن عبد الله بن سالم هو الوحيد ال��ذي تواض��ع للح��ق الذي رآه وس��معه وق��رأه في كتب��ه ال��تي يقدس��ها، وإنم��ا يوج��د أمثاله الكث��ير من ال��ذين ك��انوا أئم��ة في أدي��انهم، لكنهم عن��دما

رأوك في كتبهم راحوا يخلعون ثوب العناد، ويتبعونك.

166

لقد أن��زل الل��ه تع��الى في عب��د الل��ه بن س��الم وغ��يره منواء من أه��لال��ذين ترك��وا العن��اد، واتبع��وك قول��ه: وا س�� ليس��

جدون ) ��ل وهم يس�� �ي ��اء الل �ه آن ��ات الل ��ون آي الكتاب أم�ة قائمة يتل��المعروف وينه��ون113 ��أمرون ب �ه واليوم اآلخ��ر وي ( يؤمنون بالل

الحين ) ��رات وأولئك من الص��� ارعون في الخي ��ر ويس�� عن المنك�قين 114 ��المت �ه عليم ب ��ر فلن يكف��روه والل ( وما يفعلوا من خي

[115 - 113]آل عمران: بل إنه أثنى على كل من فعل ذلك، وفي كل األجي��ال ثن��اء

�ذين ق��الواعظيما، فقال: ��وا ال �ذين آمن ولتجدن� أقربهم م��ود�ة لل�هم ال يستكبرون ) يسين ورهبانا وأن �ا نصارى ذلك بأن� منهم قس إن

��رى أعينهم تفيض من82 ول ت س�� ��زل إلى الر� ( وإذا سمعوا ما أن��ا م��ع �ا فاكتبن ��ا آمن �ن ��ون رب ال��د�مع مم�ا عرف��وا من الح��ق يقول

اهدين [83، 82 ]المائدة: الش� أما المعاندون، الذين رددوا ما ردد المش��ركون حين ق��الوا:

ل ه���ذا الق���رآن على رج���ل من الق���ريتين عظيم ���ز ل���وال ن أهم[، وال��ذين رد الل��ه تع��الى عليهم بقول��ه: 31]الزخ��رف:

��اة تهم في الحي منا بينهم معيش�� ك نحن قس�� مون رحمت رب يقس��ا هم بعض�� �خ��ذ بعض�� هم ف��وق بعض درج��ات ليت ��ا بعض�� الدنيا ورفعن

ك خير مم�ا يجمع��ون ا ورحمت رب [، فق��د32 ]الزخ��رف: سخري أبوا التسليم لك، ال لكون الص��فات ال�واردة في كتبهم ال تنطب��ق عليك، وإنما لكونهم كانوا يرغبون أن تكون من قوم غ��ير الق��وم

الذين ظهرت فيهم.. لق��د أش��ار الق��رآن الك��ريم إلى ه��ؤالء المعان��دين، فق��ال:

��انوا من دق لم��ا معهم وك �ه مص�� ��د الل ولم�ا جاءهم كتاب من عن�ذين كفروا فلم�ا جاءهم ما عرف��وا كف��روا قبل يستفتحون على ال

167

�ه على الكافرين ) هم أن89به فلعنة الل ( بئسما اشتروا به أنفس���ه من فضله على من يشاء ل الل �ه بغيا أن ينز يكفروا بما أنزل الل��افرين ع��ذاب مهين ) ب وللك من عباده فباءوا بغضب على غض��

�ه قالوا نؤمن بما أنزل علينا90 ( وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الل ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون

�ه من قبل إن كنتم مؤمنين [91 - 89 ]البقرة: أنبياء الل وقد ذكر المؤرخ��ون الكث��ير من الرواي��ات ال��تي ت��بين س��ر قدوم اليه��ود لبالد الع��رب، وخصوص��ا للمدين��ة المن��ورة، لعلمهم أنها البالد التي ستهاجر إليها، ولذلك أسرعوا إليها، ليستأثروا بك من دون الن��اس.. لكنهم ��� لحس��دهم وبغيهم وك��برهم ��� راح��وا

يحاربونك، مثلما حارب إبليس آدم حسدا وكبرا. لقد حدث بعضهم قال: )ق��دم علين��ا رج��ل من الش��ام، من�ه ما رأينا رجال ق��ط ال يهود يقال له ابن الهيبان فأقام عندنا، والل

يص��لي الخمس خ��يرا من��ه، فق��دم علين��ا قب��ل مبعث الن��بي بسنين، فكنا إذا قحطنا وقل علينا المطر نق��ول: ي��ا ابن الهيب��ان�ه ح��تى تق��دموا أم��ام مخ��رجكم اخرج فاستق لنا. فيقول: ال والل صدقة. فنقول: كم؟ فيقول: صاع من تم��ر أو م��دين من ش��عير.�ه فنخرجه ثم يخرج إلى ظاهر حرتنا ونحن معه فيس��تقي ف��و الل ما يقوم من مجلسه حتى تمر السحاب. قد فعل ذلك غ��ير م��رة وال م��رتين وال ثالث��ة. فحض��رته الوف��اة فاجتمعن��ا إلي��ه فق��ال: ي��ا معشر يه��ود م��ا ترون��ه أخرج��ني من أرض الخم��ر والخم��ير إلى أرض البؤس والجوع؟ قالوا: أنت أعلم. قال: فإنه إنم��ا أق��دمني هذه البلدة أتوكف خروج نبي قد أظل زمانه هذه البالد مه��اجرة فأتبعه فال تسبقن إليه إذا خرج يا معش��ر يه��ود.. ثم م��ات. فلم��ا كانت الليلة التي فتحت فيها قريظة قال أولئك الفتي��ة ��� وك��انوا�ه إن��ه ال��ذي ذك��ر لكم ابن ش��بابا أح��داثا ��� ي��ا معش��ر يه��ود والل

168

�ه إنها لصفته. ثم نزل��وا الهيبان. فقالوا: ما هو به. قالوا: بلى والل فأس��لموا وخل��وا أم��والهم وأوالدهم وأه��اليهم في حص��ن م��ع

(1)المشركين، فلما فتح رد ذلك عليهم(

وح��دث آخ��ر ق��ال: حض��رت س��وق بص��رى ف��إذا راهب في صومعته يقول: سلوا أهل هذا الموسم ه��ل فيهم أح��د من أه��ل الحرم؟ فقلت: نعم أنا. قال: هل ظهر أحمد؟ قلت: ومن أحمد؟ قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب، هذا شهره الذي يخ��رج في��ه وهو آخر األنبياء مخرج��ه من الح��رم ومه��اجرة إلى نخ��ل وح��رة وسباخ، فإياك أن تسبق إليه. قال ال��راوي: فوق��ع في قل��بي م��ا ق��ال. فق��دمت مك��ة فقلت: ه��ل ك��ان من ح��دث؟ ق��الوا: )نعم

(2)محمد بن عبد الله األمين تنبأ(

�ه لق��د علمت أن محم��دا رس��ول وحدث ث��الث، فق��ال: والل�ه قبل أن يبعث، فقيل ل��ه: وكي��ف ذاك؟ ق��ال: فزعن��ا إلىالل

كاهن لنا في أمر نزل بن��ا، فق��ال الك��اهن: أقس��م بالس��ماء ذات األبراج واألرض ذات األدراج والريح ذات العجاج إن ه��ذا إلم��راج ولقاح ذي نتاج. قالوا: وما نتاجه؟ قال: ظهور نبي صادق بكت��اب ناطق وحسام ذالق، قالوا: أين يظهر وإالم ي��دعو؟ ق��ال: يظه��ر بص���الح وي���دعو إلى فالح ويعط���ل األق���داح، وينهى عن ال���راج والس��فاح وعن ك��ل أم��ر قب��اح، ق��الوا: ممن ه��و؟ ق��ال من ول��د الش��يخ األك��رم ح��افر زم��زم ومطعم الط��ير المح��رم والس��باع الضرم. قالوا: وما اسمه؟ قال: محمد، وع��زه س��رمد، وخص��مه

(192/ 2)( رواه البيهقي، انظر: سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد )1

(193/ 2)( رواه ابن سعد والبيهقي، سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد )2

169

.(1)مكمد

وق��ال راب��ع: )إن مم��ا دعان��ا إلى اإلس��الم، م��ع رحم��ة الل��ه تعالى وهداه لنا، لما كنا نسمع من رجال يهود، وكنا أه��ل ش��رك أصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب، عندهم علم ليس لنا، وكانت ال تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكره��ون، ق��الوا لنا: إنه قد تق��ارب زم�ان ن��بي يبعث اآلن نقتلكم مع�ه قت��ل ع�اد

وإرم فكنا كثيرا ما نسمع ذلك منهم. فلم��ا بعث الل��ه رس��وله أجبناه، حين دعانا إلى الله تعالى، وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا ب��ه، فبادرناهم إليه، فآمنا ب��ه، وكف��روا ب��ه، ففين��ا وفيهم ن��زل ه��ؤالء

دق لم��ااآليات من البقرة: �ه مص�� ولم�ا جاءهم كتاب من عند الل�ذين كفروا فلم�ا ج��اءهم معهم وكانوا من قبل يستفتحون على ال

��افرين �ه على الك ��ة الل ��ه فلعن [(89 ]البق��رة: ما عرفوا كفروا ب(2)

وقال خ��امس: ) ك�ان لن��ا ج��ار من اليه�ود بالمدين��ة فخ��رج علينا قبل البعثة بزمان فذكر الحش��ر والجن��ة والن��ار، فقلن��ا ل��ه: وما آية ذلك؟ قال خروج نبي يبعث من هذه البالد ��� وأش��ار إلى مكة � فقالوا متى يقع ذلك؟ قال فرمى بطرفه إلى السماء وأنا أصغر القوم، فقال: إن يس��تنفد ه��ذا الغالم عم��ره يدرك��ه. ق��ال فما ذهبت األيام والليالي حتى بعث الله تعالى نبي��ه، وه��و حي �

�ا به وكفر هو بغيا وحسدا ( (3)أي اليهودي � فآمن

(192/ 2)( سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد )1

(211/ 1)( سيرة ابن هشام ت السقا )2

(،6327، والط��براني في "الكب��ير" )69-4/68)( ه البخاري في "التاريخ الكب��ير" 3

170

وقال سادس: )كنا ويهود فينا كانوا يذكرون نبيا يبعث بمكة اسمه أحمد، ولم يبق من األنبياء غيره، وهو في كتبنا، وم��ا أخ��ذ علينا منه، وصفته كذا وكذا، حتى يأتوا على نعته قال: وأن��ا غالم وما أرى أحفظ، وم��ا أس��مع أعي، إذ س��معت ص��ياحا من ناحي��ة بني عبد األشهل، فأرى قوما فزعوا وخافوا أن يكون أمر حدث، ثم خفي الصوت، ثم عاد، فصاح، ففهمنا صياحه: يا أه��ل ي��ثرب، هذا كوكب أحمد الذي ولد به. قال: فجعلن��ا نعجب من ذل��ك، ثم أقمنا ده��را ط��ويال، ونس��ينا ذل��ك، فهل��ك ق��وم، وح��دث آخ��رون، وصرت رجال كبيرا، فإذا مث��ل ذل��ك الص��ياح: ي��ا أه�ل ي��ثرب، ق��د خرج أحمد وتنبأ، وجاءه الناموس األكبر الذي كان ي��أتي موس��ى عليه السالم، فلم ألبث أن س��معت أن بمك��ة رجال خ��رج ي��دعي النبوة، وخرج من خرج من قومنا، وتأخر من تأخر، وأسلم فتيان

منا أحداث، ولم يقض لي أن أسلم، ح��تى ق��دم رس��ول الل��ه (4)المدينة(

وقال سابع: )جئت بني عب��د األش��هل يوم��ا، ألتح��دث فيهم، ونحن يومئ��ذ في هدن��ة من الح��رب، فس��معت يوش��ع اليه��ودي يقول: أظل خروج نبي، يقال له أحمد يخ��رج من الح��رم، فق��ال له خليفة بن ثعلبة األش��هلي كالمس��تهزئ ب��ه: م��ا ص��فته؟ ق��ال: رج���ل ليس بقص���ير، وال بالطوي���ل، في عيني���ه حم���رة، يلبس الشملة، ويركب الحمار، سيفه على عاتقه، وهذا البلد مه��اجره. قال: فخ��رجت إلى ق��ومي ب��ني خ�درة، وأن�ا يومئ�ذ أتعجب مم��ا قال، فأسمع رجال يقول: ويوشع يقول هذا وحده، كل يهود يثرب تقول هذا؟ قال أبي مالك بن س��نان: فخ��رجت ح��تى جئت ب��ني

(.34، وأبو نعيم في "الدالئل" )418-3/417والحاكم

(77)( دالئل النبوة ألبي نعيم األصبهاني )ص: 4

171

، فق��ال الزب��ير بن باط��ا:قريظة، فأجد جمعا، فتذاكروا الن��بي قد طلع الكوكب األحمر الذي لم يطلع إال بخروج نبي وظه��وره، ولم يبق أحد إال أحمد، وهذه مهاجره قال أبو س��عيد: فلم��ا ق��دم

المدينة أخبره أبي هذا الخبر، فق��ال رس��ول الل��هرسول الله )(1): )لو أسلم الزبير وذووه من رؤسائهم كلهم له تبع

وهكذا ورد يف األخبار الكثرية املتواترة ما يدل على سبب تركهم لبالد الشام ذات اجلو الطيب، والغىن الوافر، وهجرهتم إىل تلك الصحارى القاحلة.. وكل

ذلك طلبا لك، لعلمهم أبهنا البالد اليت ستظهر فيها. لقد رحت � سيدي � أطالع الكتب المقدسة التي تتبناها األديان

جميعا.. فوجدت البشارة بك واضحة ظاهرة ال ينكرها إال الجاحدون.. وكان من أكبر أدلة انطباقها عليك أن الذين

استخرجوها، وفسروها، وبينوا انطباقها عليك رجال من أهل تلك.(2)األديان

وعندما طرحت عين كل جالبيب التقليد، وقيوده، ورحت أقرؤها بعقل احملقق املدقق، وجدت األمر كما ذكروا، فهي تذكرك، بل تسميك يف بعض

املواضع ابمسك الذي يعرفك به الناس.. لكن اجلاحدين راحوا حيتالون على ذلكأبصناف احليل حىت يصرفوا تلك البشارات عنك.

(79)( دالئل النبوة ألبي نعيم األصبهاني )ص: 1

[ ومنهم علي بن)( هم كثيرون جدا، أشرت إليهم في كتابي ]قلوب مع محم��د 2 ربن الط��بري، وه��و مس��يحي هدت��ه دراس��ة الموض��وعية الص��ادقة للكت��اب المق��دس إلى

[اإلسالم، وقد ذكرت بعض ما ذكره من بشارات في كتابي ]أنبياء يبشرون بمحمد 172

لقد وجدت في التوراة التي يتبناها اليهود والنصارى جميعا، وفي سفر التكوين وصية يعقوب عليه السالم لبنيه قبل وفات��ه.. عندما طبقتها بحروفها وكلماتها على من يمكن أن تصدق علي��ه،

(: )ثم49/10لم أجد غيرك سيدي، لقد ورد في سفر التك��وين ) دعا يعقوب بنيه، وقال اجتمعوا أبارك فيكم، وأخبركم بما ينالكم في آخر ه��ذه األي��ام، اجتمع��وا واس��معوا ذل��ك ي��ا ب��ني يعق��وب، واقبل���وا من إس���رائيل أبيكم.. ال ي���زول القض���يب من يه���وذا، والرس��م من تحت أم��ره، إلى أن يجئ ش��يلوه، وإلي��ه تجتم��ع

(3)الشعوب(

إن ه��ذه النب��وة ��� س��يدي ��� ال يمكن أن تنطب��ق على أح��د غيرك.. فالتعابير المجازية الواردة فيها تدل على أنك تجم��ع بين الحكم والنبوة، وأنك صاحب الصولجان والش��ريعة، وأن��ك تمل��ك حق التشريع والتنفيذ، وتخض��ع ل��ك الش��عوب.. وه��ذا لم يتحق��ق

في التاريخ لنبي، أو مدعي نبوة غيرك. فال يمكن أن تنطب���ق ه���ذه البش���ارة على موس���ى علي���ه السالم، ألنه أول منظم ألسباط بني إسرائيل، وال في ح��ق داود

عليه السالم، ألنه أول ملك فيهم. وهكذا وجدت بشارة موسى عليه السالم بك، فقد ورد في التوراة أنه عندما نزل من جبل الط��ور بع��د م��ا كلم��ه رب��ه ق��ال مخاطبا بني إسرائيل:)قال لي الرب: قد أحسنوا في ما تكلموا، أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك، وأجع��ل كالمي في فم��ه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به، ويك��ون أن اإلنس��ان ال��ذي ال يس��مع لكالمي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه، وأما النبي الذي يطغى

[)( شرحنا هذه النبوة وغيرها بتفصيل في كتاب ]أنبياء يبشرو بمحمد 3

173

فيتكلم باسمي كالما لم أوصه أن يتكلم به، أو الذي يتكلم باسم آلهة أخرى، فيموت ذلك النبي. وإن قلت في قلبك: كيف نعرف الكالم الذي لم يتكلم به الرب؟ فما تكلم به النبي باس��م ال��رب ولم يحدث ولم يصر، فهو الكالم ال��ذي لم يتكلم ب��ه ال��رب، ب��ل

(22 - 17 / 18بطغيان تكلم به النبي، فال تخف منه( )التثنية وه��ذه البش��ارة ال يمكن أن تنطب��ق على غ��يرك، ول��ذلك ذكرها كل المهتدين إليك من الذين خرجوا من التقلي��د، وق��رؤوا

كتبهم بعين اإلنصاف. وكي��ف ال يفعل��ون ذل��ك واليه��ود مجمع��ون على أن جمي��ع األنبياء الذين ك��انوا في ب��ني إس��رائيل من بع��د موس��ى لم يكن فيهم مثله.. فال أحد من أنبي��اء ب��ني إس��رائيل أتى بش��رع خ��اص تتبعه علي��ه األمم من بع��ده.. فه��ذه الص��فة ال تنطب��ق إال علي��ك، ألن��ك من إخ��وتهم الع��رب، وق��د جئت بش��ريعة ناس��خة لجمي��ع الشرائع السابقة، وتبعتك األمم عليها، ف��أنت في ه��ذه الن��واحي

تشبه موسى عليه السالم. باإلضافة إلى هذا، ف��إن تل��ك البش��ارة تنص على أن الن��بي ال��ذي يقيم��ه الل��ه لب��ني إس��رائيل ليس من نس��لهم، ولكن��ه من إخوتهم، وكل نبي بعث من بع��د موس��ى علي��ه الس��الم ك��ان من بني إسرائيل وآخرهم عيسى عليه السالم، فلم يبق رس��ول من

إخوتهم سواك. باإلض��افة إلى ه��ذا، ف��إن الكت��اب المق��دس ينص على أن إسماعيل وذريته كانوا يسمون إخوة لبني إبراهيم عليه الس��الم،

عن القديم العهد رواية حسب ألن الله قال في التوراة لهاجر ه قبالة إخوت��ه ينص��ب المض��ارب( كم��ا دعىبأن: )إسماعيل ابنها

174

إسحاق وذريته إخوة إلسماعيل وذريته. وهكذا يصيح ك�ل ح�رف وكلم�ة في تل�ك البش�ارة بالدالل�ة علي��ك.. لكن ال يمكن أن ي��رى ذل��ك غ��ير الص��ادقين المخلص��ين

الباحثين عن الحقيقة المتجردين لها. وهكذا وجدت ن��بي الل��ه إش��عيا يبش��ر ب��ك، ب��ل ي��ؤرخ ل��ك؛ فسفره مملوء بالحديث عنك، ومن ق��رأه بعين التج��رد رآك في

كل حرف من حروفه.. لقد قال في بعض بش��اراته عن��ك: )ق��ال لي الس��يد: اذهب أقم الحارس، ليخبر بما يرى، فرأى ركابا أزواج فرس��ان، رك��اب حمير، ركاب جمال، فأصغى إصغاء شديدا، ثم صرخ كأسد: أيه��ا السيد أنا قائم على المرصد دائم��ا في النه��ار، وأن��ا واق��ف على المح��رس ك��ل اللي��الي، وه��وذا رك��اب من الرج��ال، أزواج من الفرسان. فأجاب وقال: سقطت، سقطت باب��ل وجمي��ع تماثي��ل آلهتها المنحوتة كسرها إلى األرض.. يا دياستي وبني بيدري، م��ا سمعته من رب الجنود إله إسرائيل أخبرتكم به، وحي من جه��ة دومة. صرخ إلي صارخ من سعير: ي��ا ح��ارس م��ا من اللي��ل، ي��ا حارس ما من الليل. ق��ال الح��ارس: أتى ص��باح وأيض��ا لي��ل، إن كنتم تطلب��ون ف��اطلبوا. ارجع��وا تع��الوا، وحي من جه��ة الع��رب: ستبيتين في صحاري بالد العرب يا قوافل الددانيين، فاحملوا ي��ا أهل تيماء الماء للعطشان، واستقبلوا الهاربين بالخبز، ألنهم ق��د ف��روا من الس��يف المس��لول، والق��وس المت��وتر، ومن وطيس المعركة. ألنه هذا ما قال��ه لي ال��رب: في غض��ون س��نة مماثل��ة لسنة األجير يفنى كل مجد قيدار، وتك��ون بقي��ة الرم��اة األبط�ال من أبناء قيدار، قلة. ألن ال��رب إل��ه إس��رائيل ق��د تكلم( )إش��عيا

21 /6 – 17)175

إن كل حرف من هذه النبوءة يشير إليك، ويدل علي��ك، وال.(1)يمكن فهمه وال فهم مصاديقه إال بتطبيقها عليك

أما المسيح عليه السالم، فقد امتألت األناجيل التي وصلتنا بالحديث عن��ك، وكله��ا تبش��ر ب��ك، ليتحق��ق فيه��ا مص��داق قول��ه

ولتعالى: ي رس�� رائيل إن ��ابني إس�� وإذ قال عيسى ابن م��ريم يرا برسول يأتي �وراة ومبش �ه إليكم مصدقا لما بين يدي� من الت اللنات قالوا هذا سحر مبين من بعدي اسمه أحمد فلم�ا جاءهم بالبي

:[6 ]الصف لقد ورد في إنجيل يوحنا قول المسيح موصيا تالمي��ذه ب��ك: )إن كنتم تحبون���ني، ف���احفظوا وص���اياي، وأن���ا أطلب من اآلب فيعطيكم معزيا آخر، ليمكث معكم إلى األبد، روح الحق الذي ال يس��تطيع الع��الم أن يقبل��ه، ألن��ه ال ي��راه وال يعرف��ه، وأم��ا أنتم فتعرفونه ألنه ماكث معكم، ويكون فيكم.. إن أحبني أحد يحفظ كالمي، ويحب��ه أبي وإلي��ه ن��أتي، وعن��ده نص��نع من���زال.. ال��ذي ال يحب��ني ال يحف��ظ كالمي، والكالم ال��ذي تس��معونه ليس لي، ب��ل لآلب ال��ذي أرس��لني، به��ذا كلمتكم وأن��ا عن��دكم، وأم��ا المع��زي ال��روح الق��دس ال��ذي سيرس��له اآلب باس��مي فه��و يعلمكم ك��ل ش��يء، وي��ذكركم بك��ل م��ا قلت��ه لكم.. قلت لكم اآلن قب��ل أن يكون، حتى متى ك��ان تؤمن��ون، ال أتكلم أيض��ا معكم كث��يرا، ألن

– 14/15رئيس هذا العالم يأتي، وليس ل��ه في ش��يء( )يوحن��ا

30) وفي إنجيل متى ولوق��ا، نق��رأ المس��يح علي��ه الس��الم وه��و

)( هناك تفاصيل كثيرة مرتبطة بهذه النبوة، أعرضنا عن ذكرها هنا لطوله��ا، يمكن1(،فما بعدها.159 )ص: العودة إليها في كتابي: أنبياء يبشرون بمحمد

176

يصفك بدقة لحواريي��ه، لق�د ق�ال لهم: )اس��معوا مثال آخ�ر، ك�ان إنس��ان رب بيت، غ��رس كرم��ا، وأحاط��ه بس��ياج، وحف��ر في��ه معصرة وبنى برج��ا، وس��لمه إلى ك��رامين وس��افر.. ولم��ا ق��رب وقت اإلثمار أرس��ل عبي��ده إلى الك��رامين ليأخ��ذ أثم��اره، فأخ��ذ الكرامون عبيده، وجلدوا بعضا وقتل��وا بعض��ا ورجم��وا بعض��ا، ثم أرس��ل إليهم أيض��ا عبي��دا آخ��رين أك��ثر من األولين، ففعل��وا بهم ك��ذلك.. ف��أخيرا أرس��ل إليهم ابن��ه ق��ائال: يه��ابون اب��ني، وأم��ا الكرام��ون فلم��ا رأوا االبن ق��الوا فيم��ا بينهم: ه��ذا ه��و ال��وارث، هلم��وا نقتل��ه ونأخ��ذ ميراث��ه، فأخ��ذوه وأخرج��وه خ��ارج الك��رم، وقتلوه.. فمتى جاء صاحب الكرم ماذا يفعل بأولئ��ك الك��رامين؟ قالوا له: أولئك األردي�اء يهلكهم هالك�ا ردي��ا، ويس�لم الك�رم إلى كرامين آخرين يعطون األثمار في أوقاتها.. قال لهم يسوع: أم��ا قرأتم قط في الكتب: الحجر الذي رفضه البناؤون هو ق��د ص��ار رأس الزاوية، من قبل الرب ك��ان ه��ذا، وه��و عجيب في أعينن��ا، لذلك أقول لكم: إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى ألمة تعم��ل أثماره، ومن سقط على هذا الحج��ر يترض��ض، ومن س��قط ه��و عليه يس��حقه.. ولم�ا س��مع رؤس��اء الكهن�ة والفريس��يون أمثال��ه

(19 - 20/9(، )لوقا 45 - 21/33عرفوا أنه تكلم عليهم()متى وفي إنجي��ل م��تى ق��ال المس��يح متح��دثا عن ت��أخر زم��ان ظهورك عن النبوات الس��ابقة، وأن ذل��ك لن يمن��ع عظيم األج��ر والثواب ألمت��ك: )ف��إن ملك��وت الس��ماوات يش��به رجال رب بيت خرج مع الصبح ليستأجر فعل��ة لكرم��ه، ف��اتفق م��ع الفعل��ة على دين��ار في الي��وم وأرس��لهم إلى كرم��ه، ثم خ��رج نح��و الس��اعة الثالثة، ورأى آخرين قياما في السوق بطالين، فقال لهم: اذهبوا أنتم أيضا إلى الكرم ف��أعطيكم م��ا يح��ق لكم، فمض��وا.. وخ��رج أيض��ا نح��و الس��اعة السادس��ة والتاس��عة وفع��ل ذل��ك.. ثم نح��و

177

الساعة الحادية عشرة خرج ووجد آخرين قيام��ا بط��الين، فق��ال لهم: لماذا وقفتم ههنا، ك��ل� النه��ار بط��الين؟ ق��الوا ل��ه: ألن��ه لم يستأجرنا أحد. قال لهم: اذهبوا أنتم أيضا إلى الكرم فتأخذوا م��ا يحق لكم.. فلما ك��ان المس�اء ق��ال ص��احب الك��رم لوكيل��ه: ادع الفعلة وأعطهم األج��رة مبت��دئا من اآلخ��رين إلى األولين.. فج��اء أصحاب الساعة الحادية عشرة وأخذوا دين��ارا دين��ارا، فلم��ا ج��اء األولون ظنوا أنهم يأخذون أكثر، فأخذوا هم أيض��ا دين��ارا دين��ارا، وفيما هم يأخذون تذمروا على رب البيت قائلين: هؤالء اآلخرون عملوا ساعة واحدة، وقد ساويتهم بن��ا نحن ال��ذين احتملن��ا ثق��ل النهار والحر.. فأجاب وقال لواحد منهم: يا ص�احب م�ا ظلمت��ك، أما اتفقت معي على دينار؟ فخذ ال��ذي ل��ك واذهب، ف��إني أري��د أن أعطي هذا األخ��ير مثل��ك. أو م��ا يح��ل لي أن أفع��ل م��ا أري��د بمالي أم عين��ك ش��ريرة ألني أن��ا ص��الح! هك��ذا يك��ون اآلخ��رونأولين، واألولون آخرين، ألن كثيرين يدعون، وقليل��ون ينتخب��ون(

(16 - 20/1)متى إن المسيح علي��ه الس��الم ��� من خالل ه��ذا المث��ال ��� يهيء النفوس لتقبلك، وأنك مع كونك خاتم الرسل إال أن الله برحمته وهب لك وألمتك من الفضل ما لم ينل��ه غ��يركم.. ف��اآلخرون هم

األولون السابقون كما قال المسيح. لقد أشرت إلى هذا ��� س��يدي رس��ول الل��ه ��� فقلت: )نحن

، وضربت عليه مثاال ال يختلف كثيرا عن(1)اآلخرون السابقون(

)( هذا هو نص الحديث:» إن الله أدرك بي في األجل المرجو واختارني اختيارا1 فنحن االخرون ونحن السابقون يوم القيامة، وإني قائل قوال غير فخر: ابراهيم خليل الله

وموسى صفي الله وأنا حبيب الله، ومعي لواء الحمد يوم القيامة، وإن الله وعدني في أمتي وأجارهم من ثالث: ال يفنيهم بسنة، وال يستأصلهم عدو، وال يجمعهم على ضاللة «

رواه الدارمي، وابن عساكر عن عمرو بن قيس.178

مثال المسيح، فقلت مخاطبا أمك � مبشرا بما أعد الله له��ا من األجر العظيم إن هي صدقت في اتباعك ���: )مثلكم ومث��ل أه��ل الكتابين كمثل رجل استأجر أج��راء فق��ال: من يعم��ل لي غ��دوة إلى نص��ف النه��ار على ق��يراط؟ فعملت اليه��ود، ثم ق��ال: من يعم��ل لي من نص��ف النه��ار إلى ص��الة العص��ر على ق��يراط، فعملت النصارى، ثم قال من يعمل لي من العصر إلى أن تغيب الشمس على قيراطين؟ ف��أنتم هم. فغض��بت اليه��ود والنص��ارى فقالوا: مالن��ا أك��ثر عمال وأق��ل عط��اء؟ ق��ال: ه��ل نقص��تكم من

(1)حقكم؟ قالوا: ال. قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء(

وغيره��ا من البش��ارات الكث��يرة ال��تي ال تنطب��ق إال علي��ك، ومن أكبر دالئ��ل ذل�ك تس��ليم األحب��ار والرهب��ان الص��ادقين له�ا،

واتباعهم لك. بل إنني � س��يدي ��� عن��دما ت��ركت كتب اليه��ود والنص��ارى، ورحت أقرأ غيرها من األسفار المقدسة ألهل األديان المختلف�ة، وجدتك فيها، ليقيم الله الحجة عليهم بك، وفي مص��ادرهم ال��تي

يعتمدونها. لقد قرأت سيدي في كت��اب )أدروافي��دم أدهرووي��دم( وه��و كت��اب مق��دس عن��د الهن��دوس.. وفي ]الج��زء العش��رين من��ه،

[ هذه البشارة: )أيها الن��اس اس��معوا3-1، الفقرة 127الفصل وعوا يبعث المحمد بين أظهر الناس.. وعظمته تحم��د ح��تى في

الجنة ويجعلها خاضعة له وهو المحامد( ،3وقرأت في )بفوشيا برانم( بهوش��ى ب��رانم.. ]في الج��زء

وما بع��دها[ ه��ذه البش��ارة:)في ذل��ك الحين5، العبارة 3الفصل)( رواه مالك والبخاري والترمذي.1

179

يبعث أجنبي مع أص��حابه باس��م محام��د الملقب بأس��تاذ الع��الم، والملك يطهره بالخمس المطهرات(.. فهذا نص ص��ريح ال يمكن انطباقه إال عليك، وفي قول��ه )الخمس المطه��رات( إش��ارة إلى الص��لوات الخمس ال��تي يتطه��ر به��ا المس��لم من ذنوب��ه ك��ل

. (1)يوم

وقرأت في كتاب )بفوشيا برانم(، وص��ف ألص��حابك.. حيث ذكر أنهم )الذين يختتنون، وال يربون القزع، ويربون اللحى، وهم مجاهدون، وينادون الناس لل��دعاء بص��وت ع��ال، وي��أكلون أك��ثر

للتطه��ير، ب��ل(2)الحيوانات إال الخنزير، وال يستعملون ال��درباء بس��بب أنهم(3)الش��هداء هم المتطه��رون، ويس��مون بمس��لي

يقاتلون من يلبس الحق بالباط��ل، ودينهم ه��ذا يخ��رج من��ا، وأن��االخالق(

وق��رأت في بعض كتب الزرادش��تيين: )إن أم��ة زرادش��ت حين ينب��ذون دينهم يتضعض��عون، وينهض رج��ل في بالد الع��رب يهزم أتباعه فارس، ويخضع الفرس المتكبرين، وبعد عبادة النار في هياكلهم يولون وجوههم نحو كعبة إبراهيم التي تطهرت من األصنام، ويومئذ يصبحون هم أتباع النبي رحمة للعالمين، وسادة

)( انظر:كتاب التيارات الخفية في الديانات الهندية القديمة لمؤلفه: تى محمد.1

)( الدرباء نبات يخرج به الهنود الدم من جسم اإلنسان ويعدون هذا العمل2تطهيرا من الخطايا.

)( أي يسمون بالمسلمين، دخل عليها شئ من التحريف.3

180

(1)لفارس وم��ديان وط��وس وبلخ ..وإن ن��بيهم ليك��ونن فص��يحا (2)يتحدث بالمعجزات(

هذا بعض ما حفظ لنا من بشارات، وهي كثيرة جدا.. فك��ل األنبياء واألولياء واألصفياء، كانوا يشيرون إليك، ويتحدثون عن��ك،

ويبشرون بك.. ف��وا بش��رانا ب��أن حظين��ا ب��أن نك��ون من أمت��ك، ونحظى باتباع��ك.. فأس��ألك ي��ا س��يدي ي��ا رس��ول الل��ه.. ي��ا وس��يلة الل��ه العظمى.. أن تجعل��ني من الص��ادقين في اتب��اعهم ل��ك، ح��تى ال أكون كأولئك الجاحدين الذين عرفوك، واستيقنوا بنبوت��ك، ولكن

كبرهم حال بينهم وبينك. وأسألك � سيدي � وأتوس��ل ب��ك إلى الل��ه، أن يرزق��ني من التواضع والتسليم ما يجعلني بين يديك كالريشة في مهب الريح يحركها حيث يشاء، أو كالميت بين يدي الغس��ال، ال يمل��ك ش��يئا

��انمن أمره.. حتى أتحقق بما ذكره الله تعالى، فق��ال: وم��ا ك��ون لهم وله أم��را أن يك �ه ورس�� ى الل ��ة إذا قض�� لم��ؤمن وال مؤمنالال مبينا �ه ورسوله فقد ضل� ض�� الخيرة من أمرهم ومن يعص الل

:[ 36 ]األحزاب

)( وهي األماكن المقدسة للزرادشتيين ومن جاورهم.1

.47)( محمد في األسفار العالمية: 2

181

المؤيد بالمعجزات س��يدي ي��ا رس��ول الل��ه.. ي��ا من أي��ده الل��ه ب��المعجزات الب��اهرات، والخ��وارق الواض��حات، واآلي��ات البين��ات، ح��تى يثبت لكل العقول، وكل األجيال أنك النبي الذي جعل الله في اإليمان ب��ه واتباع��ه خالص البش��رية، وس��عادتها، وص��الحها، في ال��دنيا

واآلخرة. لق���د رحت س���يدي إلى دواوين ال���وراقين أبحث في ك���ل األديان، عن معجزات تشبه المعجزات التي جئت به��ا، وال��دالئل

التي دل الله بها عليك؛ فلم أجد عشر معشار ما أتيت به.. وليس ذل��ك عجيب��ا.. فق��د ك��ان األنبي��اء يبعث��ون إلى أق��وام محدودين، وأزمنة مح��دودة، أم��ا أنت فق��د جئت للبش��ر جميع��ا، باختالف طباعهم وعقولهم ومشاربهم.. ولكل األزمنة متق��دمها، ومتأخرها.. ولذلك كنت بحاج��ة إلى ك��ل أص��ناف البين��ات، ح��تى يقيم الله الحجة بك على خلقه.. فقد جرت س��نة الل��ه أال ي��ترك رس��له من غ��ير آي��ات ت��دل عليهم، ح��تى ال ي��زاحمهم في ذل��ك

الكذابون والمدعون والدجالون. لقد أشرت سيدي إلى عظمة ما آتاك الله من آيات بينات، مقارنة بالرسل عليهم الصالة والس��الم، فقلت: )م��ا من األنبي��اء نبي إال أعطي من اآليات ما مثله آمن علي��ه البش��ر، وإنم��ا ك��ان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي؛ فأرجو أن أك��ون أك��ثرهم تابع��ا

(1)يوم القيامة(

)( رواه البخاري ومسلم.1

182

فرجاؤك سيدي ألن يك��ون أتباع��ك أك��ثر من س��ائر األنبي��اء عليهم الس��الم ي��دل على امت��داد حجت��ك ألك��ثر البش��ر والعق��ول

واألزمنة.. يؤسفني � س��يدي �� أن أذك�ر ل�ك ب�أن بعض ق�ومي راح�وا يق��رؤون ح��ديثك ه��ذا على خالف م��ا قص��دته؛ فق��د توهم��وا أن القرآن الكريم هو معجزتك الوحي��دة، وأن ك��ل المعج��زات ال�تي جرت لألنبياء من قبلك، والتي خرقت لهم بها م��ا يعرف��ه الن��اس

من قوانين لم تتحقق لك. وق��د وهم��وا في ذل��ك؛ ف��أنت لم ت��رد الح��ديث عن تل��ك المعج��زات الحس�ية ال�تي لم يش��اهدها إال قوم��ك.. وإنم�ا أردت المعج��زة الممت��دة ال��تي يراه��ا ك��ل األجي��ال.. وهي المعج��زة الوحي��دة الباقي��ة على األرض.. ذل��ك أن ك��ل معج��زات األنبي��اء ذهبت بذهابهم، ولم يشاهدهم إال قومهم، أو الذين ط��البوا به��ا.. أما من عداهم؛ فصار إيمانهم بها تقلي��دا ال رؤي��ة، أو نتيج��ة تل��ك

األخبار المتواترة عنهم، ال عن حقيقة عاينوها بأنفسهم. ل��ذلك ك��ان ح��ديثك عن معجزت��ك الخال��دة الدائم��ة لك��ل العصور، وليس عن سائر المعجزات والكرامات والخوارق ال��تي هيأها الله لك كما هيأها لغيرك من األنبي��اء، وم��ا ذل��ك على الل��ه

ببعيد.. ولم يكتف��وا ب��ذلك ��� س��يدي ��� ب��ل راح��وا إلى بعض آي��ات القرآن الكريم يفهمونها على غير المراد منها، ليضربوا بها مئات

األحاديث التي تنقل معجزاتك الحسية..��ة منلقد راحوا يستدلون بقوله تع��الى: ن ي على بي ق��ل إن

�ه ��ه إن الحكم إال� لل تعجلون ب ��دي م��ا تس�� ��ه م��ا عن ��ذ�بتم ب ي وك رب183

[، وراحوا يفهم��ون57 ]األنعام: يقص الحق� وهو خير الفاصلين [57 ]األنعام: ما عندي ما تستعجلون به من قول الله تعالى:

أن مرادك منها نفي ما طلبوه من معجزات أو خ��وارق.. واألم��ر ليس ك��ذلك؛ فه��ذه اآلي��ة تنص على تل��ك الطلب��ات الس��اخرة الكث��يرة ال��تي ك��ان المش��ركون يطالبون��ك به��ا ب��أن يعج��ل الل��ه

عقوبته لهم، لكي يكون ذلك دليال على نبوتك. ﴿وقد أشار إلى ه��ذا المع��نى آي��ات كث��يرة، كقول��ه تع��الى:

( ى أن71ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ( قل عس��تعجلون �ذي تس�� ��ون ردف لكم بعض ال [،72،�� 71 ]النم��ل: يك

ون ) اص�� ��ل الخر� اهون )10﴿وقول�ه: قت �ذين هم في غم��رة س�� ( ال�ان يوم الدين )11 ��ون )12( يسألون أي �ار يفتن ��وم هم على الن ( ي 10 ]الذاريات: ( ذوقوا فتنتكم هذا ال�ذي كنتم به تستعجلون13 [، وغيرها من اآليات الكريمة التي تذكر طلب المش��ركين14-��

منك تعجيل العذاب.��وولهذا عقب الله تعالى تلك اآلية الكريمة بقول��ه: ق��ل ل

�ه أعلم أن� عندي ما تستعجلون به لقضي األم��ر بيني وبينكم والل [ أي: لو كان مرجع م��ا تس��تعجلون ب��ه58 ]األنعام: بالظ�المين

إلي، ألوقعت بكم ما تستحقونه من ذلك. وقد أشار إلى هذا المعنى آيات أخرى كثيرة، كقوله تعالى:

��ا ��دك ف��أمطر علين �هم� إن كان هذا هو الحق� من عن وإذ قالوا الل��ا بع��ذاب أليم ) ماء أو ائتن �ه32حج��ارة من الس��� ��ان الل ( وم��ا ك

تغفرون �ه مع��ذبهم وهم يس�� ��ان الل ليع��ذبهم وأنت فيهم وم��ا ك[33، 32]األنفال:

ولذلك كان من رحمة الل��ه تع�الى ع�دم اس��تجابة الل��ه لهم

184

بتعجيل ع��ذابهم، وإال انتفى مقص��ود رس��التك، وانتهت وظيفته��اعند هذا المطلب الذي طلبوه..

وقد ورد في الحديث ما يشير إلى أنه أتيح لك تحقي��ق ه��ذا الطلب لكن��ك ��� س��يدي ��� رفض��ت أن تنف��ذه رحم��ة بهم، ففي الحديث الذي ذكرت فيه ما لقيته من أهل الط��ائف قلت: )ف��إذا�تني، فنظرت فإذا فيها جبريل، علي��ه الس��الم، أنا بسحابة قد أظل فناداني، فق��ال: إن الل��ه ق��د س��مع ق��ول قوم��ك ل��ك، وم��ا ردوا��ك الجب��ال لت��أمره بم��ا ش��ئت فيهم، علي��ك، وق��د بعث إلي��ك مل فناداني ملك الجبال وسلم علي، ثم قال: يا محمد، إن الل��ه ق��د سمع قول قومك لك، وقد بعث��ني رب��ك إلي��ك، لت��أمرني ب��أمرك،

، فقلت: )ب��ل(1)فما شئت؟ إن شئت أطبقت عليهم األخشبين أرجو أن يخ��رج الل��ه من أص��البهم من يعب��د الل��ه، ال يش��رك ب��ه

(2)شيئا(

إن ال��ذي يش��اغبون في ذل��ك ��� س��يدي ��� يش��بهون ذل��ك المريض الذي يطلب من طبيبه أن يدس له السم، ويقتله، حتى يريحه من الع��ذاب.. لكن الط��بيب ال��رحيم ال يس��تجيب ل��ه، ب��ل

يتعامل معه بلطف إلى أن يقدر الله له الشفاء.. وكذلك فعلت سيدي.. فقد ك��ان رفض��ك لم��ا طلب��وه من��ك رحمة بهم، وحرصا عليهم، ال عجزا، فالله فوض لك أن تنف��ذ م��ا طلبوه منك، وأنت � برحمتك ورأفتك � رفض��ت.. وق��د علم الل��ه

منك ذلك.. ولذلك كنت أهال ألن تكون رحمته للعالمين.

)( وهما جبال مكة اللذان يكتنفانها جنوبا وشماال.1

)( رواه البخاري ومسلم.2

185

﴿وهكذا راحوا إلى قوله تعالى: وأقسموا بالله جهد أيم��انهم�ما اآليات عند الله وما يشعركم �يؤمنن� بها قل إن لئن جاءتهم آية ل

�ها إذا جاءت ال يؤمنون ]األنع��ام: [ يفهم��ون منه��ا أن��ه لم109﴾أن تظه��ر على ي��ديك أي معج��زات حس��ية، وق��د وهم��وا في ذل��ك؛ فاآلية الكريمة ال تنفي ذلك، وإنما تنفي استجابتك لم��ا اق��ترحوه من اآليات والمعجزات، ذلك أن من سنة الل�ه تع�الى في أق�وام األنبياء أنهم إذا أنكروا المعجزات التي اقترحوها يعذبون بس��بب

ذلك. وقد روي في س��بب ن��زول ه��ذه اآلي��ة أن قريش��ا كلم��وك، فقالوا: يا محمد تخبرنا أن موس��ى ك��ان مع��ه عص��ا يض��رب به��ا الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، وتخبرنا أن عيس��ى ك��ان يحيي الموتى، وتخبرنا أن ثمود ك��ان لهم ناق��ة فآتن��ا من اآلي��ات حتى نصدقك، فقلت لهم: )أي شيء تحبون أن آتيكم به(، قالوا: تجع��ل لن��ا الص��فا ذهب��ا، فقلت لهم: )ف��إن فعلت تص��دقوني؟(، قالوا: نعم والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعون، فقمت لت��دعو الل��ه بما طلبوه، فجاءك جبريل فقال لك: )ما ش��ئت إن ش�ئت أص�بح الصفا ذهبا، ولئن أرسل آية فلم يصدقوا عند ذلك ليعذبنهم، وإن شئت فاتركهم ح��تى يت��وب ت��ائبهم(، فقلت حينه��ا: )ب��ل أت��ركهم

(1)حتى يتوب تائبهم(

لقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى في قول��ه تع��الى:وما منعنا أن نرسل باآليات إال� أن كذ�ب بها األو�لون وآتينا ثم��ود

��ات إال� تخويفا ل باآلي رة فظلم��وا به��ا وم��ا نرس�� �اق��ة مبص�� الن[59]اإلسراء:

(274)( سيرة ابن اسحاق = السير والمغازي )ص: 1

186

وقد حص��ل ه��ذا لغ��يرك من األنبي��اء ��� س��يدي ��� فكلهم لم يستجيبوا لكل ما طلب��ه ق��ومهم من اآلي��ات حرص��ا عليهم، وق��د ورد في اإلنجيل: )فخرج الفريسيون وابت��دأوا يحاورون��ه ط��البين من��ه آي��ة من الس��ماء لكي يجرب��وه. فتنه��د بروح��ه وق��ال لم��اذا يطلب هذا الجيل آية. الحق أقول لكم لن يعطى هذا الجيل آية(

(12-8/11)مرقس:�ىوهكذا راحوا إلى قوله تعالى: ��ك حت ��ؤمن ل وق��الوا لن ن

��ا من األرض ينبوع��ا ) �ة من نخي��ل90تفج��ر لن ��ك جن ��ون ل ( أو تكماء كم��ا91وعنب فتفجر األنهار خاللها تفجيرا ) ( أو تسقط الس���

��ة قبيال ) �ه والمالئك ��أتي بالل ��ون92زعمت علينا كسفا أو ت ( أو يك�ى ك حت ماء ولن نؤمن لرقي لك بيت من زخرف أو ترقى في الس�ي هل كنت إال� بشرا رسوال ل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان رب تنز

(93 ) :[94 - 90 ]اإلسراء وهي � سيدي � ال تعني ما فهموه من ع��دم إتيان��ك باآلي��ات مطلقا، وإنما تعني رفض هذه االقتراحات التي ق��دموها، ألنه��ا ال تتناس��ب م��ع الرس��الة، وال م��ع مقتض��ياتها، وهي ت��دل على أنهم ساخرون في طلباتهم، وإال فإنه يكفيهم لإليمان مطالب يتحق��ق

بها التأكد من النبوة من غير حاجة لكل هذا. وقد ذكر المؤرخون والمحدثون األمثلة على ذلك، ومنها ما

فقال:روي عن ابن عباس قال: جاء أعرابي إلى رسول الله ؟ ق��ال: )أرأيت إن دع��وت ه��ذابم أع��رف أن��ك رس��ول الل��ه

، ق��ال: نعم،العذق من ه�ذه النخل��ة أتش��هد أني رس��ول الل��ه فدعا العذق، فجع�ل الع�ذق ي�نزل من النخل�ة ح�تى س�قط على األرض، فأقبل إليه، وهو يسجد ويرفع ويسجد ويرفع حتى انتهى

ثم قال له: )ارجع(، فرجع إلى مكانه، فق��ال:إلى رسول الله

187

والله ال أكذبك بشيء تقول��ه بع��د أب��دا أش��هد أن��ك رس��ول الل��ه،.(1)وآمن

ومنه��ا م��ا روي عن ابن عم��ر ق��ال: كن��ا في س��فر، فأقب��ل : )أين تري��د؟(، ق��ال:أعرابي فلما دنا منه قال له رسول الله

إلى أهلي، قال: )هل لك في خير؟(، قال: وما هو؟ قال: )تشهد أن ال إله إال الله وحده ال شريك له وأن محمدا عبده ورس��وله(، قال: هل لك من شاهد على م��ا تق�ول؟ ق��ال: )ه��ذه الش��جرة(،

وهي بشاطئ الوادي، فأقبلت تخد األرضفدعاها رسول الله فاستشهدها ثالث��ا، فش��هدتخدا فقامت بين يدي رسول الله

أنه كما قال، ثم رجعت إلى منبتها، ورج��ع األع��رابي إلى قوم��ه، : إن يتبع��وني آت��ك بهم، وإال رجعت إلي��كوقال لرس��ول الل��ه

.(2)فكنت معك

روي عن بريدة قال: جاء أعرابي إلى رسول الل��ه ومنها ما،فقال: يا رسول الله قد أسلمت فأرني ش��يئا أزداد ب��ه يقين��ا

قال: )ما الذي تري�د؟(، ق�ال: ادع تل��ك الش�جرة، فلتأت�ك، ق�ال: )اذهب فادعها(، فأتاها األعرابي، فق��ال: أجي��بي رس��ول الل��ه

فمالت على جانب من جوانبها، فقطعت عروقها، ثم مالت على فق��الت:الجانب اآلخر فقطعت عروقها حتى أتت رسول الله

السالم عليك يا رسول الله، فقالت: )بم تشهدين، ي��ا ش��جرة؟(، قالت: أشهد أن ال إله إال الل��ه، وأن��ك عب��د الل��ه ورس��وله، ق��ال: )صدقت(، فقال األع��رابي: حس��بي حس��بي، مره��ا فل��ترجع إلى مكانها، فقال: )ارجعي إلى مكانك، وكوني كم��ا كنت(، ف��رجعت

)( رواه البخاري في التاريخ والترمذي وصححه وأبو يعلى وابن حبان.1

)( رواه الدارمي وابن حبان والحاكم وصححاه وقال الذهبي إسناده جيد.2

188

إلى حفرتها، فجلست على عروقها في الحفرة، فوقع كل ع��رق مكانه الذي كان فيه، ثم التأمت عليه��ا األرض، فق��ال األع��رابي: أتأذن لي يا رسول الله أن أقبل رأسك ورجليك، ففعل، ثم قال:

(1)أتأذن لي أن أسجد لك؟ فقال: )ال يسجد أحد ألحد(

فهذه الروايات، وغيرها كثير يدل على أنه كان في إمكان��ك � سيدي � أن ت��أتي باآلي��ات ال��تي طلبوه��ا، وال��تي ال تتن��افى م��ع الرسالة التي جئت بها.. ذلك أن ما طلبوه من التعجيل بع��ذابهم ال يفيدهم ش��يئا، ب��ل ه��و يتن��اقض م��ع م��ا جئت ب��ه من الرحم��ة

واللطف واللين. وقد ذكر القرآن الكريم � سيدي � نموذجا من اآلي��ات ال��تي

اعةكنت ت��أتيهم به��ا، لتثبت لهم ص��دقك، فق��ال: ��ربت الس��� اقتتمر )1وانشق� القمر ) ( وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مس��

تقر )2 �بعوا أهواءهم وكل أم��ر مس�� �بوا وات ( ولق��د ج��اءهم3( وكذ��اء م��ا في��ه مزدج��ر ) ذر 4من األنب ( حكم��ة بالغ��ة فم��ا تغن الن

[5 - 1]القمر: فهذه اآليات الكريمة تشير إلى تلك المعجزة الثابت��ة بأدل��ة ال تك��اد تحص��ى، وال��تي ت��واترت األخب��ار فيه��ا ب��أن المش��ركين سألوك أن تريهم عالمة تدل على صدق نبوت��ك، ف��أريتهم القم��ر شقين، وكان ذلك قب��ل الهج��رة بخمس س��نوات، ففي الح��ديث عن ابن عباس وغيره: اجتمع المشركون على عهد رس��ول الل��ه

منهم الوليد بن المغيرة وأبو جهل هشام والعاص��ي بن وائ��ل واألس��ود بن ح��بر يغ��وث واألس��ود بن عب��د المطلب والنض��ر بن

أن يريهم آية، وق��الوا:الحرث ونظراؤهم فسألوا رسول الله

)( رواه البزار وأبو نعيم.1

189

إن كنت صادقا فشق لنا القم��ر فرق��تين نص��فا على أبي ق��بيس : )اش��هدوا(، فنظ��رونصفا على قعيقعان؛ فق��ال رس��ول الل��ه

الكفار ثم مالوا بأبصارهم فمحوه��ا، ثم أع��ادوا النظ��ر، فنظ��روا، ثم مسحوا أعينهم، ثم نظروا فقالوا: سحر محم��د أعينن�ا، فق�ال بعض��هم لبعض: لئن ك��ان س��حرنا، فإن��ه ال يس��تطيع أن يس��حر الناس كلهم، فانظروا إلى السفار، فإن أخبروكم أنهم رأوا مث��ل ما رأيتم، فقد صدق، فك��انوا يلتق��ون ال��ركب، فيخ��برونهم، أنهم

. (1)رأوا مثل ما رأوا، فيكذبونهم

لقد ق��رأت ه��ذه الرواي��ات �� س��يدي ��� ألولئ��ك المش��اغبين أت لهم معه��ا م��ا ورد في الق��رآن الك��ريم منالمج��ادلين، وقر

الدالل��ة الواض��حة عليه��ا، وقلت لهم: تص��وروا ل��و أن ذل��ك لم يحص��ل ��� كم��ا ذك��ر الق��رآن الك��ريم ��� ألم يكن ذل��ك م��دعاة

)إن محم��دا يك��ذب علين��ا، فم�التكذيبهم، فما أسهل أن يقول�وا: انشق القمر، وال رأينا شيئا من ذلك(

وقلت لهم: ليس بالضرورة أن تشاهد جميع ق��ريش ذل��ك.. ألن إنكارهم لآلية بع��د المطالب��ة به��ا س��يؤدي إلى تع��ذيبهم كم��ا توعدهم الله تعالى بذلك.. وإنم��ا يك��ون ال��ذين ش��اهدوها أولئ��ك النفر المحدودين ال��ذين ط��البوا به��ا.. وق��د ن��زل عليهم الع��ذاب

بالفعل، ولو بعد حين. )( قال ابن عبد البر: قد روى هذا الحديث جماعة كبيرة من الصحابة، وروى ذلك1

عنهم أمثالهم من التابعين، ثم نقله عنهم الجم الغفير إلى أن انتهى إلينا، ويؤيد ذلك باآلية الكريمة، فلم يبق الستبعاد من استبعد وقوعه عذر، راجع هذه األحاديث ) فتح الباري

من36 باب 7/182، و 3638، 3637، 3636 من كتاب المناقب حديث 27 باب 6/631 من كتاب1 باب 617/ 8 و 3871 و 3870، 3869، 3868كتاب مناقب األنصار حديث

في كتاب145-17/143 وصحيح مسلم 68، 67، 66، 65، 4864التفسير حديث رقم في أبواب الفتن، ودالئل النبوة9/30صفة القيامة والجنة والنار، وسنن الترمذي

و وحدائق األنوار2/262، ودالئل النبوة للبيهقي 212-207 حديث 1/367لألصبهاني للشيباني والسيرة النبوية للذهبي والبداية والنهاية والشفا، والوفا. وغيره الكثير.

190

وقلت لهم، عندما طالبوا بال��دليل الحس��ي من القم��ر على ذلك: إن كون المعجزة معجزة يدل على ت��دخل الق��درة اإللهي��ة التي ال يعجزها شيء.. فلو شاء الله أن يشق أي ش��يء لش��قه، ثم أع��اده إلى خلقت��ه أول م��رة، وكأن��ه لم يحص��ل ل��ه ش��يء.. فالمطالبة بالدالئل شأن المحجوبين، ال ش��أن العلم��اء الع��ارفين

بقدرة ربهم المطلقة. وقد ذكر القرآن الك��ريم م��ا ه��و ف��وق ذل��ك مم��ا ال تطيق��ه العقول، فهل يمكنهم أن يس�لموا ل�ذلك، أم يج�ادلوا في��ه.. فق�د ذكر الله تعالى انشقاق البحر لموسى عليه السالم، وذكر تحول العصا إلى حية، وذكر إحياء الموتى.. بل ذكر ما ف��وق ذل��ك كل��ه

من خلق المسيح عليه السالم من الطين كهيئة الطير. بعد أن حدثتهم به��ذا كل��ه، علمت أن الس��بب في إنك��ارهم لكل تلك الروايات، وما يدل عليها من الق��رآن الك��ريم ه��و ذل��ك اإليمان الضعيف الذي جعلهم ال يثقون في ق��درة الل��ه المطلق��ة ال��تي ال يعجزه��ا ش��يء.. ول��و أنهم س��لموا له��ا، لس��لموا ل��ك،

ولسلموا لكل ما حصل على يديك من اآليات البينات. لقد قلت لهم � سيدي � إن كل تلك اآليات البينات ال تتنافى مع كون معجزتك الكبرى هي القرآن الكريم.. فهو الكتاب الذي

ال زال إعجازه نراه رأي العين، وفي كل المجاالت والتجليات. لقد راحوا � سيدي � يجادلون فيه أيض��ا.. ليس��قطوا الكث��ير من مظاهر إعجازة التي تتجلى في كل العص��ور.. فهم ينك��رون تلك الحقائق العلمية التي لم تكتشف إال بعد أن بذل البشر ك��ل جهودهم في الوصول إليها.. ليكون ذلك آية للعلماء.. وألهل هذا الجيل، كما كانت س�ائر أن�واع إعج�ازه آي�ات لألدب�اء والفالس��فة

191

والمفك�رين وغ�يرهم.. فك�ل ي�رى من إعج�ازه م�ا يتناس�ب م�عتخصصه.

لقد راحوا يجادلون فيه ساخرين من أولئ��ك ال��ذين يبحث��ون في مطابقة ما ذكره القرآن الكريم مع الحقائق العلمية، وال��تي قد يخطئون في بعض نواحيها.. لكن خطأهم ال عالقة له بالقرآن

الكريم، ذلك أنها اجتهادات مرتبطة بالفهم، ال بحقيقة التنزيل. لقد ذكرت لهم أن مثل � اإلعجاز القرآني � مث��ل دول��ة له��ا أسلحة متط��ورة كث��يرة لم تكش��ف عنه��ا ألع��دائها، فلم يعرف��وا أسرارها، وال أنواعها، وال أنواع الق��وة ال��تي تحمله��ا، فل��ذا كلم��ا قدم أعداؤها سالحا، كلما وجدوا عن��دها من األس��لحة م��ا يف��وق

ذلك السالح. ثم سألتهم: أذلك خير أم دولة ليس له��ا من الس��الح إال م��ا تسلح به سلفها، وليس لها من القوة إال ما ورثته، فأيهم��ا أق��وى

قوة؟ وقلت لهم: ال ش��ك أن الدول��ة األولى هي األق��وى.. وهي تشبه القرآن الكريم، فمن يقول بإطالق إعجازه يجعله كنزا من كنوز العجائب والمعجزات، ومن يقول بمحدوديته ال يراه إال كما ي��راه ذل��ك الب��دوي البس��يط.. ي��راه من خالل��ه عنزات��ه وناقت��ه

وخيمته. ثم ذكرت لهم أن هذا ليس كالمي وإنما القرآن الكريم ه��و الذي ذكر ذلك؛ فهو الذي وعد البشرية بأنه سيريها في مستقبل أيامها من اآليات في اآلفاق واألنفس ما يرون ب��ه الحق��ائق رأي

العين..

192

وتلوت على أسماعهم تلك اآليتين الكريمتين الل��تين تتنب��آن��ان منبهذه الحقيقة العظيم��ة، ق��ال تع��الى: ق��ل أرأيتم إن ك

قاق بعي��د ) �ه ثم� كفرتم به من أضل مم�ن ه��و في ش�� (52عند الل�ه الح��ق �ن لهم أن �ى يتبي سنريهم آياتنا في اآلفاق وفي أنفسهم حت

�ه على كل شيء شهيد ك أن [53، 52 ]فصلت: أولم يكف برب وقلت لهم: إن ه��ذه اآلي��ات الكريم��ة ال تتح��دث فق��ط عن معجزات اآلفاق واألنفس الدالة على الله، بل هي تتحدث أيضا � بحسب ما يدل السياق � على معجزات الله في اآلفاق واألنفس

الدالة على القرآن الكريم، وعلى صدقك. وذكرت لهم أن تلك اآليات ليست وحدها م��ا يع��د البش��رية بفيض المعج��زات ال��تي يختزنه��ا الق��رآن الك��ريم، ب��ل نج��د ه��ذا

��ر للع��المين )واض��حا في قول��ه تع��الى: (87 إن ه��و إال� ذك [، وهي واضحة في88،� 87 ]ص: (88ولتعلمن� نبأه بعد حين )

أن حقائق القرآن الكريم س��تتجلى في ك��ل العص��ور، بم��ا يكفي للداللة على كونه من عند الله، وكونك نبي الله، وقد ق��ال بعض المفسرين القدامى في ذلك: )وأولى األقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أعلم المشركين بهذا القرآن أنهم يعلمون نبأه بعد حين، من غير حد منه لذلك الحين بحد، وال حد عن��د الع��رب للحين ال يجاوز وال يقصر عنه، فإذا كان ذلك كذلك، فال قول فيه أصح من أن يطلق، كما أطلق��ه الل��ه، من غ��ير حص��ر ذل��ك على

(1)وقت دون وقت(

وقال آخر: )ومعج��زة الق��رآن مس��تمرة إلى ي��وم القيام��ة، وخرقه للعادة في أسلوبه، وفي بالغته، وإخب��اره بالمغيب��ات، فال

(244/ 21)( تفسير الطبري )1

193

يمر عصر من األعصار، إال ويظهر فيه ش��يء مم��ا أخ��بر ب��ه أن��ه سيكون؛ ي��دل على ص��حة دع��واه... فعم نفع��ه من حض��ر، ومن

(1)غاب، ومن وجد، ومن سيوجد(

لكنهم س���يدي أب���وا إال أن يحص���روا الق���رآن الك���ريم في مج��االت مح��دودة، ويس��خروا من ك��ل من يبحث في طالق��ة إعجازه بما آتاه الله من علم.. مع أن ذلك كان سببا في هدايات

عظيمة تحققت لمن آمن بذلك، واهتدى به. فيا س��يدي ي��ا رس��ول الل��ه.. ي��ا من آت��اك الل��ه المعج��زات الب��اهرات الواض��حات ال��تي ال ينكره��ا إال المك��ابرون الجاح��دون أسألك وأتوس��ل ب��ك إلى الل��ه أن تك��ون أنت معج��زتي الك��برى التي ال أحتاج معها إلى أي معج��زة.. ف��أنت كل��ك معج��زة.. ول��و أنهم اكتفوا بك، لوصلوا إلى اليقين الذي يقطع كل شك، والعلم

الذي ينفي كل وهم. وأس��ألك س��يدي وأتوس��ل ب��ك إلى الل��ه أن يجع��ل إيم��اني إيمان الموقنين الذين يثقون في قدرة ربهم المطلقة؛ فل��ذلك ال ينكرون شيئا من مظاهر قدرته، بل ي��رون ك��ل ش��يء من��ه وب��ه وله، ولذلك يسلمون لله في كل شيء، فكل ش��يء آي��ة ب��اهرة،

ومعجزة خارقة.

.7/ 9)( فتح الباري البن حجر: 1

194

المنبأ بالنبوءات سيدي يا رسول الله.. يا من عظم نصحه وحرصه؛ فتج��اوز حدود كل األمكن��ة.. وامت��د إلى ك��ل األزم��ة.. وس��رى إلى جمي��ع القض��ايا.. وتغلغ��ل في جمي��ع الش��ؤون.. فال يكتفي ب��ك أح��د إال كفي.. وال يقبل عليك إال ويجد عندك ولديك كل الحل��ول، ولك��ل

المشاكل، وفي كل األوقات. لقد كان أول ما أرق�ني وفت في عض�دي أني �� عن�د ت�دبر الق��رآن الك��ريم ��� علمت س��نة الل��ه تع��الى في األمم وأق��وام األنبياء، بعد وف��اة أنبي��ائهم، وأنهم يب��ذلون ك��ل جه�ودهم للتغي��ير��دنس ر دين الل��ه ب��األهواء، وي والتبديل والتحريف، فل��ذلك يحاص�� جماله بالشبهات، وتختلط األمور على الناس بعد أن أمتأل عسل دينهم بالس��م، وك��ل أن��واع األدواء، وذل��ك ليتحق��ق االختب��ار،

ويمحص التابعون الصادقون من المزورين والمحرفين. وق��د جعل��ني ه��ذا ��� وخش��ية على نفس��ي من الوق��وع في الضاللة � أقبل عليك، وأسألك عن حل هذه المعضلة، وكيف لي أن أتجاوز تلك التحريف��ات.. وكي��ف لي أن أظ��ل مع��ك، دون أن يجتذبني أولئك الذين صنعهم الش��يطان على عين��ه، ليخل��ط بهم

دين الله بدينه. وعندما عدت إلي��ك بع��د تل��ك المتاه��ة الطويل��ة ال��تي رأيت فيها كل أصناف األوهام والدعاوى والكذب.. وج��دت عن��دك ك��ل

شيء. فمن أراد أن يبحث عن سر تخل��ف األم��ة عن دينه��ا وج��ده عندك.. ومن أراد أن يعرف مظان التحريفات والتغييرات يجدك

195

قد ذكرتها في سنتك، وحذرت منه��ا في أحاديث��ك.. ومن أراد أن يعرف أئمة التحريف والتضليل وأدواتهم، وجدك قد س��بقت إلى ذك��رهم واإلش��ارة الص��ريحة إليهم.. ومن أراد أن يع��رف أئم��ة الهدى، وكيفية االس�تفادة منهم وج�دهم.. وهك��ذا لم ت�ترك لن��ا �

سيدي � شاردة وال واردة قد نحتاج إليها بعدك إال وأخبرتنا بها. ولذلك كانت نبوءاتك تتمة لنبوتك.. ومن جح��د نبوءات��ك، أو تكاسل في االهتمام بها، أو تفعيلها في حيات��ه، فس��يكون كال��ذي ألغى شطر نبوت��ك.. فلنبوت��ك ش��طران: ش��طر يرتب��ط بحيات��ك، والذي قد يتفق علي��ه الجمي��ع.. وش��طر يرتب��ط بم��ا ه��و بع�دك.. وهذا الذي وقع فيه التقصير فيمن ج��اء بع��دك، بع��د أن تس��ربت إليهم س��موم األه��واء، وس��رى إليهم م��ا س��رى إلى األمم قبلهم من الغفلة عن وصايا أنبيائهم، وإن ك��انوا ق��د أخ�ذوا ب��الكثير من

هديهم. لق��د ذك��ر أص��حابك المق��ربين اهتمام��ك به��ذا الج��انب من رسالتك، حتى تحمي األمة بعدك من كل ما يؤذيها، أو يش��وهها، وحتى يظل في دينك المتمس��كون الحقيقي��ون ب��ه، ال��ذين ي��أوي

إليهم الشاردون، ويهتدي بنورهم الضالون. لقد قال بعض أصحابك يذكر ذلك: )صلى بنا رسول الله

صالة الصبح، ثم صعد المنبر، فخطبنا ح��تى حض��رت الظه��ر، ثم ن��زل فص��لى العص��ر، ثم ص��عد المن��بر، فخطبن��ا ح��تى غ��ابت

(1)الشمس، فحدثنا بما كان وما هو كائن، فأعلمنا أحفظنا(

وقال آخر � وهو صاحبك حذيفة ذلك الذي كان مهتم��ا به��ذا الن��وع من العلم خش��ية على نفس��ه، وعلى أمت��ك ���: )ق��ام فين��ا

)( رواه مسلم.1

196

قائما، فما ترك شيئا يك��ون في مقام��ه ذل��ك إلىرسول الله قيام الساعة إال حدثه حفظه من حفظ��ه ونس��يه من نس��يه، ق��د علم��ه أص��حابي ه��ؤالء وإن��ه ليك��ون الش��يء ف��أذكره كم��ا ي��ذكر

(1)الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه ثم إذا رآه عرفه(

لقد رحت � سيدي � أبحث عن��د أص��حابك المق��ربين ال��ذين تعلموا منك هذه العلوم؛ فوجدت عندهم ك��ل ش��يء.. لق��د ك��ان تلمي��ذك األك��بر اإلم��ام علي يص��يح في أص��حابه طالب��ا منهم أن يتعلموا هذا العلم حتى يحفظوا لألمة كينونتها، فيقول: )س��لوني قبل أن تفقدوني، فو الذي نفسي! بي��ده ال تس��ألوني عن ش��يء فيما بينكم وبين الساعة، وال عن فئة تهدي مائة وتض��ل مائ��ة إال أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها، ومناخ ركابه��ا، ومح��ط رحاله��ا،

(2)ومن يقتل من أهلها قتال، ومن يموت منهم موتا(

لق��د ب��دأت نبوءات��ك ��� س��يدي ��� من الف��ترة ال��تي تلت��ك مباشرة.. تلك الفترة الخطيرة التي وص��فها الل��ه تع��الى، وح��ذر

لمنها، فقال: س�� ��ه الر ول ق��د خلت من قبل وم��ا محم�د إال� رس����ه أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبي

اكرين �ه الش��� يجزي الل يئا وس�� �ه ش�� ر� الل ]آل عم��ران:فلن يض��144]

)( رواه أبو داود.1

، وق��د روى الح��اكم في المس��تدرك ]رقم الح��ديث: )139:�� 1)( ش��رح األخب��ار 2 ([ عن عامر بن واثلة، قال: سمعت عليا قام، فقال: سلوني قبل أن تفقدوني، ولن3394

واتس��ألوا بع��دي مثلي، فق��ام ابن الك��واء فق��ال: من �ه كف��را وأحل ��د�لوا نعمت الل �ذين ب العيهم[؟، قال: منافقو قريش، قال: فمن 28 ]إبراهيم: قومهم دار البوار ل� س�� �ذين ض�� ال

�هم يحسنون صنعا [؟، ق��ال: منهم أه��ل104 ]الكه��ف: في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنحروراء(، قال الحاكم: هذا حديث صحيح عال.

197

لقد رأيتك � س��يدي ��� ت��ذكر ك��ل التفاص��يل المرتبط��ة بمن يص���دقون مع���ك، ويف���ون ل���ك، ول���دينك، وبين من يحرف���ون، ويغ��يرون، ويب��دلون.. ح��تى ال يؤس��س ال��دين إال على األس��س الصحيحة، والرج�ال األقوي��اء الص��الحين المح��افظين على ه��دي

النبوة. لقد وجدت في دواوين المحدثين الكثير من األحاديث ال��تي تخبر فيها أصحابك عن البالء الذين ينتظرهم، واالختب��ارات ال��تي سيقعون فيها، ويمحصون، وبينت لهم كيفية التعامل معها، ح��تى

ال تزيغ بهم األهواء. وبما أن الموق��ف من اإلم��ام علي ��� بس��بب قرابت��ه من��ك،

من تعلم تعرض��ه للظلموتلمذته الصادقة على يديك � كان أك��ثر بعدك؛ فقد نبهت إلى خطورة ذلك الظلم، وكونه غير متعلق ب��ه فق��ط، وإنم��ا يتعل��ق بال��دين جميع��ا.. ألن الن��اكثين والقاس��طين والمارقين والبغاة سيجعلون الحرب عليه وسيلة للحرب علي��ك،

وقد روي في الحديث عن بعض أصحابكوهذا ما تحقق بالفعل، ف��انقطعت نعل��ه، فتخل��ف عليق��ال: كن��ا م��ع رس��ول الل��ه

يخصفها، فمشى قليال ثم قال: )إن منكم من يقات��ل على تأوي��ل القرآن كما قاتلت على تنزيله(، فق��ال أب�و بك��ر: أن�ا، ق��ال: )ال(،

(1)قال عمر: أنا، قال: )ال ولكن خاصف النعل(

وفي حديث آخر عن صحابي آخر قال: )أمر رسول الله (2)عليا بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين(

)( رواه الحاكم وصححه والبيهقي.1

)( رواه الحاكم.2

198

وأخبر اإلمام علي عن نفسه قال: )إن مما عهد إلي الن��بي)(1) أن األمة ستغدر بي بعده

ولهذا كان اإلمام علي موقنا تمام��ا أن��ه لن يم��وت قب��ل أن يحصل له ما أخبرته عنه؛ فقد روي أنه لما مرض وه��و في ينب��ع ع��اده بعض الص��حابة والت��ابعين، وطلب��وا من��ه أن ينتق��ل إلى المدينة، حتى إذا حضر أجله وليه الصحابة وص��لوا علي��ه، أم��ا إذا مات في مكانه فال يحضره إال أع��راب جهين��ة، فأج��ابهم بقول��ه � بناء على ما ذكرته له من نب��وءات ���: )لك��ني والل��ه م��ا تخ��وفت

الصادق المصدوقعلى نفسي منه، ألني سمعت رسول الله يقول: )إنك ستضرب ضربة ههنا، ويكون ص��احبها أش��قاها، كم��ا

(2)كان عاقر الناقة أشقى ثمود(

وهكذا ورد في النبوءات تحذيرك ألم المؤمنين عائش��ة من أنها ستقع في فتنة خروجها في معرك��ة الجم��ل، فق��د روي أن��ك قلت لعلي: )إنه سيكون بينك وبين عائش��ة أم��ر(، ق��ال: )أن��ا ي��ا رسول الله؟(، فقلت: نعم.. فقال: فأنا أشقاهم يا رسول الل��ه؟

(3)فقلت: )ال.. ولكن إذا كان ذلك، فارددها إلى مأمنها(

بل إنك � سيدي � ذكرت العالمة التي س��تكون عن��د ظه��ور هذا الخالف، كما أشرت إلى الظ��رف ال��ذي س��تكون علي��ه تل��ك

)( رواه أبو يعلى والحاكم وصححه والبيهقي وأبو نعيم.1

)( رواه عبد بن حميد والبخاري في تاريخه وابن أبي عاصم والطبراني وأبو يعلى،2والحاكم وصححه، وحسنه الهيثمي.

)( رواه أحمد الطحاوي والبزار والطبراني، ورجاله ثقات، كما قال الحافظ3الهيثمي، وحسنه الحافظ ابن حجر.

199

األح��وال، فق��د روي عن عائش��ة أنه��ا لم��ا أتت على الح��وأب، يق��ول لن��ا:وسمعت نباح الكالب، قالت: سمعت رسول الل��ه

(1)()أيتكن تبنح عليها كالب الحوأب

ب��ل إن��ك ��� س��يدي ��� أخ��برت بدق��ة عم��ا يحص��ل في تل��ك المعرك��ة، فق��د روي أن��ك قلت مخاطب��ا نس��اءك: )ليت ش��عري أيتكن صاحبة الجمل األدبب، تخرج فينبحها كالب الحوأب، يقت��ل

(2)عن يمينها وعن يسارها قتلى كثير(

ب��ل إن حذيف��ة ح��دث عن ه��ذا م��ع أن��ه م��ات قب��ل مس��ير عائشة، فقد روي أنه قيل له: حدثنا ما سمعت من رس��ول الل��ه

قال: )لو فعلت لرجمتموني(، قلنا: س��بحان الل��ه! ق��ال: )ل��و حدثتكم أن بعض أمهاتكم تغزوكم في كتيبة تضربكم بالسيف ما صدقتموني(، قالوا: سبحان الله، ومن يصدقك بهذا قال: )أتتكم

، ق��ال ال��بيهقي، أخ��بر(3)الحمراء في كتيبة تسوق بها أعالجها(بهذا حذيفة ومات قبل مسير عائشة.

بل إنك � سيدي � أخ��برت بعض من س��ار م��ع عائش��ة على أنه سيقاتل عليا ظالما له، فعن أبي االسود قال: شهدت الزب��ير خرج يريد عليا، فقال له علي: أنشدك الله ه�ل س��معت رس�ول

يقول: )تقاتله وأنت له ظالم(، فقال: لم أذكر، ثم مضىالله

)( رواه أحمد وابن شيبة وأبو يعلى والبزار، وصححه ابن حبان والحاكم.1

)( رواه البزار والطحاوي، برجال ثقات، كما قال الحافظان الهيثمي وابن حجر.2

)( رواه الحاكم وصححه والبيهقي وأبو نعيم.3

200

. (1)الزبير منصرفا

وفي حديث آخر عن أبي جروة المازني قال: سمعت علي��ا يقول: إن��كيقول للزبير نشدتك بالله أما سمعت رسول الله .(2)تقاتلني وأنت ظالم لي؟ قال: بلى، ولكن نسيت

وفي حديث آخر عن قيس قال: قال علي للزبير: أما ت��ذكر : )أتحب��ه(، فقلت:يوم كنت أنا وأنت، فق��ال ل��ك رس��ول الل��ه

وما يمنعني، فقال: )أما إنك ستخرج عليه وتقاتله وأنت ظ��الم(،.(3)قال: فرجع الزبير

وهك��ذا أخ��برت عم��ارا بأن��ه س��يقتل ش��هيدا على ي��د الفئ��ة الباغي��ة ال��تي تح��رف دين��ك، وأن��ه سيص��بح عالم��ة أله��ل الح��ق، وسيصبح أعداؤه عالمة على أهل البغي إلى ي��وم القيام��ة، فق��د

: )إذا اختلف الن��اس ك��ان ابن س��ميةحدث الرواة عنك أنك قلت ، وقلت: )إن ابن سمية لم يخ��ير بين أم��رين ق��ط(4)مع الحق(

(5)إال اختار أرشدهما � يعنى عمارا فالزموا � سمته(

وقلت عن قريش، تلك التي حاربت��ك في حيات��ك، وح��اربت

)( رواه الحاكم وصححه والبيهقي.1

)( رواه أبو يعلى والحاكم والبيهقي وأبو نعيم.2

)( رواه الحاكم.3

)( رواه البيهقي في الدالئل.4

(.342)( وقعة صفين )ص: 5

201

دينك بعد موتك: )ولعت قريش بعمار.. ما لهم ولعم��ار ي��دعوهم (1)إلى الجنة ويدعونه إلى النار، قاتله وسالبه في النار(

بل إنك � سيدي ��� أخ��برت عم��ارا عن آخ��ر طع��ام يتناول��ه، فعن أبي البختري، أن عمار بن ياس��ر أتي بش��ربة لبن فض��حك،

قال لي: آخ��ر ش��راب أش��ربه لبن حينوقال: إن رسول الله .(2)أموت

وقد حص��ل م��ا أخ��برت عن��ه، وبدق��ة، فق��د ك��ان عم��ار في جيش اإلمام علي يوم ص��فين، وقتل��ه معاوي��ة وجيش��ه من أه��ل

الشام الذين خرجوا بغاة ظالمين. ولهذا كان عمار يذكر لمن يعوده في أمراضه أنه لن يموت فيها، بناء على تلك الوعود التي وعدت��ه به�ا.. فعن م��والة لعم��ار قالت: اشتكى عمار بن ياسر شكوى ثق��ل منه��ا، فغش��ي علي��ه، فأفاق، ونحن نبكي حوله قال: ما يبكيكم؟ أتحسبون أني أم��وت

أن��ه تقتل��ني الفئ��ةعلى فراشي، أخبرني حبيبي رس��ول الل��ه . (3)الباغية، وأنا آخر زادي مذقة من لبن

ب�البالء ال�ذين ينتظ�ره، وق�دوهكذا أخبرت أب�ا ذر الغف�اري شاهده أبو ذر رأي العين، فعن إبراهيم بن األشتر، أنه لما حضر الموت أب��ا ذر، وه��و بالرب��ذة فبكت امرأت��ه، فق��ال: م��ا يبكي��ك؟

(.342)( وقعة صفين )ص: 1

)( رواه أحمد، والحاكم.2

)(، وفي رواية: ضياح لبن، وفي لفظ: إن آخر زادك من الدنيا ضياح من لبن،3رواه الطبراني والبزار بإسناد حسن.

202

فقالت: أبكي أنه ال يد لي بنفسك، وليس عندي ث��وب يس��ع ل��ك يقول: )ليموتنكفنا، قال: ال تبكي، فإني سمعت رسول الله

رجل منكم بفالة من األرض تشهده عصابة من المؤمنين(، قال: فكل من كان معه في ذل��ك المجلس م��ات في جماع��ة وقري��ة، ولم يب��ق منهم غ��يري، وق��د أص��بحت ب��الفالة أم��وت، فراق��بي�ذبت وال الطريق فإنك سوف ترين م�ا أق�ول، ف�إني والل�ه م�ا ك��ذبت، ق��الت: وأنى ذل��ك وق��د انقط��ع الح��اج، ق��ال: راق��بي ك الطريق، قال: فبينا هي كذلك إذا هي بالقوم تخب بهم رواحلهم كأنهم الرخم، فأقبل القوم حتى وقف��وا عليه��ا فق��الوا: م��ا ل��ك؟ فقالت: أمرؤ من المسلمين تكفنوه وتؤجرون في��ه، ق��الوا: ومن هو؟ قالت: أبو ذر، ففدوه بآب��ائهم وأمه��اتهم ووض��عوا س��ياطهم في محورها يبتدرونه، فق��ال: أبش��روا، ف��أنتم النف��ر ال��ذين ق��ال

فيكم ما قال، ثم أصبحت اليوم حيث ت�رون، ول�ورسول الله أن لي ثوبا من أثوابي يسع ألكفن فيه، فأنشدكم بالله ال يكف��ني رجل منكم كان عريفا أو أميرا أو بريدا، فكل القوم قد ن��ال من ذلك شيئا إال فتى من األنصار كان مع القوم، قال: أن��ا ص��احبك، ثوبان في عيبتي من غ�زل أمي وأح�د ث�وبي ه�ذين ال��ذين علي، قال: أنت ص��احبي، فكفن��ه األنص��اري في النف��ر ال��ذين ش��هدوه

.(1)منهم حجر بن األدبر ومالك األشتر في نفر كلهم يمان

وعن القرظي، قال: خرج أبو ذر إلى الربذة فأصابه ق��دره، فأوص���اهم أن غس���لوني وكفن���وني، ثم ض���عوني على قارع���ة الطريق، ف��أول ركب يم��رون بكم فقول��وا: ه��ذا أب��و ذر ص��احب

فأعينونا على غسله ودفنه ففعل��وا.. فأقب��ل عب��درسول الله الله بن مسعود في ركب من العراق، وقد وضعت الجن��ازة على

)( رواه أحمد من طريقتين أحدهما هذه، واألخرى مختصرة عن إبراهيم بن1األشتر عن أم ذر، ورجال الطريق األولى رجال الصحيح ورواه البزار بنحوه باختصار.

203

قارع��ة الطري��ق، فق��ام علي��ه غالم، فق��ال: ه��ذا أب��و ذر ص��احب قال: فبكى عب��د الل��ه بن مس��عود ق��ال: س��معترسول الله يق��ول: )تمش��ي وح��دك، وتم��وت وح��دك، وتبعثرسول الله

(1)وحدك(

وهكذا أخ��برت عن أولئ��ك الظلم��ة ال��ذين يحرف��ون دين��ك، ويحولونه من دين العدالة إلى دين االس��تبداد.. ومن دين العق��ل إلى دين الخرافة.. بل إنك لم تترك ش��يئا يتعل��ق بهم إال ذكرت��ه،

)خذوا العط��اء م��اوحذرت منه.. ومن تحذيراتك في ذلك قولك: دام عط��اء، ف��إذا ص��ار رش��وة على ال��دين فال تأخ��ذوه، ولس��تم بتاركي��ه؛ يمنعكم الفق��ر والحاج��ة، أال إن رحى اإلس��الم دائ��رة، ف���دوروا م���ع الكت���اب حيث دار، أال إن الكت���اب والس���لطان س��يفترقان فال تف��ارقوا الكت��اب، أال إن��ه س��يكون عليكم أم��راء يقض��ون ألنفس��هم م��ا ال يقض��ون، إن عص��يتموهم قتل��وكم، وإن أطعتموهم أضلوكم(، فق�الوا �� عن�دما س�معوا ذل�ك من�ك ��: ي�ا رسول الله كيف نصنع؟ فقلت: )كما ص��نع أص��حاب عيس��ى ابن مريم نشروا بالمناشير وحملوا على الخش��ب. م��وت في طاع��ة

(2 )الله خير من حياة في معصية الله(

وقد ذكرت ��� س��يدي ��� خوف��ك على م��ا يحص��ل بع��دك من تسلط األئمة الظلمة، ومن يعينهم من علماء السالطين، فقلت:

(3))إنما أخاف على أمتي األئمة المضلون(

)( رواه احمد وإسحاق.1

)( رواه احمد بن منيع برجال ثقات وإسحاق.2

)( رواه احمد برجال ثقات.3

204

وق��د نبهت أمت��ك إلى كيفي��ة التعام��ل م��ع ه��ؤالء األم��راء المستبدين، فقلت: )اس��معوا، ه��ل س��معتم أن��ه س��يكون بع��دي أمراء فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم، وأع��انهم على ظلمهم فليس م��ني ولس��ت من��ه، وليس ب��وارد علي الح��وض، ومن لم يدخل عليهم ولم يعنهم على ظلمهم ولم يصدقهم بكذبهم، فه��و

(1)مني وأنا منه، وهو وارد علي الحوض(

ولم تكتف � سيدي � بتلك التحذيرات العام��ة، ب��ل ض��ممت إليها الكثير من اإلشارات بل التصريحات ال��تي ت��دل على من��ابع الفتن ومص���ادرها، ومن ذل���ك ح���ديثك عمن س���يتولى ش���ؤون المسلمين من الصبية المراهقين، وما سيحصل على أيديهم من

(2)فساد وإفساد، فقلت: )هلكة أمتي على يدي غلمة(

وقد وقع س��يدي بدق��ة م��ا ذك��رت حيث أص��بح المراهق��ون والصبية هم الذين يتولون أمور المس�لمين، ويعيث��ون في األرض

فسادا، فشوهوا دينك تشويها عظيما. وهك��ذا أخ��برت ��� س��يدي ��� عم��ا يلح��ق بأه��ل بيت��ك من المظالم، ومن يتولى ذلك في أحاديث كث��يرة، منه��ا قول��ك: )ان أهل بيتي سيلقون من بعدي من أم��تي قتال وتش�ريدا، وان أش��د

(3)قومنا لنا بغضا بنو أمية وبنو المغيرة وبنو مخزوم(

)( رواه الترمذي وقال: صحيح غريب وابن حبان والنسائي.1

)( رواه أحمد، ورواه البخاري بنحوه عن أبي هريرة، واألحاديث في هذا كثيرة2جدا وهي موجودة في كتب دالئل النبوة.

)( رواه ابن عساكر ونعيم بن حماد في الفتن، والحاكم.3

205

وأخبرت عم��ا سيحص��ل لس��بطك س��يد ش��باب أه��ل الجن��ة اإلمام الحس��ين، فقلت: )إن جبري��ل أخ��برني أن اب��ني الحس��ين

، وقلت: )إن جبريل كان معن��ا(1)يقتل، وهذه تربة تلك االرض( في البيت، فقال: اتحبه؟، فقلت: أما في ال��دنيا فنعم؟ ق��ال: إن أمتك ستقتل هذا بأرض، يق��ال له��ا: ك��ربالء، فتن��اول جبري��ل من

، وقلت: )إن جبريل أخ��برني أن اب��ني ه��ذا �(2)تربتها، فأرانيه( (3)يعني الحسين � يقتل، وأنه اشتد غضب الله على من يقتله(

ولم تكتف بكل ذلك � سيدي � بل ذكرت الفترات التي تمر بها األمة، والمفاسد التي تعترضها في طريقها.. والمواضع ال��تي تظهر فيها الفتن.. وكيفية النجاة منها.. وكان في ذلك كله كفاية لكل من يريد أن يميز بين الحق والباط��ل، وبين دين��ك األص��يل،

والدين الجديد الذي ابتدعه المحرفون. لقد رحت � سيدي � بعد اطالعي على تل��ك النب��وءات ال��تي تركتها لنا، والتي تمس جميع جوانب الحياة، وفي جميع العصور، وقارنت صدقها بما ورد من النبوءات المحدودة من أولئك الذين

اعتبرهم البشر عباقرة وأبطاال، فوجدت البون الشاسع. فك��ل نبوءات��ك م��ع تفاص��يلها الدقيق��ة ص��دقت، ودل عليه��ا التاريخ والواقع.. وك��ل نب��وءاتهم فض��حتها األي��ام، وبينت تهافته��ا

وضاللها وكذب أصحابها.

)( رواه الخليل في اإلرشاد.1

)( رواه الطبراني.2

)( رواه ابن عساكر.3

206

لقد ذكر المؤرخون أن نابليون بونابرت، ذلك الذي ك��ان وال يزال يعد من أعظم قواد الجيوش في عصره، ذلك ال��ذي ت��وهم أنه سيحيي بطوالت اإلسكندر المقدوني وفتوحات��ه.. ذل��ك ال��ذي توهم أنه أصبح مالك القدر، وادعي أنه لم يكتب في ق��دره غ��ير الغلبة الكاملة على جميع أهل األرض.. لكن ك��ل تل��ك النب��وءات المغ��رورة أص��ابها م��ا أص��اب نب��وءات جمي��ع الم��دعين، فتل��ك الجحافل العظيمة التي أعدها هزمت شر هزيم��ة.. وعن��دما علم نابليون بمصيره المحتوم فر هاربا من القيادة الفرنسية متوجه��ا إلى أمريك��ا، ولم يك��د يص��ل إلى الش��اطئ، ح��تى ألقت ش��رطة السواحل القبض عليه وأرغمته على ركوب سفينة تابعة للبحرية البريطاني��ة، وانتهي ب��ه الق��در إلي أن أرس��ل إلي جزي��رة غ��ير معمورة بجنوب األطلنطي، ومات ذلك القائد المغ��رور في تل��ك الجزيرة بعد سنوات طويلة من البؤس والش��قاء، يتج��رع ك��أس

الندم، بعد أن جرع جيوشه كأس الخديعة. وهذا ما حصل للبي��ان الش��يوعي ال��ذي تنب��أ ب��أن أول البالد التي ستقود الث��ورة الش��يوعية هي )ألماني��ا(، ولكن ألماني��ا على الرغم من مضي العقود الكثيرة من تلك النبوءة عليه��ا، ال ت��زال

أبعد الناس عن مثل تلك الثورة.. وهذا ما حصل لكارل ماركس ��� ذل��ك ال��ذي يعت��بره الكث��ير إلههم الذي ال يخطئ � فقد كتب يقول: )إن الجمهورية الحم��راء ت��بزغ في س��ماء ب��اريس(، لكن ذل��ك، ورغم م��رور تل��ك الف��ترة

الطويلة لم يحصل.. ولن يحصل. وهذا ما حص��ل ألدول��ف هتل��ر في خطاب��ه ال��ذي ألق��اه بين قومه يقول لهم فيه: )إنني سائر في طريقي، واثقا تم��ام الثق��ة بأن الغلب��ة والنص��ر ق��د كتب��ا لي(، وق��د ع��رف الع��الم أجم��ع أن

207

الهزيمة هي التي كتبت لهتلر وليس النصر. وهكذا كذبت كل النبوءات.. إال نبوءاتك � سيدي � والتي لم

تزدها األيام إال صدقا.. وبكل تفاصيلها. فأسألك � يا سيدي يا رسول الل��ه ��� وأتوس��ل ب��ك إلى ربي أن يجعلني من المطبقين لوصاياك، المعتصمين به��ديك.. ال��ذين

لم يبدلوا ولم يغيروا ولم يحرفوا.. وأسألك أن أكون من الذين استفادوا من نبوءاتك، وعاشوا معها، وحذروا مما حذرتهم منه، وعمل��وا بم��ا أوص��يتهم ب��ه.. وأال تأخذني في ذلك لومة الئم.. إنك وسيلة الله العظمى، وص��احب

الجاه العظيم.

208

مجاب الدعوات سيدي يا رسول الله.. ي��ا ص��احب الج��اه العظيم، والمق��ام الرفيع الذي ال ترد معه الدعوات.. وال تص��د عن��ه الحاج��ات.. وال

تقف دونه الحجب. لقد بلغ قربك من الله تعالى إلى الدرجة التي ال تدعو فيه��ا بدعاء إال اس��تجيب ل��ك، وال تتم��نى أمني��ة إال تحققت، وال ت��رغب في شيء إال كان بين يديك؛ فلذلك كنت وس��يلة الص��ادقين إلى

ربهم.. لعلمهم أن دعاءك لهم أقرب من دعائهم ألنفسهم. وكيف يكون دعاؤهم ألنفسهم أقرب إلى الل��ه من دعائ��ك،

ول بينكموقد قال الله تعالى عن دعائك: س�� ال تجعلوا دعاء الر� (1)[63 ]النور: كدعاء بعضكم بعضا

وكيف يكون دعاؤهم أقرب إلى الله، وأنت ال��ذي ق��ال ل��ك�هرب��ك: تغفروا الل هم ج��اءوك فاس�� �هم إذ ظلم��وا أنفس�� ��و أن ول

�ه تو�ابا رحيما سول لوجدوا الل [،64 ]النس��اء: واستغفر لهم الر� وقد كان يمكن أن ي��دعوهم إلى االس��تغفار بأنفس��هم ألنفس��هم، لكن���ه طلب منهم الع��ودة إلي���ك، فاس���تغفارك لهم أج��دى من

استغفارهم ألنفسهم. ولذلك كنت ��� س��يدي ��� ملج��أ الس��ائلين في حيات��ك، وبع��د وفات��ك.. فك��ل من احت��اج حاج��ة لج��أ إلي��ك، وطلب دع��اءك، أو

/6)( هذا أحد األقوال التي فس��رت به��ا اآلي��ة، فق��د ق��ال ابن كث��ير في تفس��يره )1 (: أي: ال تعتقدوا أن دعاءه على غيره كدعاء غيره، فإن دعاءه مس�تجاب، فاح�ذروا أن89

يدعو عليكم فتهلك��وا. حك��اه ابن أبي ح��اتم، عن ابن عب��اس، والحس��ن البص��ري، وعطي��ةالعوفي، والله أعلم.

209

توسل إلى الله بدعائك، أو توسل إلى الله بجاهك، أو لج��أ إلي��ك أن ت��دعو ل��ه.. إال أولئ��ك المحج��وبين ال��ذين توهم��وا أن الم��وت قضى عليك، وأنه لم يع��د ل��ك من األم��ر ش��يء، وأن قرب��ك من الله لن يتيح لك أن تلجأ إليه إلغاث�ة من طلب الغ�وث، أو إج�ارة من طلب اإلج��ارة، أو إجاب��ة من طلب ش��يئا من ش��ؤون ال��دنيا واآلخ���رة.. وك���ل ذل���ك لك���ونهم حجب���وا بأنفس���هم وأه���وائهم ووساوس�هم عن��ك، وإال ف��إنهم ل�و ترك�وا تل��ك الحجب ل�رأوك ال تزال مستقرا على العرش الذي بوأك الله إياه، وأنزل��ك في��ه، ال

ترد من سألك، وال يحجب عنك من طلبك. ولو أنهم فعلوا ذلك.. لعاشوا معك مثلم��ا ع��اش ص��حابتك، يطلبونك في كل ملمة، ويلجئون إليك عند كل حاج��ة.. فيج��دون

عندك كل ما يطلبون، وفوق ما يطلبون. اسمح لي � سيدي � أن أشنف قلبي بذكر بعض تلك األخبار الجميلة التي نقلها لنا الرواة عنك، والتي ت��دل على تك��ريم الل��ه لك بإجاب�ة ال�دعاء، وفي ك�ل المناس��بات، ولك��ل الحاج�ات.. فال يخيب من لج��أ إلي��ك، وال ي��رد ص��فر الي��دين من م��د ي��ده إلى

حضرتك. فمن تلك األخبار ما يرتبط بلج��وء المرض��ى إلي��ك، بع��د أن علموا أنك طبيبهم، وأن كل من دخل عيادتك، شفي مهم��ا ك��ان مرضه، ومن غ��ير معان��اة، وبغ��ير أدوي��ة.. فق��د وردت الرواي��ات الكثيرة تخبر بذلك عنك، وبأسانيد كثيرة متواترة، ال يشكك فيه��ا

إال جاحد. ومن تل��ك الرواي��ات م��ا روي في إبرائ��ك األعمى واألرم��د ومن فقئت عينه، وغيرهم.. فقد روي أنك سألت ي��وم خي��بر عن

210

اإلمام علي، فقيل ل�ك: ي�ا رس�ول الل�ه، يش�تكي عيني��ه، فقلت: )فأرسلوا إليه(، فأتي به فنفثت في عينيه، ثم دعوت له، ف��برئ،

.(1)حتى كأنه لم يكن به وجع، ثم أعطيته الراية

ومن تلك الرواي��ات م��ا روي عن ح��بيب بن ف��ديك أن أب��اه خرج به إليك، وعيناه مبيضتان ال يبصر بهما ش��يئا، فس��ألته: )م��ا أصابك؟( فقال: وقعت رجلي على بيض��ة حي��ة فأص��يب بص��ري، فنفثت في عينيه، ودعوت له، فأبصر، حتى أنه صار � كم��ا ي��ذكر الراوي عنه � يدخل الخيط في اإلبرة، وإن��ه البن الثم��انين س��نة،

.(2)وإن عينيه لمبيضتان

ومن تلك الروايات م��ا روي أن قت��ادة بن النعم��ان أص��يبت عينه يوم أحد، فسالت حدقته على وجنته، فأرادوا أن يقطعوه�ا، ثم ب���دا لهم أن يستش���يروك، فقلت: )ال تقطعوه���ا(، ثم رفعت حدقته، ثم غمزتها براحتك الشريفة، وأنت تقول: )اللهم اكس��به جماال(، فكانت � كما يذكر الرواة �� أص�ح عيني��ه وأحس�نهما، ب�ل

.(3)كان ال يدري أي عينيه أصيبت

ومن تلك الروايات م��ا روي عن رفاع��ة بن راف��ع بن مال��ك قال: رميت بسهم ي�وم ب�در، ففقئت عي��ني، فنفث فيه�ا رس�ول

)( رواه البخاري ومسلم.1

)( رواه ابن أبي شيبة والبيهقي وأبو نعيم.2

)( رواه أبو يعلى والبيهقي وابن سعد وأبو نعيم.3

211

.(1) ودعا لي، فما آذاني منها شيءالله

ومن ومن تلك الروايات ما روي في إبرائك األبكم والرت��ة، أمثلتها م��ا روي أن ام��رأة جاءت��ك بص��بي ق��د ش��ب، فق�الت: ي��ا رسول الله ان ابني هذا لم يتكلم من��ذ ول��د، فقلت ل��ه مخاطب��ا:

، ثم ص��ار يتح��دث من(2))من أن��ا؟( ق��ال: )أنت رس��ول الل��ه(حينها.

ومنها ما روي عن بشير بن عقربة الجهني قال: أتى عقربة فقال: )من هذا معك، يا عقربة؟( قال: ابني بحيررسول الله

قال: )ادن( فدنوت حتى قعدت عن يمين��ه، فمس��ح على رأس��ي بيده، فقال: )ما اسمك؟( قلت: بحير ي��ا رس��ول الل��ه، ق��ال: )ال،

ولكن اسمك بشير( وك��انت في لس��اني عق��دة، فنفث الن��بي في في، فانحلت من لساني وأبيض كل شيء من رأسي ما خال

(3)ما وضع يده عليه فكان أسود(

أن خموس بن معدي كرب، قyال: اي رسyول هللا، ادع هللا أن يyذهب عyينومنها ما روي .(4)الرتة، فدعا له، فذهبت

ومن تلك الرواي��ات م��ا روي في إبرائ��ك للقرح��ة والس��لعة والحرارة، ومنها ما روي أن��ك أتيت برج��ل في رجل��ه قرح��ة ق��د

)( رواه الحاكم والبيهقي وأبو نعيم بسند جيد.1

)( رواه البيهقي.2

)( رواه اسحاق بن ابراهيم الرملي في فوائده.3

)( رواه ابن سعد عن عكرمة والزهري وعاصم بن عمرو بن قتادة مرسال.4

212

أعي��ا األطب��اء عالجه��ا، فوض��عت أص��بعه على ريق��ه، ثم رفعت طرف الخنصر، فوضعتها على التراب، ثم رفعتها، فوضعتها على القرحة، ثم قلت: )باسمك اللهم ريق بعضنا بتربة أرضنا ليشفى

(1)سقيمنا باذن ربنا(

وقد قال(2)ومنها ما روي أنك أتيت برجل في كفه سلعة لك: )يا رسول الله ه��ذه الس��لعة ق��د آذت��ني وتح��ول بي��ني وبين قائم السيف أن أقبض عليه، وعنان الدابة(، فنفثت في كفه، ثم

.(3 )وضعت كفك الشريفة على السلعة، فما بقي لها أثر

وغيره��ا من الرواي��ات الكث��يرة المت��واترة ال��تي ت��دل على إجابة الله لدعائك، وفي ش��فاء جمي��ع األم��راض، مهم��ا اش��تدت وصعبت.. وكيف يش��تد على الل��ه أو يص��عب علي��ه م��رض، وه��و

الشافي الذي خلق المرض والدواء؟ ومن تل��ك الحاج��ات ال��تي ك��ان أص��حابك يقص��دونك فيه��ا،

الحاج��ات المرتب��ةوخاص��ة في تل��ك البيئ��ة الص��حراوية الجاف��ة، ومم��ا روي في ذل��كباالستسقاء وطلب الماء، ونزول األمط��ار،

أن رجال دخل المسجد يوم جمعة، وأنت قائم تخطب، فاستقبلك قائما، ثم قال: )يا رسول الله هلكت األموال، وانقطعت السبل، فادع الله يغثنا(، فرفعت يديك، ثم قلت: )اللهم أغثنا اللهم أغثن��ا اللهم أغثنا(.. قال الراوي، يصف م��ا حص��ل بع��د دعائ��ك وقبل��ه:

)( رواه البيهقي.1

)( السلعة:الغدة تكون في العنق.2

)( رواه البخاري في التاريخ والطبراني والبيهقي.3

213

)وال والله ما نرى في الس�ماء من س��حاب وال قزع�ة، وم�ا بينن�ا وبين س���لع من بيت وال دار، فطلعت من ورائ���ه س���حابة مث���ل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت، فال والله ما

رأينا الشمس سبتا( ثم ذكر أنه دخل رجل من ذلك الب��اب في الجمع��ة المقبل��ة

فاستقبلك قائما، فقال: يا رسول الله هلكتوأنت قائم تخطب، األموال وانقطعت السبل، فادع الله يمسكها عنا، فرفعت يديك، ثم قلت: )اللهم حولن��ا وال علين��ا اللهم على اآلك��ام، والظ��راب ومنابت الش�جر(، ق�ال ال�راوي: )ف�انقلعت وخرجن�ا نمش�ي في

(1)الشمس(

ومن تل��ك الرواي��ات م��ا ح��دث ب��ه بعض ص��حابتك، من أن أعرابيا جاءك، فقال: يا رسول الله، لقد أتيناك وما لنا بعير يئط،

وال صبي يصيح وأنشد: أتيناك والعذراء يدمى

لبانها وقد شغلت أم الصبي

عن الطفل وألقى بكفيه الصبياستكانة

من الجوع ضعفا ما يمروما يحلي وال شئ مما يأكل الناس

عندنا سوى الحنظل القامي والعلهز

الغسل وأين فرار الناس إالوليس لنا إال إليك فرارنا فقمت حتى صعدت المنبر، ثم رفعت ي��ديك، فقلت: )اللهمإلى الرسل

اسقنا غيثا مغيثا مريئا مريعا غدقا طبق��ا ع��اجال غ��ير رائث نافع��ا غير ضار تمال به الضرع وتنبت به ال��زرع وتح��يي ب��ه االرض بع��د

موتها وكذلك تخرجون(

)( رواه البخاري ومسلم.1

214

قال الراوي يصف ما حدث: )فوالله ما رد يدي��ه إلى نح��ره حتى ألقت السماء بأردافه��ا، وج��اء أه��ل الوطاب��ة يض��جون: )ي��ا رس��ول الل��ه الغ��رق(.. حينه��ا رفعت ي��ديك إلى الس��ماء، وقلت: )اللهم حوالين���ا وال علين���ا(، فانج���اب الس���حاب من المدين���ة، فضحكت سيدي حتى بدت نواجذك، ثم قلت تذكر عمك الص��الح أب��ا ط��الب: )لل��ه در أبي ط��الب ل��و ك��ان حي��ا ق��رت عين��اه(

،وأنت تقصد بذلك قوله فيك:(1)

وأبيض يستسقىالغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة ولم يكن ذلك � سيدي � مقصورا على حادثة أو اثن��تين، ب��للألرامل

كان يحدث كثيرا، وقد ق��الت الربي��ع بنت مع��وذ بن عف��راء: بين��ا في بعض أسفاره إذا احتاج الن��اس إلىنحن عند رسول الله

الماء، فالتمسوا في الركب ماء، فلم يجدوا، ف��دعا رس��ول الل��ه(2) فأمطرت حتى استقى الناس وسقوا.

وروي أن وفد سالمان قدموا في شوال سنة عش��ر، فقلت لهم: )كيف البالد عندكم؟( قالوا: مجدبة، ف��ادع الل��ه أن يس��قينا

: )اللهم اسقهم الغيث في بالدهم( فق��الوا:في أوطاننا، فقال يا رسول الله ارفع يديك، فإنه أكثر وأطيب.. فتبس��مت، ورفعت يديك حتى بدا بياض إبطيك، ثم رجعوا إلى بالدهم، فوجدوها ق��د

.(3)مطرت في اليوم الذي دعوت فيه، وفي تلك الساعة

)( رواه البيهقي وابن عساكر.1

)( رواه أبو نعيم.2

)( رواه أبو نعيم.3

215

ومن تل��ك الحاج��ات ال��تي ك��ان أص��حابك يقص��دونك فيه��ا، وخاصة الفقراء منهم، حاجتهم إلى المطعم، وقد كنت � سيدي � تلبي حاجتهم، وتدعو الله لهم، فيغدق عليهم بمج��رد دعائ��ك من

كل ما يحتاجون من الرزق.. ومما يروى في ذل�ك، م��ا ح��دث ب��ه بعض أه��ل الص��فة من الفقراء، أنهم بعد صومهم، لم يجدوا ما يفطرون به، ولم يج��دوا من ي���دعوهم إلى طعام���ه، لش���دة الفاق���ة، ف���انطلقوا إلي���ك، فأخبروك، ولم يكن في بيتك شيء، فقلت لهم: )ف��اجتمعوا(، ثم دعوت لهم قائال: )اللهم إني أسألك من فضلك ورحمت��ك، فإنه��ا

بيدك ال يملكها أحد غيرك( قال الراوي: )فلم يكن إال ومس��تأذن يس��تأذن، ف��إذا بش��اة

، فوض��عت بين أي��دينا،مصلية ورغف، ف��أمر به��ا رس��ول الل��ه : )إن��ا س��ألنا الل��ه منفأكلنا حتى شبعنا، فقال لنا رسول الله

(1)فضله ورحمته، فهذا فضله، وقد ادخر لنا عنده رحمته(

لكنك مع ذلك � سيدي � ولشدة زه��دك في ال��دنيا، لم تكن تدعو لنفسك بمثل تلك الدعوات، بل كنت تق��ول: )اللهم اجع��ل

(2)رزق آل محمد قوتا(

وقد أجاب الله دعاءك، فقد كان رزقك ورزق أهلك الق��وت في أكثر األحيان ال يجاوزونه، وكنت تعل��ل ذل�ك بقول��ك: )م�ا لي وللدنيا! ما أنا في الدنيا إال كراكب استظل تحت ش��جرة ثم راح

)( رواه البيهقي في الدالئل، ورواه الطبراني وإسناده حسن.1

)( رواه مسلم.2

216

(1)وتركها(

ومن تل��ك الحاج��ات ال��تي ك��ان أص��حابك يقص��دونك فيه��ا، طلب��اتهم للت��أمين من بعض المخ��اوف ال��تي ك��انت تع��تريهم، وخاصة في تلك البيئة التي اجتمع فيها رؤوس النفاق مع رؤوس الش��رك واليهودي��ة، ومم��ا ي��روى في ذل��ك أن رجال أت��اك يش��كو الوحشة، فقلت له: )أكثر من أن تقول: سبحان الملك الق��دوس رب المالئك����ة وال����روح جللت الس����موات واألرض ب����العزة

.(2)والجبروت(، فقالها الرجل، فذهبت عنه الوحشة والخوف

ولم تتوقف طلباتهم � سيدي � عند تلك الطلبات.. ب��ل إنهم كانوا يدعونك حتى في شؤونهم الخاصة، ومن ذلك ما حدث ب��ه جابر أن امرأة كان بينها وبين زوجها خصومة، فأتيا إليك، فقالت المرأة: ه��ذا زوجي، وال��ذي بعث��ك ب��الحق، م��ا في األرض أبغض إلي منه، وقال اآلخر: هذه امرأتي، وال��ذي بعث��ك ب��الحق م��ا في األرض أبغض إلي منها، فأمرتهما أن يدنوا إليه، ثم دعوت لهم��ا، فلم يفترقا من عندك حتى قالت المرأة: والذي بعثك بالحق م��ا خلق الله شيئا أحب إلي منه، وقال الرجل: والذي بعثك ب��الحق،

.(3)ما خلق الله شيئا أحب إلي منها

وك��ان بعض��هم يطلب من��ك ال��دعاء ل��ه بالبرك��ة، فك��انت دعواتك تستجاب، وبصورة لم يكونوا يتوقعونها، ومما ي��روى في

رمذي وقال: حديث حسن صحيح.1 )( الت

)( رواه ابن السني.2

)( رواه الطبراني برجال الصحيح غير مقداد بن داود.3

217

ذلك ما حدث به أنس بن مالك ق��ال: ج��اءت أم س��ليم، وهي أم وقد أزرتني بخماره��ا، ورد�ت��ني ببعض��ه،أنس إلى رسول الله

فقالت: يا رسول الله هذا أنيس أتيتك به يخدمك فادع الل��ه ل��ه، قال: اللهم أكثر ماله وولده.. وفي لفظ: اللهم أكثر ماله وول��ده

.. (1)وأطل عمره واغفر له

وقد ذكر أنس استجابة الله لدعائك له، فقال: )فو الل��ه إن مالي لكثير، وإن ولدي وول�د ول�دي يتع��ادون على نح��و المائ��ة.. وحدثتني ابنتي أمينة أنه قد دفن من ص��لبي إلى مق��دم الحج��اج البصرة تسعة وعشرين ومائ�ة.. وإن ثم�رتي لتحم�ل في الس��نة مرتين، ولقد بقيت حتى سئمت الحي��اة، وأرج��و الرابع��ة.. وك��ان لي بستان يحمل في السنة الفاكهة م��رتين، وك��ان فيه��ا ريح��ان

(2)يجيء منها ريح المسك(

ويروى أنك دعوت للسائب بن يزي��د، ومس��حت بي��دك على رأسه، فط��ال عم��ره ح��تى بل��غ أربع��ا وتس��عين س��نة، وه��و ت��امع القامة معتدل، ولم يشب منه الموضع الذي أص��ابته ي��دك، ومت

. (3)بحواسه وقواه

وذكر الجعد بن عبد ال��رحمن بن ع��وف أث��ر ه��ذه ال��دعوة، فقال: )مات السائب ابن يزيد وهو ابن أربع وتسعين سنة، وكان جلدا معت��دال، وق��ال: لق�د علمت م�ا متعت بس��معي وبص��ري إال

)( رواه البخاري في الدعوات.1

)( رواه الترمذي وغيره، وقال: حديث حسن.2

)( رواه البخاري كتاب المناقب، ومسلم في الفضائل.3

218

) (1)بدعاء النبي

الب��ارقي بالبرك��ة في بيع��ه،ويروى أن��ك دع��وت لع��روة بن ، وروي عنه قوله: قال لي(2)فكان لو اشترى التراب لربح فيه

: )بارك الله لك في ص��فقة يمين��ك(، فكنت أق��ومرسول الله بالكناسة )مكان بالكوفة( فما أرجع إلى أهلي ح��تى أربح أربعين

.(3)ألفا

ويروى أنك دعوت لعم��رو بن الحم��ق، بع��د أن س��قاك لبن��ا فقلت: )اللهم أمتع��ه بش��بابه(، فم��رت ب��ه ثم��انون س��نة لم ي��ر

.(4)الشعرة البيضاء

ولم تكتف بكل ذلك � سيدي � ب��ل كنت تص��ف من األدعي��ة النافعة ما يحقق لكل طالب حاجة ك��ل م��ا يري��د، ومن ذل��ك م��ا روي أن رجال قال لك: )ي��ا رس��ول الل��ه، إن ال��دنيا أدب��رت ع��ني وت��ولت(، فقلت ل��ه: )ف��أين أنت من ص��الة المالئك��ة، وتس��بيح الخالئ��ق، وب��ه يرزق��ون، ق��ل عن��د طل��وع الفج��ر: س��بحان الل��ه العظيم وبحمده، سبحان الله العظيم، استغفر الله، مائ��ة م��رة، تأتيك الدنيا صاغرة(، قال الراوي: فمكث الرجل ثم عاد، فق��ال:

)( رواه البخاري.1

)( رواه البيهقي.2

)( رواه أبو نعيم.3

)( رواه ابن أبي شيبة في )مسنده( وأبو نعيم وابن عساكر.4

219

.(1)يا رسول الله، لقد أقبلت علي الدنيا، فما أدري أين أضعها

ولم يكن ذلك سيدي خاصا بحيات�ك، ب�ل إن ص�حابتك، فمن بعدهم، كانوا يتوسلون بك إلى الله بعد وفاتك، فيتحقق لهم كل ما يريدون، وقد روي عن عثمان بن حنيف أن رجال كان يختل��ف على عثمان بن عفان في حاجته، وكان عثمان ال يلتفت إلي��ه وال ينظر في حاجته، فلقي ابن ح��نيف فش��كا ذل��ك إلي��ه، فق��ال ل��ه عثم��ان بن ح��نيف: ائت الميض��أة ثم ائت المس��جد فص��ل في��ه

��ك محم��د ركعتين وقل: )اللهم إني أس��ألك وأتوج��ه إلي��ك بنبي ن��بي الرحم��ة، ي��ا محم��د إني أتوج��ه ب��ك إلى ربي فتقض��ي لي حاجتي(، وتذكر حاجتك ورح ح��تى أروح مع��ك، ف��انطلق الرج��ل فصنع ما قال له، ثم أتى ب��اب عثم��ان بن عف��ان فج��اءه الب��واب حتى أخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفان، فأجلسه مع��ه على الطنفسة، فقال: حاجتك، فذكر حاجته وقضاها ل��ه، ثم ق��ال ل��ه: ما ذكرت حاجتك حتى ك��ان الس��اعة، وق��ال: م��ا ك��انت ل��ك من حاجة، فاذكرها، ثم إن الرجل خ��رج من عن��ده فلقي عثم��ان بن حنيف فقال له: )جزاك الله خيرا، ما كان ينظ��ر في ح��اجتي وال يلتفت إلي حتى كلمته في(، فقال عثمان بن ح��نيف: )والل��ه م��ا

وأتاه ضرير فشكا إليهكلمته فيك، ولكني شهدت رسول الله : )إن ش��ئت دع��وت، وإن ش��ئتذهاب بصره فقال ل��ه الن��بي

أ فيحس��نصبرت وهو خير؟( ق��ال: فادع��ه، ف��أمره أن يتوض�� وضوءه ويصلي ركعتين وي�دعو به�ذا ال�دعاء: )اللهم إني أس��ألك وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه ب��ك إلى ربي في حاجتي لتقضى، اللهم شفعه في(، فوالله م�ا تفرقن�ا وط�ال

)( رواه الخطيب في )رواة مالك(.1

220

. (1)بنا الحديث حتى دخل علينا كأن لم يكن به ضر

فيا سيدي يا رسول الله.. أتوسل ب��ك إلى الل��ه أن يجعل��ك في قلوبنا وأرواحنا، وأن تكون معنا في كل أحوالنا.. فأنت جنتنا وسعادتنا.. وبك راحتنا وفرحتنا.. ومن كنت معه ال يعوزه شيء..

ومن كنت صاحبه ال تصيبه فاقة. فنسألك � سيدي � أن ترضى عنا، ح�تى تتحق��ق لن��ا معيت��ك التي ال تتحقق إال للذين رض��يت عنهم.. واجعلن��ا ��� س��يدي ��� من حزبك وفريقك وأنصارك والمستشهدين بين يدي وليك الذي هو خليفتك وناصرك ومؤيدك ومسدد أمر أمتك.. إنك أنت الوس��يلة

العظمى، وصاحب الجاه العظيم.

.. وانظ��ر قص��ة31 و 30/�� 9)( انظر الحديث كامال في: المعجم الكبير للطبراني:1 (، والنسائي133،� 132/� 10(، والترمذي )تحفة 138/� 4األعمى في: أحمد في المسند )

( والبخاري في التاريخ441/ 1(، وابن ماجة في السنن )417في عمل اليوم والليلة )ص (1289/� 2(، وفي الدعاء أيضا )19/� 9(. والطبراني في المعجم الكبير )210/� 6الكبير )

( وصححه وس��لمه ال��ذهبي وال��بيهقي في دالئ��ل519،�� 313/�� 1والحاكم في المستدرك )(، وفي الدعوات الكبير.166/ 6النبوة )

221

مهبط البركات سيدي يا رسول الله.. أيها العبد المبارك ال��ذي جعل��ه الل��ه ربيعا للحياة؛ فحيث ما حل أزهرت وأينعت وأثمرت.. فال يس��كن قلبا إال سكن معه السرور، ومألت جوانحه السعادة.. وال يس��كن عقال إال طردت عنه األوه�ام والوس�اوس والش�بهات.. وال تتب�نى اس���مه دول���ة إال انتص���رت على أع���دائها، وتط���ورت في ك���ل

المجاالت.. وكيف ال تكون ك�ذلك س��يدي، وأنت الق�ريب من الل�ه.. فال يقترب منك أحد إال اقترب من فضل الله، ونال من بركات��ه.. وال يبتع��د عن��ك إال ون��زل علي��ه الش��ؤم، وامتألت حيات��ه بالتعاس��ة

والظلمات.. وكيف ينال النور من ابتعد عن سراجه المنير؟ ال أزال أذكر سيدي حليمة السعدية.. تلك التي جاءت مكة،

فقد ذكرت أنها خرجتوأنت صبي صغير ال تزال في حجر أمك، من بلدها مع زوجها، وابن لها صغير ترضعه في نس��وة من ب��ني سعد، وذلك في سنة شهباء، لم تب�ق لهم ش�يئا.. لكنه�ا ف��وجئت بالسعد يطل عليها بمجرد حملها لك، وأخ��ذك معه��ا إلى بالده��ا، وقد عبرت عن ذلك بقولها: )فلم��ا أخذت�ه رجعت ب�ه إلى رحلي، فلم�ا وض��عته في حج�ري أقب�ل علي�ه ث��دياي بم�ا ش��اء من لبن، فشرب حتى روي وشرب معه أخوه حتى روي، ثم ناما، وما كنا ننام معه قب��ل ذل��ك.. وق��ام زوجي إلى ش��ارفنا تل��ك، ف��إذا إنه��ا لحاف��ل فحلب منه��ا م��ا ش��رب وش��ربت مع��ه ح��تى انتهين��ا ري��ا وشبعا، فبتنا بخير ليلة، فقال صاحبي حين أصبحنا: تعلمي والل��هيا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة، فقلت: والله إني ألرجو ذلك(

222

(1)

ثم ذكرت عجبها وعجب الناس مما حصل لهم عند العودة، ثم خرجن��ا وركبت أت��اني، وحملت��ه عليه��ا معي، فوالل��ه)فقالت:

لقطعت بالركب ما يقدر عليها أبي ذؤيب، حتى قال الذين معي: ويحك أربعي علينا، أليست هذه أتانك التي كنت خ��رجت عليه��ا؟ فأقول لهن: بلى والله إنها لهي هي، فيقلن: والله إن لها لشأنا.. ثم قدمنا منازلن��ا من بالد ب��ني س��عد، وم��ا أعلم أرض��ا من أرض الله أجدب منها، فك��انت غنمي ت��روح علي حين ق��دمنا ب��ه معن��ا ش��باعا لبن��ا، فنحلب ونش��رب وم��ا يحلب إنس��ان قط��رة لبن وال يج��دها في ض��رع ح��تى ك��ان الحاض��رون من قومن��ا يقول��ون لرعي��انهم: ويلكم اس��رحوا حيث يس��رح راعي بنت أبي ذؤيب، فتروح أغنامهم جياعا ما تبض بقط��رة لبن وت��روح غنمي ش��باعا لبنا.. فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه

(2)وفصلته(

وال أزال أذكر � سيدي � فترة كفالة عم��ك أبي ط��الب ل��ك، وكيف ظهرت بركاتك عليه.. وق��د وص��ف بعض��هم ذل��ك، فق��ال:

فك��ان)لما توفي عبد المطلب كفل أب��و ط��الب رس��ول الل��ه يكون معه، وكان يحبه حبا شديدا ال يحبه ولده، وك��ان ال ين��ام إال إلى جنبه، وصب ب��ه ص��بابة لم يص��ب مثله��ا ق��ط، وك��ان يخص��ه بالطعام، وكان عي��ال أبي ط��الب إذا أكل��وا جميع��ا أو ف��رادى لم

شبعوا.. وكان أبو ط��البيشبعوا، وإذا أكل معهم رسول الله إذا أراد أن يغديهم أو يعشيهم، يقول: كما أنتم حتى يحضر ابني،

(49)( سيرة ابن إسحاق، )ص: 1

(387/ 1)( سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد )2

223

فيأكل معهم، فيفضلون من طع��امهم، وإنفيأتي رسول الله لم يكن معهم لم يشبعهم، وإن كان لبنا شرب أولهم، ثم يتن��اول العيال القعب، فيشربون من��ه، ف��يروون عن آخ��رهم من القعب الواحد، وإن كان أحدهم ليشرب قعبا وحده، فيقول أب��و ط��الب:

وك��ان الص��بيان يص��بحون رمص��ا ش��عثا، ويص��بحإن��ك لمب��ارك.. (1) دهينا كحيال(رسول الله

ولهذا كان عمك يستسقي بك، وكي��ف ال يفع��ل ذل��ك، وه��و يعلم من شأنك ما سمعه من أبيه وأمك، وق��د روي عن بعض��هم قول��ه: )ق��دمت مك��ة وق��ريش في قح��ط، فقائ��ل منهم يق��ول: اعتمدوا والالت والعزى، وقائل منهم يقول: اعتمدوا مناة الثالثة األخ��رى، فق��ال ش��يخ وس��يم حس��ن الوج��ه جي��د ال��رأي: أنى تؤفكون، وفيكم بقي��ة إب��راهيم وس��اللة إس��ماعيل، ق��الوا: كأن��ك عنيت أبا ط��الب؟ ق��ال: إيه��ا.. فق��اموا ب��أجمعهم، وقمت معهم، فدققناه عليه بابه، فخرج إلينا رجل حسن الوجه، علي��ه إزار ق��د اتشح به، فثاروا إليه، فقالوا: يا أبا طالب أقحط الوادي، وأجدب العيال، فهلم فاستسق لنا.. فخرج أبو ط��الب، ومع��ه غالم كأن��ه شمس دجنة، تجلت عليه سحابة قتماء، وحول��ه أغيلم��ة، فأخ��ذه أبو طالب، فألصق ظه��ره بالكعب��ة، والذ بأض��بعه الغالم وم��ا في السماء قزعة، فأقبل السحاب من هاهنا وهاهنا أغدق واغ��دودق

(2)وانفجر له الوادي وأخصب النادي والبادي(

وقد قال أبو طالب في ذلك يمدحك:

)( رواه ابن سعد والحسن بن عرفة وابن عساكر وغيرهم.1

(170/ 1)( السيرة الحلبية = إنسان العيون في سيرة األمين المأمون )2

224

وأبيض يستسقيالغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمةلألرامل يلوذ به الهالك من آل

هاشم فهم عنده في نعمة

وقد حدث عن بعض بركاتك عليه، فقال: كنت بذي المج��ازوفواضل � فأدركني العطش، فشكوت إلي��ه،مع ابن أخي � يعني النبي

فقلت: يا ابن أخي ق��د عطش��ت.. وم��ا قلت ل��ه ذل��ك، وأن��ا أرى عنده شيئا إال الجزع قال: فثنى وركه، ثم قال: يا عم عطش��ت؟ قلت: نعم.. ف��أهوى بعقب��ه إلى األرض، ف��إذا أن��ا بالم��اء، فق��ال:

(1)اشرب، فشربت(

هذه بعض بركاتك على أهل بيتك قبل أن يبعثك الله رسوال إلى عب��اده، أم��ا بع��دها، فهي كث��يرة ج��دا، ال يمكن حص��رها وال وصفها وال حدها.. وكيف يمكن ذلك.. وما من ف��رد من أمت��ك إال

وهو يعيش في ظالل بركاتك التي ال تنتهي؟ وكيف يمكن ضبطها، ونحن كلما ذكرناك، ومألنا قلوبنا ب��ك، كلما من الله علينا من نعم الظاهر والباطن م��ا ال يمكن وص��فه

وال ضبطه وال حده. ولكن مع ذلك ائذن لي ��� س��يدي ��� أن أش��نف قل��بي ب��ذكر بعض بركاتك على حياة الناس في الجيل الذي تشرف بظهورك المبارك فيه.. وهي نقطة من بحر بركات��ك.. وقبس من نوره��ا.. وهي كافية للداللة على ما أتاحه الله لك.. وكيف ال يتيحه، وأنت

أقرب المقربين، وسيد األولين واآلخرين. فمن تلك البركات ما حدث به جابر ق��ال: ق��ام رس��ول الل��ه

أيام��ا لم يطعم طعام��ا ح��تى ش��ق ذل��ك علي��ه فط��اف في من��ازل

)( رواه الخطيب وابن عساكر.1

225

أزواجه فلم يصب عند واحدة منهن شيئا، فأتى فاطمة، فق��ال: )ي��ا بنية، هل عندك شيء آكله، فإني جائع( فقالت: ال والله، فلما خ��رج

بعثت إليه��ا ج��ارة له��ا ب��رغيفين وقطع��ةمن عندها رسول الل��ه لحم، فأخذته منها، فوض�عته في جفن�ة له�ا وغطت عليه�ا، وق�الت:

على نفسي ومن عن��دي، فك��انواوالله، ألوثرن بهذا رسول الله جميع��ا محت��اجين إلى ش��بعة طع��ام، فبعثت حس��نا أو حس��ينا إلى

فرجع إليها فقالت ل�ه: ق�د أتى الل�ه بش�يء فخبأت�هرسول الله فكش�فت عن الجفن�ة، ف�إذا هي ممل�ؤةلك، قال: )هلمي يا بني�ة(،

خبزا ولحما، فلما نظرت إليها بهتت وعرفت أنها بركة من الله ع��ز وقدمت��ه إلىوجل، فحم��دت الل��ه ع��ز وج��ل وص��لت على نبي��ه

فلما رآه حمد الله عز وجل، وقال: )من أين لك هذارسول الله يا بنية؟( قالت: يا أبت، هذا من عند الله، إن الل��ه ي��رزق من يش��اء بغير حساب، فقال: )الحمد لله ال�ذي جعل�ك ش�بيهة بس�يدة نس�اء بني إسرائيل، فإنها كانت إذا رزقها الله عز وجل شيئا فسئلت عن��ه قالت: هو من عن�د الل�ه، إن الل�ه ي�رزق من يش�اء بغ�ير حس�اب،(

وعلي إلى علي، ثم أك��ل رس��ول الل��ه فبعث رس��ول الل��ه وأه��ل بيت��ه ح��تىوفاطمة وحسن وحسين وجمي��ع أزواج الن��بي

شبعوا وبقيت الجفنة كما هي فأوسعت بقيتها على جمي��ع جيرانه��ا،.(1)وجعل الله عز وجل فيها بركة وخيرا كثيرا

ومنها ما حدث به اإلمام علي ق��ال: نمن��ا ليل��ة بغ��ير عش��اء فأصبحت فالتمست فأصبت ما أشتري به طعاما ولحما ب��درهم، ثم أتيت به فاطم��ة فخ��بزت وطبخت، فلم��ا ف��رغت، ق��الت: ل��و

وهو يقول: )أع��وذأتيت أبي، فدعوته، فجئت إلى رسول الله بالله من الجوع ض��جيعا(، فقلت: ي��ا رس��ول الل��ه، عن��دنا طع��ام

وابن كثير في20 / 2)( رواه أبو يعلى، انظر: السيوطي في الدر المنثور 1.29 / 2التفسير

226

فهلم، فجاءوا والقدر تفور، فقال: )اغرفي لعائش��ة في ص��حفة( حتى غرفت لجمي��ع نس��ائه، ثم ق��ال: )اغ��رفي ألبي��ك وزوج��ك(، فغرفت، فقال: )اغرفي فكلي(، فغرفت ثم رفعت الق�در، وإنه�ا

.(1)لتفيض فأكلنا منها ما شاء الله عز وجل

ومنها ما حدث به جابر بن عبد الله عن نفسه، وكيف نالت��ه بركاتك، حيث ذكر أن أباه توفي، وترك عليه ثالثين وسقا، لرجل من اليهود، فاستنظره ج��ابر، ف��أبى أن ينظ��ره، فكلم��ك لتش��فع إليه، فجئت اليهودي، فكلمته ليأخذ تمر نخل��ه بال��ذي ل��ه، ف��أبى، فدخلت إلى بس��تانه، فمش��يت في��ه، ثم قلت ل��ه: ي��ا ج��ابر، ج��د

، فأوفه الذي له، فجد بعدما رجعت، فأوفاه ثالثين وسقا،(2)له.(3)وفضلت له سبعة عشر وسقا

ومثل ذلك ما حصل لفرس أنس بن مالك، التي حدث عنها فرس��اوعن بركاتك عليها، فقال: )فزع الناس، فركب الن��بي

ألبي طلحة بطيئا، ثم خرج يركض وحده، فركب الناس يركضون خلفه، فقال: )لن تراعوا إنه لبحر(، ق��ال: فوالل��ه م��ا س��بق بع�د

(4)ذلك اليوم(

.124 / 1)( رواه ابن سعد:1

)( الجداد: قطع الثمر وجنيه وحصاده.2

)( رواه البخاري، قال ابن كثير: وهذا الحديث قد روي من طرق متعددة عن جابر3 ، ودعائه له، ومشيه في حائطه وجلوسهبألفاظ كثيرة، وحاصلها أنه ببركة رسول الله

على تمره، وفى الله دين أبيه، وكان قد قتل بأحد، وجابر كان ال يرجو وفاءه في ذلك العام وال ما بعده، ومع هذا فضل له من التمر أكثر وفوق ما كان يؤمله ويرجوه ولله

( 6/0121الحمد والمنة.) انظر: البداية والنهاية

)( رواه البخاري.4

227

ومثل ذلك ما حص��ل لخب��اب بن األرت، فق��د ح��دثت ابنت��ه، يتعاهدنا حتىقالت: خرج خباب في سرية، فكان رسول الله

كان يحلب عنزا لنا، فكان يحلبها في جفنة لنا فتمتلئ فلما ق��دم خباب حلبها، فعاد حالبها كما ك��ان، فق��الت أمي: أفس��دت علين��ا ش��اتنا، ق��ال: وم��ا ذاك؟ ق��الت: إن ك��انت لتحلب م��ل ء ه��ذه

قال: وق��دالجفنة، قال: ومن كان يحلبها؟ قالت: رسول الله .(1)عدلتيني به؟ هو والله أعظم بركة

ومثل ذلك ما حصل لنوفل بن الح��ارث فق��د روي عن��ه أن��ه استعان ب��ك من أج��ل ال��زواج، فأرس��لت بعض أص��حابك بدرع��ه فرهناه عند يهودي بثالثين صاعا من شعير، فدفعت��ه إلي��ه، ق��ال: فطعمنا منه نصف سنة ثم كلناه فوجدناه، كما أدخلناه.. وعندما

(2)ذكر ذلك لك قلت له: )لو لم تكله ألكلت منه ما عشت(

ومثل ذلك ما حصل لحم��زة األس��لمي، فق��د روي عن��ه أن��ه ثم ذهبت ب��ه، فتح��رك ب��ه النحيق��ال: عملت طعام��ا للن��بي

،فأهريق ما فيه، فقلت: على يدي أهريق طعام رس��ول الل��ه : )ادنه( فقلت: ي��ا رس��ول الل��ه ال أس��تطيع،فقال رسول الله

ف��رجعت مك��اني، ف��إذا النحي يق��ول قب قب، فقلت: م��ه ق��د أهريق فضلة فضلت فيه، فاجتذبته، فإذا ه�و ق�د ملئ إلى يدي�ه،

ف��ذكرت ل��ه ذل��ك، فق��ال:فأوكيته، ثم جئت إلى رسول الل��ه (3))أما إنك لو تركته لسال واديا سمنا(

)( رواه أحمد وأبو داود الطيالسي وابن سعد والطبراني.1

)( رواه الحاكم في المستدرك والبيهقي في الدالئل.2

)( رواه الطبراني وأبو نعيم والبيهقي.3

228

ومثل ذلك ما حصل لمس��عود بن خال��د فق��د روي عن��ه أن��ه ش��اة، ثم ذهبت في حاج�ة، ف�ردقال: بعثت إلى رسول الل��ه

شطرها، فرجعت، فإذا لحم، فقلت: يا أم خن��اسرسول الله من الش��اة ال��تي بعثتما هذا اللحم؟ قالت: رد رس��ول الل��ه

بها إلي��ه ش��طرها، قلت: مال��ك ال تطعمين��ه عيال��ك، ق��الت: ه��ذا سؤرهم، وكلهم قد أطعمت، وكانوا يذبحون الشاتين والثالثة فال

.(1)تجزئهم

لعبد الله بن طهفة فقد روي عن��ه أن��هومثل ذلك ما حصل إذا اجتمع الض��يفان ق��ال: )لينقلب ك��لقال: كان رسول الله

رج��ل م��ع جليس��ه(، فكنت أن��ا ممن انقلب م��ع رس��ول الل��ه فقال: )يا عائشة، هل من ش�يء( ق�الت: حويس�ة كنت أع�ددتها

ش��يئا ثمإلفطارك، فأتي بها في قعبة فأكل منها رسول الل��ه قدمها إلينا ثم قال: )بسم الله كلوا( فأكلنا منه��ا ح��تى والل��ه م��ا ننظر إليها، ثم قال: )ه��ل من ش��راب؟( فق��الت لبين��ة: أع��ددتها إلفطارك، فجاءت بها فشرب منه��ا ش��يئا، ثم ق��ال: )باس��م الل��ه

.(2)اشربوا(، فشربنا حتى والله ما ننظر إليها

ومث��ل ذل�ك م�ا حص��ل لرج�ل أت�اك يس�تطعمك، فأطعمت��ه شطر وسق شعير، فما زال يأكل منه هو وامرأته ومن ض��يفهما حتى كالوه فأخبروك، فقلت له: )لو لم تكل��ه ألكلتم من��ه ولق��ام

(3)لكم(

)( رواه الطبراني.1

)( رواه أحمد وأبو نعيم في الدالئل.2

)( رواه مسلم.3

229

، فق��د ح��دثت عن بعض م��اومثل ذلك ما حص��ل ألم س��ليم رأته من بركاته، فقالت: كانت لنا ش��اة فجمعت من س��منها في عكة فمألتها العكة، وبعثت بها م��ع الجاري��ة فق��الت: أبلغي ه��ذه

فق��الت: ي��ا رس��ول الل��ه ه�ذه عك��ة س��منالعكة رسول الله بعثت بها إليك أم سليم، قال: )فرغوا لها عكتها(، ففرغت العكة فدفعت إليها فانطلقت وجاءت أم س��ليم، ف��رأت العك��ة ممتلئ��ة تقطر فقالت: أليس قد أمرتك أن تنطلقي بها إلى رس��ول الل��ه

فقالت: قد فعلت فإن لم تصدقيني فانطلقي فس�لي رس��ول فانطلقت أم س��ليم، فق��الت: ي��ا رس��ول الل��ه إني بعثتالله

إليك بعكة سمن قال: )قد فعلت جاءت بها(، قالت: والذي بعثك بالهدى ودين الحق إنها لممتلئة تقطر س��منا، فق��ال له��ا رس��ول

: )يا أم سليم أتعجبين إن كان الله أطعم��ك كم�ا أطعمتالله نبي��ه، كلي وأطعمي(، فج��اءت إلى ال��بيت، ففتت لن��ا ك��ذا وك��ذا

.(4)وتركت فيها ما ائتدمنا شهرا أو شهرين

يوم الخندق، حيث أطعمت ��� س��يدي �ومثل ذلك ما حصل جيش المسلمين الذي ك�ان يحف��ر ي��وم الخن��دق من طع�ام فئ��ة قليلة من الناس، وقد حدث صاحب الوليم��ة ج��ابر بن عب��د الل��ه عن ذلك، فقال: كنا يوم الخن��دق نحف��ر الخن��دق، فعرض��ت في��ه كذانة، وهي الجبل، فقلنا: يا رسول الله، إن كذان��ة ق��د عرض��ت

،: )رشوا عليها(، ثم قام رسول الله فيه، فقال رسول الله فأتاه��ا، وبطن��ه معص��وب بحج��ر من الج��وع، فأخ��ذ المع��ول أو المسحاة، فسمى ثالثا ثم ضرب، فعادت كثيبا أهي��ل، فقلت ل��ه: ائذن لي يا رسول الله إلى المنزل، ففع��ل، فقلت للم��رأة: ه��ل عن��دك من ش��يء؟ فق��الت: عن��دي ص��اع من ش��عير وعن��اق،

)( رواه أبو يعلى والطبراني وأبو نعيم وابن عساكر.4

230

فطحنت الش��عير وعجنت��ه، وذكت العن��اق وس��لختها، وخليت من ، فجلس��ت عن��دهالم��رأة، وبين ذل��ك، ثم أتيت رس��ول الل��ه

ساعة ثم قلت: ائذن لي يا رس��ول الل��ه، ففع�ل، ف��أتيت الم��رأة ،ف��إذا العجين واللحم ق��د أمكن��ا، ف��رجعت إلى رس��ول الل��ه

لنا، فقم يا رسول الله أنت ورجالن(1)فقلت: إن عندي طعيما من أصحابك، فقال: )وكم هو؟( فقلت: صاع من شعير، وعن��اق، فقال للمسلمين جميعا: )قوموا إلى ج��ابر(، فق��اموا، فلقيت من الحياء ما ال يعلمه إال الله، فقلت: جاء بالخلق على ص��اع ش��عير وعناق، فدخلت على امرأتي أقول: افتضحت، جاءك رسول الله

:بالجند أجمعين، فقالت: هل كان سألك كم طعام��ك؟ فقلت نعم، فقالت: الله ورسوله أعلم، قد أخبرناه ما عندنا، فكش��فت

فقال: خذي ودعيني منعني غما شديدا.. فدخل رسول الله يثرد، ويغرف اللحم، ثم يخمر ه��ذا،اللحم، فجعل رسول الله

ويخمر ه��ذا، فم��ا زال يق��رب إلى الن��اس ح��تى ش��بعوا أجمعين، : )كليويعود التنور والقدر أمأل ما كانا، ثم ق��ال رس��ول الل��ه

.(2)وأهدي(، قال جابر: فلم نزل نأكل ونهدي يومنا أجمع

في نفس الغ�زوة، فق�د ح�دثت ابن��ةومثل ذل�ك م�ا حص��ل بشير بن سعد، قالت: دعتني أمي فأعطتني جفن��ة من تم��ر في ث��وبي، ثم ق��الت: ي��ا بني��ة، اذه��بي إلى أبي��ك وخال��ك عب��د الل��ه بغدائهما، قالت: فأخذته ثم انطلقت به��ا، فم��ررت برس��ول الل��ه

فق�ال: )تع�الي م�ا مع�ك؟( فقلت: ي�ا رس�ول الل��ه ه�ذا تم�ر

)( طعيما: تصغير طعام، أي طعاما قليال.1

)( رواه البخاري ومسلم وأحمد والبيهقي في السنن الكبرى والدارمي في سننه2 وأبو عوانة وابن أبي شيبة في المصنف والفريابي في دالئل النبوة واألصبهاني في دالئل

النبوة وغيرهم.231

بعثت��ني ب��ه أمي إلى أبي بش��ير بن س��عد وخ��الي عب��د الل��ه بن رواحة يتغديانه، فقال: )هاتيه(، فصببته في كفي رسول الل��ه

فما مأله��ا، ثم أم��ر بث��وب فبس��ط، ثم دع��ا ب��التمر فص��به ف��وق الثوب، ثم قال إلنسان عنده: )اخرج في أهل الخندق أن هلم��وا إلى الغ��داء، ف��اجتمع أه��ل الخن��دق علي��ه، فجعل��وا ي��أكلون من��ه وجع��ل يزي��د ح��تى ص��در أه��ل الخن��دق عن��ه، وإن��ه ليس��قط من

(1)أطراف الثوب(

ح��دث ب��ه أنس، ق��ال: جئت رس��ول الل��ه ومثل ذلك م��ا فوجدته جالسا م��ع أص��حابه يح��دثهم ق��د عص��ب بطن��ه بعص��ابة،

بطن��ه؟ فق��الوا:فقلت لبعض أصحابه: لم عصب رسول الل��ه من الج��وع، ف��ذهبت إلى أبي طلح��ة فأخبرت��ه ف��دخل على أمي فقال: هل من شيء؟ قالت: نعم عندي كسر من خبز وتم��رات،

وحده أشبعناه وإن جاء معه بأح��د ق��لفإن جاءنا رسول الله فإذا قامعنهم، فقال لي أبو طلحة: قم قريبا من رسول الله

فدعه حتى يتفرق عنه أصحابه ثم اتبعه حتى إذا ق��ام على عتب��ة بابه، فقل: أبي ي��دعوك، ففعلت ذل��ك، فلم��ا قلت: أبي ي��دعوك، قال ألصحابه: )يا هؤالء تعالوا( ثم أخ��ذ بي��دي فش��دها، ثم أقب��ل بأصحابه حتى إذا دنونا من بيتنا أرسل يدي ف��دخلت وأن��ا ح��زين

الذيلكثرة من جاء به، فقلت: يا أبتاه، قد قلت لرسول الله قلت لي فدعا أصحابه، وقد جاء بهم، فخرج أبو طلحة، فقال: يا رسول الله، إنما أرسلت أنسا يدعوك وحدك ولم يكن عندي م��ا

ادخ��ل، ف��إن الل��ه س��يباركيشبع من أرى، فقال: رسول الله فيما عندك، فدخلت فقال: )اجمعوا ما عندكم ثم قربوه( فقربنا ما ك��ان عن��دنا من خ��بز وتم��ر، فجعلن��اه على حص��ير ف��دعا في��ه

.133 / 6)( رواه ابن سعد، وانظر: ابن كثير في البداية 1

232

بالبركة، فقال: )يدخل علي ثمانية( فأدخلت عليه ثمانية، فجع��ل كفه فوق الطعام، فقال: )كلوا وسموا الله عز وجل( فأكلوا من بين أصابعه حتى شبعوا، ثم أم��رني أن أدخ��ل علي��ه ثماني��ة فم��ا زال ذلك أمره ح��تى دخ��ل علي��ه ثم��انون رجال كلهم يأك��ل ح��تى يشبع، ثم دعاني وأمي وأبا طلح��ة، فق��ال: )كل��وا(، فأكلن��ا ح��تى شبعنا، ثم رفع ي��ده، فق��ال: ي��ا أم س��ليم، أين ه��ذا من طعام��ك حين قدمتيه؟ فقالت: ب��أبي أنت وأمي، ل��وال أني رأيتهم ي��أكلون

.(1)لقلت: ما نقص من طعامنا شيء

ومثل ذلك ما حص��ل في غ��زوة تب��وك، حيث أطعم رس��ول جيش المسلمين من طعام فئ��ة قليل��ة من الن��اس، فق�دالله

م��ر الظه��ران فيحدث ابن عباس قال: لما نزل رسول الله عمرته بلغ أصحابه أن قريشا تق��ول: م��ا يتب��اعثون من العج��ف، فقال أصحابه: لو انتحرنا من ظهورنا، فأكلنا من لحم��ه وحس��ونا من مرقة ألصبحنا غدا ندخل على القوم وبن��ا جمام��ة فق��ال: )ال تفعل��وا، ولكن اجمع��وا لي من أزوادكم(، فجمع��وا ل��ه، وبس��طوا

.(2)األنطاع، فأكلوا حتى تولوا، وحثا كل واحد منهم في جرابه

هذه � سيدي � بعض بركاتك المرتبطة بالطعام، والذي كان الن��اس في ذل��ك الحين في أش��د الحاج��ة إلي��ه.. وهك��ذا ك��انت بركات��ك على المي��اه، وال��تي ك��انت الحاج��ة إليه��ا، ال تق��ل عن الحاجة إلى الطعام، خاصة في تلك البالد المجدب��ة.. فق��د رويت

اآلب��ارمن بركاتك فيه��ا الكث��ير، فق��د ك��انت بركات��ك تت��نزل على

وأبو نعيم في963 / 1( والبيهقي في الدالئل 2040 / 143)( رواه مسلم )1.306 / 8 وانظر المجمع 148الدالئل

.231)( رواه أحمد2

233

الجاف��ة، فتتح��ول إلى آب��ار ممل��وءة م��اء.. وتت��نزل على المي��اه المالحة، فتتحول إلى مياه عذب��ة.. وتت��نزل على المي��اه القليل��ة،

فتتحول إلى مياه كثيرة. ومما يروى في ذلك بركاتك ال��تي ت��نزلت على ب��ئر بتب��وك، فقد قلت ألصحابك حين جئتها: )إنكم ستأتون غدا إن ش��اء الل��ه عين تبوك، وإنكم لن تأتوها حتى يضحى النه��ار، فمن جاءه��ا فال يمس من مائها شيئا حتى آتي(.. وك��انت العين جاف�ة ليس فيه�ا إال القليل من الماء.. فقمت، وغسلت وجه�ك وي��ديك بمائه�ا، ثم أعدته فيها، فجرت بماء كثير، فاس��تقى الن��اس، ثم قلت لمع��اذ: )يا معاذ، يوشك إن طالت بك حياة أن ت��رى م��اء ههن��ا ق��د ملئ

(1)جنانا(

، فعن يح�يى بن س�عيد أنومثل ذلك م�ا حص��ل بب��ئر بقب��اء أنس بن مالك آتاهم بقباء، فسأله عن ب��ئر هن��اك، ق��ال: فدللت��ه عليها فق��ال: لق��د ك��انت ه��ذه، وإن الرج��ل لينض��ح على حم��اره

وأمر بذنوب، فسقى، فإما أن يكونفتنزح، فجاء رسول الله توضأ منه، وإما أن يكون تفل فيه، ثم أمر ب��ه، فأعي��د في الب��ئر،

.(2)فما نزحت بعد

فعن زي��اد بن الح��ارثومثل ذل��ك م��ا حص��ل بب��ئر ب��اليمن، الصدائي ق��ال: قلت: ي��ا رس�ول الل�ه، إن بئرن�ا إذا ك�ان الش�تاء وسعنا ماؤها واجتمعنا عليه��ا، وإذا ك��ان في الص��يف ق��ل ماؤه��ا وتفرقنا عن مياه حولنا، وق��د أس��لمنا وك��ل من حولن��ا لن��ا ع��دو،

)( رواه أحمد.1

)( رواه البيهقي.2

234

ف��ادع الل��ه لن��ا في بئرن��ا، فيس��قينا ماؤه��ا، فنجتم��ع عليه��ا، وال بسبع حصيات، فعركهن بيده، ودعانتفرق.. فدعا رسول الله

فيهن، ثم قال: )اذهبوا بهذه الحص��يات، ف��إذا أتيتم الب��ئر ف��ألقوا واحدة واحدة، واذكروا اسم الله عز وجل(، قال: ففعلنا ما ق��ال

(1)لنا، فما استطعنا أن ننظر إلى قعرها )يعني البئر(

، فعن أنس قال: أتى رس��ولومثل ذلك ما حصل ببئر أنس منزلن��ا، فس��قيناه من ب��ئر ك��انت لن��ا في دارن��ا، وك��انتالل��ه

تسمى في الجاهلية )النزور( فتفل فيها فكانت ال تنزح بعد. ، فعن ال��براء وس��لمة بنومثل ذلك ما حصل ببئر الحديبي��ة

الحديبية، ونحن أربع عشرةاألكوع قاال: قدمنا مع رسول الله مائة، والحديبي��ة ب��ئر، فنزحناه��ا، فلم ن��ترك فيه��ا قط��رة، فقع��د

على ش��فيرها، ق��ال ال��براء: وأتي ب��دلو في��ه م��اءرسول الله فبصق ودعا، ثم قال: )دعوه��ا س��اعة( وق��ال س��لمة: فجاش��ت،

(2)فأرووا أنفسهم وركابهم بالماء، فسقينا واستقينا(

فعن أنس ق��ال:ومثل ذلك ما حصل ببئر غ��رس بالمدين��ة، إلى قب��اء، ف��انتهى إلى ب��ئر غ��رس، وإن��هجئنا مع رسول الله

ليستقي منه على حمار، ثم نقوم عامة النهار ما نجد فيه��ا م��اء،.(3)فمضمض في الدلو ورده، فجاشت بالرواء

.84 / 5 وابن كثير في البداية: 357 / 5، 127 / 4)( البيهقي في الدالئل: 1

)( رواه البخاري ومسلم، وفي غير روايتيهما من طريق ابن شهاب فأخرج سهما2من كنانته فوضعه في قليب بئر ليس فيه ماء فروى الناس حتى ضربوا بعطن خيامها.

)( رواه ابن سعد.3

235

ومثل ذلك م�ا ورد في الرواي�ات الكث�يرة من بركات�ك على الماء القليل، فيتحول إلى كثير، ومن تلك الروايات ما ح��دث ب��ه

، فق��ال ألبي قت��ادة:أنس قال: كنا في سفر مع رس��ول الل��ه )أمعكم ماء؟(، قلت: نعم، في ميضأة فيها شيء من ماء، ق��ال: )ائت بها(، قال: فأتيته بها، فقال ألص��حابه: )تع��الوا مس��وا منه��ا فتوض��ئوا(، وجع��ل يص��ب عليهم، فتوض��أ الق��وم، وبقيت جرع��ة، فقال: )ي��ا أب��ا قت��ادة، احفظه��ا، فإنه��ا س��تكون له��ا نب��أ(.. ف��ذكر الحديث إلى أن ق��ال: فق��الوا: ي��ا رس��ول الل��ه، هلكن��ا عطش��نا، انقطعت األعناق، فقال: )ال هلك عليكم(، ثم قال: )يا أبا قت��ادة، ائت بالميضأة(، فأتيته بها، فقال: )أطلق��وا لي ق��دحي(، فحللت��ه فأتيته به، فجع��ل يص��ب في��ه ويس��قي الن��اس، ف��ازدحم الن��اس،

: )أيه���ا الن���اس أحس���نوا المأل، فكلكمفق���ال رس���ول الل���ه سيروى(، فشرب القوم، وسقوا دوابهم وركابهم وملئوا ما ك��ان معهم من إداوة وقربة ومزادة حتى لم يبق غيري وغ��يره، ق��ال: )اشرب يا أبا قت��ادة(، قلت: اش��رب أنت ي��ا رس��ول الل��ه، ق��ال: )ساقي القوم آخرهم شربا(، فشربت، وشرب بعدي، وبقي في

.(1)الميضأة نحو مما كان فيها وهم يومئذ ثالثمائة

، فقد حدث سلمة بنومثل ذلك ما حصل في غزوة هوازن هوازن فأصابنا جهد شديداألكوع، قال: غزونا مع رسول الله

ف��أتى بش��يء من م��اء في إداوة، ف��أمر به��ا فص��بت في ق��دح،.(2)فجعلنا نتطهر حتى تطهرنا جميعا

ومثل ذلك م�ا ح�دث ب��ه عم�ران بن حص��ين ق�ال: كن��ا م�ع)( رواه مسلم.1

(.119 / 4)( الدالئل للبيهقي )2

236

في سفر، فاشتكى إليه الناس العطش، فنزل ثمرسول الله دعا عليا، ورجال آخر، فقال: )اذهبا فابغيا الماء فإنكم��ا س��تجدان ام��رأة بمك��ان ك��ذا وك��ذا معه��ا بع��ير علي��ه مزادت��ان فأتي��ا به��ا(، فانطلقا فلقيا امرأة بين مزادتين من م��اء على بع��ير له��ا، فق��اال لها: أين الماء؟ قالت: عه�دي بالم�اء أمس ه��ذه الس�اعة، فق�اال

له��ا: انطلقي إذا، ق��الت: إلى أين؟ ق��اال: إلى رس��ول الل��ه ، فانطلقا(1)قالت: الذي يقال له الصابئ؟ قاال: هو الذي تعنين

وحدثاه بالحديث، ق��ال: فاس��تنزلوها عنفجاءا بها إلى النبي بإن�اء، ف�أفرغ في�ه من أف�واه الم�زادتين،بعيرها ودع�ا الن�بي

فمض���مض في الم���اء، وأع���اده في أف���واه الم���زادتين، وأوك���أ أفواههم��ا، وأطل��ق الغ��رارتين، ون��ودي في الن��اس: )اس��قوا، واستقوا(، فسقى من شاء، واستقى من شاء، ومألنا ك��ل قرب��ة معنا وإداوة، وهي قائمة تنظ��ر م��ا يفع��ل بمائه��ا وأيم الل��ه، لق��د أقلع عنها، وإنها ليخيل إليها أنها أشد ملئة منه��ا حيث ابت��دأ فيه��ا

: )اجمعوا لها طعاما(، فجمعوا له��ا م��ا بين عج��وةفقال النبي ودقيق��ة وس��ويقة ح��تى جمع��وا له��ا طعام��ا، فجعل��وه في ث��وب، وحملوه��ا على بعيره��ا، ووض��عوا الث��وب بين ي��ديها، وق��الوا له��ا: تعلمين ما رزأنا من مائ�ك ش�يئا، ولكن الل�ه ه�و ال�ذي أس�قانا.. فج��اءت الم��رأة أهله��ا ف��أخبرتهم، فق��الت: جئتكم من أس��حر الناس، أو إنه لرسول الله حق��ا، ق��ال: فج��اء أه��ل تل��ك القري��ة،

.(2)حتى أسلموا كلهم

)( ذكر العلماء حسن األدب الذي حوى عليه قول علي ورفيقه لها لما قالت:1 الصابئ: )هو الذي تعنين(، ألنه لو قاال لها: ال، لفات المقصود، أو نعم، لما حسن بهما، إذ

فيه طلب تقرير ذلك، فتخلصا أحسن تخليص.

)( رواه البخاري ومسلم وغيرهما.2

237

من(1)وردت به النصوص الكثيرة المتواترةومثل ذلك ما بين أصابعك الشريفة، وفي مرات متعددة كث��يرة..نبع الماء من

ومن تلك الروايات ما حدث به أنس، قال: ك��ان رس��ول الل��ه ب��الزوراء، وح��انت ص��الة العص��ر، والتمس الن��اس الوض��وء فلم

بوضوء، فوض��ع رس��ول الل��ه يجدوا ماء، فأتى رسول الله يده في ذلك اإلن��اء، فحين بس��ط ي��ده في��ه فض��م أص�ابعه ف��أمر الناس أن يتوضؤوا منه، فرأيت الماء ينب��ع من بين أص��ابع الن��بي

فتوضأوا من عند آخرهم.. قال قت��ادة: قلت ألنس: كم كنتم؟ . (2)قال: كنا زهاء ثلثمائة

وحدث به عبد الله بن مسعود قال: بينما نحن عن��د رس��ول ليس معنا ماء، فقال: اطلبوا من معه فض��ل م��اء، ف��أتىالله

بماء فوضعه في إناء، فوضع يده فيه، فجعل الماء يجري ��� وفي لف��ظ يخ��رج من بين أص��ابعه ��� ثم ق��ال: )حي على الطه��ور المبارك، البركة من الله( فتوضأوا وشربوا، ق�ال عب��د الل��ه: كن��ا

(3)نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل(

وحدث جابر بن عبد الله قال: عطش الناس يوم الحديبي��ة، تكررت منه في عدة مواطن)( قال القرطبي: قصة نبع الماء من بين أصابعه 1

في مشاهد عظيمة، ووردت عنه من طرق كثيرة يفيد عمومها العلم القطعي المستفاد حيثمن التواتر المعنوي، قال: ولم يسمع بمثل هذه المعجزة العظيمة من غير نبينا

نبع الماء من بين عظمه وعصبه ولحمه ودمه.

أبلغ فيونقل ابن عبد البر عن المزني أنه قال: نبع الماء من بين أصابع النبي بالعصا فتفجرت منه المياه، النالمعجزة من نبع الماء من الحجر حيث ضربه موسى

خروج الماء من الحجارة معهود، بخالف خروجه من بين اللحم والدم.

)( رواه البخاري ومسلم.2

)( رواه النسائي والبيهقي وابن مردويه.3

238

وكان الذي بين يديه ركوة يتوضأ منها وجهش الناس نحوه، قال: )مالكم؟( قالوا: ليس عندنا ماء نتوضأ به، وال ماء نش��ربه إال م��ا بين ي��ديك، فوض��ع ي��ده في الرك��وة فجع��ل الم��اء يف��ور من بين أصابعه كأمثال العيون، فشربنا وتوضأنا، قال سالم: قلت لجابر: كم كنتم؟ ق��ال: ل��و كن��ا مائ��ة أل��ف لكفان��ا، كن��ا خمس عش��رة

.(1)مائة

نس��يروحدث أبو قتادة، قال: بينما نحن مع رسول الل��ه في الجيش إذ لحقهم عطش كاد يقطع أعن��اق الرج��ال والخي��ل والركاب عطشا، فدعا بركوة فيها ماء فوضع أصابعه عليها، فنبع الماء من بين أصابعه، فاستقى الناس، وف��اض الم��اء ح��تى رووا خيلهم وركابهم، وكان من العسكر اثنا عشر ألف بع�ير، والن��اس

. (2)ثالثون ألفا، والخيل اثنا عشر ألف فرس

ذات ي��وم،وحدث ابن عب��اس ق��ال: أص��بح رس��ول الل��ه

)( رواه البخاري ومسلم، وهذا الحديث ال يتعارض مع ما ورد في حديث البخاري1 عن البراء بن عازب قال: كنا يوم الحديبية أربع عشرة مائة، والحديبية بئر فنزحناها فلم

فأتاها فجلس على شفيرها، ثم دعا بإناء مننترك فيها قطرة ماء فبلغ رسول الله ماء فمضمض وبخ في البئر، فمكث غير بعيد ثم استقينا حتى روينا وصررنا ركائبنا.

المرتبطة بالبئر مستمرةألن كل حديث له محل خاص، باإلضافة إلى أن بركته باقية في البئر بخالف نبع الماء بين أصابعه الذي غطى حاجة الصحابة للماء في ذلك

المحل فقط.

وقد جمع ابن حجر بينهما، فقال: ويحتمل أن يكون الماء لما انفجر من بين أصابعه ويده في الركوة وتوضئوا كلهم وشربوا أمر حينئذ بصب الماء الذي بقي في الركوة في

البئر، فتكاثر الماء فيها.

وفي هذا الجمع بعض التكلف، وأولى منه القول بتعدد الحوادث، وهو ما ذكره ابنحبان.

)( رواه أبو نعيم.2

239

وليس في العسكر ماء، فقال رج��ل: ي��ا رس��ول الل��ه، ليس في العسكر ماء، قال: هل عندك شيء؟.. قال: نعم فأتي بإن��اء في��ه

أص��ابعه في اإلن��اء وفتحش��يء من م��اء فجع��ل رس��ول الل��ه ف��أمرأصابعه، قال: فرأيت العيون تنبع من بين أص��ابع الن��بي

.(1)بالال ينادي في الناس بالوضوء المبارك

فيوحدث أبو ليلى األنصاري، قال: كنا مع رسول الل��ه سفر، فأصابنا عطش، فشكونا إليه، فأمره بحفرة فوض��ع عليه��ا نطعا، ووضع يده عليها، وقال: )هل من ماء؟(، فأتي بماء، فقال لص��احب اإلداوة: )ص��ب الم��اء على كفي، واذك��ر اس��م الل��ه(، ففع�ل.. ق�ال أب��و ليلى: )فلق�د رأيت الم��اء ينب��ع من بين أص��ابع

(2) حتى روى القوم وسقى ركابهم(النبي

هذه � س��يدي ��� بعض بركات��ك المرتبط��ة بالطع��ام والمي��اه وحاجات الناس األساس��ية.. أم��ا بركات��ك على األرواح والقل��وب والعقول.. فال يمكن عدها وال إحصاؤها.. فأنت شمس��ها ونوره��ا ودفؤه��ا وحنانه��ا.. ول��والك لظلت قابع��ة في الظلم��ات، ممتلئ��ة

بالجفاء والغلظة والقسوة. لقد راح بعض المشاغبين من قومي �� س�يدي �� يس�خرون من تلك األحاديث، مع كثرتها، وتواترها، ورواية مثله��ا عن س��ائر األنبياء عليهم السالم.. وقد توهموا أن ذلك مناف مع ما تقتضيه قوانين الطبيعة من أن الموزون والمكيل ثابت��ان ال يتغ��يران من

دون أن يضاف إليهما، أو ينقص منهما.

)( رواه أحمد والبزار.1

)( رواه الطبراني وأبو نعيم.2

240

وكان في إمكانهم أن يطبق��وا ه��ذا الحكم على الن��ار ال��تي أراد أعداء إبراهيم علي��ه الس��الم حرق��ه به��ا.. فه��ل يج��دون فيالقوانين التي يدرسونها أن النار برد وسالم، أم أنها حر وحرق؟

هم لم يعلموا أن النار والتمر واللبن والماء وكل شيء بي��د الله.. وأنه الخالق الذي يزيد ما يشاء، وينقص ما يشاء.. فالملك له، واألمر له.. ف��إن ش��اء أن يزي��د م��ا يش��اء زاد.. وإن ش��اء أن

ينقص ما شاء ينقص. وقد روي في الحديث عن أبي رافع قال: أهديت لن��ا ش��اة،

فق��ال: )م��ا ه��ذا ي��ا أب��افجعلتها في قدر، فدخل رسول الل��ه راف��ع؟( فقلت: ش��اة أه��ديت لن��ا، فطبخته��ا في الق��در، فق��ال: )ناولني الذراع( فناولته ثم ق��ال: )ن��اولني ال��ذراع ي��ا أب��ا راف��ع(، فناولته ثم قال: )ناولني ال��ذراع اآلخ��ر( فقلت: ي��ا رس��ول الل��ه،

: )أم�ا إن�ك ل�و مس�كتإنما للشاة ذراعان، فقال رسول الله (1)لناولتني ذراعا ما دعوت به(

فنسألك � سيدي � ونتوسل بك إلى الله، نحن الذي حرمن��ا أن نعيش في ذلك العهد المبارك، أن تمن علينا بأن تزورن��ا ك��ل حين، لتمأل بيوتنا وحياتنا بما مألت به بي��وت وحي��اة من تش��رفوا

بزيارتك لهم.. نحن نعلم � سيدي � أنك لست بعي��دا عن��ا، ولكن��ا البعي��دون عنك.. فنتوسل بك إلى الله أن يهذب نفوس��نا، ويطه��ر أخالقن��ا،

ويسمو بأرواحنا حتى تصبح صالحة للقائك وزيارتك وبركاتك.. ونتوسل بك � سيدي يا رسول الله � إلى الله أن يعيد لهذه

)( رواه أحمد وأبو يعلى.1

241

األمة رشدها، فتعود إلي��ك، وتس��تنير به��ديك، لتن��ال بركات��ك، فال يمكنها أن تراها من دون أن تتبعك، أو تسير خلفك، أو تلغي كل شيء يحجبها عنك.. إنك أنت الوسيلة العظمى.. وصاحب الج��اه

العظيم.

242

المستبصر المتوسم س��يدي ي��ا رس��ول الل��ه.. ي��ا من جعل��ك الل��ه بش��را لكن ال كالبش���ر.. ف���أنت في ص���ورتك مثلهم.. لكن حقيقت���ك العظمى تجاوزتهم بكثير.. فقد غلبت روحك جسدك.. وبصيرتك بص��رك.. وحقيقتك مظهرك.. فلذلك كنت ترى ما ال يرون.. وتس��مع م��ا ال

يسمعون.. ولك من القدرات والطاقات ما ال يملكون.. وكيف ال تكون كذلك � سيدي � وأنت الذي تطهرت نفس��ك طهارة كامل��ة، وس��مت روح��ك س��موا رفيع��ا.. وأوتيت العص��مة المطلقة.. فلذلك رقا جسدك إلى ما رقت إليه روح��ك، فص��رت

روحا تمشي على األرض.. ونورا يمشي بين الناس. ولوال ذلك سيدي ما أطقت تحمل الوحي الذي ك��ان يت��نزل علي��ك.. وم��ا أطقت أن تك��ون واس��طة بين الغيب والش��هادة.. واألرض والس��ماء.. والمل��ك والملك��وت.. فق��د كنت تمل��ك كال الجانبين.. فأنت معهم في عالم الملك.. لكنك كنت تبصر وبدقة

ما حولك من عالم الملكوت. لقد عبر عن كل هذه المع��اني قول��ه تع��الى، وه��و يص��فك:

ما أنا بشر مثلكم يوحى إلي�� [.. ف��أنت بش��ر6 ]فصلت:قل إن مثلهم في الص��ورة.. لكن تل��ك الخاص��ية العظيم��ة ال��تي أهلت��ك

لتنزل الوحي عليك، جعلتك مختلفا عنهم تماما.. إن مثل ذلك � سيدي �� مث��ل شخص�ين أح�دهما أص�م أبكم أعمى مقعد فيه كل العاهات واآلفات.. وآخر سليم منها جميع��ا، وفي قمة القوة والشباب، وفي قمة الصالح والتقوى، وفي قمة

العلم والخبرة.. فكالهما بشر.. لكن الفرق بينهما عظيم جدا..243

فهك��ذا األم��ر بالنس��بة لس��ائر البش��ر مقارن��ة ب��ك.. فهم ال ي��رون م��ا ت��رى، وال يس��معون م��ا تس��مع.. وال تتح��رك أرجلهم

للعوالم التي يمكن أن تسير إليها، وفي أي لحظة تريد.. ل��ذلك كنت أهال لت��نزل ال��وحي علي��ك، وال��ذي ال يطيق��ه �ا سنلقي عليك قوال ثقيال ﴾غيرك.. وقد قال تعالى في شأنك: إن ﴿

(، فإن كان هذا القول ثقيال بالنس�بة ل�ك، فكي��ف ه�و5)المزمل:بالنسبة لغيرك.

وقد روي في الحديث أن بعضهم سألك، فق��ال: ي��ا رس��ول الله، هل تحس بالوحي؟ فقلت له: )أسمع صالصيل، ثم أس��كتعند ذلك، فما من م��رة ي��وحى إلي إال ظننت أن نفس��ي تفيض(

(1)

لقد وصف المعايشون ل��ك ��� س��يدي ��� بعض مظ��اهر ثق��ل وفخ��ذه علىذل��ك ال��وحي، فق��ال: )أن��زل على رس��ول الل��ه

(2)فخذي، فكادت فخذه ترض فخذي(

، وإن��هوقال آخر: )رأيت الوحي ي��نزل على رس��ول الل��ه على راحلته، فترغو وتفتل يديها ح��تى أظن أن ذراعه��ا تنقص��م، فربما بركت وربما قامت موتدة يديها حتى يسرى عنه عن ثق��ل

(3)الوحي، وإنه ليتحدر منه مثل الجمان(

(2/222)( رواه أحمد )1

)( رواه البخاري ومسلم.2

)( رواه ابن سعد.3

244

حينوق��ال آخ��ر: )كنت آخ��ذ بزم��ام ناق��ة رس��ول الل��ه أن��زلت علي��ه س��ورة المائ��دة فك��اد ينكس��ر عض��دها من ثق��ل

(1)السورة(

إذا أنزل عليه ال��وحي ترب��دوقال آخر: )كان رسول الله لذلك جسده ووجهه وأمسك عن أصحابه ولم يكلمه أح��د منهم(

(2)

وهذه الطاقة العظيمة التي آتاك الله جعلتك ترى الحق��ائق رأي العين، فكنت تص���فها عن عي���ان ال عن تأم���ل أو ت���دبر أو تفكير.. وفرق كبير بين من يرى الحق��ائق، وبين من يبحث عنه��ا بعقله الذي قد يختلط معه الوهم والوساوس.. وهذا ه��و الف��رق

بين علمك وعلوم الفالسفة التي تلقوها بالتأمل، ال بالعيان. وق��د وردت الرواي��ات الكث��يرة المت��واترة تخ��بر عن ذل��ك، وتخ��بر معه��ا عن توس��مك واستبص��ارك ورؤيت��ك للحق��ائق رأي

العين، وكأنها جسد أمامك تراه وال يرونه.. ومن تلك الروايات ما يذكر رؤيتك للمالئكة وك��ثرتهم، وق��د قلت في ذلك � مخاطبا أصحابك �: )هل تس��معون م��ا أس��مع؟(،ماء، فقالوا: ما نسمع من شيء، فقلت: )إني ألسمع أطيط الس�� وما تالم أن تئط، ما فيها موض��ع ق��دم إال وعلي��ه مل��ك س��اجد أو

(3) قائم أو ملك راكع(

)( رواه أحمد والطبراني.1

)( رواه أبو داود الطيالسي.2

)( رواه ابن أبي حاتم والطبراني والضياء في »المختارة« وأبو الشيخ 3

245

وقلت لهم: )أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موض��ع أربع أصابع إال وعليه ملك واضع جبهته ساجدا لله، لو تعلمون ما أعلم لض��حكتم قليال ولبكيتم كث��يرا وم��ا تل��ذذتم بالنس��اء على

الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله( ومنها رؤيتك للفتن، وأنواعها، وكيفية تسللها لحياة الن��اس، وقد حدث بعض أصحابك عنك في ذل��ك فق��ال: أش��رف رس��ول

على أطم من آطام المدينة، فقال: )هل ترون م��ا أرى؟الله (1)إني ألرى مواقع الفتن تقع خالل بيوتكم كوقع المطر(

بصره إلى الس��ماء،وحدث آخر، فقال: رفع رسول الله (2)فقال: )سبحان الذي يرسل عليهم الفتن إرسال القطر(

ومنها رؤيتك للدنيا، وزخرفته�ا، وزينته�ا، وق�د ذك�رت ذل�ك، فقلت: )أتتني الدنيا خضرة حلوة ورفعت لي رأسها وتزينت لي،فقلت: ال أريدك، فقالت: إن انفلت مني لم ينفلت م��ني غ��يرك(

(3)

ك م��ررت علىألح��وال ال��برزخ، فق��د روي أن��ومنها رؤيتك قبرين، فقلت: )إنهما ليعذبان، أما أحدهما فك�ان ال يس�تبرئ من

(4)بوله، وأما اآلخر فكان يمشي بالنميمة بين الناس(

)( رواه البخاري ومسلم.1

)( رواه الطبراني.2

)( رواه أحمد في الزهد عن عطاء بن يسار مرسال.3

)( رواه مسلم.4

246

ومنه��ا رؤيت��ك للجن��ة والن��ار، وق��د ورد في الح��ديث أن الشمس كسفت، فصليت، ثم حمدت الله تعالى، وأث��نيت علي��ه، ثم قلت: )ما من شيء لم أكن رأيت��ه اال رأيت��ه في مق��امي ه��ذا

(1)حتى الجنة والنار(

وفي حديث آخر قلت: )إني رأيت الجنة، فتن��اولت عنق��ودا، ولو أصبته ألكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار فلم أر منظ��را

(2)كاليوم قط أفظع(

وفي ح��ديث آخ�ر قلت: )إن�ه عرض�ت علي الجن��ة، ف��رأيت قطوفها دانية، فأردت أن أتناول منها شيئا، وعرض��ت علي الن��ار

(3)فيما بينكم وبيني كظلي وظلكم فيها(

يوم��اوحدث بعض أصحابك قال: صليت مع رسول الل��ه فأط��ال القي�ام، وك�ان إذا ص�لى لن��ا خف�ف، فرأيت�ه أه�وى بي�ده

ق��ال:ليتناول شيئا ثم ركع بعد ذلك، فلما س��لم رس��ول الل��ه )علمت أنه راعكم طول صالتي وقيامي(، قلنا: أجل، ي��ا رس��ول الله، وسمعناك تقول: )أي رب، وأنا فيهم؟(، فقال رس��ول الل��ه

والذي نفسي بيده، ما من ش��يء وع��دتموه في اآلخ��رة إال( : قد عرض علي في مقامي هذا حتى عرضت علي الن��ار، فأقب��ل منها حتى حاذى خبائي هذا فخشيت أن تغشاكم فقلت: أي رب، وأن��ا فيهم؟ فص��رفها الل��ه تع��الى عنكم، ف��أدبرت قطع��ا كأنه��ا

)( رواه البخاري.1

)( رواه البخاري.2

)( رواه الحاكم.3

247

الزرابي فنظرت نظرة، فرأيت عمر بن حرثان بن الح��ارث أح��د ب��ني غف��ار متكئ��ا في جهنم على قوس��ه، ورأيت فيه��ا الحميري��ة

(1)صاحبة القطة التي ربطتها، فال هي أطعمتها وال هي سقتها(

ومنها رؤيتك للرحمة والسكينة وإجابة ال��دعاء، وق��د ح��دث بعض أص��حابك أن��ه ك��ان في جماع��ة ي��ذكرون الل��ه ع��ز وج��ل فمررت بهم، فكفوا إعظاما لك، فقلت لهم: )م��ا كنتم تقول��ون؟ ف��أني رأيت الرحم��ة ت��نزل عليكم، ف��أحببت أن أش��ارككم فيه��ا(

(2)

وح��دث آخ��ر أن��ك كنت في مجلس، ف��رفعت طرف��ك إلى السماء، ثم خفضته؛ فسئلت عن ذلك، فقلت: )إن ه��ؤالء الق��وم ك��انوا ي��ذكرون الل��ه، ف��نزلت عليهم الس��كينة تحمله��ا المالئك��ة

(3) كالقبة فلما دنت تكلم رجل منهم بباطل، فرفعت عنهم(

إلى المس��جدوحدث آخر قال: خرجت مع رس��ول الل��ه وفيه قوم رافع��و أي��ديهم ي��دعون، فق��ال: )ت��رى م��ا بأي��ديهم م��ا أرى؟( قلت: وما بأيديهم؟ ق��ال: )بأي��ديهم ن��ور(، قلت: ادع الل��ه

.(4)عز وجل أن يرينيه، فدعا الله عز وجل فأرانيه

وحدث آخر قال: كان رجل يقرأ سورة الكه��ف وإلى جانب��ه)( رواه الطبراني باسناد جيد.1

( 122/ 1)( الحاكم )2

( 1879 وانظر كنز العمال )317/ 1)( رواه ابن أبي حاتم وابن عساكر مرسال، السيوطي في الدر المنثور 3

( 3/ 10)( رواه البخاري في التاريخ، سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد )4

248

حصان مربوط فتغشته سحابة، فجعلت تدنو وجعل فرسه ينف�ر، فلما أصبح أت��اك، ف��ذكر ل��ك م��ا رآه، فقلت ل��ه: )تل��ك الس��كينة

(1) تنزلت للقرآن(

وقد كنت � سيدي � ال تكتفي بذلك، بل إن��ك، وألج��ل إزال��ة الشكوك وزرع الطمأنينة في قلوب أصحابك وغيرهم � تخ��برهم

عما يحصل من أحداث فور وقوعها، مع بعدها عنهم. إخبارك بقتل أص�حابك ي�وم الرجي�ع،ومن األمثلة على ذلك

فقد روي أن خبيبا � وكان أحد الشهداء � قال: )اللهم اني ال أجد من يبلغ رسولك عني الس��الم(، فقلت حينه��ا: )وعلي��ك الس��الم(فسألك أصحابك عن سر سالمك، فقلت: )خبيب قتلت��ه ق��ريش(

(2)

إخب��ارك بقت��ل أص��حابك ي��وم ب��ئرومن األمثل��ة على ذلك معونة، ففي الحديث أن أناسا ج��اءوا إلي��ك، فق��الوا: ابعث معن��ا رج��اال يعلمونن��ا الق��رآن والس��نة، فبعثت إليهم س��بعين رجال من األنصار، فتعرضوا لهم فقتلوهم قبل أن يبلغ��وا المك��ان، فق��الوا: اللهم بلغ عنا نبين�ا أن��ا ق��د لقين��اك، فرض�ينا عن�ك ورض�يت عن��ا، فقلت حينها: )إن إخوانكم قتلوا، فقالوا: اللهم بل��غ عن��ا نبين��ا أن

(3)قد لقيناك فرضينا عنك، ورضيت عنا(

وقد حصل هذا في مرات كثيرة، وقد حدث بعض أصحابك،( 241 ومسلم في كتاب صالة المسافرين )232، 170/ 6)( أخرجه البخاري 1

)( رواه البخاري والبيهقي وأبو نعيم.2

)( رواه مسلم والبيهقي.3

249

س��رية، فلم نلبث اال قليال، ح��تى ق��امقال: بعث رسول الل��ه فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: )إن إخوانكم قد لقوا المشركين واقتطعوهم فلم يبق منهم أحد، وإنهم قالوا: ربنا بل��غ قومن��ا أن��ا قد رضينا ورضي عنا ربن�ا، فأن�ا رس�ولهم إليكم، إنهم ق�د رض�وا

(1)ورضي عنهم(

بقت��ل من قت��ل في غ��زوة وهكذا حدث الرواة عن إخب��ارك مؤتة ي��وم أص��يبوا، فق��د روي أن بعض��هم ق��دم علي��ك بخ��برهم، فقلت ل��ه: )إن ش��ئت ف��أخبرني، وان ش��ئت أخبرت��ك(، ق��ال: أخبرني يا رسول الله ب��ه، فأخبرت��ه خ��برهم كلهم ووص��فته لهم، فقال: والذي بعثك بالحق، ما تركت من حديثه حرفا لم ت��ذكره، وان أمرهم لكما ذك�رت، فقلت: )إن الل��ه رف��ع لي األرض ح�تى

(2)رأيت معتركهم(

ب��أن خي��بر تفتح على ي��د وهكذا ح��دث ال��رواة عن إخب��ارك علي بن أبي طالب، فقد حدث بعضهم أنك قلت يوم فتح خي��بر: )ألعطين ه��ذه الراي��ة غ��دا رجال يفتح الل��ه على يدي��ه(، فلم��ا أصبحت قلت: )أين علي بن أبي طالب؟( قالوا: يش��تكي عيني��ه، قلت: )فأرسلوا إليه(، فأتي به إليك، فنفثت في عيني�ه، ودع�وت له فبرأ حتى كأن لم يكن به وج��ع، ثم س��ار إلى المعرك��ة، وفتح

.(3)الله عليه

)( رواه البيهقي.1

)( رواه البيهقي وابو نعيم.2

)( رواه البخاري ومسلم. 3

250

ولم تكن تكتفي بكل ذلك � سيدي � بل كنت تخ��برهم عم��ا تحدثه به في نفوس��هم، وبك��ل دق��ة، فيمتلئ��ون من ذل��ك عجب��ا،

ويمتلئون معه إيمانا ويقينا وطمأنينة.. ومما يروى في ذلك ما حدث به بعضهم من أنه ك��ان مع��ك إذ جاءك رجل فقال: من أنت؟ قلت: )أنا نبي(، قال: وم��ا ن��بي؟ قلت: )رسول الله(، قال: م��تى تق��وم الس��اعة؟ قلت: )غيب وال يعلم الغيب اال الله(، قال: أرني سيفك، فأعطيته س��يفك، فه��زه الرجل، ثم رده عليك، فقلت له: )أما انك لم تكن تستطيع ذل��ك

. (1)الذي أردت(، قال: وقد كان

ثم قلت مخاطب��ا أص��حابك: )إن ه��ذا أقب��ل، فق��ال: آتي��ه، (2)فاسأله ثم آخذ السيف، فاقتله(

وحدث آخر أنك كنت مع أص��حابك، وهم يتح��دثون بإعج��اب شديد عن رجل من المجاهدين معك، لكن��ك قلت لهم: )أم��ا ان��ه من أهل النار(، فاتبعه بعضهم ل��يرى س��ر قول��ك، ف��إذا ب��ه ي��رى الرجل يجرح جرحا شديدا، جعله يأخذ سيفه، ويقت��ل نفس��ه ب��ه، منتحرا، فرجع إليك، وهو يقول: أشهد أن��ك رس��ول الل��ه، فقلت: )إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيم��ا يب��دو للن��اس، وه��و من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار، فيما يب��دو للن��اس،

، ثم قلت لبالل: )ي��ا بالل، قم ف��أذن: ال(3)وهو من أهل الجن��ة(

)( رواه الحاكم وصححه والطبراني.1

)( رواه الطبراني.2

)( رواه البخاري.3

251

يدخل الجنة اال مؤمن، وان الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر( : استأذن عيينة بن حص��ين رس��ول الل��ه وحدث آخر قال

أن يأتي أهل الطائف يكلمهم، لعل الله تعالى أن يه��ديهم ف��أذن ل��ه، فأت��اهم، فق��ال: تمس��كوا بمك��انكم، فوالل��ه لنحن أذل من العبيد، وأقسم بالله لو حدث به حدث لتمسن العرب عز ومنعة، فتمس��كوا بحص��نكم، وإي��اكم أن تعط��وا بأي��ديكم، وال يتك��اثرن

: )م��اذاعليكم قطع هذا الشجر، ثم رجع فقال له رسول الله قلت لهم؟( ق��ال: قلت لهم، وأم��رتهم باإلس��الم ودع��وتهم إلي��ه، وحذرتهم من النار، ودللتهم إلى الجن��ة، ق��ال: )ك�ذبت، ب��ل قلت لهم: كذا وكذا(، فقال: صدقت، يا رس��ول الل��ه، أت��وب إلى الل��ه

(1)تعالى وإليك من ذلك(

على المسير إلىوحدث آخر قال: لما أجمع رسول الله مكة كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش يخبرهم بالذي أجم��ع

علي��ه من المس��ير إليهم، ثم أعط��اه ام��رأة منرس��ول الل��ه مزينة، وجعل لها جعال على أن تبلغه قريشا، فجعلته في رأسها،

الخ��برثم فتلت عليه قرونها، وخرجت به، فأتى رس��ول الل��ه من السماء بما صنع حاطب، فبعث علي بن أبي طالب والزب��ير بن العوام، فقال: )أدركا امرأة قد كتب معه��ا ح��اطب كتاب��ا إلى

(2)قريش يحذرهم(

لم يكن ذل��ك ��� س��يدي ��� ش��يئا عرض��يا تبدي��ه بين الحين والحين، ب��ل ك��ان ش��يئا عادي��ا، تفعل��ه ك��ل حين، ح��تى تزي��د من

)( رواه البيهقي وأبو نعيم.1

)( رواه ابن إسحاق والبيهقي.2

252

حولك طمأنينة، ومن األمثلة على ذلك أن رجال جاءك، فقال: ي��ا رسول الله إن أبي يريد أن يأخذ مالي، فدعوت أباه، فقلت ل��ه: )قلت في نفسك شيئا لم تسمعه أذناك؟( ق��ال: ال ي��زال يزي��دنا

الله تعالى بك بصيرة ويقينا، نعم، فقلت: هات، فأنشأ يقول: غذوتك مولودا ومنتك

يافعا تعل بما أجني عليك

وتنهل إذا ليلة ضاقتك بالسقملم أبت

لسقمك إال ساهراأتململ تخاف الردى نفسي

عليك وانها لتعلم أن الموت حتم

موكل كأني أنا المطروق دونكبالذي

طرقت به دونيفعيناي تهمل فلما بلغت السن والغاية

التي إليك مدى ما كنت فيك

أؤمل جعلت جزائي غلظةوفظاظة

كأنك أنت المنعمالمتفضل فليتك إذ لم ترع حق

مودتي فعلت كما الجار

فبكيت، ثم ع���اتبت ابن���ه على س���لوكه، وقلت ل���ه: )أنتالمجاور يفعل (1)ومالك ألبيك(

ومن األمثلة على ذلك إخبارك أص��حابك عن أس��ئلتهم قب��ل أن يسألوها، ومما يرى في ذل��ك م��ا ح��دث ب��ه وابص��ة بن معب��د

وأن��ا ال أري��د أن أدع من ال��بر واإلثمجئت رس��ول الل��ه ق��ال: ش��يئا اال س��ألته عن��ه، فأتيت��ه، وه��و في عص��ابة من المس��لمين حوله، فجعلت أتخط��اهم ألدن��و من��ه، ف��انتهرني بعض��هم، فق��ال:

؟ فقلت: إني أحب أن أدن�وإلي��ك ي�ا وابص��ة عن رس��ول الل��ه : )دع��وا وابص��ة، ادن م��ني وابص��ة(،منه، فق��ال رس��ول الل��ه

فأدن��اني ح��تى كنت بين يدي��ه، فق��ال: )أتس��ألني أم أخ��برك؟(

)( رواه البيهقي.1

253

فقلت: ال، ب��ل تخ��برني، ق��ال: )جئت تس��أل عن ال��بر واإلثم؟( قلت: نعم، فجم��ع أنامل��ه فجع��ل ينكت بهن في ص��دري وق��ال: )ال�بر م�ا اطم�أنت إلي�ه النفس واطم�أن إلي�ه القلب، واإلثم م�احاك في نفسك، وتردد في الص��در وإن أفت��اك الن��اس وأفت��وك(

(1)

وح��دث آخ��ر أن��ك كنت جالس��ا في مس��جد الخي��ف، فأت��اك األنصار، ورجل من ثقيف فلما سلما، ق��اال: جئن��اك، ي��ارجل من

رس��ول الل��ه، لنس��ألك، فقلت لهم��ا: )إن ش��ئتما أخبرتكم��ا بم��ا ،(تس�أالني عن��ه فعلت، وان ش��ئتما أن أس��كت وتس�أالني فعلت

فقاال: ال، أخبرنا يا رسول الله، نزدد إيمانا أو ن��زدد يقين��ا.. فقلت ألح��دهما: )جئت تس��ألني عن مخرج��ك من بيت��ك ت��ؤم ال��بيت الحرام ومالك فيه، وعن طوافك بالبيت، ومال��ك في��ه، وركعتي��ك بعد الطواف، ومالك فيهما، وعن طوافك بالصفا والم��روة، وعن وقوفك بعرفة، ومالك فيه، وعن رميك الجمار ومالك في��ه، وعن نح��رك ومال��ك في��ه، وعن حالق��ك رأس��ك، ومال��ك في��ه، وعن طوافك، ومالك فيه(، فقال الرجل: )والذي بعثك بالحق عن هذا

.(2 )جئت أسألك!(، ثم أجبته عن أسئلته وأسئلة رفيقه

وحدث آخر قال: أصابنا جوع ما أصابنا مثله قط فقالت لي فاسأله فجئت، فإذا هو يخطب،أختي: اذهب إلى رسول الله

فقال: )من يستعفف، يعفه الله، ومن يستغن يغنه الل��ه(، فقلت في نفس��ي: والل��ه لكأنم��ا أردت به��ذا.. ال ج��رم ال أس��أله ش��يئا، فرجعت إلى أخ�تي فأخبرته�ا، فق�الت: أحس��نت، فلم�ا ك�ان من

)( رواه أحمد وأبو يعلى.1

)( رواه مسدد والبزار واالصبهاني البيهقي.2

254

الغد، فاني والله ألتعب نفسي تحت األجم، إذ وجدت من دارهم يهود فابتعنا به، وأكلنا منه وجاءت الدنيا، فم��ا من أه��ل بيت من

.(1)األنصار أكثر أمواال منا

قالت األنصار ي��وم فتح مك��ة: أم��ا الرج��لوحدث آخر قال: فقد أدركته رغبة في قريت��ه ورأف��ة بعش��يرته، وك��ان ال��وحي إذا جاء لم يخف علينا، فإذا جاء فليس أحد يرفع طرفه إلى رس��ول

حتى ينقضي الوحي، فلما رفع ال��وحي ق��ال: )ي��ا معش��رالله األنص��ار، قلتم: أم��ا الرج��ل فأدركت��ه رغب��ة في قريت��ه، ورأف��ة بعشيرته، كال فما أسمي إذن كال، إني عبد الله ورس��وله المحي��ا محياكم، والممات مماتكم(، فأقبلوا يبكون، وقالوا والله، ما قلنا اال للض��ن بالل��ه ورس��وله، فق��ال: )إن الل��ه ورس��وله يص��دقانكم

(2)ويعذرانكم(

: لما فتح رسولوحدث آخر عن نفسه، وهمه بقتلك، فقال مك��ة، قلت في نفس��ي: أس��ير م��ع ق��ريش إلى ه��وازن،الله

بحنين فعسى إن اختلطوا أن أصيب غرة من محم��د ف��أكون أن��ا ال��ذي قمت بث��أر ق��ريش كله��ا، وأق��ول: ل��و لم يب��ق من الع��رب والعجم أح��د إال أتب��ع محم��دا م��ا أتبع�ه أب��دا، فكنت مرص��دا لم��ا خ��رجت ل��ه ال ي��زداد األم��ر في نفس��ي إال ق��وة.. فلم��ا اختل��ط

عن بغلت��ه، ف��دنوت من��ه، ورفعتالناس، اقتحم رسول الل��ه سيفي حتى كدت أسوره، فرفع لي شواط من ن��ار ك��البرق ك��اد يمحشني، فوض��عت ي��دي على بص��ري خوف��ا علي��ه ف��التفت إلي

وقال: )ادن مني(، فدنوت فمسح صدري، وق��ال:رسول الله )( رواه البيهقي.1

)( رواه مسلم والطيالسي والبيهقي.2

255

)اللهم أعذه من الشيطان(، فوالله لهو من حينئ��ذ أحب إلي من سمعي وبص��ري ونفس��ي، وأذهب الل��ه م��ا ك��ان بي، فق��ال: )ي��ا شيبة، الذي أراد الله بك خ��يرا مم��ا أردت بنفس��ك؟( ثم ح��دثني بما أضمرت في نفس��ي! فقلت: ب��أبي أش��هد أن ال ال�ه اال الل��ه، وأنك رسول الله، استغفر لي يا رس��ول الل��ه، ق��ال: )غف��ر الل��ه

(1)لك(

وحدث آخر عنك أنك مررت وأصحابك بامرأة، فذبحت لكم شاة، واتخذت لكم طعاما، فدخلت وأصحابك، فلما رأيته��ا قلت: )هذه ذبحت بغير إذن أهلها(، فقالت المرأة: يا رسول الله، إنا ال

.(2)نحتشم من آل معاذ، نأخذ منهم، ويأخذون منا

ولم يكن األمر قاصرا على ذلك، وم��ع أص��حابك فق��ط، ب��ل كنت تنطق بأمثال ذل��ك أم��ام المش��ركين، وفي أش��د المواق��ف

أبي ط��الب ب��أنومن األمثل��ة على ذل��ك إخب��ارك لعم��ك حرج��ا، األرضة أكلت الص��حيفة الظالم��ة ال��تي كتبته��ا ق��ريش، ف��انطلق يمشي مع جماعة من بني عبد المطلب حتى أتى المسجد، وهو حافل من قريش، فلما رأوهم أنكروا ذل��ك، وظن��وا أنهم خرج��وا من شدة البالء، فقال عمك أبو طالب: قد حدثت أمور بينكم لم نذكرها لكم، ف��أتوا بص��حيفتكم ال��تي تعاه��دتم عليه��ا، فلعل��ه أن

يكون بيننا وبينكم صلح. وقد قال ذلك خشية أن ينظروا في الصحيفة قبل أن ي��أتوا به���ا، ف���أتوا بص���حيفتهم معج���بين به���ا ال يش���كون أن قوم���ك

)( رواه ابن سعد وابن عساكر.1

)( رواه احمد برجال الصحيح.2

256

سيسلموك لهم، فوضعوها بينهم، فقال أب��و ط��الب: إنم��ا أتيتكم ألعطيكم أمرا لكم فيه نصف، إن ابن أخي ق��د أخ��برني أن الل��ه تعالى برئ من هذه الصحيفة التي في أي��ديكم، ومح��ا منه��ا ك��ل اسم هو له فيها وترك فيها غدركم، وقطيعتكم إيان��ا، وتظ��اهركم علينا بالظلم، فإن كان ما قال ابن أخي كما قال فأفيقوا فوالله، ال يسلم أبدا حتى نموت من عند آخرنا، وإن ك��ان ب��اطال رفعن��اه إليكم، فقتلتم أو اس��تحييتم، ق��الوا: ق��د رض��ينا بال��ذي تق��ول، ففتحوا الصحيفة فوجدوها كما ذكرت لهم؛ فلما رأوا ذلك قالوا: والله إن كان هذا قط اال سحر من ص��احبكم! فق��ال أب��و ط��الب ومن معه: )إن األولى بالكذب والسحر غيرنا، فإنا نعلم أن الذي اجتمعتم علي��ه من قطيعتن��ا أق��رب إلى الجبت والس��حر، ول��وال أنكم اجتمعتم على الس��حر لم تفس��د ص��حيفتكم، وهي بأي��ديكم طمس الله تعالى ما كان فيه��ا من اس��م ل��ه وم��ا ك��ان من بغي

(1)تركه، أفنحن السحرة أم أنتم؟(

ومن األمثلة على إخبارك قريشا ليل��ة اإلس��راء بص��فة بيت المقدس، مع أن��ك لم تكن رأيت��ه قب��ل ليل��ة اإلس��راء، فق��د روى المحدثون أنك بعد أن أسري بك مر عليك أبو جهل، فج��اء ح��تى جلس إليك، فقال لك كالمستهزئ: ه��ل ك��ان من ش��يء؟ قلت: نعم، قال: ما هو؟ قلت: أسري بي الليلة، ق��ال: إلى أين؟ قلت: إلى بيت المقدس. قال: ثم أصبحت بين ظهرانين��ا؟ قلت: نعم.. فلم ير أن يكذبك مخافة أن تجحده الحديث إن دعا قومه إلي��ك، فقال: أرأيت إن دعوت قومك تح��دثهم م��ا ح��دثتني؟ قلت: نعم، قال: يا معش�ر ب�ني كعب بن ل�ؤي.. فانفض��ت إلي��ك المج�الس، وجاءوا ح��تى جلس��وا إلي��ك، فق��ال: ح��دث قوم��ك بم��ا ح��دثتني،

)( رواه البيهقي وأبو نعيم وابن سعد وابن عساكر.1

257

فقلت: )إني أسري الليل��ة بي(، ق��الوا: إلى أين؟ قلت: إلى بيت المقدس، قالوا: ثم أصبحت بين ظهرانين�ا؟ قلت: نعم.. فص��اروا بين مص��فق ومن بين واض��ع ي��ده على رأس��ه متعجب��ا، وض��جوا وأعظموا ذلك.. فقالوا: يا محمد ص�ف لن�ا بيت المق�دس، كي�ف بن��اؤه وكي��ف هيئت��ه؟ وكي��ف قرب��ه من الجب��ل؟ وفي الق��وم من

سافر إليه. فأخذت تنعت لهم بناءه وهيئت��ه، كم��ا ك��ان بالفع��ل.. فق��ال القوم: أما النعت فوالله لقد أصاب.. ثم قالوا: ي��ا محم��د أخبرن��ا عن عيرنا.. فقلت: )أتيت على عير بني فالن بالروحاء قد ض��لوا ناقة لهم، فانطلقوا في طلبها، فانتهيت إلى رح��الهم، فليس به��ا منهم أحد، وإذا قدح ماء فشربت من��ه، ثم انتهيت إلى ع��ير ب��ني فالن في التنعيم يقدمها جمل أورق عليه مسح أسود وغرارت��ان سوداوان وها هي ذه تطلع عليكم من الثنية(.. وقد حصل كل ما

أخبرتهم عنه، لكن ذلك لم يزدهم إال جحودا وعتوا. ه��ذه ��� س��يدي ��� قط��رة من بح��ر استبص��ارك وتوس��مك، والطاقات التي وهبك الله، والتي ال يمكن لعقولن��ا البس��يطة أن ت��دركها.. وال أن تتخيله��ا.. وأنى له��ا ذل��ك، وال يع��رف الن��بي إال

النبي.. فنسألك �� س��يدي ��� ونتوس�ل ب�ك إلى الل��ه أن يرزقن�ا من البصيرة ما نرى به عيوبنا وآفاتنا والفتن المحدقة بنا.. وأن يعيننا على مواجهتها ومقاومتها وصدها.. وأن يجعلك قائدنا وهادينا في ذلك.. فال يمكننا أن نقتحم لجة الفتن من دون��ك.. وال يمكنن��ا أن

نتحقق بالنجاة، وال بالفوز من دون أن نركب سفينتك. ونسألك � سيدي � ونتوسل ب��ك إلى الل��ه أن يرين��ا مراش��د

258

أمورنا، حتى ال نقع في أي ضاللة، وال أي فتن��ة.. وأن يجعلن��ا من المستبص��رين المتوس��مين ال��ذين ال يكتف��ون برؤي��ة الظ��واهر، ويغفل��ون عن الب��واطن.. أو يكتف��ون برؤي��ة الحاض��ر دون أن يستشرفوا المستقبل.. إن��ك ص��احب الوس��يلة العظمى، والج��اه

العظيم.

259

المبجل المكرم سيدي يا رسول الله.. يا من تحققت فيك العبودي��ة بأجم��ل صورها وأكملها، ولذلك نلت من فضل الله وتكريمه وتبجيل��ه م��ا لم يحظ بمثله بشر، بل ما لم يحظ بمثله مخلوق.. ي��ا من آت��اك الله الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيع��ة والمق��ام المحم��ود في ال��دنيا واآلخ��رة.. فال ي��ذكر الل��ه إال وت��ذكر مع��ه، وال يط��اع إال بطاعتك، وال ينال أحد رضوانه قبل أن ينال رضاك.. ف��أنت ب��اب الهداية ومفتاحه�ا، وعين الرحم�ة وس�راجها.. ومن أراد ال�دخول على الحق بعي��دا عن��ك لم يج��د إال الض��اللة، ومن أراد أن يس��ير

على السراط المستقيم بعيدا عن سنتك لم يجد إال الهاوية. لقد تأملت � سيدي � أص��ناف التكريم��ات ال��تي كرم��ك به��ا ربك، فوجدت أنك حقيق بكل ذلك التكريم.. فأنت الذي ص��برت على كل أنواع البالء والسخرية واالحتقار في سبيل أن تبلغ دين

ربك، من غير أن تطلب أي أجر، وال أن تنتظر أي ثناء.. لق��د ك��ان حادي��ك إلى ذل��ك كل��ه طاعت��ك لرب��ك، وص��دق عبوديتك، وحرصك على الخلق الذين كلفت بدعوتهم وهدايتهم.. ولذلك كنت تقابل ك��ل أن��واع الس��خرية واالس��تهزاء بك��ل أن��واع

الصبر والرضا.. فال تنزعج، وال تتضجر. لقد ذكر الله تعالى بعض ذلك األذى الذي كنت تتعرض ل��ه،�خ��ذونك إال ه��زوا أه��ذا ال�ذي �ذين كفروا إن يت ﴿فقال: وإذا رآك ال

)األنبي��اء: ��افرون حمن هم ك ��ذكر ال��ر� ��ذكر آلهتكم وهم ب (،36﴾ي�ه �ذي بعث الل �خ��ذونك إال ه��زوا أه��ذا ال ﴿وق��ال: وإذا رأوك إن يت

)الفرقان: (41﴾رسوال

260

��ل ولذلك كان من مقتض��يات اس��م الل��ه ]الش��كور[ أن تقاب السخرية بالثناء، ويقابل االستهزاء بتل��ك المكان��ة الرفيع��ة ال��تي بوأك الله إياها.. بل أمر المؤمنين جميعا أن يبوئوك إياها، فق��ال

��وا� مخاطبا لك ���: ��ذيرا لتؤمن را ون اهدا ومبش�� لناك ش�� �ا أرس�� إن حوه بكرة وأصيال روه وتوقروه وتسب �ه ورسوله وتعز )الفتح:بالل

8 - 9) ونهى أن يقدم أحد رأي��ه علي��ك، أو يعقب على م��ا ت��ذكره،

ولهفق��ال: �ه ورس�� ��دي الل ��وا ال تق��دموا بين ي �ذين آمن ه��ا ال ��ا أي ي�ه سميع عليم( )الحجرات: �ه إن� الل �قوا الل (1وات

ونهى أن يتج��اوز أح��د ح��دودك، أو يتس��اهل في طاعت��ك،�ات ��ه جن وله يدخل �ه ورس�� ��ع الل �ه ومن يط ��ك ح��دود الل ﴿فق��ال: تل��ك الف��وز العظيم ��دين فيه��ا وذل ﴾تج��ري من تحته��ا األنه��ار خال

(13)النساء: ﴿واعتبر طاعتك سببا للفوز بالدرجات العالي��ة، فق��ال: ومنين �بي �ه عليهم من الن �ذين أنعم الل سول فأولئك مع ال �ه والر� يطع الل )النس��اء: هداء والص�الحين وحسن أولئك رفيقا ﴾والصديقين والش

69)

سول فق��د ﴿واعتبر طاعتك مثل طاعته؛ فقال: من يطع الر� )النساء: �ى فما أرسلناك عليهم حفيظا �ه ومن تول (80﴾أطاع الل

﴿واعتبر اتباعك السبيل الوحيد إلثبات محبة الله، فقال: قل��وبكم �ه ويغف��ر لكم ذن �بعوني يحببكم الل �ه ف��ات ون الل إن كنتم تحب

�ه غفور رحيم )آل عمران: (31﴾والله��اونهى أن ترف��ع األص��وات أم��ام حض��رتك، فق��ال: ��ا أي ي

261

��ه �بي وال تجه��روا ل �ذين آمنوا ال ترفعوا أصواتكم فوق صوت الن ال���ط أعم���الكم وأنتم ال كم لبعض أن تحب ���القول كجه���ر بعض��� ب

(2تشعرون( )الحجرات: ونهى أن تدعى كما ي��دعى س��ائر الن��اس، أو يعت��بر دع��اؤك

كمكدعائهم، فقال: ��دعاء بعض�� سول بينكم ك ال تجعلوا دعاء الر��ذين ��واذا فليح��ذر ال �لون منكم ل ل �ذين يتس�� �ه ال بعض��ا ق��د يعلم الليبهم ع��ذاب أليم ��ة أو يص�� يبهم فتن يخ��الفون عن أم��ره أن تص��

(63)النور: وأم��ر ف��وق ذل��ك كل��ه بتعظيم��ك وتوق��يرك وب��رك، فق��ال

��ذيرا )مخاطبا لك: را ون �ا أرسلناك شاهدا ومبش�� ��وا8 إن ( لتؤمنحوه بكرة وأصيال روه وتوقروه وتسب �ه ورسوله وتعز ]الفتح:بالل

8 ،9] ونهى عن ك��ل أش��كال اإلذي��ة ل��ك، وتوع��د من يفع��ل ذل��ك

�ه فيباللعن��ة، فق��ال: وله لعنهم الل �ه ورس�� ��ؤذون الل �ذين ي إن� ال� لهم عذابا مهينا [57 ]األحزاب: الدنيا واآلخرة وأعد

وك��ل ه�ذا ��� س��يدي ��� ليتحق��ق االبتالء ب��ك للخل��ق، ليتم��يز الصادقين الذي يرتضون اصطفاء الله لك، ويسلمون له، والذين يستكبرون، ويفعلون مثلما فعل إبليس عندما أبى السجود آلدم، فنزلت عليه اللعنات.. ذلك أنه آمن بالله، ولكنه � لسوء طالعه � ﴿راح يناقش الله فيما ال مجال له فيه.. ولم يعلم أن الله: يخلق�ه وتع��الى عم�ا بحان الل ��رة س�� ��ان لهم الخي ��ار م��ا ك ما يشاء ويخت

(68﴾يشركون )القصص: ول��و أن��ه نظ��ر إلى ه��ذا الك��ون الواس��ع بعين الحكم��ة والبصيرة، لرأى كيف ميز الله بعض خلقه عن بعض وفق عدل��ه

262

وحكمت���ه ورحمت���ه وعلم���ه بخلق���ه.. فل���ذلك جع���ل منهم من يس��تحقون رئاس��ة معين��ة على س��ائر البش��ر، ألنهم في جس��م

اإلنسانية كالدماغ والقلب في جسم اإلنسان. ولو أنه نظر بعين العدالة اإللهية، لعلم أن هؤالء المختارين لم يختاروا جزافا، وإنما بناء على مقتضيات العدالة اإللهية ال��تي وض��عتهم في ك��ير االختب��ار، فنجح��وا في��ه، كم��ا ق��ال تع��الى عن

ه بكلم��ات ف��أتم�هن�إبراهيم عليه الس��الم: ��راهيم رب وإذ ابتلى إب�تي قال ال ينال عهدي ي �اس إماما قال ومن ذر ي جاعلك للن قال إن

[124 ]البقرة: الظ�المين ول��ذلك رد الل��ه تع��الى على أولئ��ك المش��اغبين المج��ادلين ﴿ال��ذين يتوهم��ون أن تك��ريم الل��ه من��اف لعدالت��ه، فق��ال: وإذا�ه ل الل ��ل م��ا أوتي رس�� ��ؤتى مث �ى ن جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حت

�ه أعلم حيث يجعل رسالته )األنعام: (124﴾الل لق��د ق��ال الل��ه ذل��ك لمن أنك��روا أن يتفض��ل الل��ه علي��ك �

سيدي � كما تفضل على إخوانك من سائر األنبياء والمرسلين. لقد ك��ان أولئ��ك الغالظ الجاح��دون، وهم في ك��ل األزمن��ة، ينظرون باحتقار إليك، ألنهم كانوا يتص��ورون أن الرس��ول ال��ذي يختاره الل��ه ينبغي أن يك��ون من تل��ك الفئ��ة المس��تكبرة الغني��ةل هذا القرآن على رجل ﴿الوجيهة، كما قال تعالى: وقالوا لوال نز

)الزخ��رف: (، أو كم��ا يتص��ور اليه��ود أن31﴾من القريتين عظيم الله تعالى البد أن يخت��ار رس��وال من ب��ني إس��رائيل، وك��أن ب��ني

إسرائيل وحدهم خلق الله، وغيرهم خلق الشيطان.مون ﴿لق��د رد الل��ه على ه��ذا االحتق��ار، فق��ال: أهم يقس��ك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا رحمت رب

263

خريا ورحمت هم بعض��ا س�� �خذ بعض�� بعضهم فوق بعض درجات ليتك خير مم�ا يجمعون )الزخرف: ( 32﴾رب

ولهذا كله نص القرآن الك��ريم، وبنص��وص قطعي��ة ص��ريحة على وجوب تكريمك، واعتبره عالم��ة اإليم��ان والص��دق، واعت��بر

خالفه عالمة الشك والريب والكفر.. وليس في تكريم الخلق لك � سيدي � أي زيادة ل��ك، ف��أنت الغني برب��ك عن ك��ل ش��يء.. وإنم��ا ه��و زي��ادة لن��ا.. ف��القلب ال يعشق إال من يعظمه، وي��راه في قم��ة قمم الكم��ال، ف��إن غض منه أو احتقره، لم يستطع أن يحبه.. وإن لم يحبه لم يستطع أن

يستفيد منه. ولذلك أمرنا الله تعالى بالصالة والسالم عليك، حتى نتملئ بتعظيمك وذكرك كل حين.. فتكون صالتنا لك هي مع��راج قربن��ا منك.. وقربنا منك هو معراج قربنا من الله.. قال الله تع��الى:

وا ل ��وا ص�� �ذين آمن ه��ا ال ��ا أي �بي ي ون على الن ل ��ه يص�� �ه ومالئكت إن� اللموا تسليما [56 ]األحزاب: عليه وسل

لق��د علمت ��� س��يدي ��� ومن خالل التجرب��ة والواق��ع أن انش��غال القلب واللس��ان بالص��الة علي��ك أك��بر مص��در للس��عادة والراح��ة والطمأنين��ة.. وهي بمثاب��ة انفت��اح القلب على ع��الم الملكوت.. أو بمثابة فتح النوافذ إلى تلك العوالم المقدسة التي يخفيها الدنس الذي نعيشه.. ولذلك كان تك�ريم الل�ه تع�الى ل�ك بالصالة علي��ك تكريم��ا لن��ا أيض��ا.. فمن يص��لي علي��ك، س��ينال ال

محالة صالتك عليه، بل صالة الله عليه. فبالصالة عليك نذكرك.. وبذكرك نتعرف عليك.. وب��التعرف عليك نحبك.. وبحبك نصل إليك.. وبالوصول إليك ننال ك��ل خ��ير

264

في الدنيا واآلخرة. إن المكروب منا يصلي عليك، فيجد من لذة األنس ب��ك م��ا

يشغله عن كربه. وإن صاحب الحاج��ة من��ا تنس��د في طريق��ه األب��واب، ف��إذا

صلى عليك فتح الله عليه مغاليقها. لق��د عرفن��ا ه��ذا بالتجرب��ة، وعرفن��اه من خالل أحاديث��ك الكثيرة التي تحثنا فيها على الصالة علي��ك، لعلم��ك بأنه�ا طري�ق

من طرق الوصول.. ومن سار في الطريق وصل. لقد أخبرتنا أن أول جزاء ينال��ه من ص��لى علي��ك أن يص��لي الله عليه، فقلت: )من صلى علي صالة واحدة صلى الل��ه علي��ه

(1)عشر صلوات، وحط عنه عشر خطيئات(

وقلت: )إنه أتاني المل��ك فق��ال: ي��ا محم��د أم��ا يرض��يك أن ربك عز وجل يقول إنه ال يصلي عليك أحد من أمت��ك إال ص��ليت علي��ه عش��را، وال يس��لم علي��ك أح��د من أمت��ك إال س��لمت علي��ه

(2)عشرا؟ قلت: بلى(

بل ورد في حديث آخ��ر م��ا ه��و أعظم من ذل��ك كل��ه، فق��د قلت تحكي عن الله تعالى: )من صلى عليك صليت علي��ه، ومن

)( رواه أحمد.1

)( رواه أحمد وابن حبان، وفي رواية أخرى رواها أحمد والنسائي عن أبي طلحة2 يوما طيب النفس يرى في وجهه البشر، قالوا: يااألنصاري قال: أصبح رسول الله

رسول الله أصبحت اليوم طيب النفس يرى في وجهك البشر، قال:» أجل، أتاني آت من ربي عز وجل فقال: من صلى عليك من أمتك صالة كتب الله له بها عشر حسنات، ومحا

عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، ورد عليه مثلها«265

(1)سلم عليك سلمت عليه(

هل هناك � سيدي ��� تك��ريم أعظم من ه��ذا التك��ريم.. الل��ه خالق كل شيء، ومالك كل شيء، ومل��ك ك��ل ش��يء يق��ول لن��ا

هذا، ويربط صالته وسالمه علينا بصالتنا وسالمنا عليك. ولم يكن ذل��ك ه��و الج��زاء الوحي��د لمن يتش��رف بالص��الة عليك، فقد ورد في الحديث أن المالئكة ال تزال تصلي على من يصلي عليك، فقد قلت: )من صلى علي صالة لم ت��زل المالئك��ة

(2)تصلي عليه ما صلى علي، فليقل عبد من ذلك أو ليكثر(

وأخ��برت أن ال��ذين يص��لون علي��ك هم أولى الن��اس ب��ك، وبشفاعتك يوم القيامة، فقلت: )إن أولى الناس بي يوم القيامة

(3)أكثرهم علي صالة(

وقلت: )إذا سمعتم المؤذن، فقولوا مثل ما يقول ثم ص��لوا علي، فإنه من صلى علي صالة صلى الل��ه علي��ه به��ا عش��را، ثم سلوا لي الوس��يلة فإنه��ا منزل��ة من الجن��ة ال تنبغي إال لعب��د من عباد الله وأرجو أن أكون أن��ا ه��و، فمن س��أل الل��ه لي الوس��يلة

(4)حلت له الشفاعة(

)( رواه أحمد والحاكم..1

)( رواه أحمد وابن أبي شيبة وابن ماجه.2

)( رواه الترمذي وابن حبان.3

)( رواه مسلم وأبو داود والترمذي.4

266

وقلت � تعلمنا كيفية الصالة عليك �: )من ق��ال: اللهم ص��ل على محم��د وعلى آل محم��د كم��ا ص��ليت على إب��راهيم وآل إبراهيم، وب��ارك على محم��د وعلى آل محم��د كم��ا ب��اركت على إبراهيم وآل إبراهيم، وت��رحم على محم��د وعلى آل محم��د كم��ا ت��رحمت على إب��راهيم وآل إب��راهيم، ش��هدت ل��ه ي��وم القيام��ة

(1)بالشهادة وشفعت له(

وأخبرت عن األجور الكثيرة بأنواعها المختلفة التي أع��دها الله لمن يصلون عليك، فقلت: )من صلى علي من أم��تي ص��الة مخلصا من قلبه صلى الله عليه بها عش��ر ص��لوات، ورفع��ه به��ا عشر درجات، وكتب له بها عشر حسنات، ومحا عن��ه به��ا عش��ر

(2)سيئات(

ولم يكن جزاء الصالة عليك تلك األجور األخروية فقط، ب�ل أخبرت أن الله تعالى يجازي المصلين عليك بأجور الدنيا أيض��ا.. وكيف ال يفع�ل ذل�ك.. والل�ه رب ال�دنيا واآلخ�رة.. فق�د ورد في الحديث أن بعض أصحابك قال لك: كم أجع��ل ل��ك من ص��التي؟ فقلت له: )ما شئت(، قال: الربع؟ قلت: )م��ا ش��ئت، ف��إن زدت فهو خير لك(، قال: النصف؟ قلت: )ما شئت وإن زدت فهو خير لك(، قال: أجعل لك صالتي كلها؟ قلت: )إذا يكفي همك، ويغفر

(3)ذنبك(

)( رواه البخاري.1

)( رواه النسائي والطبراني والبزار.2

)( رواه أحمد والترمذي والحاكم.3

267

وفي حديث آخر قال لك بعضهم: يا رس��ول الل��ه أرأيت إن جعلت ص��التي كله��ا علي��ك؟ فقلت ل��ه: )إذا يكفي��ك الل��ه تب��ارك

(1)وتعالى ما أهمك من دنياك وآخرتك(

ولهذا اعتبر الصالحون الصالة عليك مفتاحا إلجاب��ة ال��دعاء، وق��د ق��ال اإلم��ام علي: )ك��ل دع��اء محج��وب ح��تى يص��لى على

)(2)محمد

ولهذا علمتنا � سيدي � كيف نم��زج في دعائن��ا بين مطالبن��ا الشخصية وبين الصالة علي��ك، ففي الح��ديث أن��ك س��معت رجال يدعو في صالته من غير أن يمج��د الل�ه تع�الى أو يص�لي علي��ك، فقلت: )عج��ل ه��ذا(، ثم دعوت��ه، وقلت ل��ه: )إذا ص��لى أح��دكم، فليبدأ بتمجيد ربه سبحانه والثناء عليه، ثم يصلي علي، ثم ي��دعو

(3)بعد بما شاء(

،وح��دث بعض��هم عن نفس��ه ق��ال: )كنت أص��لي والن��بي ثمفلما جلست بدأت بالثناء على الله ثم الص��الة على الن��بي

(4): )سل تعطه، سل تعطه(دعوت لنفسي، فقال النبي

فيا سيدي يا رسول الله.. يا صاحب الجاه العظيم، والمقام

)( رواه أحمد.1

)( رواه الطبراني موقوفا ورفعه بعضهم.2

)( رواه أبو داود والترمذي أحمد والنسائي والحاكم، وفي رواية: فليبدأ بتحميد3ربه عز وجل.

)( رواه الترمذي.4

268

الرفيع، والمكانة الشريفة الرفيعة، أسألك وأتوسل بك إلى الل��ه أن يجعل��ني من المعظمين ل��ك بقل��وبهم وعق��ولهم وأرواحهم وجمي��ع لط��ائفهم، ح��تى تك��ون أنت س��راجي ال��ذي يض��يء لي،

ومعراجي الذي أرقى به. وأسألك ��� س��يدي ��� أن يص��ير لس��اني م��دمنا على الص��الة عليك، وقلبي مستشعرا لمحبتك والش��وق إلي��ك.. وحي��اتي كله��ا وفق هديك وسنتك، حتى ألقاك وأنت راض ع��ني.. فمن رض��يت

عنه سعد في الدنيا واآلخرة.

269

المحبوب المعظم سيدي يا رسول الل��ه.. ي��ا من جع��ل الل��ه محبت��ك مدرس��ة للقلوب الطاهرة ترتقي بها إلى سلم الكماالت، وتنال به��ا أعلى ال��درجات، وتت��نزل عليه��ا به��ا أعظم البرك��ات.. فال يمكن لقلب يريد أن يتطهر من أدرانه، وال لنفس تري��د أن ت��رتقي في س��لم كماالته��ا، م��ا لم تجع��ل حب��ك وتعظيم��ك معراجه��ا ووس��يلتها

وسلمها. ال أزال أذكر سيدي كل حين قول��ك لبعض أص��حابك عن��دما ذكر لك حبه لك، وأنه يحبك أكثر من ك��ل ش��يء إال من نفس��ه.. لقد قلت له حينها: )ال، والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك

(1)من نفسك(

لقد نصحته � سيدي � أعظم نص��يحة.. فال يمكن ألح��د يحب نفس�ه أك�ثر من�ك أن ين�ال حظ�ه من الكم�ال، ألن حب�ه لنفس�ه س��يجعله س��جينا له��ا.. وأم��ا حب��ه ل��ك، فس��يرتقي ب��ه إلى أعلى

درجات الكمال. ولذلك أمرنا الله تعالى بحبك، وأن نجعل��ه األعلى واألوفى،��اؤكم ��ان آب ﴿فال نقدم عليه أي حب آخر، ق��ال تع��الى: ق��ل إن كيرتكم وأم��وال اقترفتموه�ا �اؤكم وإخ�وانكم وأزواجكم وعش� وأبن�ه ونها أحب� إليكم من الل اكن ترض�� وتجارة تخشون كسادها ومس���ه ال �ه بأمره والل �ى يأتي الل �صوا حت ورسوله وجهاد في سبيله فترب

(24 )التوبة:يهدي القوم الفاسقين

)( رواه أحمد والبخاري.1

270

وهكذا كنت تقول مخاطبا أصحابك: )ال يؤمن أح��دكم ح��تى (1)أكون أحب إليه من والده وولده(

لقد رحت سيدي إلى موازين العق��ول أبحث فيه��ا عن س��ر أمر الله لنا بحبك، وسر تقديم حب��ك على حب غ��يرك؛ فوج��دت أن ذلك الحب المقدس الذي نتوجه به إلي��ك ه��و المفت��اح ال��ذي

نصل به إلى جميع أبواب السعادة، ومن أقصر طرقها. ذل��ك أن الحب يس��تدعي ال��ذوبان والفن��اء في المحب��وب.. فتنتقل بذلك صفاته إلى المحب، ومن غير معان��اة.. ألن ح��رارة

الحب وحدها تتولى ذلك. فلهذا حين يتوله أي شخص بحبك � سيدي � ف��إن ك��ل تل��ك

��قالخصال الجميلة التي وصفك الله بها، فقال: �ك لعلى خل وإن [، تنتقل إليه بمقدار حبه لك.. فإن ك��ان حب��ك4 ]القلم: عظيم

قد طغى عليه، ففنى عن نفس��ه، فإن��ه يتحق��ق بتل��ك المش��اكلةف��وس زوجت ﴾ال��تي ع��بر عنه��ا الل��ه تع��الى بقول��ه: وإذا الن ﴿

(.. وحينها ينال أعظم س��عادة، ذل��ك أن الل��ه تع��الى �7)التكوير: بعدله ورحمته � يضم القرناء بعضهم إلى بعض.. كما ح�دثت عنذلك بقولك: )يقرن كل رجل مع كل قوم كانوا يعمل��ون كعمل��ه(

�ه، ب��ل كم��ا نص على ذل��ك قول��ه تع��الى: (2) ��ع الل ومن يطين �بي �ه عليهم من الن �ذين أنعم الل ول فأولئك م�������ع ال س������� والر�

هداء والص�الحين وحسن أولئك رفيقا ]النساء:والصديقين والش69]

)( رواه البخاري.1

.8/429)( انظر هذه النصوص في: الدر المنثور:2

271

ولذلك ك��انت المعي��ة نص��يب ك��ل من أحب��ك.. فال يكفي أن يطيعك المرء من غير محبة.. ذلك أنه ال يتحقق له كمال االتب��اع

إال بها.. ولذلك كان أسعد الناس بك أك��ثرهم حب��ا ل��ك، ذل��ك أنهم � كما تشرفوا بصحبتك لقلوبهم في الدنيا � فسيتشرفون بصحبتك

في اآلخرة. وقد ورد في الحديث أن رجال أتاك، فق��ال: )ألنت أحب إلي من أهلي ومالي، وإني ألذكرك، فما أصبر عنك حتى أنظر إليك، وإني ذكرت موتي وموتك فع��رفت أن��ك إذا دخلت الجن��ة رفعت��ع ﴿مع النبيين وإن دخلتها ال أراك(، ف��أنزل الل��ه تع��الى: ومن يطين �بي �ه عليهم من الن �ذين أنعم الل ول فأولئك م����ع ال س���� �ه والر� الل

هداء والص�الحين وحسن أولئك رفيقا )النساء:والصديقين والش69)(1)

وقد قلت سيدي في ذلك مبشرا ك��ل محبي��ك: )من أحب��ني (2)كان معي في الجنة(

وقلت لرجل سألك: )متى الس��اعة؟(: )م��ا أع��ددت له��ا؟(، فقال: ما أعددت لها من كثير صالة وال صيام وال صدقة، ولك��ني

(3)أحب الله ورسوله، فقلت له: )أنت مع من أحببت(

)( رواه الطبراني، وابن مردويه.1

)( رواه االصبهاني في الترغيب.2

)( رواه البخاري ومسلم.3

272

ولذلك كان الص�ادقون من أص�حابك ومن بع�دهم من أك�ثر الناس محب��ة ل��ك، وق��د روي أن ام��رأة من األنص��ار قت��ل أبوه��ا وأخوها وزوجها ي��وم أح��د مع��ك، لكنه��ا لم تأب��ه لهم جميع��ا، ب��ل كانت تسأل عنك، فلما قيل لها: هو بحمد الله تعالى كما تحبين،

(1)قالت: أرونيه.. فلما رأتك، قالت: )كل مصيبة بعدك جلل(

وهكذا فعل حبيبك زيد بن الدثنة ال��ذي أخرج��ه المش��ركون من الحرم ليقتلوه، فقال له عدوك اللدود أب��و س��فيان: أنش��دك بالله يا زيد، أتحب أن محمدا عندنا بمقامك تضرب عنق��ه، وأنت في أهلك، فقال زيد: والل��ه م��ا أحب أن محم��دا اآلن في مكان��ه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذي��ه، وأن��ا ج��الس في أهلي، فق��ال أبو سفيان: والله ما رأيت أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محم��د

.(2)محمدا

وهكذا فعل ذلك الصحابي الذي قال لك: )يا رس��ول الل��ه! إن��ك ألحب إلي� من نفسي، وأحب إلي� من أهلي، وأحب إلي� من ول��دي، وإني ألكون في البيت، فأذكرك فما أصبر حتى آتي��ك ف��أنظر إلي��ك، وإذا ذكرت موتي وموت�ك ع�رفت أن�ك إذا دخلت الجن�ة رفعت م�ع

(3)النبيين، وإن دخلت الجنة خشيت أن ال أراك(

وقال لك آخر، وهو ثوب��ان م�والك، فق�د أت�اك، وق�د تغ�ير لون��ه ونحل جسمه، يعرف في وجهه الحزن؛ فقلت له: )يا ثوبان ما غ��ير

)( رواه ابن إسحاق والبيهقي.1

)( رواه البيهقي.2

)( رواه الحافظ أبو عبد الله المقدسي في كتابه )صفة الجنة(3

273

لونك؟( فقال: )يا رسول الله ما بي ض��ر وال وج��ع، غ��ير أني إذا لم أرك اش�تقت إلي�ك واستوحش�ت وحش�ة ش�ديدة ح�تى ألق�اك، ثم ذكرت اآلخرة وأخ��اف أال أراك هن��اك؛ ألني ع�رفت أن��ك ترف��ع م��ع النبيين وأني إن دخلت الجنة كنت في منزلة هي أدنى من منزلتك،

وإن لم أدخل فذلك حين ال أراك أبدا( وقد بشرت هؤالء جميعا، بأنهم مع من أحب��وا.. وك��ذلك بش��رت

من بعدهم. وقد ظل � سيدي � هذا الحب س��اريا في أمت��ك من بع��دك، تتأدب به، وتترقى في مدارج الكمال بسببه.. حتى أن هن��اك من يضحي بكل شيء في سبيل أن يظف��ر برؤي��ة من��ك.. وق��د ق��ال

بعضهم يذكر شوقه إليك: كيف ال تسكبالدموع عيوني

وهي من قبل أنتراك سجام كيف ال تذهل العقول

وتفنى أنفس العاشقين

وهي كرام يا رسول اإلله إنيمحب

لك والله شائقمستهام يا رسول اإلله في كل

حين لك مني تحية

وسالم يا رسول اإلله شوقيعظيم

زائد والغرام فيكغرام يا رسول اإلله إني

نزيل ونزيل الكرام ليس

س��يدي.. ي��ا رس��ول الل��ه.. لس��نا نحن المس��لمين ممنيضام تشرفوا باتباعك فقط من أحبوك وعظموك وعرفوا قدرك.. ب��ل هناك الكثير من العقالء في العالم الذين امتألوا إعجابا وتعظيم��ا لك، ولو أنهم لم يؤمنوا أو لم يعلنوا إيمانهم، ذلك أنهم رأوا فيك

كل صفات الكمال التي يحلمون أن يروها في اإلنسان.

274

لقد ذكر ]مايكل هارت[ في كتابه )العظماء مائة وأعظمهم ( سبب اختياره لك، لتك��ون على قم��ة عظم��اء الع��الم،محمد

وعلى مدار التاريخ، فقال: )إن اختياري لمحمد ليقود قائمة أكثر أشخاص العالم تأثيرا في البشرية قد يدهش بعض الق��راء، وق�د يعترض عليه البعض.. ولكنه كان )أي محمد( الرجل الوحي��د في التاريخ الذي حق��ق نجاح��ا ب��ارزا في ك��ل من المس��توى ال��ديني

والدنيوي( وقال عنك: )كان محم��د الرج��ل الوحي��د في الت��اريخ ال��ذي نجح في مهمته إلى أقصى حد، سواء على المستوى ال��ديني أم

(1)على المستوي الزمني(

أما شاعر األلمان األكبر ]يوهان غوته[، فقد قال في ديوانه )الديوان الش��رقي للش��اعر الغ��ربي( يخ��اطب أس��تاذه ال��روحي الشاعر حافظ شيرازي، مع��برا عن أش��واقه إلي��ك: )أي حاف��ظ!

وإنني مهاجر إليك بأجناس البش��رية…إن أغانيك لتبعث السكون المحطم��ة، لتحملن��ا في طري��ق الهج��رة إلى المه��اجر األعظم

(2)محمد بن عبد الله(

وقال: )إننا أهل أوربة بجميع مفاهيمنا، لم نصل بعد إلى ما وصل إليه محمد، وس��وف ال يتق�دم علي��ه أح�د، ولق��د بحثت في التاريخ عن مثل أعلى لهذا اإلنسان، فوجدت��ه في الن��بي محم��د، وهكذا وجب أن يظهر الحق ويعلو، كما نجح محمد ال��ذي أخض��ع

العالم كله بكلمة التوحيد(

(33)( )المائة األوائل( مايكل هارت )1

(31)( الديوان الشرقي للشاعر الغربي، غوته ص)2

275

وقال عنك األديب الروسي ]ليو تولس��توي[ وال��ذي حرمت��ه الكنيسة بسبب آرائ��ه: )أن��ا واح��د من المبه��ورين ب��النبي محم��د ال��ذي اخت��اره الل��ه الواح��د لتك��ون آخ��ر الرس��االت على يدي��ه، وليكون هو أيضا آخر األنبياء.. ويكفيه فخرا أنه هدى أمة برمته��ا إلى نور الحق، وجعلها تجنح للسكينة والسالم، وفتح له��ا طري��ق

الرقي والمدينة( وق��ال عن��ك الش��اعر الفرنس��ي الش��هير ]الف��ونس دي المارتين[: )أعظم حدث في حياتي هو أنني درست حياة رسول الله محمد دراسة واعي��ة، وأدركت م��ا فيه��ا من عظم��ة وخل��ود، ومن ذا ال���ذي يج���رؤ على تش���بيه رج���ل من رج���ال الت���اريخ بمحمد؟!.. ومن هو الرجل ال�ذي ظه��ر أعظم من��ه، عن��د النظ��ر إلى جمي��ع المق��اييس ال��تي تق��اس به��ا عظم��ة اإلنس��ان؟!.. إن سلوكه عند النصر وطموحه الذي ك��ان مكرس��ا لتبلي��غ الرس��الة وصلواته الطويلة وحواره السماوي ه��ذه كله��ا ت��دل على إيم��ان كامل مكن��ه من إرس��اء أرك��ان العقي��دة. إن الرس��ول والخطيب والمشرع والفاتح ومصلح العقائد األخرى الذي أسس عبادة غير قائم��ة على تق��ديس الص��ور ه��و محم��د، لق��د ه��دم الرس��ول

(1)المعتقدات التي تتخذ واسطة بين الخالق والمخلوق(

وقال عنك الفيلسوف اإلنجليزي ]ج��ورج برناردش��و[: )لق��د درست محمدا باعتباره رجال مدهشا، فرأيته بعيدا عن مخاص��مة المسيح، بل يجب أن يدعى منق��ذ اإلنس��انية، وأورب��ة ب��دأت في العصر الراهن تفهم عقيدة التوحي��د، وربم��ا ذهبت إلى أبع��د من ذلك، فتعترف بقدرة هذه العقيدة على ح��ل مش��كالتها بطريق��ة

(.277)( السفر إلى الشرق، ص)1

276

تجلب السالم والسعادة! فبهذه الروح يجب أن تفهموا نب��وءتي((2)

وقال عنك � مبديا إعجاب��ه بشخص��ك العظيم ���: )إن رج��الب، ق��د ال��دين في الق��رون الوس��طى، ونتيج��ة للجه��ل أو التعص�� رس��موا ل��دين محم��د ص��ورة قاتم��ة، لق��د ك��انوا يعتبرون��ه ع��دوا للمسيحية، لكنني اطلعت على أمر هذا الرجل، فوجدته أعجوب��ة خارقة، وتوصلت إلى أنه لم يكن عدوا للمس��يحية، ب��ل يجب أن يسمى منقذ البشرية، وفي رأيي أنه لو تولى أمر الع��الم الي��وم، لوفق في حل مشكالتنا بما يؤمن الس�الم والس�عادة ال�تي يرن�و

البشر إليها( وقال: )لو تولى العالم األوربي رجل مثل محمد لشفاه من علله كاف�ة، ب��ل يجب أن ي�دعى منق�ذ اإلنس�انية، إني أعتق��د أن الديانة المحمدية هي الديانة الوحيدة التي تجم��ع ك��ل الش��رائط الالزمة وتكون موافقة لكل مرافق الحياة، لق��د تنب��أت ب��أن دين محمد سيكون مقبوال لدى أوربا غدا وقد بدا يكون مقب��وال ل��ديها اليوم، ما أح��وج الع��الم الي��وم إلى رج��ل كمحم��د يح��ل مش��اكل

العالم( وقال عنك المؤرخ األمريكي ]ويليام جيمس دي��ورانت[ في موسوعته ]قصة الحضارة[: )إذا حكمن��ا على العظم��ة بم��ا ك��ان للعظيم من أثر في الن��اس، قلن��ا إن محم��دا رس��ول المس��لمين أعظم عظم��اء الت��اريخ، فق��د كبح جم��اح التعص��ب والخراف��ات، وأقام فوق اليهودية والمسيحية ودين بالده الق��ديم دين��ا واض��حا

قويا، استطاع أن يبقى إلى يومنا هذا قوة ذات خطر عظيم(

(211 / 8)( عن )موسوعة مقدمات المناهج والعلوم( أنور الجندي ) 2

277

وق��ال عن��ك م��ؤرخ الع��رب والحض��ارة اإلس��المية اللبن��اني المس��يحي ]فيليب حتي[: )لم يس��جل الت��اريخ أن رجال واح��دا، سوى محمد، كان صاحب رسالة وب��اني أم��ة، ومؤس��س دول��ة.. هذه الثالثة التي ق��ام به��ا محم��د، ك��انت وح��دة متالحم��ة، وك��ان

الدين هو القوة التي توحدها على مدى التاريخ( وق��ال عن��ك ع��الم الاله��وت السويس��ري ]د. ه��انز ك��ونج[: )محم��د ن��بي حقيقي بمع��نى الكلم��ة، وال يمكنن��ا بع��د إنك��ار أن

(1)محمدا هو المرشد القائد على طريق النجاة(

وق��ال عن��ك الم��ؤرخ البريط��اني ]أرنول��د توين��بي[: )ال��ذين يريدون أن يدرسوا السيرة النبوية العط��رة يج��دون أم��امهم من األسفار مما ال يتوافر مثله للباحثين في حياة أي ن��بي من أنبي��اء

الله الكرام( وقال عنك المستشرق اإليطالي ]الكونت كاتي��اني[: )أليس الرس��ول ج��ديرا ب��أن تق��د�م للع��الم س��يرته ح��تى ال يطمس��ها الحاقدون علي��ه وعلى دعوت��ه ال��تي ج��اء به��ا لينش��ر في الع��الم الحب والس��الم؟! وإن الوث��ائق الحقيقي��ة ال��تي بين أي��دينا عن رسول اإلسالم ندر أن نج��د مثله�ا، فت��اريخ عيس��ى وم��ا ورد في

شأنه في اإلنجيل ال يشفي الغليل( وقال عنك الطبيب والمؤرخ الفرنسي ]غوس��تاف لوب��ون[: )نع��رف م��ا في��ه الكفاي��ة عن حي��اة محم��د، أم��ا حي��اة المس��يح فمجهول���ة تقريب���ا، وإن���ك لن تطم���ع أن تبحث عن حيات���ه في

األناجيل(

(.15)( عن )اإلسالم نهر يبحث عن مجرى( الدكتور شوقي أبو خليل )1

278

وذك��ر الك��اتب والص��حفي والمستش��رق ]كولوني��ل رونال��د فيكتور كورتيناي[ نفس المعنى حين قال: )ال نعرف إال ش��ذرات عن حياة المسيح، أما في سيرة محمد فنعرف الش��يء الكث��ير،

ونجد التاريخ بدل الظالل والغموض( ]دونال��دإنكل��يزي الوالمهن��دس مستش��رقوق��ال عن��ك ال

روتليدج هيل[: )لقد أخرج محمد للوجود أمة، ومكن لعبادة الل��ه في األرض، ووضع أسس العدالة والمساواة االجتماعي��ة، وأح��ل النظ��ام والتناس��ق والطاع��ة والع��زة في أق��وام ال تع��رف غ��ير

الفوضى( وقال عنك رجل الدولة والسياسي األلماني ]بسمارك[: )يا محمد أنا مت��أثر ج��دا إذ لم أكن معاص��را ل��ك! إن البش��رية رأت

قدوة ممتازة مثلك مرة واحدة، وأنا أعظمك بكمال االحترام( وق���ال عن���ك الم���ؤرخ والش���اعر اإلنجل���يزي ]كريس���توفر دارسون[: )إن األوضاع العالمية تغيرت تغيرا مفاجئا بفع��ل ف��رد

واحد ظهر في التاريخ هو محمد( وقال عنك الب��احث الفرنس��ي ]كليم��ان ه��وارت[: )لم يكن محمد نبيا عاديا، بل استحق بجدارة أن يكون خاتم األنبياء، ألن��ه قابل كل الصعاب التي قابلت كل األنبياء الذين سبقوه مضاعفة

ن��بي ليس عادي��ا من يقس��م أن��ه )ل��و س��رقت…من ب��ني قوم��ه فاطمة ابنته لقطع ي��دها(! ول��و أن المس��لمين اتخ��ذوا رس��ولهم

قدوة في نشر الدعوة ألصبح العالم مسلما( هذه سيدي قط��رات من بح��ر كلم��ات ال��ذين أعجب��وا ب��ك، وأحبوك، ولو لم يكونوا على دينك.. ومن ذا يملك أن يعرفك، ثم ال يمتلئ قلب��ه حب��ا ل��ك... وه��ل هن��اك من ال يس��تطيع أن يحب

279

الزهرة الجميلة التي تفوح بكل أنواع األريج العطر؟.. وأين منك الزه��رة وأريجه��ا وجماله��ا.. وه��و ال يس��اوي قط��رة من بح��ر

جمالك؟ لقد رأيت �� س��يدي �� ك�ل العقالء مجمعين على تعظيم�ك، حتى أولئك الذين ناصبوك العداء في فترة ما من حياتهم، وقب��ل أن يعرفوك.. لكنهم بمجرد أن عرف��وك، راح��وا يعت��ذرون إلي��ك، مثلما فعل الفيلسوف الفرنسي ]فولتير[ ال��ذي أعلن توبت��ه عن مواقف��ه من��ك ومن دين��ك.. لكن المغرض��ين والحاق��دين تناس��وا

أقواله بعد توبته، وراحوا ينشرون أقواله قبل توبته. لقد ذكر في توبته سبب بغضه لك وأنه كان ض��حية ألفك��ار سائدة خاطئة ك��ان ينش��رها الحاق��دون عن��ك، فق��ال: )ق��د ه��دم محمد الضالل السائد في العالم لبلوغ الحقيق��ة، ولكن يب��دو أن��ه

يوجد دائما من يعملون على استبقاء الباطل وحماية الخطأ( وق��ال في قاموس��ه الفلس��في: )أيه��ا األس��اقفة والرهب��ان والقسيس��ون إذا ف��رض عليكم ق��انون يح��رم عليكم الطع��ام والشراب طوال النهار في شهر الصيام.. إذا فرض عليكم الحج

بالمائ��ة من2،5في صحراء محرق��ة.. إذا ف��رض عليكم إعط��اء م عليكم شرب الخم��ور ولعب الميس��ر.. مالكم للفقراء.. إذا حر إذا كنتم تتمتعون بزوجات تبلغ ثماني عشرة زوجة أحيان��ا، فج��اء من يح��ذف أرب��ع عش��رة من ه��ذا الع��دد، ه��ل يمكنكم االدع��اء

مخلصين بأن هذه الشريعة شريعة لذات؟!( وقال: )لقد ق��ام الرس��ول ب��أعظم دور يمكن إلنس����ان أن يقوم به على األرض.. إن أقل ما يقال عن محمد أنه ق�����د ج��اء بكتاب وجاه�د، واإلس�الم لم يتغ�ير ق�ط، أم�ا أنتم ورج�ال دينكم

280

فقد غيرتم دينكم عشرين مرة( سيدي يا رسول الله.. لسنا نحن البشر.. وال المالئك��ة.. وال ك��ل أولئ��ك العقالء من الع��والم األخ��رى.. وح��دهم من عرف��وا قدرك، وبجلوك وكرموك.. بل إن كل شيء فعل ذلك.. فقد بث الله محبتك في قلوب الكائنات.. ح��تى تل��ك ال��تي نت��وهم أن��ه ال عقول وال قلوب لها.. وهل يعقل أن يخلق الله شيئا من دون أن يكون له عقل أو قلب؟.. لكن كبرياءن��ا جعلن��ا نت��وهم أن العق��ل لن يك��ون إال في جه��از عص��بي، والقلب لن يك��ون إال في جه��از

دوري. لقد ورد في الروايات الكثيرة المتواترة ال��تي ال ي��ؤمن به��ا إال الصادقون في إيمانهم، أولئك الذين يعلمون أن قدرة الل��ه ال يعجزه��ا ش��يء.. م��ا ي��دل على أن األرض بحجارته��ا وأش��جارها وحيواناتها، كانت تظهر لك � سيدي � كل ألوان الم�ودة والح��نين

والحب.. فقد أخبرت عن جب��ل أح��د، وحب��ك ل��ه، وحب��ه ل��ك، فقلت:

(1)()هذا جبل يحبنا ونحبه

أنك كنت تخطب إلى جذع نخلة،(2)ووصلنا بأسانيد كثيرة)( رواه البخاري ومسلم.1

)( روى القصة جمع من الصحابة، منهم أبي بن كعب رواه الشافعي وأحمد وابن2 ماجه والبغوي وابن عساكر،ومنهم أنس بن مالك رواه أحمد والترمذي وصححه وأبو يعلى

والبزار وابن ماجه وأبو نعيم من طرق على شرط مسلم، ومنهم بريدة، رواه الدارمي، وجابر بن عبد الله، رواه أحمد والبخاري والترمذي، والمطلب بن أبي وداعة، رواه الزبير

بن بكار، وأبو سعيد الخدري، رواه عبد بن حميد وابن أبي شيبة، وأبو يعلى وأبو نعيم بسند على شرط مسلم، وعائشة رواه الطبراني والبيهقي، وأم سلمة رواه أبو نعيم

والبيهقي بإسناد جيد.. كلها روي بألفاظ متقاربة المعنى وهو بذلك حديث متواتر المعنى.281

فاتخذ لك منبر بدله، فلم��ا ف��ارقت الج��ذع، وغ��دوت إلى المن��بر الذي صنع لك حن لك كم��ا تحن الناق��ة، ف��نزلت إلي��ه، فض��ممته إلي��ك، فس��كن، وقلت عن��ه: )ل��و لم أحتض��نه، لحن إلى ي��وم

(1) القيامة(

لقد عبر الشاعر عن ذلك الح��نين ال��ذي أب��داه ل��ك الج��ذع،فقال:

يحن الجذع منشوق إليك

و يذرف دمعه حزناعليك و يجهش بالبكاء

وبالنحيب لفقد حديثكم وكذا

يديك فمالي ال يحن إليكقلبي

و حلمي أن أقبلمقلتيك و أن ألقاك في يوم

المعاد و ينعم ناظري من

وجنتيك فداك قرابتي وجميعمالي

و أبذل مهجتيدوما فداك تدوم سعادتي ونعيم

روحي إذا بذلت حياتي في

رضاك حبيب القلب عذرا التلمني

فحبي ال يحق فيسماك ذنوبي أقعدتني عن

علو و أطمح أن أقرب

من عالك لعل محبتي تسموبروحي

فتجبر ما تصدع منهواك وقد ورد � سيدي � من الروايات ما يدل على شهادة تل��ك

الكائنات التي نتهمها بعدم العقل ل��ك في ال��وقت ال��ذي جح��دك فيه الغافلون قساة القلوب، ففي الحديث عن جابر قال: أقبلن��ا

من سفر حتى إذا دفعنا إلى حائط بني النجارمع رسول الله إذا فيه جمل ال يدخل أحد إال شد عليه، فذكر ذلك لرس��ول الل��ه

فجاء حتى أتى الحائط فدعا البعير، فجاء واضعا مشفره إلى . 2/558(، والبيهقي 12841(، والطبراني )1415(، وابن ماجه )1563( و )39)( الدارمي )1

282

: )ه�اتوا خطام�ه(،األرض ح�تى ب��رك بين يدي�ه، فق�ال الن��بي ودفعه إلى صاحبه ثم التفت إلى الناس، فقال: )إن��ه ليس ش��ئ بين السماء واألرض إال يعلم أني رس��ول الل��ه إال عاص��ي االنس

(1)والجن(

، أن��ك م��ررت على ق��وم ق��د(2)وقد روي بأسانيد مختلفة اصطادوا ظبية فشدوها على عمود فشطاط فقالت: ي��ا رس��ول الل��ه أخ��ذت ولي خش��فان في البري��ة، وق��د انعق��د اللبن في أخالفي، فال هو يذبحني فأستريح، وال يدعني، فأرجع إلى خشفي

، فقلت لها: )إن تركتك ترجعين؟(، ق��الت: )نعم،(3)في البرية( وإال عذبني الله عذابا أليما(، فقلت: )أين صاحب ه��ذه؟(، فق��ال القوم: نحن يا رسول الله، فقلت: )خلوا عنها حتى تأتي خش��فها ترض��عها وترج��ع إليكم(، فق��الوا: من لن��ا ب��ذلك؟ قلت: )أن��ا(، فأطلقوها فذهبت فأرضعت ثم رجعت إليهم فأوثقوه��ا، فم��ررت بهم فقلت: )أين صاحب هذه؟(، قالوا: هوذا نحن يا رسول الله، فقلت: )تبيعونها؟(، فقالوا: هي لك يا رسول الله، فقلت: )خل��وا عنها(، وأطلقوها، ف��ذهبت، وهي تض��رب برجله��ا فرح��ا وتق��ول:

)أشهد أن ال إله إال الله، وأنك رسول الله( سيدي.. لقد رأيت من قومي من يض��حك على مث��ل ه��ذا..

)( رواه مسلم.1

)( رواه الطبراني والبيهقي وأبو نعيم.2

في بعض سكك المدينة فمررنا بخبأ)( وفي رواية أنس: كنا مع رسول الله 3 أعرابي وإذا بظبية مشدودة إلى الخباء، فقالت: يا رسول الله، إن هذا االعرابي

اصطادني.283

رولست أدري ما الذي يضحكه، وهو يق��رأ قول�ه تع�الى: وحش���ر فهم يوزع��ون ) ��وده من الجن واإلنس والط�ي ليمان جن (17لس��

��وا �م��ل ادخل ه��ا الن ��ة ياأي �م��ل ق��الت نمل ��وا على واد الن �ى إذا أت حتعرون ) ��وده وهم ال يش�� ليمان وجن �كم س�� (18مساكنكم ال يحطمن

��ك كر نعمت احكا من قوله��ا وق��ال رب أوزعني أن أش�� م ض�� فتبس�اه الحا ترض��� �تي أنعمت علي� وعلى وال���دي� وأن أعم���ل ص��� ال

الحين ��ادك الص��� -�� 17 ]النم��ل: وأدخلني برحمتك في عب [؛19 فهل كان سليمان عليه السالم أعلم منك بلغ��ة ه��ذه الكائن��ات.. وه��و ليس س��وى تلمي��ذ من تالمي��ذك.. ف��أنت س��يد المرس��لين،

وأشرف خلق الله أجمعين. ليس ذل��ك فق��ط س��يدي.. ب��ل إن الرواي��ات الكث��يرة ت��ذكر ش��هادة الحص��ى ل��ك.. وليس ذل��ك بمس��تغرب، وق��د ق��ال الل��ه

دعاتعالى: عا متص�� ��ه خاش�� لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيت�رون �هم يتفك �اس لعل ربها للن ��ال نض�� ��ك األمث �ه وتل ية الل من خش��

[21]الحشر: لقد قال بعض أصحابك يحدث عن بعض ذل�ك: ق��دم مل��وك

وفيهم االشعث بن قيس، فق��الواحضرموت على رسول الله إنا قد خبأنا لك خبأ فما هو؟ قال: )سبحان الل��ه إنم��ا يفع��ل ه��ذا الكاهن والكهانة في النار(، فقالوا: فكيف نعلم أنك رسول الل��ه

كفا من حصى، فقال: )هذا يشهدعز وجل، فأخذ رسول الله أني رسول الله(، فس��بح الحص��ى في ي��ده، فق��الوا: نش��هد أن��ك

.(1)رسول الله عز وجل

فنسمع تسبيحوحدث آخر قال: كنا نأكل مع رسول الله

)( رواه أبو نعيم والحكيم الترمذي.1

284

.(1)الطعام، وهو يؤكل

بطع��ام ثري��د، فق��ال:وحدث آخر قال: أتي رسول الل��ه )إن هذا الطعام يسبح(، قالوا: يا رس��ول الل��ه، وتفق��ه تس��بيحه، قال: )نعم(، ثم قال لرجل: )ادن هذه القصعة من هذا الرج��ل(، فأدناها منه فقال: نعم، يا رسول الله، هذا الطعام يسبح فق��ال: )ادنها من آخر( وأدناها منه فقال: ه��ذا الطع��ام يس��بح ثم ق��ال: )ردها( فقال رجل: يا رسول الله، لو أمرت على الق��وم جميع��ا، فق��ال: )ال إنه��ا ل��و س��كتت عن��د رج��ل لق��الوا: من ذنب رده��ا(،

.(2)فردها

وق��د ورد في الرواي��ات واألح��اديث الكث��يرة أنه��ا لم تكن تكتفي بالشهادة لك فقط، وإنما ك��انت تحيي��ك وتبجل��ك وتس��جد

بمك��ةتكريما لك، فعن اإلمام علي قال: كنت مع رسول الله فخرجنا في بعض نواحيها، فما استقبله جب��ل وال ش��جر إال ق��ال:

.(3)السالم عليك، يا رسول الله

حينوعن ب��رة بنت أبي تج��راة ق��الت: إن رس��ول الل��ه أراد الله كرامته وابتدأه بالنبوة كان إذا خرج لحاجته أبعد حتى ال يرى بيتا ويفضي إلى الشعاب وبطون األودية، فال يمر بحج��ر وال شجر إال قال: الس��الم علي��ك ي��ا رس��ول الل��ه، وك��ان يلتفت عن

)( رواه البخاري ومسلم.1

)( رواه أبو الشيخ.2

)( رواه الترمذي، وحسنه.3

285

. (1)يمينه وشماله وخلفه فال يرى أحدا

وذكر جابر بن عبد الله جمال جاء إليك، فلما كان قريبا منك خر ساجدا، فقلت: )يا أيه��ا الن��اس، من ص��احب ه��ذا الجم��ل؟(، فق��ال فتي��ة من األنص��ار: ه��و لن��ا ي��ا رس��ول الل��ه، فقلت: )فم��ا شأنه؟(، قالو: سنونا عليه عشرين سنة، فلما كبرت سنه، أردن��ا نحره، فقلت: )تبيعونه؟(، فقالوا: هو لك ي��ا رس��ول الل��ه فقلت: )أحسنوا إليه حتى يأتيه أجله(، فقالوا: يا رسول الله، نحن أح��ق أن نس��جد ل��ك من البه��ائم، فقلت: )ال ينبغي لبش��ر أن يس��جد

(2)لبشر ولو كان النساء ألزواجهن(

هذا � سيدي � غيض من فيض مم��ا منح��ك الل��ه من تعظيم وتبجيل وتكريم ومحبة في قلوب الكائنات.. وكيف ال يك��ون ل��ك��رك ��ك ذك ��ا ل ﴾ذل��ك، وق��د ق��ال الل��ه تع��الى في ش��أنك: ورفعن ﴿

(.. فال أح��د في الع��الم يجح��د أن اس��مك ه��و أش��هر4)الش��رح: األسماء وأعظمها.. وأنه الوحيد الذي يردد كل ي��وم وفي أوق��ات

متعددة في جميع أنحاء العالم. فأسألك يا س��يدي أن ي��ردد قل��بي اس��مك ك��ل حين.. ح��تى يصير فانيا فيك.. عاشقا لك.. مقبال علي��ك بكليت��ه.. مس��لما ل��ك في كل شؤونه.. حتى يلقاك طاهرا نقيا جديرا بصحبتك والمعي��ة

معك.

)( رواه ابن سعد.1

)( رواه أحمد والبيهقي واللفظ له، ورجاله ثقات.2

286

المتبتل العابد سيدي يا رسول الله.. يا من تحققت فيك العبودي��ة بأجم��ل ص��ورها، وأكم��ل معانيه��ا، فص��رت نموذجه��ا األمث��ل، وفه��رس مفرداتها األعظم.. فمن أراد أن يكون عابدا لل��ه، ف��أنت أس��وته وقدوته وأنموذج��ه.. وليس علي��ه س��وى أن يتب��ع ه��ديك، ويس��ير

على سنتك، لتكتمل له كل حقائقها وقيمها ومقاماتها ومنازلها. لقد رحت سيدي أبحث عن س��ر ذل��ك الثن��اء العظيم ال��ذي أثنى الله به عليك، وسر ذلك الكمال الذي حظيت ب��ه، فوج��دت أنه محصور في عبوديتك.. فقد كنت عبدا حقيقيا لل��ه.. ولم تكن فيك ش��ائبة من عبودي�ة لغ�يره.. ول�ذلك ص�رت مجلى للحق�ائق القدسية تتنزل علي��ك، ليراه��ا غ��يرك من خالل��ك.. وص��رت دليال صافيا على الح��ق.. فمن أراد أن يعرف�ه، فليس علي�ه س�وى أن

يعرفك، ومن أراد أن يعبده، فليس عليه سوى أن يتبعك. لقد عبر الله تعالى عن تلك العبودية ال��تي امتألت به��ا ك��ل

��ايلطائفك المقدس��ة، فق��ال: كي ومحي التي ونس�� ق��ل إن� ص���ه رب العالمين ) ��ا162ومماتي لل ( ال شريك له وبذلك أمرت وأن

[163، 162 ]األنعام: أو�ل المسلمين فهاتان اآليتان الكريمتان تش��يران إلى تل��ك العبودي��ة ال��تي امتألت بها جوانحك، فصارت ص��التك ونس��كك وحيات��ك وممات��ك وكل تصرفاتك نابعة منها خاضعة لها.. لم تشرك في ذلك أحدا..

ولم ترتض بغير ربك بدال. ولذلك أطلق عليك ربك أشرف األلق��اب.. لقب العبودي��ة.. وفي أشرف المقامات والمحال، فقال ��� عن��د ذك��رك في مق��ام

287

��دنا لنا على عب ﴿تنزل القرآن الكريم �: وإن كنتم في ريب مم�ا نز��ه إن كنتم هداءكم من دون الل ��ه وادع��وا ش�� فأتوا بسورة من مثل

ل الفرق��ان على23﴾صادقين )البقرة: ��ز� �ذي ن ��ارك ال ﴿(، وقال: تب )الفرق��ان: ��ذيرا �ه1﴾عبده ليكون للع��المين ن ﴿(، وق��ال: الحم��د لل

�ذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوج��ا )الكه��ف: (،1﴾ال��ات ليخ��رجكم من ن ��ات بي ��ده آي ل على عب ��ز �ذي ين ﴿وق��ال: ه��و ال

�ه بكم لرؤوف رحيم )الحديد: ور وإن� الل (9﴾الظلمات إلى الن وذك��ر عبوديت��ك لل��ه في مق��ام دعوت��ك إلي��ه، وخض��وعك��ون ��ادوا يكون �ه يدعوه ك �ه لم�ا قام عبد الل ﴿المطلق له، فقال: وأن

)الج�ن: (19﴾عليه لبدا وذك��ر عبوديت��ك لل��ه عن��د تكريم��ه ل��ك برحل��ة اإلس��راءجد ��ده ليال من المس�� رى بعب �ذي أس�� ﴿والمعراج، فقال: سبحان ال��ا ��ه من آياتن ��ه لنري �ذي باركنا حول الحرام إلى المسجد األقصى ال

ميع البصير )االسراء: �ه هو الس� (1﴾إن ولهذا، كنت ��� س��يدي ��� ت��ذكر لل��ذين يطرون��ك ويم��دحونك ويثنون عليك، بأن يذكروا هذا المق��ام الرفي��ع ال��ذي ه��و أش��رف المقامات، ولواله لم يكن هن��اك مق��ام وال منزل��ة وال كرام��ة وال رفعة، فقد ورد في الحديث عنك قولك: )ال تطروني كما أطرت النص��ارى المس��يح ابن م��ريم فإنم��ا أن��ا عب��د، فقول��وا عب��د الل��ه

، (1)ورسوله(

وقلت في حديث آخ��ر مبين��ا فض��ل عبودي��ة الل��ه على ك��ل شيء: )أتاني مل��ك إلى حج��رة الكعب��ة، فق��ال: إن رب��ك يقرئ��ك السالم، ويق��ول ل��ك: إن ش��ئت كنت نبي��ا، ملك��ا وإن ش��ئت نبي��ا

)( رواه البخاري.1

288

(1)عبدا، فقلت: نبيا عبدا(

لقد تجلت � سيدي � عبوديت��ك لل��ه في ك��ل ش��يء.. ابت��داء من حرص��ك على الش��عائر التعبدي��ة ال��تي كنت تؤديه��ا بخش��وع عظيم.. بل بشوق عظيم.. وكنت تقضي معها معظم ليلك، بع��د

ذلك النهار الطويل الممتلئ بالمشاق والمتاعب. وقد كان ذلك منك � سيدي � منذ األي��ام األولى من إرس��ال الله لك.. حينها أمرك بأن تقوم أكثر الليل، وأن تكثر من ذك��ره،

مل )وأن تتبتل إليه تب��تيال، فق��ال: ه��ا المز� ��ا أي ��ل إال�1ي �ي ( قم اللل الق��رآن3( نصفه أو انقص منه قليال )2قليال ) ( أو زد عليه ورت��ك ق��وال ثقيال )4ترتيال ) �ا سنلقي علي ��ل هي5( إن �ي ئة الل ( إن� ناش��

د وطئا وأق��وم قيال ) بحا ط��ويال )6أش�� �ه��ار س�� ��ك في الن (7( إن� ل�ل إليه تبتيال ) ك وتبت رق والمغ��رب ال8واذكر اسم رب ( رب المش��

�خذه وكيال [9 - 1 ]المزمل: إله إال� هو فات وقد ظل ذل�ك دي��دنك طيل��ة حيات��ك.. فوي��ل ألولئ��ك ال��ذين راحوا يتهمون��ك باالس��تغراق في ال��دنيا، وهم يرون��ك في نه��ارك داعية ومجاه�دا وقائ�دا.. وفي ليل��ك متبتال وقانت�ا وعاب�دا.. فه�ل

يمكن لمن يكون هذا حاله أن يكون له ادنى اهتمام بالدنيا؟ ليت أولئك الذين ال يعرفونك راح��وا يق��رؤون تل��ك األوام��ر اإللهي��ة الخاص��ة ب��ك، وال��تي ت��أمرك بالقي��ام والتهج��د لل��ه، في

، قال تعالى:(2)الوقت الذي أعفيت أمتك فيه من هذا التكليف

)( رواه البيهقي.1

فقيل: معناه أنك مخصوص بوجوب ذلك وحدك، فجعلوا قيامنافلة لك([ واختلف في معنى قوله: 103/ 5)( قال ابن كثير في ]تفسيره )2

الليل واجبا في حقه دون األمة. رواه العوفي عن ابن عباس، وهو أحد قولي العلماء، وأحد قولي الشافعي، رحمه الله، واختاره ابن جرير.

289

ك مقام��ا ��ك رب ى أن يبعث ��ك عس�� ��ة ل ��ه نافل ��ل فتهج�د ب �ي ومن الل[79 ]اإلسراء: محمودا

إن�وليتهم قرأوا معها شهادة الل��ه ل��ك ب��ذلك، حيث ق��ال: ��ه وطائف��ة فه وثلث �يل ونص�� �ك تقوم أدنى من ثلثي الل �ك يعلم أن ربوه �ه��ار علم أن لن تحص�� ��ل والن �ي �ه يق��در الل �ذين مع��ك والل من ال

[20 ]المزمل: فتاب عليكم وليتهم قرأوا معها تلك الشهادات الكثيرة التي شهد بها من عايشوك، ليعرفوا سر تفطر أقدامك، وأنت قائم وراكع وس��اجد

لربك. فقد حدث صاحبك حذيفة عن ليلة من ليالي تعبدك لرب��ك، وكيف حاول أن يتأسى بك فيها، لكنه عجز عن ذلك، فقال: ق��ام

ليل��ة وه��و يص��لي في المس��جد، فقمت أص��لي وراءهالن��بي يخيل إلي أنه ال يعلم، فاستفتح بس��ورة البق��رة، فقلت: إذا ج��اء مائة آية ركع، فجاءها فلم يركع، فقلت: إذا جاء م��ائتي آي��ة رك��ع فجاءها فلم يركع، فقلت: إذا ختمها ركع فختمها فلم يرك��ع فلم��ا ختم، قال: )اللهم لك الحمد(، ثم استفتح آل عم��ران فقلت: إذا ختمه��ا رك��ع فختمه��ا ولم يرك��ع وق��ال: )اللهم ل��ك الحم��د(، ثم استفتح النساء، فقلت: إذا ختمها ركع، فختمها فلم يرك�ع وق�ال: )اللهم لك الحمد( ثالث��ا ثم اس��تفتح بس��ورة المائ��دة، فقلت: إذا ختمه��ا رك��ع، فختمه��ا فرك��ع فس��معته يق��ول: )س��بحان ربي العظيم(، ويرج��ع ش��فتيه ف��أعلم أن��ه يق��ول غ��ير ذل��ك، فال أفهم

.(1)غيره، ثم استفتح بسورة األنعام، فتركته وذهبت

ذات ليل�ةوذك�ر موقف�ا آخ�ر، فق�ال: أتيت رس��ول الل�ه )( رواه عبد الرزاق.1

290

ألصلي بصالته، فاستفتح الصالة فقرأ قراءة ليست بالرفيع��ة وال الخفيفة، قراءة حسنة يرتل فيها يسمعنا، قال: ثم ركع نحوا من س��ورة ق��ال ثم رف��ع رأس��ه فق��ال: )س��مع الل��ه لمن حم��ده ذو الج��بروت والملك��وت والكبري��اء والعظم��ة(، ثم ق��ام نح��وا من سورة، وسجد نحوا من ذلك حتى فرغ من الطول وعلي��ه س��واد

.(1)من الليل

بع��دوذكر موقف��ا آخ��ر، فق��ال: لق��د لقيت رس��ول الل��ه العتمة، فقلت: يا رسول الله ائذن لي أن أتعبد بعبادت��ك ف��ذهب وذهبت مع��ه إلى الب��ئر، فأخ��ذت ثوب��ه فس��ترت علي��ه، ووليت��ه ظهري، ثم أخذ ثوبي فستر علي حتى اغتسلت، ثم أتى المسجد فاستقبل القبلة، وأقامني عن يمينه، ثم قرأ الفاتحة، ثم استفتح سورة البقرة، وال يمر بآية رحمة إال سأل الله، وال آية تخويف إال استعاذ، وال مثل إال فك��ر ح��تى ختمه��ا ثم ك��بر، فرف��ع، فس��معته يقول في ركوعه: )سبحان ربي العظيم( ويرد فيه ش��فتيه ح��تى أظن أنه يقول: )وبحمده(، فمكث في ركوعه قريب��ا من قيام��ه، ثم رف��ع رأس��ه ثم ك��بر فس��جد فس��معته يق��ول في س��جوده: )سبحان ربي األعلى( ويرد شفتيه، فأظن أنه يقول: )وبحم��ده(، فمكث في س��جوده قريب��ا من قيام��ه، ثم نهض حين ف��رغ من سجدته فقرأ فاتحة الكتاب، ثم استفتح )آل عمران( ال يمر بآي��ة رحمة إال سأل وال مثل إال فكر، حتى ختمها، ثم فعل في الركوع والسجود كفعل األول، ثم سمعت الن��داء ب��الفجر، ق��ال حذيف��ة:

.(2)فما تعبدت عبادة كانت علي أشد منها

)( رواه ابن أبي شيبة.1

)( رواه الحارث بن أسامة.2

291

منوذكر موقف��ا آخ��ر، فق��ال: ص��ليت م��ع رس��ول الل��ه الليل فلما دخل في الصالة قال: )الله أكبر، س��بحان ذي المل��ك والجبروت والكبرياء والعظمة(، ثم قرأ )البق��رة( ق��راءة ليس��ت بالخفيض�ة وال بالرفيع�ة، حس�نة يرت�ل فيه�ا ليس�معنا، ثم يرك�ع، فك��ان ركوع��ه نح��وا من قيام��ه، وك��ان يق��ول: )س��بحان ربي العظيم( ثم يرفع رأسه فكان قيامه نحوا من ركوعه وهو يقول: )س��مع الل��ه لمن حم��ده(، ثم ق��ال: )الحم��د لل��ه ذي الملك��وت والجبروت والكبرياء والعظمة(، فكان سجوده نح��وا من قيام��ه، وك��ان يق��ول )س��بحان ربي األعلى( ثم رف��ع رأس��ه، وك��ان بين السجدتين نحوا من الس��جود وك��ان يق��ول: )رب اغف��ر لي، رب اغفر لي( حتى قرأ )البقرة( و)آل عمران( و)األنعام(، و)النساء( و)المائ��دة( و)األنع��ام( ق��ال ش��عبة: ال أدري المائ��دة ذك��ر أو

.(1)األنعام

وحدث صاحبك الوفي ابن مسعود عن موق��ف من مواق��ف ليل��ة، فلم ي��زل قائم��ا،تعبدك، فقال: )صليت مع رسول الله

وأط��ال ح��تى هممت ب��أمر س��وء(، قي��ل ل��ه: م��ا هممت؟ ق��ال:(2))هممت أن أقعد وأذره(

في رمض��ان، فرك��ع فق��الوقال: صليت مع رسول الله في ركوعه: )سبحان ربي العظيم( مثل ما كان قائم��ا، ثم جلس يقول: )رب اغفر لي رب اغفر لي( مثل ما كان قائم��ا ثم س��جد فقال: )سبحان ربي األعلي( مثل م��ا ك��ان قائم��ا، فم��ا ص��لى إال

)( رواه ابن مالك، وأبو الحسن بن الضحاك، وأبو نعيم.1

)( رواه البخاري ومسلم.2

292

(1)أربع ركعات حتى جاء بالل إلى الغداة(

وسئلت زوجتك الص��الحة أم س��لمة عن قراءت��ك وص��التك، فقالت: )ما لكم ولصالته وقراءته، كان يصلي العتم��ة ثم يس��بح، ثم يصلي بعدها ما شاء الله من الليل ثم يرقد( وفي لفظ )ك��ان يصلي ثم ينام قدر ما صلى ثم يصبح ثم نعتت قراءت��ه، ف��إذا هي

(2)تنعت قراءة مفسرة حرفا حرفا(

يص��لي ثم ين��ام ق�د م��اوعنها قالت: )ك�ان رس�ول الل�ه صلى، ثم يصلي قدر ما نام، ثم ينام قدر ما ص��لى ح��تى يص��بح(

(3)

ليلة التمام وكانوعنها قالت: كنت أقوم مع رسول الله يقرأ )بالبقرة( و)آل عمران( و)النساء( فال يمر بآية فيها تخويف إال دعا واستعاذ، وال يمر بآية فيه��ا استبش��ار إال دع�ا الل��ه تع��الى

.(4)ورغب إليه

وحدث ابن عمك ابن عباس قال: بت عند خ��التي ميمون��ة، العشاء، ثم ج��اء فص��لى أرب��ع ركع��ات، ثمفصلى رسول الله

نام ثم قام فقمت عن يساره فجعلني عن يمين��ه فص��لى خمس ركعات ثم صلى ركعتين ثم نام حتى سمعت غطيط��ه، ثم خ��رج

)( رواه النسائي.1

)( رواه أحمد، والثالثة، وأبو الحسن الضحاك.2

)( رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي.3

)( رواه أحمد.4

293

.(1)إلى الصالة

وحدث الوفي الصالح جابر بن عبد الله ق��ال: ك��ان رس��ول يتسوك من الليل م��رتين، أو ثالث��ا، كلم��ا رق��د فاس��تيقظالله

.(2)استاك وتوضأ، وصلى ركعتين أو ركعة

وهك��ذا ��� س��يدي ��� وردت الش��هادات الكث��يرة الدال��ة على تبتلك وتعب��دك لل��ه، وفي ك��ل األوق��ات واألح��ول ح��تى في تل��ك المواقف الصعبة التي اجتمع فيه��ا أع��داؤك على حرب��ك.. لكن��ك لم تكن تبالي بهم.. بل كنت ته��رع إلى الص��الة، لترت��اح به��ا في جوار ربك، ولذلك كنت تق��ول لبالل: )ي��ا بالل أقم الص��الة أرحن��ا

(3)بها(

وحدث ابن عب��اس عن��ك أن��ك قلت: )ق��ال لي جبري��ل: ق��د(4)حبب إليك الصالة فخذ منها ما شئت(

ولم يكن ذلك � سيدي � وحده الميدان الذي برز فيه تعبدك لله.. فقد كنت عاب��دا لل��ه في ك��ل أحوال��ك، وك��ان لس��انك دائم ال��ذكر لرب��ك، ولم تكن تف��تر لحظ��ة واح��دة عن ذك��ره، وال عن

القيام بأي شيء يكلفك به.

)( رواه البخاري.1

)( رواه الطبراني.2

(4985، رقم 4/296(، وأبو داود )23137، رقم 5/364)( أحمد )3

)( رواه أحمد، والطبراني، برجال الصحيح.4

294

حتى في تلك األوقات التي يتصور من معك فيها أنك نائم.. لم تكن كذلك، وإنما كان قلبك مستيقظا حاضرا م��ع رب��ك، وق��د

(1) قلت في ذلك: )تنام عيناي، وال ينام قلبي(

وقلت لمن عجب من وصالك للصوم، وص��برك علي��ه: )إني(2) لست كهيئتكم، إني يطعمني ربي ويسقيني(

وهكذا كانت حياتك كلها � سيدي � عبودي��ة خالص��ة لرب��ك.. ولذلك كنت أهال لكل تلك التكريمات العظيمة التي كرم��ك الل��ه به���ا.. فوي���ل ألولئ���ك ال���ذين راح���وا يش���وهونك ويحرفون���ك

ويدنسونك.. ما أجهلهم بك، وما أعظم حقدهم عليك. فأتوسل بك � س��يدي ��� إلى الل��ه أن يجعل��ني من العاب��دين المتبتلين القانتين الذين امتألت قلوبهم وأرواحهم وكل لطائفهم بك��ل أل��وان العبودي��ة.. ح��تى ألقى الل��ه وأن��ا ج��دير بلقائ��ك، وصحبتك.. فال يصحبك � س��يدي ��� إال من ك��ان أهال ل��ذلك.. وق��د قلت لمن قال لك: )يا رسول الله أسألك مرافقتك في الجن��ة(:

(3) )أعني على نفسك بكثرة السجود(

( 186( )763(، ومسلم )859( و )138)( البخاري )1

( 1105(، ومسلم )1964)( البخاري )2

)( رواه أبو داود والترمذي. 3

295

العفيف الزاهد سيدي يا رسول الله.. أيها العفيف الزاهد.. الذي تزينت ل�ه الدنيا بكل محاسنها، وتعرضت له بجميع مباهجها.. فراح يع��رض عنها بكل كيانه، مقبال على ربه، منشغال بما ط��وق ب��ه عنق��ه من

أصناف التكاليف. لقد رحت � سيدي � أتأم��ل حيات��ك، وكي��ف كنت تعيش في مكة التي كرمها الله بنش��أتك فيه��ا، والمدين��ة ال��تي نوره��ا الل��ه بهجرتك إليه��ا.. فوج��دت حيات��ك وح��دها أك��بر دلي��ل على نبوت��ك وعظمت��ك واص��طفاء الل��ه ل��ك.. فحيات��ك ��� س��يدي ��� في ف��ترة االض��طهاد والحص��ار والمواجه��ة ال تختل��ف في أي ش��يء عن حيات��ك في ف��ترة التمكين والقي��ادة.. ففي كليهم��ا كنت الزاه��د العفيف ال��ذي يرض��ى ب��العيش القلي��ل ال��ذي يرب��أ عن��ه الفق��راء

أنفسهم. أصدقك � سيدي � أني مع تقديس��ي وتعظيمي ل��ك، ت��ألمت كثيرا لتلك الحياة التي كنت تعيشها، وال��تي اختل��ط فيه��ا الج��وع مع التعب مع أنواع المواجهات التي كنت تقابلها جميع��ا بص��برك

الجميل، ورضاك عن ربك الذي ال حدود له. ولم يكن ذلك سبب ألمي الوحيد؛ فأنا أعلم أنك تعيش في عوالم الجمال والكمال التي تجعل��ك ت��رى ال��دنيا كله��ا بص��ورتها الحقيقي��ة الممتلئ��ة ب��الزيف والخديع��ة.. لك��ني أت��ألم ألولئ��ك

المجازفين بهجرانك، المصدقين لدعاوى الحاقدين عليك. ولو أنهم � سيدي � نظ��روا إلى حيات��ك المليئ��ة بك��ل أل��وان المشاق والمتاعب.. وال��تي كنت ت��أوي منه��ا إلى بيت��ك البس��يط

296

الذي ال يختلف عن بيوت أفقر الفقراء والمساكين.. لو رأوا ذلكلكفاهم في الداللة على صدقك.

فهل يمكن لم��دع وك��اذب ومخ��ادع أن يب��ذل حيات��ه جميع��ا مضحيا، ثم ال ينال من الحياة إال ذل��ك الش��ظف والمعان��اة ال��تي وصفها بعض أصحابك عندما دخل عليك، فرآك متكئا على رمال حصير قد أثر في جنبك؛ فرف�ع رأس�ه في ال�بيت، فم�ا رأى في�ه ش��يئا ي��رد البص��ر، إال ثالث��ة بس��ط معلق��ة، وص��برة من ش��عير، فهملت عيناه، فقلت: ما لك؟ فقال: يا رس��ول الل��ه أنت ص��فوة الله من خلقه، وكسرى وقيصر فيما هما في��ه؟.. فقلت ل��ه بك��ل ه��دوء: )أفي ش��ك أنت.. أولئ��ك ق��وم عجلت لهم طيب��اتهم في حياتهم الدنيا، أم��ا ترض��ى أن تك��ون لهم ال��دنيا، ولن��ا اآلخ��رة؟(، فقال: )بلى، يا رسول الله، فأحمد الله عز وجل(، فقلت له: )لو

(1)شئت أن يسير الجبال الراسيات معي ذهبا لسارت(

على حص��ير ف��أثروحدث آخر، قال: اضطجع رس��ول الل��ه في جنبه، فلما استيقظ جعلت أمسح عنه، فقلت: يا رسول الله أال آذنتنا فبسطت شيئا يقيك منه، تنام عليه، فقال: )ما لي وللدنيا، م��ا أنا والدنيا إال كراكب سار في ي��وم ص��ائف، فق��ال تحت ش��جرة ثم

(2)راح وتركها(

لم يكن أولئك � سيدي � فقط من أخطأ في حقك.. بل هن��اك غيرهم كثير.. حتى أن هناك من راح يدعي أنك إذا عدت إلى ال��دنيا

)( رواه أحم��د وأب��و يعلى، وتم��ام ال��رازي، وابن عس��اكر وأب��و داود الطيالس��ي،1والترمذي، وصححه.. والجملة األخير زادها أبو الحسن بن الضحاك.

)( رواه أحم��د وأب��و يعلى، وتم��ام ال��رازي، وابن عس��اكر وأب��و داود الطيالس��ي،2والترمذي.

297

للبس��ت بذل��ة عص��رية، وامتلكت أغلى الس��يارات، وس��كنت أرف��ه القصور.. ولم يلتفت هؤالء المحجوبون بزخارف الدنيا أن كل ذلك،

وفوقه أضعافا مضاعفة أتيح لك.. لكنك كنت ترفض ذلك.. ولواله � سيدي � لما كنت س��يد الزه��اد وأس��وتهم، فال��ذي ب��ه فاقة ضرورية قد ال يفطن لكونه زاهدا، بل قد يكون راغبا، والفاق��ة هي التي جعلته يب��دو من الزه��اد.. ولكن��ك س��يدي لم تكن ك��ذلك.. فقد أتيحت لك كل الخيارات.. لقد كان الغنى أمامك، وبين ي��ديك.. بل كان الغ�نى أق��رب إلي��ك من الفق��ر.. والرف��اه أق��رب إلي��ك من الش��ظف.. ولكن��ك ��� س��يدي ��� آث��رت حي��اة الزه��اد على حي��اة المترفين.. ورضيت أن تكون كأبسط الناس، لتك��ون أس��وة لجمي�ع الناس، وحتى ال يأتي أحد من الناس، فيتصور أن النبوة وس��يلة من

وسائل الثروة، أو طريق من طرقها. لقد حدثت � سيدي ��� عن ه��ذا الخي��ار ال�ذي أتاح�ه الل��ه ل��ك،

(1) فقلت: )لو شئت لسارت معي جبال الذهب(

وفي حديث آخر، قلت: )عرض علي ربي بطح��اء مك��ة ذهب��ا، فقلت: ال ي��ا رب، ولك��ني أج��وع يوم��ا، وأش��بع يوم��ا، ف��إذا ش��بعت

(2)حمدتك، وشكرتك، وإذا جعت تضرعت إليك، ودعوتك(

إن شئتوفي حديث آخر روي أنه قيل لك: يا رسول الله أعطيناك خزائن الدنيا، ومفاتيحها لم نعطها أحدا قبل��ك، وال نعطيه��ا أحدا بعدك، ال ينقصك ذلك عند الله شيئا، فقلت: )اجمعوها لي في

)( رواه ابن عساكر.1

)( رواه ابن سعد، والترمذي، وأب�و الش�يخ عن أبي هري�رة وابن س�عد وابن حب�ان2عن أبي أمامة.

298

اء جع�ل �ارك ال�ذي إن ش� ﴿اآلخرة(، فأنزل الله تعالى عليك قوله: تب �ات تجري من تحتها األنهار ويجعل لك قصورا ﴾لك خيرا من ذلك جن

(1)(10)الفرقان:

علىوفي حديث آخر عن أم سلمة قالت: نام رسول الله وسادة حشوها ليف، فق�ام وق�د أث�ر بجل��ده، فبكيت فق��ال: )ي��ا أم سلمة ما يبكيك؟( قلت: ما أرى من أثر ه��ذه، فق��ال: )ال تبكي، ل��و

(2)أردت أن تسير معي هذه الجبال لسارت(

وقد ظل هذا الخيار مفتوحا أمامك جمي�ع حيات�ك، فق�د ح�دث بعض أص��حابك عن األي��ام األخ��يرة ل��ك، ف��ذكر أن��ك جلس��ت على المنبر، فقلت: )إن عبدا خيره الله تعالى أن يؤتيه من زه��رة ال��دنيا

(3)وما عنده، فاختار ما عنده(

بل إنك � سيدي � كنت تدعو الله كل حين، وفي تلك الظروف الصعبة أن يرزقك الله القوت والكفاف من غير أن يتجاوزهما، فقد

(4)كنت تقول:)اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا(

بل إنك � سيدي � كنت تس��أل الل��ه حي��اة المس��كنة ال��تي هي أقرب أنواع الحياة للعبودي��ة، وكنت تق��ول: )اللهم أحي��ني مس��كينا،

(243/ 19)( تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر )1

)( رواه أبو ذر الهروي.2

)( رواه البخاري، وغيره.3

)( رواه البخاري ومسلم.4

299

(1)وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين(

وكنت تقول: )اللهم توفني فقيرا، وال توفني غني��ا، واحش��رني في زمرة المساكين، ف�إن أش�قى األش�قياء من اجتم�ع علي�ه فق�ر

(2)الدنيا، وعذاب اآلخرة(

ولم تكن تكتفي بذلك � سيدي � ب��ل كنت تته��رب من ك��ل م��ا يمكن أن يمأل حياتك ب��ذخا وترف��ا.. ب��ل من ك��ل م��ا يملؤه��ا ه��دوءا ودعة.. فقد روي أن امرأة من األنصار رأت فراشك عباءة خش��نة، فانطلقت، فبعثت إليك بفراش حشوه الصوف، فلم�ا رأيت�ه س�ألت عن��ه، فقي��ل ل��ك: ي��ا رس��ول الل��ه فالن��ة األنص��ارية دخلت، ف��رأت فراشك، فذهبت، فبعثت إلي بهذا الفراش، فأمرتهم ب��رده، وقلت:

(3))والله لو شئت ألجرى الله معي الجبال ذهبا وفضة(

ولذلك تواترت الرواي�ات ومعه�ا الش�هود الكث�يرون على تل�ك الحياة البسيطة التي كنت تعيشها، والتي دع�اك الل�ه إليه�ا، فق�ال:

��اة ال��دنيا �عنا به أزواجا منهم زه��رة الحي وال تمد�ن� عينيك إلى ما متك خير وأبقى [131 ]طه: لنفتنهم فيه ورزق رب

بل أمرك ب��أن تخ��ير أزواج��ك بين الرض��ا به��ا، وبين أن يع��دن�بي ق��ل ألزواج��ك إنلحياتهن التي تعودن عليها، فق��ال: ه��ا الن ياأي

راحا حكن� س�� ر عكن� وأس�� كنتن� تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتوله وال��د�ار اآلخ��رة ف��إن� الل�ه28جميال ) ( وإن كنتن� تردن الل�ه ورس��)( رواه ابن المبارك والترمذي.1

)( رواه ابن عدي.2

)( رواه الحسن بن عرفة في جزئه المشهور، وابن عساكر.3

300

[29، 28 ]األحزاب: أعد� للمحسنات منكن� أجرا عظيما ومن تل��ك الش�هادات �� س�يدي �� ش�هادة زوجت�ك عائش�ة، والتي عبرت عنها م��رات كث��يرة، خاص��ة ألولئ��ك ال��ذي ج��رفتهم الدنيا بأهوائها، وغفلوا عن الوصية التي أوصيتهم بها، فقد ك��انت تقول لهم: )كان ي��أتي علين��ا الش��هر، وم��ا نوق��د في��ه ن��ارا، إنم��ا

.(1)هوالتمر والماء، إال أن نؤتى باللحم

وقالت:)ما شبع آل محم�د من خ�بز ب�ر ثالث�ة أي�ام متتابع�ات،( حتى قبض

وقالت:)ما أكل آل محم�د أكل�تين في ي�وم واح�د إال إح�داهماتمر(

حين شبع الناس من األس��ودين،وقالت: توفي رسول الله التمر والماء.

وقالت: ما شبعنا من األسودين التمر والماء. وم�ا ش�بع من خ�بز،وقالت: والله لق�د م�ات رس�ول الل�ه

وزيت في يوم واحد مرتين. غداء لعش��اء، وال عش��اء لغ��داءوقالت: ما رفع رسول الله

قط، وال اتخذ من ش�ئ زوجين ال قميص�ين، وال رداءين، وال إزارين، وال من النعال وال رئي فارغا قط في بيته، إم��ا يخص��ف نعال لرج��ل

.(2)مسكين أو يخيط ثوبا ألرمة )( رواه البخ�اري ومس��لم وغيرهم�ا.. واألق�وال ال��تي تلي قوله��ا ه�ذا رواي��ات في1

الحديث، وقد اخترنا اعتبارها أحاديث قائمة بذاتها.

)( رواه ابن عساكر.2

301

وقالت:)والذي بعث محمدا بالحق نبيا م��ا رأى منخال، وال أك��ل خبزا منخوال، منذ بعثه الله إلى أن قبض، قيل، كيف كنتم تصنعون؟

.(1) قالت: كنا نقول أف أف

من خ�بزوق�الت: م�ا ك�ان بيقى على مائ�دة رس��ول الل�ه .(2) الشعير قليل وال كثير

من بين يدي��ه، وعليه��اوقالت: ما رفعت مائدة رسول الله .(3) فضلة من طعام قط

ثالث�ة أي�ام تباع�ا ح�تى مض�ىوقالت: ما شبع رسول الل�ه .(4) لسبيله

وكانت تقول لع�روة: ي�ا ابن أخ�تي، إن�ا لننظ�ر إلى الهالل، ثم الهالل، ثم الهالل ثالثة أهلة في شهرين، وما أوقد في أبيات رسول

نار، فقال لها: يا خالة فما كان يعيشكم؟ قالت: األس��ودان:الله ج�يران من األنص�ار،التمر والماء، إال أنه قد ك�ان لرس�ول الل�ه

من ألبانه��ا،وكانت لهم منائح، وكانوا يرسلون إلى رس��ول الل��ه فيسقيناه.

وكانت تقول له:)وايم الله، يا ابن أختي إن ك��ان يم��ر على آل

)( رواه أحمد برجال ثقات غير سليمان بن رومان.1

)( رواه الطبراني في األوسط بسند حسن.2

)( رواه الطبراني في األوسط بسند حسن.3

)( رواه البخاري ومسلم والبيهقي.4

302

ن��ار، ال يك��ون إال أنمحمد الشهر لم يوقد في بيت رسول الل��ه حوالين��ا أه��ل دور من األنص��ار - ج��زاهم الل��ه خ��يرا في الح��ديث

بغزي�رة ش�ياههم،والقديم - فكل يوم يبعث�ون إلى رس�ول الل�ه وم��ا في من ذلك، ولقد توفي رسول الل��ه فينال رسول الله

رفى من طعام يأكله ذو كبد إال قريبا من شطر شعير، فأكلت من��ه حتى طال علي، ال تغني وكلته عني، فيا ليت�ني لم آكل�ه، وأيم الل�ه،

وكان ضجاعه من أدم حشوه ليف( وقالت: لو أردت أن أخبركم بكل شبعة شبعها رسول الله

.(1)حتى مات، لفعلت

وقالت: أهديت لنا ذات يوم يد شاة فوالله إني ألمس��كها على وأحزه��ا، ويحزها، أو يمس��كها علي رس��ول الل��ه رسول الله

قبل على غير مصباح؟ قالت: لو كان عندنا دهن مصباح ألكلناه، إن كان ليأتي على آل محمد الشهر ما يخبزون فيه خبزا، وال يطبخ��ون

.(2) فيه برمة

وقالت: ما شبع آل محمد ثالث�ة أي�ام من خ�بز ال�بر ح�تى ذاق الموت، وم�ا زالت ال�دنيا علين�ا عس�رة ك�درة ح�تىرسول الله

.(3)، فلما مات أنصبت علينا صبامات رسول الله

: )ي�ا عائش�ة هلمي إلى غ�ذاءكوق�الت: ربم�ا ق�ال الن�بي

)( رواه ابن عساكر.1

)( رواه ابن سعد وأحمد برجال الصحيح وابن عساكر وابن الجوزي.2

)( رواه ابن عساكر.3

303

(1)المبارك، وربما لم يكن إال التمرتين(

طعام��ان ق��ط، إنوقالت: ما اجتمع في بطن رسول الل��ه أكل لحما لم يزد عليه، وإن أكل تمرا لم يزد علي��ه، وإن أك��ل خ��بزا

.(2) لم يزد عليه

وعن مسروق قال: دخلت على عائشة يوم��ا، ف��دعت بطع��ام فق��الت لي: ك��ل فلق��ل م��ا أش��بع من طع��ام، فأش��اء أن أبكي أن بكيت، ق�ال: قلت: لم ي�ا أم المؤم�نين؟ ق�الت: أذك�ر الح�ال ال�تي

في ي��وم م��رتين من، ما شبع رسول الله فارقها رسول الله .(3) خبز شعير حتى لحق بالله

وهكذا تواترت ش��هادات غيره�ا، فق��د ذك�ر أنس بن مال��ك أن فاطمة جاءتك بكسرة خبز فقلت لها: )ما ه��ذه الكس��رة؟( ق��الت: قرصة خبزتها، فلم تطب نفسي إال أن آتيك بهذه الكس��رة، فقلت:

(4) )أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثالثة أيام(

بخبز شعير ول�ه هال�ة ولق�دوقال: مشيت إلى رسول الله سمعته يقول: )م�ا أص�بح آلل محم�د، وال أمس�ى في آل محم�د إال

(5) صاع، وإنهن يومئذ لتسعة أبيات(

)( رواه ابن عدي.1

)( رواه ابن سعد.2

)( رواه ابن عساكر.3

)( رواه أحمد، وابن سعد وأبو داود، والحارث بن أبي أسامة برجال ثقات.4

304

لم يجتمع له غداء وال عشاء من خبز ولحموقال: إن النبي .(1) إال على ضفف

.(2) ما فيها خبز وال لحموقال: شهدت وليمة للنبي

بش��عا ولبس خش��نا، فس��ئل أب��ووقال: أك��ل رس��ول الل��ه الحسن ما البشع؟ قال: غليظ الشعير، وما ك��ان يس��فه إال بجرع��ة

.(3)من ماء

رأى رغيف�ا مرقق�ا بعين�ه،وقال: م�ا أعلم أن رس�ول الل�ه .(4) حتى لحق بربه، وال شاة سميطا قط

وغيرها من الشهادات الكثيرة ال��تي لم يخ��الف فيه�ا أح��د من أصحابك، بل كلهم كانوا متفقين على ذلك الزه��د ال��ذي مأل حيات��ك

كلها، فجعلك المثل األعلى له. بل إنهم لم يكتفوا بذلك، وإنما نقلوا لنا ص��ورا عن مبل��غ ذل��ك الزهد؛ فذكروا أنك كنت تعصب في أحيان كثيرة الحجر على بطنك

)( رواه البخاري ومسلم.5

)( رواه ابن أبي ش��يبة، أحم��د، وأب��و يعلى، والترم��ذي في الش��مائل، وابن س��عد1بإسناد صحيح.

)( رواه ابن سعد.2

)( رواه أبو الحسن بن الضحاك.3

)( رواه ابن سعد.4

305

فعن ابن عب��اس ق��ال: احتف��ر رس��ول الل��ه ..(1) من الج��وع

.(2)وأصحابه قد شدوا الحجارة على بطونهم من الجوع الخندق

وعن جبير بن نفير قال: قال أبو البجير: أصاب رسول الله يوما الجوع، فوضع على بطنه حج��را، وق��ال: )ي��ا رب نفس ناعم��ة

(3) طاعمة، جائعة عارية يوم القيامة(

يشد حبليه بالحجر من الغ��رثوعنه قال: كان رسول الله (4).

وأصحابه، وهم يحف��رونوعن جابر قال: مكث رسول الله الخندق ثالثا لم يذوقوا طعاما، قال جابر: فحانت م�ني التفات�ة ف�إذا

.(5) قد شد على بطنه حجرا من الجوعرسول الله

وعن أنس قال: قال أب�و طلح�ة: ش�كونا إلى رس�ول الل�ه .(6) عن حجرينالجوع، ورفعنا عن حجر حجر، فرفع النبي

)( وقد كان ذلك من ع�ادة الع�رب عن�د الج�وع، ف�إذا خ�وى البطن لم يمكن مع��ه1 القيام، فيعمل الشخص حينئذ إلى صفائح رقاق في طول الك��ف، أو أك��ثر، فيربطه��ا على بطنه، ويشدها بعصابة فوقها، فتعتدل قامته بعض االعت��دال، وق��د ق��ال بعض من وق��ع ل��ه

ذلك: كنت أظن أن الرجلين تحمالن البطن، فإذا البطن هو الذي يحمل الرجلين.

)( رواه عبد الله ابن اإلمام أحمد في زوائد المسند.2

)( رواه البيهقي وابن عساكر.3

)( رواه ابن سعد.4

)( رواه البخاري ومسلم.5

306

ج��وع يوم��ا، فعم��د إلىوعن أبي البجير قال: أصاب النبي .(1) حجر فوضعه على بطنه

يوما فوجدته جالس�ا م�عوعن أنس قال: جئت رسول الله أصحابه يحدثهم، وقد عصب على بطن��ه بعص��ابة، ق��ال أس��امة: أن��ا

أشد على حجر، فقلت لبعض أص��حابه: لم عص��ب رس��ول الل��ه .(2) بطنه؟ قالوا: من الجوع

وعن حصين بن يزيد الكلبي ق��ال: ربم��ا ش��د رس��ول الل��ه .(3) على بطنه الحجر من الجوع

لقد صور بعض الشعراء ذلك، فقال: كأن عيال الناس طرا

عياله فكلهم مما لديه يعال

يبيت على فقر، ولوشاء حولت

له ذهبا محضا ربيوجبال وما كانت الدنيا لديه

بموقع فقد صرمت فيها لديه

حبال رأى هذه الدنيا سريعازوالها

فلم يرض شيئا يعتريهزوال لعمرك ما األعمار إال

قصيرة ولكن آمال الرجال

طوال أتته مفاتيح الكنوزفردها

وعافت يمين مسهاوشمال

)( رواه الترمذي بسند جيد قوي.6

)( رواه ابن أبي الدنيا، والبيهقي في الزهد، وابن عساكر.1

)( رواه مسلم والبيهقي.2

)( رواه أبو نعيم وابن عساكر.3

307

وكان يفيض المال بينعفاته

كما فضت التربالمهال شمال فما كان للمال الشديد

بمائل وكم غر أرباب العقول

ولذلك كنت � سيدي � ال تبالي بالطعام الذي تسد به جوع��ك،فمالوا ال كأولئك الذين ال يأكلون إال ما يشتهون.. وقد روي عنك أنك قلت:

(1) )ما أبالي ما رددت به عن الجوع(

ي��وم فتح مك��ةوحدث ابن عباس قال: دخ��ل رس��ول الل��ه :على أم هانئ بنت أبي طالب، وكان جائعا.. فقال رس��ول الل��ه

)هل عن�دك طع�ام آك�ل( فق�الت: إن عن�دي لكس�رة يابس�ة، وإني أستحي أن أقدمها، قال: )هلميها فكسرها في م�اء(، فجاءت�ه بملح، فقال: )ما من أدم؟( فقالت: ما عندي يا رس��ول الل��ه إال ش��ئ من خل، فقال: )هلميه(، فلما جاءت صبه على طعامه، وأكل، ثم حم��د الله تعالى، ثم قال: )نعم األدم الخل يا أم ه��انئ ال يفتق��ر بيت في��ه

(2) خل(

على عائشة وأن��اوحدثت أم سعد قالت: دخل رسول الله عندها، فقال: هل من غداء؟ قالت: عن�دنا خ�بز وتم�ر وخ�ل، فق�ال

:)نعم اإلدام الخل.. اللهم بارك في الخل، فإن��ه ك��انرسول الله (3) إدام األنبياء قبلي، ولم يفتقر بيت فيه خل(

هذه � سيدي � بعض الشهادات الدال�ة على الحي�اة ال�تي كنت تعيش��ها، وال يمكن فهمه��ا، وال تق��دير قيمته��ا إال عن��د جمعه��ا م��ع

)( رواه ابن المبارك في الزهد عن األوزاعي.1

)( رواه ابن المبارك في الزهد.2

)( رواه ابن ماجة.3

308

خصالك جميعا.. تلك الخصال الممتلئة ب�القوة واإليجابي��ة والفاعلي��ة والت���أثير.. فلم تكن كأولئ���ك الزه���اد المنط���وين على أنفس���هم، المنشغلين بحالهم، بل كنت تحمل هم األم��ة جميع��ا، ب��ل البش��رية

جميعا.. ال تلك التي عاصرتها فقط، بل في كل العصور. فأسألك � يا سيدي يا رسول الله ��� وأتوس��ل ب��ك إلى ربي أن يخرج حب الدنيا من قلبي، وأن يجعلني أعيش تلك العوالم الجميلةالتي كنت تعيشها، والتي ال تساوي أمامها الدنيا بكل زخارفها شيئا. وأس��ألك ��� س��يدي ��� أن أك��ون من أولئ��ك ال��ذين وف��وا ل��ك بعهودهم؛ فلم تغرهم زينة الحياة الدنيا، ولم يتثاقلوا أله��وائهم، ولم يبتغوا عن ص�حبتك ب�ديال، ح�تى ألق�اك وأنت راض ع�ني، إن�ك أنت

صاحب الوسيلة العظمى، والجاه العظيم.

309

المقاوم المجاهد سيدي يا رسول الله.. أيها المق��اوم المجاه��د.. الث��ابت في كل المعارك.. المناضل على ك��ل الجبه��ات.. الص��امد أم��ام ك��ل التحديات.. الث��ائر على ك�ل أن��واع التس��لط واالس��تبداد والبغي..

المقوم لكل االنحرافات والضالالت والتيه. لقد درست � سيدي � حياتك بكل تفاصيلها التي أوردها لن��ا المحدثون والمؤرخون من المدارس المختلف��ة، وقارنته��ا بحي��اة كل األبطال والمقاومين الذين انبهر البشر بشجاعتهم وبطولتهم ومقاومتهم.. فلم أج��د س��يدي أح��دا يض��اهيك، ب��ل ي��دانيك.. ب��ل وجدتهم جميعا تالمي��ذ ص��غارا أم��ام بطولت��ك وثبات��ك وش��جاعتك

وجهادك في كل المجاالت. لق��د رأيتهم س��يدي جميع��ا يناض��لون في مي��دان واح��د.. ورأيت��ك تناض��ل في ك��ل المي��ادين.. ف��أنت ال تكتفي بمواجه��ة الشرك والخرافة والدجل.. وال بزرع القيم األخالقية والروحي��ة.. وال بالنشاط السياسي والعسكري.. وإنما كنت تم��ارس النض��ال في جميع مجاالت الحياة.. وتعطي النموذج األمثل فيه��ا، لتك��ون قدوة لكل مقاومة شريفة ال تكتفي بالجزئيات عن الكلي��ات، وال

باألشياء عن اإلنسان. وق��د رأيت��ك س��يدي ف��وق ذل��ك تثبت أم��ام جمي��ع أن��واع التحديات.. ما يسر منها وما يضر.. فلم تلن ولم تساوم، ولم تبع دينك بشيء من ال��دنيا.. ب��ل كنت تق��رأ عليهم في ذل��ك ال��وقت الذي كانوا يؤذونك فيه أعظم إذية، ويغرونك أعظم إغراء، قول��ه

ها الكافرون )تعالى: ��دون )1قل ياأي ( وال أنتم2( ال أعبد ما تعب

310

�دتم )3عابدون ما أعبد ) �دون4( وال أنا عابد م�ا عب ( وال أنتم عاب[6 - 1 ]الكافرون: (6( لكم دينكم ولي دين )5ما أعبد )

لقد كنت � سيدي ��� تقرؤه��ا عليهم في ال��وقت ال��ذي كنت فيه مع أصحابك في حاجة ألي سند يخفف عنكم ذلك االضطهاد

الجائر الذي كان يمارس عليكم. دين��ك، وعرض��وافي ذلك الحين س��اومك المش��ركون على

عليك أن يعطوك ماال، لتكون أغنى رجل بمك��ة، وعرض��وا علي��ك أن يزوجوك أجمل نسائهم.. وقالوا لك بعدها: )هذا لك يا محم��د وكف عن شتم آلهتنا وال تذكر آلهتن��ا بس��وء؛ ف��إن لم تفع��ل فإن��ا

ما هي،نعرض عليك خصلة واحدة ولك فيها صالح(، فقلت لهم: فقالوا: تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة..

حينها لم تدر ما تقول لهم، ال ترددا، وال ريبة، ولكن لعجب��ك من هذا الطرح ال�ذي ط��رح علي�ك.. حينه�ا ن��زلت علي��ك س�ورة الك��افرون، لتت��ولى اإلجاب��ة عن��ك.. فهي الس��ورة ال��تي تعلن المفاص��لة التام��ة بين اإليم��ان وقيم��ه الرفيع��ة، والكف��ر وقيم��ه الوض��يعة.. فال يمكن لمن أس��لم وجه��ه لل��ه أن يجم��ع بين تل��ك

القيم المتنافرة، وإال كان منافقا ومخادعا ودجاال. في ذلك الحين أيضا، وبعدها، ن��زلت علي��ك اآلي��ات الكث��يرة تدعوك للمفاصلة التامة مع كل ما يعرض��ونه علي��ك من أص��ناف

��ؤمنالمساومات.. نزل عليك حينها قوله تع��الى: ومنهم من يدين ) ك أعلم بالمفس�� ��ه ورب ��ؤمن ب ��ه ومنهم من ال ي ( وإن40ب

��ا �بوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مم�ا أعمل وأن كذ[ 41، 40 ]يونس: بريء مم�ا تعملون

��اونزل عليك معها قوله تعالى: قل ال تسألون عم�ا أجرمن311

��ون ) ��ا25وال نسأل عم�ا تعمل ��ا ثم� يفتح بينن ن ��ا رب ( ق��ل يجم��ع بينن�اح العليم [26، 25 ]سبأ: بالحق وهو الفت

وغيره��ا من اآلي��ات الكريم��ة ال��تي ت��دعوك، وت��دعو ك��ل المؤم��نين في ك��ل األجي��ال إلى الص���مود والمقاوم��ة وع��دم االستس��الم للمس��اومات واإلغ��راءات واالض��طهادات.. وع��دم

تغليب المصالح الوقتية على المبادئ الدائمة. وقد كنت � سيدي � القرآن الناطق لتلك اآليات جميعا؛ فقد واجهت في حيات��ك م��ا ل��و س��لط على الحدي��د ل��ذاب، أو على الجبال الن��دكت.. فق��د ألب أهل��ك علي��ك.. وأوذيت في أص��حابك وأقارب��ك.. وحوص��رت اقتص��اديا.. واتهمت ب��الجنون والس��حر.. وس��لط علي��ك الص��بيان والمج��انين.. وعرض��ت علي��ك في ذل��ك الوقت المليء بكل ألوان األسى كل أنواع اإلغراءات.. فواجهت ذل��ك جميع��ا، وبق��وة وص��البة.. وكنت تق��ول في تح��د ال يض��اهى مخاطب��ا عم��ك المجاه��د الص��ابر المحتس��ب: )ي��ا عم والل��ه ل��و وضعوا الشمس في يمي��ني والقم��ر في ش��مالي على أن أت��رك

(1)هذا األمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته(

لقد ذكر القرآن الكريم بعض ما أوذيت به، ومنه رميهم لكل عليه ال��ذكر �ذي نز ها ال ﴿بالجنون، فقال حاكيا عنهم: وقالوا يا أي

�ك لمجنون )الحجر: �ذين كف��روا6﴾إن ��اد ال ﴿(، وقال تع��الى: وإن يك��ون �ه لمجن ��ون إن معوا ال��ذكر ويقول ارهم لم�ا س�� ��ك بأبص�� ﴾ليزلقون

(51)القلم: وك��ان الق��رآن الك��ريم يثبت��ك في تل��ك المواق��ف الص��عبة، ويخبرك أن هذا ما حصل لألنبياء عليهم الس��الم من قبل��ك، كم��ا

(154)( سيرة ابن إسحاق، السير والمغازي )ص: 1

312

�ذين من قبلهم من رسول إال� ق��الوا ﴿قال تعالى: كذلك ما أتى ال��وح52﴾ساحر أو مجنون )الذريات: ﴿(، وقال: كذ�بت قبلهم قوم ن

�بوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر )القمر: (9﴾فكذ�اس ��ان للن ﴿ومنها رميهم لك بالس��حر، كم��ا ق��ال تع��الى: أك�ذين آمنوا ر ال �اس وبش عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناحر ��افرون إن� ه��ذا لس�� هم ق��ال الك ��د رب دق عن أن� لهم ق��دم ص��

��ذر منهم وق��ال2﴾مبين )يونس: ﴿(، وقال: وعجبوا أن ج��اءهم من(4﴾الكافرون هذا ساحر كذ�اب )ص:

وك��ان الق��رآن الك��ريم يثبت��ك، ويخ��برك أن ه��ذا م��ا حص��ل ﴿لألنبياء عليهم السالم من قبلك، كما قال تعالى: ق��ال المأل من

﴿(، وقال: ق��ال109﴾قوم فرعون إن� هذا لساحر عليم )ألعراف:حر ه���ذا وال يفلح ���ون للح���ق لم�ا ج���اءكم أس��� ى أتقول موس���

احرون )ي��ونس: احران77﴾الس��� ﴿(، وق��ال: ق��الوا إن ه��ذان لس����ريقتكم ��ذهبا بط حرهما وي كم بس�� يريدان أن يخرج��اكم من أرض��

(63﴾المثلى )ط�ه: ومنها رميهم لك بالش��عر، م��ع علمهم ب��أن الق��رآن الك��ريمغاث ﴿ليس له أوزان الشعر وال طريقته قال تعالى: بل قالوا أض���ون ل األو�ل �ة كم��ا أرس� ��ا بآي ﴾أحالم بل افتراه بل هو شاعر فليأتن

��ون5)االنبياء: اعر مجن ��ا لش�� �ا لتاركو آلهتن ﴾(، وقال: ويقولون أإن ﴿ ��ه ريب36)الص��افات: �ص ب ��رب اعر نت ��ون ش�� ﴿(، وق��ال: أم يقول

��ون )الط��ور: اعر قليال م��ا30﴾المن ﴿(، وق��ال: وم��ا ه��و بق��ول ش��(41﴾تؤمنون )الحاقة:

ر فم��ا أنت ﴿ومنها رميهم لك بالكهانة، كما قال تعالى: ف��ذكك بكاهن وال مجنون )الط��ور: ﴿(، وق��ال: وال بق��ول29﴾بنعمت رب

313

�رون )الحاقة: (42﴾كاهن قليال ما تذكل ه��ذا ��ز ﴿ومنها احتقارهم لك، كما قال تعالى: وقالوا لوال ن

)الزخرف: ( 31﴾القرآن على رجل من القريتين عظيم وغيرها من اآليات الكريمة التي رسم فيها الق��رآن الك��ريم بعض الصور لما كان المشركون وغيرهم يؤذون�ك ب�ه.. ولم تكن

تقابل ذلك إال بالصبر والرضى والثبات والمقاومة الباسلة. ائذن لي سيدي أن أشنف آذان قل��بي وم��رآة خي��الي بتل��ك المشاهد العظيمة التي وقفتها.. وال��تي كلم��ا قرأته��ا أو ت��ذكرتها شعرت بالنش��اط يس��ري في ع��روقي، وي��دفعني لمواجه��ة ك��ل العالم من أجلك.. فتلك المشاهد � سيدي ��� هي زادي وزاد ك��ل

حر يريد أن يخرج من البوتقة التي فرضها عليه قومه. دعني � سيدي � أذكر ذلك الموقف الش��ديد القاس��ي ال��ذي م��ر علي��ك في أول دعوت��ك، وال��ذي ت��ولى ك��بره بعض أقارب��ك

أب��و لهب، ال��ذي ن��زلت في حق��هذل��ك العم القاس��ي المق��ربين، سورة كاملة تبين الخسارة ال��تي وق��ع فيه��ا حين باع��ك بأهوائ��ه

وأموال قريش.. أن��ك لم��ا أن��زل الل��ه علي��ك(1) فقد روي بأس��انيد مختلفة

)الش��عراء: يرتك األق��ربين ��ذر عش�� ﴾قول��ه: وأن ( قمت على214﴿ الصفا، فعلوت أعالها حجرا، ثم ناديت: ي��ا ص��باحاه، فق��الوا: من ه��ذا؟.. وجع��ل الرج��ل إذا لم يس��تطع أن يخ��رج يرس��ل رس��وال

لينظر ما الذي يحصل. حينها جاء عمك أب��و لهب ومع��ه وجه��اء ق��ريش، ف��اجتمعوا

)( رواه البخاري ومسلم والبالذري وغيرهم.1

314

إلي��ك؛ فقلت لهم: )إن أخ��برتكم أن خيال تخ��رج من س��فح ه��ذاالجبل تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟(

وطبع��ا لم يج��دوا إال أن يص��دقوا، فق��د كنت ت��دعى بينهم الصادق األمين، ولم يجربوا عليك كذبا ق��ط، فل��ذلك ق��الوا: )م��ا

جربنا عليك كذبا( حين أقروا لك بذلك، وأقمت عليهم الحجة بكون��ك ص��ادقا، قلت لهم: )يا معشر قريش، أنقذوا أنفس��كم من الن��ار، ف��إني ال أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد مناف، أنقذوا أنفسكم من النار، ف�إني ال أغ��ني عنكم من الل�ه ش��يئا، ي�ا ب��ني عب��د ش�مس أنقذوا أنفسكم من النار، فإني ال أغني عنكم من الل��ه ش��يئا، ي��ا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، فإني ال أغ��ني عنكم

أنقذ نفسك من النار،من الله شيئا، يا عباس عم رسول الله فإني ال أغ��ني عن��ك من الل��ه ش��يئا، ي��ا ص��فية عم��ة محم�د، وي��ا فاطمة بنت محمد أنقذا أنفسكما من النار، فإني ال أمل��ك لكم��ا من الله شيئا، غير أن لكما رحم��ا س��أبلها ببالله��ا، إني لكم ن��ذير

(1)بين يدي عذاب شديد(

في هذا الموق��ف، وبع��د ه��ذه الكلم��ات الم��ؤثرة الناص��حة واجهك عمك أبو لهب بكل قسوة قائال: تبا لك سائر اليوم، ألهذا

جمعتنا؟ لم يق��ف أب��و لهب ذل��ك الموق��ف فق��ط.. ب��ل ظ��ل خلف��ك يتعقبك، وفي كل مكان تذهب إليه لينفر الناس عنك؛ فقد حدث

في الجاهلي�ة فيبعض المعاصرين لذلك، فقال: رأيت الن�بي سوق ذي المجاز، وهو يقول: )يا أيها الناس، قولوا ال إله إال الله

(177/ 2)( دالئل النبوة للبيهقي )1

315

تفلحوا(، والناس مجتمع��ون علي��ه، ووراءه رج��ل وض��يء الوج��ه أحول ذو غديرتين، يقول: إن��ه ص��ابئ ك��اذب.. يتبع��ه حيث ذهب،

.(1)فسألت عنه فقالوا: هذا عمه أبو لهب

وقال آخر: إني لمع أبي رجل شاب، أنظر إلى رسول الل��هيتبع القبائل، ووراءه رجل أحول وضيء، ذو جم�ة يقف رسول

على القبيل��ة فيق��ول: )ي��ا ب��ني فالن، إني رس��ول الل��هالل��ه إليكم، آمركم أن تعبدوا الله ال تشركوا به ش��يئا، وأن تص��دقوني وتمنعوني حتى أنفذ عن الله ما بعثني به(، وإذا فرغ من مقالت��ه قال اآلخر من خلفه: ي��ا ب��ني فالن، ه��ذا يري��د منكم أن تس��لخوا الالت والع��زى، وحلف��اءكم من الجن من ب��ني مال��ك بن أقيش، إلى ما جاء به من البدعة والضاللة، فال تس��معوا ل��ه وال تتبع��وه.

.(2)فقلت ألبي: من هذا؟ قال: عمه أبو لهب

وذكر آخر أنك لما دعوت قومك إلى اإليمان، قال أبو لهب: إذا كان ما يقول ابن أخي حقا، فإني أفتدي نفسي ي��وم القيام��ة ﴿من العذاب بمالي وولدي، فأنزل الله تعالى: ما أغنى عنه ماله

)المسد: (2﴾وما كسب ومثل أبي لهب زوجته المارقة أم جمي�ل بنت أل�د أع�دائك،

��ة الحطب تل��ك ال��تي س��ماها الل��ه تع��الى (3)وأختهم حم�ال

��ا لزوجه��ا على كف��ره وجح��وده[، فقد4]المس��د: ك��انت عون

)( رواه أحمد.1

)( رواه أحمد والطبراني.2

)( اسمها أروى بنت حرب بن أمية، وهي أخت أبي سفيان.3

316

ك��انت له��ا.. و(4)وعناده، وقد ك��انت تض��ع الش��وك في طريقك قالدة فاخرة، فقالت: ألنفقنها في ع��داوة محم��د، فأعقبه��ا الل��ه

بها حبال في جيدها من مسد النار. عن��دما ت��أملت ��� س��يدي ��� ه��ذه المواق��ف، وح��اولت أن أعيشها، وجدت مدى اآلالم التي كنت تحملها، وأنت ترى عم��ك، وه��و يك��ذبك، وينف��ر الن��اس عن��ك.. ووج��دت معه��ا ذل��ك الت��أثير الخطير الذي يق��وم ب��ه ذل��ك العم الحق��ير.. فالن��اس في الع�ادة يس���تمعون آلراء األق���ارب بعض���هم في بعض، ويبن���ون عليه���ا مواقفهم، ولذلك كان موقف عم��ك ليس مؤذي��ا ل��ك فق��ط، ب��ل ك���ان مؤذي���ا ل���دعوتك أيض���ا.. ألن المغفلين س���يقولون حين يسمعوه: لو كان فيما جاء به خير التبعه عمه، وهو أقرب الناس

إليه. لكن الله تعالى بكرمه ولطفه ش��اء أن يمن��ع ه��ذه الحج��ة، ويرفع عنك بعض ذلك اإليذاء العظيم الذي وقفه عمك أب��و لهب بعمك اآلخر الطيب المؤمن الصالح أبي طالب.. ذلك الذي رباك على عينك، وشاهد إكرام الله لك في صغرك.. فل��ذلك آمن ب��ك

قبل بعثتك، وكان أول المؤمنين بك بعدها. لقد جاء أئمة الشرك حينه��ا إلى عم��ك أبي ط��الب بع��د أن رأوا مواقفه في صالحك، فقالوا: يا أبا ط��الب إن ابن أخي��ك ق��د سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحالمنا وضلل آباءنا، فإما أن تكفه وإما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خالفه

فنكفيكه.

)( رواه العوفي عن ابن عباس، وعطية الجدلي، والضحاك، وابن زيد، واختاره4ابن جرير.

317

وكان أب��و ط��الب هين��ا لين��ا، ل��ذلك ردهم بسالس��ة، ليكف��وا عنك؛ فقد كان يدرك أن المواجهة الش��ديدة م��ع أولئ��ك األجالف

الغالظ لن تجدي شيئا، بل قد تكون مضرة بك وبدعوتك. وبع��د أن فع��ل ذل��ك ��� س��يدي ��� لم تلن، ولم تتوق��ف عن دعوتك، خشية على عم��ك ال��ذي ب��ذل ك��ل ش��يء في س��بيلك.. وإنما مضيت في دعوتك، كما أمرك الله تعالى، ال تبالي بكل م��ا

يحول بينك وبينها. بع��د أن رأى رؤوس الش��رك م��ا أنت علي��ه من ثب��ات، وأن كالمهم مع عمك لم ي��ؤثر في��ك.. ج��اءوا إلى عم��ك م��رة أخ��رى فقالوا له: يا أبا طالب إن لك سنا وإن ل��ك ش��رفا ومنزل��ة فين��ا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله ال نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحالمنا وعيب آلهتنا ح��تى تكف��ه

عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين. في ذلك الموقف الشديد، وبعد أن سمعت م��ا ق��الوا، جئت لعم�ك الص��الح، ال لتع�ده ب��التراجع حرص�ا علي��ه، وإنم��ا قلت ل�ه كلمتك العظيمة التي أص��بحت ش��عارا لك��ل المق��اومين: )ي��ا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن

أترك هذا األمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته( ثم رحت تبكي ألما لعمك الذي لم ي��رحم المش��ركون ك��بر سنه، فلما رآك كذلك ق��ال: اذهب ي��ا ابن أخي فق��ل م��ا أحببت،

فوالله ال أسلمك لشئ أبدا، ثم راح ينشد: والله لن يصلوا إليك

بجمعهم حتى أوسد في

التراب دفينا فامضي ألمرك ما عليكغضاضة

وابشر وقر بذاكمنك عيونا

318

ودعوتني وزعمت أنكناصحي

فلقد صدقت وكنت لقد رحت سيدي أتخيل هذه المشهد.. فوجدت��ه في منتهىثم أمينا

األلم ذلك أن أبا طالب كان بمثابة أبي��ك، فق��د ت��ربيت في بيت��ه، وكفلك في ص��غره بع��د م��وت ج��دك.. ول��و أن��ه لم يكن ل��ك من الثبات والصدق ما كان لك لم تكن لتترك عمك يعاني ك��ل ذل��ك

العناء؟ ليس ذلك فقط.. فلم تيأس قريش من تأليبب أهلك عليك، ب��ل راحت تمارس كل أنواع المساومة، وأشرسها وأحقرها.. ومنها تلك المساومة التي ت��دل على م��دى انحط��اط القيم ال��تي ك��ان يتبناه��ا أعداؤك؛ فقد ج�اءوا بعم�ارة بن الولي�د بن المغ�يرة، وه�و ابن ألل�د أعدائك، وقالوا لعمك: يا أبا طالب هذا عمارة بن الولي��د أنه��د ف��تى في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره واتخذه ولدا فهو ل��ك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي قد خ�الف دينن�ا ودين آبائ�ك وف�رق

جماعة من قومك وسفه أحالمهم فنقتله، فإنما هو رجل برجل. حينها ق�ال عم�ك لهم: والل�ه ل�بئس م�ا تس�ومونني! أتعط�وني

ما ال يكون أبدا،ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه! هذا واللهأرأيتم ناقة تحن إلى غير فصيلها؟

حينها أعلنوا الح�رب الشرس�ة على ك�ل من اتبع�ك، عس�ى أن يثنيك ذلك عن دعوتك.. لكنك � مع ألمك الش��ديد لم��ا حص��ل لهم � لم تكن تتنازل عن الحق، وقد روي أن بعض أصحابك من المعذبين

)أال تستنص�ر لن�ا، أال ت�دعو لن�ا؟(،جاءك في ذلك الحين، وقال لك: إن كان من كان قبلكم ليمشط أحدهم بأمشاط الحدي�دفقلت له: )

ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه ذل��ك عن دين��ه، ويوض��ع المنشار على مفرق رأس أحدهم، فيشق ب�اثنتين م�ا يص�رفه ذل�ك

319

عن دينه، وليتمن الله هذا األمر حتى يسير الراكب من ص��نعاء إلى.(1)حضر موت ال يخاف إال الله والذئب على غنمه

لقد ذكرتهم سيدي بما ك��ان يحص��ل لألنبي��اء عليهم الس��الم وأتباعهم من المستض��عفين، وال��ذي ك��ان الق��رآن الك��ريم يقص

وكالعليهم قصص��هم ليثبتهم، ويثبت��ك معهم، كم��ا ق��ال تع��الى: ت به فؤادك وجاءك في ه��ذه سل ما نثب نقص عليك من أنباء الر

[120 ]هود: الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين ولم تكن تملك � سيدي � في تلك المواجهة الشرسة إال أن ت��دعو ألص��حابك، من دون أن تب��دي ألع��دائك أي لين مقاب���ل مبادئك.. وقد روي أنك مررت على عم��ار بن ياس��ر وأبي��ه وأم��ه سمية وأخيه عبد الله، وهم يعذبون، فلم تمل��ك إال أن قلت لهم:

(2))صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة(

هذا كل ما كنت تملك تجاههم سيدي، فلم تعدهم ب��أي مناص��ب وال بأي دنيا، حتى ال يصحبك إال الص�ادقون المخلص�ون.. ول�ذلك لم يكن للمستضعفين في ذلك الوقت من أنيس غير الق��رآن الك��ريم،

وحقائق القرآن الكريم التي كانت أعظم مثبت لهم. وكي��ف ال يفعل��ون ذل��ك، والق��رآن الك��ريم يقص عليهم قص��ص البطولة والمقاومة التي مارسها أتباع األنبي��اء من قبلهم، كم��ا ق��ال

�ار4 قتل أصحاب األخ��دود )تعالى في قصة أصحاب األخدود: ( الن��ون6( إذ هم عليه��ا قع��ود )5ذات الوق��ود ) ( وهم على م��ا يفعل

هود ) ( وم�ا نقم�وا منهم إال� أن يؤمن�وا بالل�ه العزي�ز7ب�المؤمنين ش�)( رواه البخاري ومحمد بن عمر األسلمي والبيهقي.1

)( رواه البالذري والحاكم.2

320

يء8الحميد ) ماوات واألرض والل�ه على كل ش�� ( ال�ذي له ملك الس� ( إن� ال�ذين فتنوا الم�ؤمنين والمؤمن�ات ثم� لم يتوب�وا فلهم9شهيد )

�م ولهم ع��ذاب الحري��ق ) ��وا وعمل��وا10ع��ذاب جهن ( إن� ال�ذين آمن�ات تجري من تحتها األنهار ذلك الفوز الكبير ) 11الص�الحات لهم جن

) :[12 - 4 ]البروج ولما اشتد األذى بأص��حابك أم��رتهم ب��الهجرة إلى الحبش��ة، ولم تدعهم قريش يه��اجرون ب��دينهم، ب��ل تعقبتهم تح��اول استئص��الهم، لكن الل���ه تع���الى أبط���ل كي���دهم، وص���ارت الحبش���ة م���أوى المستضعفين.. لكن��ك لم ته��اجر، ب��ل بقيت تم��ارس دعوت��ك، وفي

ظل تلك األجواء القاسية. ولم يكتف أع�داؤك ب�ذلك، ب�ل راح�وا يمارس��ون حص�ارهم االقتصادي عليك، وعلى قرابتك، وأصحابك، فقد كانوا إذا قدمت العير مكة، ويأتى أحد قرابتك أو أص��حابك إلى الس��وق ليش��ترى شيئا من الطعام يقتاته ألهله، يقوم المشركون بمنعه، ويقول��ون للتج��ار: )ي��ا معش��ر التج��ار غ��الوا على أص��حاب محم��د ح��تى ال يدركوا شيئا معكم(، فيزيدون عليهم فى السلعة قيمتها أض��عافا

حتى ال يستطيع شراءها. وهكذا مارس أعداؤك في مكة المكرمة كل أساليب الحقد والمواجهة لك ولدعوتك، لكنك كنت ثابت��ا كالجب��ال الرواس��ي، ال

�ذيتزعزعك الري��اح، ق��ال تع��الى: ��ك عن ال ��ادوا ليفتنون وإن ك�خذوك خليال ) ( ولوال أن73أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا الت

�تناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليال ) عف74ثب ��اك ض�� ( إذا ألذقنيرا ) ��ا نص�� ��ك علين عف المم��ات ثم� ال تج��د ل ��اة وض�� ( وإن75الحي

��ون ونك من األرض ليخرج��وك منه��ا وإذا ال يلبث تفز ��ادوا ليس�� كلنا وال76خالفك إال� قليال ) ��ك من رس�� لنا قبل �ة من ق��د أرس�� ن ( س��

321

�تنا تحويال ) [ 77 - 73 ]اإلسراء: ( 77تجد لسن وعندما ذهبت إلى المدينة المنورة، لم يكف أعداؤك عن��ك، بل زاد عددهم، وزادت معها أس��اليب مك��رهم، وخاص��ة بع��د أن انضم إليهم اليهود، الذين استعملوا كل ما كانوا يس��تعملونه م��ع

األنبياء عليهم السالم في مواجهتك. فقد كانوا يسيئون األدب معك، ويس��خرون من��ك كم��ا ك��ان

يبايسخر المشركون، قال تعالى: ��وا نص�� �ذين أوت ��ر إلى ال ألم تبيل ) وا الس��� ل (44من الكتاب يشترون الض�اللة ويري��دون أن تض��يرا ) �ه نص��� ا وكفى بالل �ه ولي �ه أعلم بأع���دائكم وكفى بالل (45والل

معنا ��ون س�� عه ويقول ف��ون الكلم عن مواض�� �ذين ه��ادوا يحر من الا بألسنتهم وطعنا في الدين وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا لي��را لهم ��ان خي ��ا لك مع وانظرن ��ا واس�� �هم قالوا سمعنا وأطعن ولو أن

���ون إال� قليال ) �ه بكف���رهم فال يؤمن (46وأق���وم ولكن لعنهم الل[46- 44]النساء:

وكان من حيلهم البش��عة، أنهم ك�انوا يؤمن��ون في الص��باح، وق��الت طائف��ة من أه��لثم يكفرون آخ��ره، كم��ا ق��ال تع��الى:

�ه��ار واكف�روا �وا وج�ه الن �ذين آمن �ذي أنزل على ال الكتاب آمنوا بال�هم يرجع��ون ) ��ع دينكم 72آخره لعل ��وا إال� لمن تب ]آل( وال تؤمن

[73، 72عمران: وهي مكيدة عظيمة أرادوها ليلبسوا به�ا على الض��عفاء من الناس أمر دينهم، ليقول��وا: إنم��ا ردهم إلى دينهم اطالعهم على

�هم يرجع��وننقيصة وعيب في دين المسلمين، ولهذا قالوا: لعلق�ال ابن عب�اس: )ق�الت طائف�ة من أه�ل الكت�اب: إذا لقيتم ،

أصحاب محمد أول النهار فآمنوا، وإذا كان آخره فصلوا صالتكم،

322

(1) لعلهم يقولون: هؤالء أهل الكتاب وهم أعلم منا(

ولم يكتف أعداؤك بكل ذلك، بل راحوا يفرضون عليك ك��ل أنواع الحروب؛ فلم تكن تخرج من حرب معهم ح��تى ت��دخل في حرب أخرى.. إلى أن نصرك الله عليهم نصره الم��ؤزر من غ��ير

أن تلين، أو تستسلم، أو تكف عن المواجهة. هذه � سيدي � بعض مشاهد مقاومتك وبطولتك وجه��ادك.. وهي كافي���ة للعقالء ليعرف���وا ص���دقك وإخالص���ك.. فال يم���يز الص��ادقون إال بثب��اتهم في المواق��ف المختلف��ة.. أم��ا أولئ��ك المتزعزعون المائلون م��ع ك��ل ه��وى، ال��ذين يعب��دون الل��ه على

حرف، فإنهم أبعد الناس عن الصدق واإلخالص. فأسألك � سيدي � وأتوسل بك إلى الله تعالى أن أكون من الصادقين معك، ومع دينك، ومع هديك، الثابتين الذين لم يغيروا، ولم يب��دلوا، ولم ي��بيعوا دينهم بش��يء من ال��دنيا.. أولئ��ك ال��ذين

دقوا م�اوص�فهم الل�ه تع�الى، فق�ال: من الم�ؤمنين رج�ال ص���ر وم��ا ��ه ومنهم من ينتظ �ه عليه فمنهم من قضى نحب عاهدوا الل

[23 ]األحزاب: بد�لوا تبديال وأسألك � سيدي ��� أن تم��دني بم��ددك ال��ذي كنت تم��د ب��ه أص��حابك، ح��تى تك��ون لي الق��درة على المواجه��ة والمقاوم��ة والثبات.. واجعلني أتمتع برؤيتك، كم��ا ك��انوا يتمتع��ون، وبس��ماع كلماتك كما كانوا يستمعون، فقد كانت كلمات��ك ورؤيت��ك س��يدي أعظم مصدر لثباتهم وجه��ادهم ومق��اومتهم.. إن��ك أنت الوس��يلة

العظمى، وصاحب الجاه العظيم.

( 59/ 2)( تفسير ابن كثير )1

323

التقي النقي سيدي يا رسول الله.. أيها التقي النقي الطاهر.. ي��ا من لم تخدش مرآة قلبه بأي خطأ أو خطيئة، قبل النب��وة وبع��دها، وفي صغره وكبره.. وفي ك��ل ش��ؤونه.. فص��ار ل��ذلك م��رآة للحق��ائق

والقيم التي لم تشوه، ولم تغير، ولم تحرف. وصرت بذلك � سيدي � أنموذجا لكل من يريد السلوك إلى الله، والتحقق باإلنسانية الرفيعة، والسمو إلى ال��درجات العلي��ا،وة �ه أس�� ول الل لقد كان لكم في رس�� ﴿كما قال تعالى في حقك: ��يرا �ه كث ��ر الل ��وم اآلخ��ر وذك �ه والي ��ان يرج��و الل نة لمن ك ﴾حس��

[21]األحزاب: ولوال ذلك � سيدي � ما أمرنا الله بالتأس��ي ب��ك، وال الس��ير خلف��ك.. وه��ل يمكن لمن يهم بالخطيئ��ة أو يق��وم به��ا أن يك��ون

مرشدا للتائهين، أو دليال للمتحيرين؟ ولذلك كنت أتقى األتقياء وأطهر الط�اهرين، وك�ل م�ا روي عنك خالف ذلك، فهو من دس المغرضين الحاقدين الحاسدين.. أو من رواية المغفلين المخدوعين الذين اهتموا بكثرة الح��ديث، ولم يهتموا بمعانيه، فدس الشيطان في حديثهم ما يسيء إليك،

وإلى الهدي العظيم الذي جئت به. وقد كان من ذل�ك ال�دس تل�ك التش�ويهات العظيم�ة ال�تي أرادوا به��ا أن يرفع��وا بعض غ��يرك، فوض��عوك، ش��عروا أو لم

يشعروا.. ومن األمثل��ة على ذل��ك ال��دس الخط��ير ال��ذي أرادوا ب��ه

324

تشويهك، ورفع غيرك تلك الرواية التي يروونه��ا، ويعظمونه��ا، ال ألنها تعظمك وتقدسك، وإنما ألنها تعظم وتقدس زي��د بن عم��رو بن نفيل عم عم��ر بن الخط��اب، ال��ذي اعت��بروه أك��ثر ورع��ا عن

الشرك وأسبابه منك. فقد رووا أنك لقيت زيد بن عم�رو بن نفي�ل بأس�فل بل��دح، قبل أن ينزل عليك الوحي، فقدمت إليه سفرة فيها لحم، ف��أبى أن يأكل منها، وقال: )إني ال آكل مما تذبحون على أنص��ابكم وال

(1)آكل إال مما ذكر اسم الله عليه(

وراحوا ال يكتفون ب�ذلك، ب�ل يض��يفون إلي��ه اعتب��ار زي��د بن عمرو هو الذي كان يدعو إلى التوحيد قب��ل أن ت��دعو إلي��ه، فق��د رووا أنه كان يعيب على قريش ذبائحها، ويق��ول: )الش��اة خلقه��ا الله، وأنزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من األرض الكأل، ثم

(2 )أنتم تذبحونها على غير اسم الله؟!(

وبذلك أصبح زيد بن عم��رو �� عن��دهم ��� أك�ثر عقال وحكم�ة وورعا منك سيدي.. وهم يذكرون ذلك من دون حياء، ويعتبرون��ه من من��اقب زي��د، ولم ينظ��روا أب��دا إلى أنهم ب��ذلك يش��وهونك،

ويعتبرونك أقل عقال وعلما وحكمة من غيرك. وهكذا أوردوا الروايات الكثيرة ال��تي تش��وهك، وغفل��وا عن

، والط��براني في الكب��ير )2/121(، والبيهقي في ال��دالئل3826)( رواه البخاري )1 ، قال شعيب األرن��ؤوط: )وفي رواي��ة فض��يل250-9/249(، والبيهقي في السنن 13169

سفرة، فأبى أن يأكل منها. وهذا من أوه��ام فض��يل بنبن سليمان: فقدمت إلى النبي س��ليمان، والص��واب م��ا في رواي��ة وهيب بن خال��د وغ��يره عن موس��ى بن عقب��ة من أن

هو الذي قدم إلى زيد بن عمرو بن نفيل سفرة فيها لحم، فأبى األخ��ير أنرسول الله (270/ 9يأكل منها(] مسند أحمد ط الرسالة )

(63/ 2)( اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم )2

325

تلك التي تتواف��ق م��ع م��ا ذك��ره الق��رآن الك��ريم في حق��ك، ب��ل راحوا يضعفونها، ويردونها، في نفس ال�وقت ال�ذي يق�وون تل�كاألحاديث التي رضي عنها المدلسون البغاة الذين حذرت منهم.

ولهذا، فإن ال��ذين قبل��وا تل��ك الرواي��ة ال��تي تعت��برك ج��اهال بالشرك، يرفضون تلك الرواية التي تخبر عن توحيدك وإيمان��ك، وأنت في ص��باك الب��اكر، ومنه��ا م��ا روي في رحلت��ك األولى إلى الشام، وأنت صبي صغير، حينها م�رت القافل�ة ببح��يرا ال�راهب، ال��ذي طلب لق��اءك، بع��د أن رأى بعض العالم��ات الدال��ة على وجودك في الركب، جعل يلحظك لحظ��ا ش��ديدا، ح��تى إذا ف��رغ القوم من الطعام وتفرقوا، قام بحيرا إليك، فقال لك ��� مخت��برا

�: يا غالم أسألك بالالت والعزى إال أخبرتني عما أسألك عنه. هو لم يق��ل ذل��ك إال ليخت��برك، فه��و لم يكن ي��ؤمن ب��الالت والعزى، وإنما ذكرهما ألنه رأى قومك يحلفون بهم��ا، فقلت ل��ه: )ال تسلني بالالت والعزى شيئا، ف��و الل��ه م��ا أبغض��ت ش��يئا ق��ط

(1)بغضهما(

وهكذا � سيدي � كنت في حياتك جميعا متورعا عن كل م��ا ال يتناسب مع مكانتك الرفيعة ال��تي هيأه��ا الل��ه ل��ك.. وق��د روى المحدثون أنك � سيدي � مع تلك الفاقة العظيمة التي مررت بها طيلة فترة رسالتك، لم تمد يدك إلى طعام ال تع��رف مص��دره..

ليص��يب التم��رة،وق��د ح��دث أنس ق��ال: ك��ان رس��ول الل��ه (2)فيقول: )لوال أخشى أنها من الصدقة ألكلتها(

(75)( سيرة ابن اسحاق = السير والمغازي )ص: 1

)( رواه البخاري ومسلم.2

326

وحدث آخر أنك وجدت تمرة تحت جنبك من الليل فأكلته�ا، فلم تنم تلك الليلة، فقالت بعض نس��ائك: ي��ا رس��ول الل��ه أرقت البارحة، فقلت: )إني وجدت تمرة فأكلتها، وكان عندي تم��ر من

(1)تمر الصدقة، فخشيت أن تكون منه(

ولم تكن متورعا عن ذلك فقط، ب��ل كنت تت��ورع أن تخ��زن شيئا من المال أو الطعام في نفس الوقت ال��ذي ق��د يوج��د من

، ففي الحديث عن بعض ص��حبك ق��ال: )ك��ان(2)هو بحاجة إليه(3) ال يدخر شيئا لغد(رسول الله

إلى أح��د فق��ال: )م��اوحدث آخر قال: نظر رسول الل��ه يسرني أنه ذهب آلل محمد، أنفقه في س��يبل الل��ه، أم��وت ي��وم أموت وعندي منه ديناران، إال دين��ارين أع��دهما لل��دين إن ك��ان(

(4)

فقال يوما: )ماوحدث آخر قال: كنت أخدم رسول الله

)( رواه أحمد برجال ثقات.1

)( أما ما روي من أن��ه ك��ان ي��دخر ق��وت س��نة، فق��د أج��اب عن��ه الحاف��ظ البجلي2 أنه لم يش��بع في ي��وم من خ��بزبقوله: سألت نعيم بن حماد قلت: جاء عن رسول الله

مرتين، وجاء عنه أنه كان يعد ألهله قوت سنة، فكي�ف ه�ذا؟ ق�ال: ك�ان يع�د ألهل�ه ق�وتسنة، فتنزل النازلة، فيقسمه، فيبقى بال شيء.

ومما يؤيد هذا ما رواه أحمد، وأبو يعلى برجال ثق��ات عن أنس ق��ال: أه��ديت لرس��ول ثالثة طوائر فأطعم خادمه طائرا، فلما كان من الغد أتته به، فقال لها رسول الل��هالله )ألم أنهك أن ترفعي شيئا لغد؟ فإن الله تعالى يأتي برزق كل غد( :

)( رواه البخاري.3

)( رواه أحمد وأبو يعلى بسند جيد.4

327

عن��دك ش��يء تطعمن��ا؟( قلت: نعم ي��ا رس��ول الل��ه، فض��ل من الطعام ال��ذي ك��ان أمس، ق��ال: )ألم أنه��ك أن ت��دع طع��ام ي��وم

(1)لغد؟(

هذه بعض شواهد ورعك سيدي عن الحالل الذي أباحه الله لك؛ فكيف يتجرؤون على م��ا يرمون��ك ب��ه من الفض��ائع ال��تي ال

يجيزونها ألنفسهم.. ولم يكن ذلك وح��ده ��� س��يدي ��� ش��اهدا على ورع��ك، ب��ل كانت حياتك كلها حياة تقوى وورع وطهارة، فلم تكن لتمتد يدك لما حرم الله أو كرهه.. وكيف تفع��ل ذل��ك وأنت عب��ده المطه��ر المنقى الذي هو أعرف الخل��ق بالل��ه، وأك��ثرهم تق��وى ل��ه، كم��ا

(2)عبرت عن ذلك بقولك: )إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا(

فأسألك � يا سيدي يا رسول الل��ه ��� وأتوس��ل ب��ك إلى ربي أن يمأل قلبي بحبك والتعل��ق ب��ك، ح��تى يت��نزل علي من برك��ات حبك ما يطهر قلبي من كل األدران ال��تي تجذب��ه لل��دنيا، وتبع��ده عنك.. فمن اقترب منك � س�يدي �� ن�ال التق�وى، وص�ار ط�اهرا نقيا.. ومن ابتعد عن��ك تنجس قلب��ه.. ومن تنجس قلب��ه لم ي��زدد منك إال بعدا.. ومن ابتع��د عن��ك ابتع��د عن رب��ه.. ومن ابتع��د عن

ربه غرق في المعاصي.. حتى لو بدا في ظاهره تقيا صالحا.

)( رواه ابن أبي شيبة في المصنف.1

)( رواه البخاري.2

328

األبيالمتواضع سيدي يا رسول الله.. أيها المتواضع ال��ذي جعلت��ه عبوديت��ه لله قريبا من كل المستضعفين المظلومين المحتق��رين.. فك��ان سندهم الذي به يفرحون، ومنه يق��تربون، فيس��تغنون ب��االقتراب

منه من كل أولئك الذين يستكبرون عليهم، ويذلونهم. سيدي يا رسول الله.. يا من اخترت العبودي��ة على المل��ك، والمسكنة على ال��ترف، ورض��يت ب��أن تك��ون كالعبي��د والفق��راء والمساكين، تأك��ل ك��أكلهم، وتلبس كلبس��هم، وت��أوي إلى بيت ال يختل��ف عن بي��وتهم.. وتعيش مثلهم، ال ب��ل دونهم، تج��وع يوم��ا

وتشبع يوما.. فإذا شبعت شكرت، وإذا جعت صبرت. م��اذا عس��اي أذك��ر من تواض��عك، وأنت ال��ذي رض��يت ب��أن تضحي بالكثير من المكاسب المرتبطة بدعوتك في سبيل أولئك العبيد والفقراء والمستضعفين الذين التفوا بك، فحال التف��افهم

بك أولئك المستكبرين من الجلوس معك، أو االستماع إليك. سيدي.. ائذن لي أن أذكر بعض مشاهد تواض��عك، ألرد به��ا على أولئك الذين لم يعرفوك، فراحوا يرسمون ص��ورا مش��وهة عنك، هي أقرب إلى صور أبي س��فيان وأبي جه��ل منه��ا إلي��ك.. أولئك الذين اتبعوا دين البغاة والمح��رفين، وترك��وا ال��دين ال��ذي أوصيتهم به، دين عترتك الطاهرة، وأصحابك المنتجبين الذين لم يغيروا ولم يبدلوا، وعاشوا حياة التواضع والمسكنة التي أمرتهم

بها إلى آخر أيام حياتهم. لقد حدث بعضهم عنك يص��فك، فق��ال: )ك��انت في رس��ول

خص��ال ليس��ت في الجب��ارين، ك��ان ال ي��دعوه أحم��ر، والالله 329

أسود، إال أجابه، وكان ربما وجد تمرة ملقاة فيأخذها، فيرمي بها إلى في��ه، وإن��ه ليخش��ى أن تك��ون من الص��دقة، وك��ان ي��ركب

(1)شيء(الحمار عريا، ليس عليه

يمشي مع أصحابه إذوحدث آخر قال: بينما رسول الله أخذ رجل منهم، فستره بثوب فلم��ا رأى م��ا علي��ه، رف��ع رأس��ه، فإذا هو عاله قبلي س��تر، فق��ال: )م��ه(، فأخ��ذ الث��وب، فوض��عه،

�ما أنا بشر مثلكم )الكهف: ﴾وقال: إن ﴿110)(2)

، ومن قبل��ه منوح��دث آخ��ر، ق��ال: ك��ان رس��ول الل��ه األنبياء � عليهم السالم ��� يمش��ون على العص��ا، يتوكئ��ون عليه��ا،

.(3)تواضعا لله عز وجل

ي��ركب الحم��ار،وح��دث آخ��ر، ق��ال: ك��ان رس��ول الل��ه .(4)ويردف بعده، ويجيب دعوة المملوك

يكثر الذكر، ويق��ل اللغ��و،وحدث آخر، قال: كان رسول الله ويطيل الصالة، ويقصر الخطبة، وال يأنف، وال يستكبر أن يمشي مع

.(5)األرملة والمسكين يقضي لهما حاجتهما

)( رواه ابن سعد.1

)( رواه ابن أبي شيبة وعلي بن عبد القدير البغوي.2

)( رواه ابن األعرابي.3

)( رواه ابن سعد.4

)( رواه الدارمي.5

330

يجلس على األرض،وحدث آخر، قال: كان رس��ول الل��ه . (1) ويأكل على األرض، ويعقل الشاة، ويجيب دعوة المملوك

يركب الحمار، ويع��ودوحدث آخر، قال: كان رسول الله المريض، ويشهد الجنازة، ويأتي دعوة المملوك، وكان ي��وم ب��ني قريظ��ة على حم��ار مخط��وم بحب��ل من لي��ف، على إك��اف من

.(2)ليف

تغل��ق دون��هوحدث آخر، قال: والله ما كان رسول الل��ه األبواب، وال يق�وم دون�ه الحج�اب، وال يغ�دى علي��ه بالجف�ان، وال

يراح بها عليه، ولكنه ك��ان ب��ارزا، من أراد أن يلقى ن��بى الل��ه لقيه، ك��ان يجلس على األرض، ويطعم ويلبس الغلي��ظ، وي��ركب

.(3)الحمار، ويردف خلفه، ويلعق يده

وذكر آخر أنك كلمت رجال فأرعد، فقلت له مطمئنا: )هون عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت

(4)تأكل القديدة(

وذكر آخ��ر أن��ك أه��ديت إلي��ك ش��اة فجث��وت على ركبتي��ك، فأكلت، فقال أعرابي: يا رسول الل��ه م��ا ه��ذه الجلس��ة؟ فقلت:

)( رواه أبو الشيخ عن ابن عباس، وابن سعد عن أنس.1

)( رواه الترمذي.2

)( رواه أحمد في الزهد، وابن عساكر - وقال هذا حديث مرسل - وقد جاء معناه3في األحاديث المسندة.

)( رواه ابن ماجه.4

331

)إن الله عزوجل جعلني عبدا كريما، ولم يجعل��ني جب��ارا عني��دا((1)

واتف��ق الجمي��ع على أن��ك كنت تس��لم على ك��ل من لقيت��ه صغيرا كان أو كبيرا، تعرفه أو ال تعرفه، فعن أنس أن��ه م��ر على

، وعن(2) يفعل��ه(صبيان، فس��لم عليهم وق��ال: )ك��ان الن��بي يب��دأ من لقي��ههن��د بن أبي هال��ة ق��ال: )ك��ان رس��ول الل��ه

(3)بالسالم(

واتفقوا على أنك كنت تسير مع أي أحد تعرفه أو ال تعرفه، فعن أنس قال: إن كانت األمة من إماء المدينة لتأخذ بيد الن��بي

(4)، فتنطلق به حيث شاءت .

واتفق��وا على أن��ك كنت ت��ركب الحم��ار كم��ا يركب��ه س��ائر يركب الحمار، ويعودالعوام، فعن أنس قال: كان رسول الله

المريض، ويشهد الجنازة، ويأتي دعوة المملوك، وكان ي��وم ب��ني قريظ��ة على حم��ار مخط��وم بحب��ل من لي��ف، على إك��اف من

.(5)ليف

)( رواه ابن ماجه.1

)( رواه البخاري ومسلم.2

)( رواه الترمذي وصححه والبيهقي.3

)( رواه البخاري.4

)( رواه الترمذي.5

332

بل اتفقوا على أنك كنت تردف خلفك.. وق��د ذك��ر العلم��اء أسماء من ردفتهم، وهم كثيرون جدا، فقد حدث أنس قال: كان

إذا سافر، وغزا أردف كل ي��وم رجال من أص��حابهرسول الله (1).

واتفقوا على أنك كنت تلبس لباسا بس��يطا كس�ائر الن��اس، وق��د عق��د عب��اءة بين كتفي��هففي الحديث: خرج رسول الله

فلقيه أع��رابي، فق��ال: لم لبس��ت ه��ذا ي��ا رس��ول الل��ه؟ فق��ال: (2))ويحك، إنما لبست هذا ألقمع به الكبر(

واتفقوا على أن��ك كنت تجيب ك��ل من دع��اك، وألي ش��يء دعاك، حتى لو كان حق��يرا، فعن ابن عب��اس ق��ال: ك��ان رس��ول

يجلس على األرض، ويأكل على األرض، ويعق��ل الش��اة،الله ويجيب دعوة المملوك، ويقول: )لو دعيت إلى ذراع ألجبت، ولو

(3)أهدي إلي كراع لقبلت(

وقد بلغ األمر ببعض أص��حابك المش��فقين علي��ك، لم��ا رأوه من تواضعك أن يطلبوا من��ك أن تتخ��ذ محال خاص��ا ب��ك، بحيث ال تؤذيك مخ��الطتهم، ف��أبيت ذل��ك بش��دة، وقلت ل��ه: )ال أزال بين أظهرهم يطئون عقبى وينازعوني ثوبي، ويؤذيني غب�ارهم، ح�تى

)( رواه أحمد والبخاري وأبو يعلى.1

)( رواه ابن عدي.2

)( رواه أبو الشيخ، وابن سعد.3

333

(1)يكون الله هو الذي يرحمني منهم(

ولم تكن تكتفي بك��ل ذل��ك ��� س��يدي ��� م��ع داللت��ه على تواضعك، وإنما كنت تضم إليه مشاركتك لهم في ك��ل أعم��الهم،

حتى الشديدة منها، بل كنت تستأثر بها من دونهم.. فمن مش��اركتك لهم مش��اركتهم في بن��اء المس��جد بع��د هجرت��ك إلى المدين��ة المن��ورة ب��الرغم من العن��اء الكب��ير ال��ذي

المدين��ةالقيته في هجرتك؛ فعن الحسن قال: لما قدم النبي قال: ابنوا لنا مسجدا، قالوا: كيف يا رسول الل��ه؟ ق��ال: ع��رش

كعرش موسى، ابن��وا لن��ا بلبن، فجعل��وا يبن��ون ورس��ول الل��ه يعاطيهم اللبن على ما دونه ثوب، وهو يقول:

اللهم إن العيشعيش اآلخرة

فاغفر لالنصار ينفض ال��تراب عن فم��ر عم��ار بن ياس��ر فجع��ل الن��بي والمهاجرة

.(2)رأسه، ويقول: ويحك يا ابن سمية! تقتلك الفئة الباغية

يتب��ع غب��اروحدث يعقوب بن يزيد قال: كان رسول الله .(3)المسجد بجريدة

وفي غ��زوة الخن��دق.. بع��د أن أح��اطت األح��زاب بالمدين��ة المنورة.. وفي ذلك الموقف الشديد الذي تزلزلت له القل��وب.. وال���ذي يكتفي في���ه الق���ادة ب���الجلوس في غ���رفهم المكيف���ة

)( رواه ابن إسحاق الزجاجي في تاريخه.1

)( رواه ابن عساكر.2

)( رواه ابن أبي شيبة.3

334

للتخطيط وإلقاء األوامر.. كنت � سيدي � مع أصحابك تش��اركهمفي كل صغيرة وكبيرة..

وقد حدثت أم سلمة عن موقف من مواقفك يوم الخن��دق، فقالت: ما نسيت يوم الخندق، وه��و يع��اطيهم اللبن، وق��د اغ��بر

. (1)شعره، تعني النبي

يحم��ل ال��ترابوحدث البراء قال: لقد رأيت رسول الله على ظهره، حتى حال التراب بيني وبينه وإني النظر إلى بي��اض

.(2)بطنه

بل كنت � سيدي � في ذلك الموق��ف الش��ديد تتكف��ل بك��ل عم��ل ش��اق يتوقف��ون عن��ده، فق��د ذك��ر ج��ابر بن عب��د الل��ه أن المسلمين ع�رض لهم في بعض الخن��دق كدي�ة عظيم��ة ش��ديدة بيضاء مدورة، ال تأخذ فيها المعاول، فكسرت حدي��دهم، وش��قت عليهم، فشكوا ذلك إليك، فقمت إليها، وبطن��ك معص��وب بحج��ر من الجوع، ألنك لم تأكل منذ ثالثة أي��ام، ف��دعوت بإن��اء من م��اء فتفلت فيه، ثم دعوت بما شاء الله أن تدعو به، ثم نض��حت من ذل��ك الم��اء عليه��ا، فع��ادت ك��الكثيب المهي��ل م��ا ت��رد فأس��ا وال

.(3)مسحاة

ولم تكن ��� س��يدي ��� في ذل��ك الموق��ف الش��ديد تكتفي بالعمل فقط.. بل كنت تسليهم وترتجز بما يرتج��زون، وتض��حك

)( رواه أحمد برجال الصحيح وأبو يعلى.1

)( رواه محمد بن عمر.2

)( رواه البخاري ومسلم وغيرهما.3

335

كما يضحكون، وقد ح��دث بعض��هم ق��ال: ارتج��ز المس��لمون في الخندق برجل يقال له )جعيل( أو جعالة بن س��راقة، وك��ان رجال

دميما ص��الحا، وك��ان يعم��ل في الخن��دق، فغ��ير رس��ول الل��ه اس��مه يومئ��ذ فس��ماه عم��را، فجع��ل المس��لمون يرتج��زون

ويقولون: سماه من بعد جعيل عمرا وكان للبائس يوما ظهرا

ال يقول شيئا من ذل��ك، إال إذا ق��الوا:وجعل رسول الله عمرا، وإذا قالوا: ظهرا، قال: ظهرا(

ينق��ل ال��تراب ي��وموحدث البراء قال: رأيت رسول الله الخندق ح��تى وارى ال��تراب بي��اض بطن��ه، وك��ان ك��ثيف الش��عر،

فسمعته يرتجز بكلمات البن رواحة: والله لوال ما

اهتدينا وال تصدقنا وال

صلينا فأنزلن سكينةعلينا

وثبت االقدامإن القينا والمشركون قد

بغوا علينا إذا أرادوا فتنة

أبينا (1)ورفع بها صوته: أبينا أبينا(

وكنت � سيدي � في ذلك الموقف الشديد الذي وصفه اللهتع��الى بقول��ه: فل منكم وإذ إذ ج��اءوكم من ف��وقكم ومن أس��

��ا ) �ه الظنون ون بالل ��اجر وتظن ��وب الحن ار وبلغت القل زاغت األبص��ديدا10 ��زاال ش�� ��وا زل ]األح��زاب:( هنالك ابتلي المؤمنون وزلزل [، تدعو لهم، وتشجعهم بكل ما أطقت أن تشجعهم به،11،� 10

ونحن نحف��روقد حدث سهل بن سعد قال: جاءنا رسول الله

)( رواه البخاري ومسلم وغيرهما.1

336

في الخن��دق، وننق��ل ال��تراب على أكتادن��ا في غ��داة ب��اردة، ولم يكن لهم عبيد يعملون ذل��ك، فلم��ا رأى م��ا هم في��ه من النص��ب والج��وع ق��ال:)اللهم ال عيش إال عيش اآلخ��رة، ف��اغفر لالنص��ار

والمهاجرة(، فقالوا مجيبين له: نحن الذين بايعوا

محمدا على الجهاد ما

ولم تكن تكتفي بك��ل ذل��ك ��� س��يدي ���.. لم تكن تكتفيبقينا أبدا بمجرد المشاركة والمواساة والخلطة المجردة.. ب��ل كنت ف��وق ذلك كله، ومع ذلك كله، تبادر ألي خدمة سواء شوركت فيه��ا أم لم تشارك، وسواء كانت في بيتك أو خارجه، ال تسأل على ذل��ك

أجرا وال شكرا. وقد حدث أنس عن بعض مواقفك في ذل��ك، فق��ال: ذهبت

في ي��وم ول��د، والن��بي بعبد الله بن أبي طلح��ة إلى الن��بي .(1)عباءة يهنأ بعيرا له

ووصفت عائشة ما كنت تصنع في بيتك، فقالت:)كان بشرا من البشر، يفلي ثوبه، ويحلب شاته ويخيط ثوبه، ويخدم نفسه، ويخصف نعله، ويعمل ما تعمل الرج�ال في بي�وتهم، ويك�ون في مهن��ة أهل��ه، يع��ني خدم��ة أهل��ه، ف��إذا س��مع الم��ؤذن خ��رج إلى

(2)الصالة(

يعم��ل عم��ل أه��ل ال��بيتوعنها قالت: كان رسول الل��ه

)( رواه أبو داود.1

)( رواه البخاري ومسلم.2

337

.(1)وأكثر ما يعمل للخياطة

وكنت خ��ارج بيت��ك تق��وم بك��ل م��ا يحتاج��ه المس��لمون، ال تستكبر عن أي عمل، وخاصة إن ارتب��ط بوظيفت��ك ال��تي كلف��ك الله بها، وهي تعليم الناس، وقد حدث أبو رفاعة تميم بن أس��يد

وه��و يخطب، فقلت: ي��ا رس��ولقال: انتهيت إلى رسول الله الله، رجل غريب جاء يسأل عن دينه ال ي��دري م��ا دين��ه؟ فأقب��ل

، وت��رك خطبت��ه ح��تى انتهى إلي، ف��أتيعلي رس��ول الل��ه بكرسي، فقع��د علي��ه، وجع��ل يعلم��ني مم��ا علم��ه الل��ه، ثم أتى

. (2)خطبته، فأتم آخرها

وكنت ��� س��يدي ��� ال ت��ترك ه��ذه الوظيف��ة ح��تى في ح��ال انشغالك بحاجاتك األساس��ية، وق��د ح��دث بعض��هم أن��ك كنت إذا أكلت طعام���ا لعقت أص���ابعك الثالث، ثم قلت معلم��ا لهم: )إذا سقطت لقمة أح��دكم، فليم��ط عنه��ا األذى، وليأكله��ا، وال ي��دعها للشيطان وأمر أن تسلت القصعة. قال: فإنكم ال تدرون في أي

(3)طعامكم البركة(

هذه � س��يدي ��� بعض مش��اهد تواض��عك، وال يمكن معرف��ة قيمتها إال لمن عرف ما آتاك الله من فض��له ومقامات��ه الرفيع��ة

التي ال يمكن لغيرك أن يعرفها، أو يدركها، أو يصل إليها..

)( رواه ابن سعد.1

)( رواه مسلم.2

)( رواه مسلم.3

338

وال يمكن معرف��ة قيمته��ا إال لمن ع��رف م��ا آت��اك الل��ه من ع��زة اإليم��ان، وإب��اء المقاوم��ة؛ فلم تكن ��� س��يدي ��� كأولئ��ك المتواضعين الذين يستسلمون لك��ل ش��يء.. ب��ل كنت متواض��عا للمؤمنين، تخفض جن��اح ال��ذل والرحم��ة لهم، في نفس ال��وقت الذي كنت فيه شديدا أبي��ا على ك�ل من يري��د أن يس��اومك على

دينك، أو على الحقائق التي جئت بها. فأسألك � سيدي ��� وأتوس��ل ب��ك إلى الل��ه أن يجعل��ني من

��د� منكمأولئك الذين وصفهم، فقال: �وا من يرت �ذين آمن ه�ا ال ياأي�ة على ��ه أذل ون هم ويحب �ه بق��وم يحب ��أتي الل وف ي ��ه فس�� عن دين�ه وال بيل الل ��افرين يجاه��دون في س�� ة على الك الم��ؤمنين أع��ز�ع �ه واس�� اء والل �ه يؤتي��ه من يش�� ل الل يخافون لومة الئم ذلك فض��

�ذين يقيم��ون54عليم ) �ذين آمنوا ال �ه ورسوله وال كم الل �ما ولي ( إن���اة وهم راكع���ون ) ك ���ون الز� الة ويؤت �ه55الص���� ���ول� الل ( ومن يت

�ه هم الغ��البون �ذين آمنوا فإن� ح��زب الل ]المائ��دة:ورسوله وال54 - 56]

أولئ��ك ال�ذين لم يرتض��وا أن ينتم��وا ألي ح��زب غ��ير ح��زب الله.. ولم يرتضوا قائدا غيرك.. وال ولي��ا غ��ير ذل��ك ال��ذي أم��رت بمواالت��ه.. ذل��ك ال��ذي يجم��ع بين الذل��ة للمؤم��نين والع��زة على

الكافرين.

339

المؤدب الحيي سيدي يا رسول الله.. يا من أدب��ك رب��ك، فأحس��ن تأديب��ك، وهذبك فأحسن تهذيبك، فلم يكن لك معلم غ��ير رب��ك، ولم تكن لك مدرسة غير مدرسته.. ل��ذلك كنت األمي ال��ذي لم يتعلم من

بشر، وإنما تعلم من رب البشر، فصار لذلك سيد البشر. لق��د ق��رأت الق��رآن الك��ريم، فوجدت��ه يخاطب��ك ويعاتب��ك ويعلمك، ليكون كل ذلك تأديبا وتهذيبا لنا.. ل��نرقى إلى س��موات

القيم العالية واألدب الرفيع الذي بوأك الله إياه. ألم يج��دك يتيم��القد ق��رأت قول��ه تع��الى وه��و يخاطب��ك:

فأم�ا اليتيم فال[، والتي عقب عليها قوله: 6 ]الضحى: فآوى [، فعلمت أن الله تعالى ما أراد بجعلك يتيم��ا9 ]الضحى: تقهر

إال تأديبا لك لتشعر بالمستضعفين واليتامى، ألن��ك ستص��ير األبوالسند الروحي لهم.

وله��ذا امتألت أحاديث��ك ووص��اياك بالحن��ان عليهم والرأف��ة بهم، فال نج���د من اهتم بهم مثل���ك، وال من أوص���ى بهم مثلم���ا أوص��يت بهم، فق��د كنت تق��ول مخاطب��ا أص��حابك، واألم��ة من بعدك: )خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وش��ر

(1)بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه(

وكنت تق��ول مخ��برا عن فض��ل المس��ح على رأس الي��تيم عطفا وحنانا ورحمة:)من مس��ح على رأس ي��تيم لم يمس��حه إال

)( ابن ماجه. 1

340

(1)لله كانت له في كل شعرة مرت عليها يده حسنات(

وكنت تعت��بر الس��اعي عليهم كالمجاه��د والق��ائم، فتق��ول: )الس��اعي على األرمل��ة والمس��كين كالمجاه��د في س��بيل الل��ه

(2)تعالى، وكالقائم ال يفتر، وكالصائم ال يفطر(

وكنت تخبر عن أنواع الجزاء العظيم الذي ينال��ه المهتم��ون باليتامى، والراعون لمصالحهم، فتقول:)م��ا قع��د ي��تيم م��ع ق��وم

، وتق��ول: )من(3)على قص��عتهم فيق��رب قص��عتهم الش��يطان( ضم يتيما من بين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يغني��ه الل��ه عز وجل غفرت له ذنوبه البت��ة إال أن يعم��ل عمال ال يغف��ر، ومن

،(4)أذهب الل��ه كريمتي��ه فص��بر واحتس��ب غف��رت ل��ه ذنوب��ه( وتقول: )والذي بعثني بالحق ال يعذب الله يوم القيام��ة من رحم اليتيم والن له في الكالم ورحم يتمه وضعفه، ولم يتط��اول على

، وتق��ول: )من قبض يتيم��ا من بين(5)جاره بفضل ما آتاه الله( مسلمين إلى طعامه وشرابه أدخله الله الجنة ألبتة إال أن يعم�ل

)( أحمد وغيره. 1

)( الشيخان. 2

)( الح��ارث، والط��براني في األوس��ط عن أبي موس��ى وأورده ابن الج��وزي في3 الموضوعات، وهناك حديث آخر ق��ريب من��ه ه��و » م��ا من مائ��دة أعظم برك��ة من مائ��دة

جلس عليها يتيم « رواه لديلمي عن أنس.

)( ابن سعد، والطبراني في الكبير. 4

)( الطبراني بسند رواته ثقات إال واحدا ومع ذلك ليس بالمتروك. 5

341

، وتقول:)أنا أول من يفتح باب الجن��ة إال أني(1)ذنبا ال يغفر له( أرى امرأة تبادرني، فأقول ما ل��ك ومن أنت؟ تق��ول: أن��ا ام��رأة

(2)قعدت على أيتام لي(

وغيرها من األحاديث الكثيرة التي كانت ثمرة لت��أديب الل��هلك، ودعوتك إلى حفظ اليتيم وعدم قهره واإلحسان له..

وهكذا � سيدي � كان القرآن الكريم يؤدب��ك، ويه��ذبك بك��لكلمة من كلماته، أو حرف من حروفه..

ولهذا صارت سنتك وهديك هي القرآن الناطق ال��ذي مث��لالحقائق والقيم القرآنية أحسن تمثيل.

وقد ذكر تلميذك األكبر اإلمام علي، ذل��ك ال��ذي ك��ان أك��ثر الناس صحبة لك، ومعرفة بك تعاهد الله لك بالت��أديب والتربي��ة،

من لدن أن كان فطيما أعظم ملكفقال: )ولقد قرن الله به من مالئكته يسلك به طري��ق المك��ارم، ومحاس��ن أخالق الع��الم

(3) ليله ونهاره(

وك��ان ي��ذكر ك��ل حين ألولئ��ك المب��دلين والمغ��يرين عظيم ص��فاتك وحس��ن أدب��ك، وكي��ف كنت األس��وة الحس��نة في ك��ل المجاالت، فقال يصف ش��جاعتك: ) كن��ا إذا احم��ر الب��أس اتقين��ا

)( الترمذي وصححه. 1

)( أبو يعلى بسند حسن. 2

. ۱٥۷، ص ۱۹۲، خطبة ۲)( نهج البالغة، ج 3

342

(1) ، فلم يكن أحد منا أقرب إلى العدو منه(برسول الله،

��ه وعندما طلب منه أن يصفك بدقة، قال: )كان ن��بي الل��ون، مش��ربا حم��رة، أدعج العين، س��بط الش��عر كث أبيض اللة، يج��ري اللحية، ذا وفرة، دقيق المسربة، كأن عنقه إبريق فض�� في تراقيه الذهب، له شعر من لبته إلى س��رته، كقض��يب خي��ط إلى الس��رة، و ليس في بطن��ه و ال ص��دره ش��عر غ��يره. ش��ئن الكفين و الق��دمين، ش��ئن الكع��بين، إذا مش��ى كأنم��ا يتقل��ع من الصخر، إذا أقبل كأنما ينحدر من صبب، إذا التفت التفت جميع��ا بأجمعه كله، ليس بالقصير المتردد، وال بالطويل الممغط، وكان في الوجه تدوير، إذا كان في الن��اس غم��رهم، كأنم��ا عرق��ه في وجهه اللؤل��ؤ، عرق��ه أطيب من ريح المس��ك، ليس بالع��اجز و ال باللئيم. أكرم الناس عشرة، و ألينهم عريكة، و أجودهم كفا، من خالطه بمعرفة أحبه، من رآه بديهة هابه، عزه بين عينيه، يق��ول

)(2)ناعته: لم أر قبله و ال بعده مثله،

يأك�لوهكذا كان يصف تواض�عك، ويق�ول: ) ولق�د ك�ان على األرض، ويجلس جلسة العبد، ويخص��ف بي��ده نعل��ه، ويرق��ع بيده ثوبه، ويركب الحمار العاري، ويردف خلف�ه، ويك�ون الس�تر على باب بيته فتكون فيه التصاوير فيقول: ) ي��ا فالن��ة ��� إلح��دى أزواجه � غيبيه عني، فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها

) (3). ٦۱، ص ۹، خطبة ٤)( نهج البالغة، ج 1

. 164، ص: 1)( حلية األبرار في أحوال محمد و آله األطهار، ج2

. ٥۹، ص ۱٦۰، خطبة ۲)( نهج البالغة، ج 3

343

وكان يصف موقف��ك من ال��دنيا، فيق��ول: ) ق��د حق��ر ال��دنيا وصغرها، وأهون بها وهونه��ا، وعلم أن الل��ه زواه��ا عن��ه اختي��ارا، وبسطها لغيره احتقارا، فأعرض عن الدنيا بقلبه، وأم��ات ذكره��ا عن نفس��ه، وأحب أن تغيب زينته��ا عن عين��ه، لكيال يتخ��ذ منه��ا رياشا، أو يرجو فيه��ا مقام��ا. بل��غ عن رب��ه مع��ذرا، ونص��ح ألمت��ه

(1) منذرا، ودعا إلى الجنة مبشرا، وخوف من النار محذرا (

ويق��ول في خطب��ة أخ��رى: ) أهض��م أه��ل ال��دنيا كش��حا، وأخمصهم من الدنيا بطنا، عرضت عليه ال��دنيا ف��أبى أن يقبله��ا، وعلم أن الله سبحانه أبغض شيئا فأبغضه، وحقر ش��يئا فحق��ره، وصغر ش��يئا فص��غره. ول��و لم يكن فين��ا إال حبن��ا م��ا أبغض الل��ه ورسوله، وتعظيمنا ما صغر الله ورسوله، لكفى به ش��قاقا لل��ه، ومحادة عن أمر الله... فأعرض عن الدنيا بقلبه، وأم��ات ذكره��ا من نفس��ه، وأحب أن تغيب زينته��ا عن عين��ه، لكيال يتخ��ذ منه��ا رياشا، وال يعتق��دها ق��رارا، وال يرج��و فيه��ا مقام��ا، فأخرجه��ا من النفس، وأشخص��ها عن القلب، وغيبه��ا عن البص��ر. وك��ذلك من

(2) أبغض شيئا أبغض أن ينظر إليه، وأن يذكر عنده (

ولهذا كان يدعو إلى اعتبارك األس��وة والق��دوة، وي��رد على أولئك الذين وضعوا الكثير من البدائل التي استبدلوك بها، ح��تى اعتبر بعضهم كل قوم��ك وص��حبك ص��الحين ألن يكون��وا ق��دوة.. ومن أقوالهم في ذلك في بعض وص��اياه: ) ت��أس بنبي��ك األطيب

فإن فيه أسوة لمن تأسى، وعزاء لمن تع��زى. وأحباألطهر العب��اد إلى الل��ه المتأس��ي بنبي��ه، والمقتص ألث��ره. قض��م ال��دنيا

. ۲۱۰، ص ۱۰۹، خطبة ۱)( نهج البالغة، ج 1

. ٥۸، ص ۱٦۰، خطبة ۲)( نهج البالغة، ج 2

344

أهضم أهل الدنيا كشحا، وأخمصهم منقضما، ولم يعرها طرفا، الدنيا بطنا، عرضت عليه ال��دنيا ف��أبى أن يقبله��ا، وعلم أن الل��ه سبحانه أبغض شيئا فأبغضه، وحق��ر ش��يئا فحق��ره، وص��غر ش��يئا فص��غره. ول��و لم يكن فين��ا إال حبن��ا م��ا أبغض الل��ه ورس��وله، وتعظيمنا ما صغر الله ورسوله، لكفى به شقاقا لله ومحادة عن

(1) (أمر الله

وغيره��ا من األح��اديث الكث��يرة ال��تي وص��ف فيه��ا أخالق��كوآدابك العظيمة التي أمرنا الله تعالى بالتأسي بها..

لكن المغرضين والحاقدين � سيدي � راحوا يشوهون جمال صفاتك، وعظيم أدب��ك، ح��تى ينف��ر العقالء من��ك، وتك��ون أس��وة

لالنحراف ال للصالح، وللصلف ال لألدب.. فائذن لي سيدي أن أذكر لك بعض ما ذكروا ح��ول حيائ��ك، تلك الص��فة ال��تي كنت مثاله��ا األعلى، وأس��وتها الحس��نة، وكنت تعظم��ه، وتعت��بره من أمه��ات األخالق، لكنهم حرص��ا على من يعظمون��ه من الص��حابة راح��وا ي��نزعون الحي��اء من��ك، ويض��عونه

لغيرك. لق��د رووا ��� ك��اذبين ومدلس��ين ��� أن��ك كنت مض��طجعا في بيتك، كاشفا عن فخ��ذيك، فاس��تأذن أب��و بك��ر ف��أذنت ل��ه، وأنت على تلك الحال، ثم اس��تأذن عم��ر، ف��أذنت ل��ه، وأنت على تل��ك الحال، ثم استأذن عثمان، فرحت تسوي ثيابك، وتس��تر فخ��ذك، فعندما سئلت عن ذلك، ذكرت أن��ك اس��تحييت من��ه، وقلت: )أال

(2)أستحي من رجل تستحي منه المالئكة(

. ٦۰ � ٥۸)( نهج البالغة، ص 1

345

لقد تلقف المدلس�ون والمش�وهون ل�ك ه�ذا الح��ديث كم�ا يتلقف��ون الق��رآن الك��ريم، ي��أبون أن يتكلم في��ه أح��د، م��ع أنهم

.. وأن(3)يوردون األحاديث الكثيرة التي تثبت أن الفخ��ذ ع��ورة كشفها حرام.. ومع ذلك يرض��ون أن ت��رتكب الح��رام في س��بيل

أن ينال عثمان تلك المنقبة. فإن جادلهم أحد في ش��أنك، وراح ي��ذب عن��ك تل��ك التهم�ة العظيم��ة ال��تي اتهم��وك به��ا، ق��الوا: ولكن الح��ديث في ص��حيح مسلم.. وهم ال يعلمون أن صحيح مسلم وصحيح البخ��اري وك��ل كتب ال��دنيا ف��داء لش��عرة من ش��عراتك.. فأيهم��ا أعظم أن ي��رد حديث ق��د يت��وهم راوي��ه أو يخطئ كاتب��ه، أو أن تمس كرامت��ك، ويمس أعظم ميزة فيك، وهي أخالقك العالي��ة ال��تي ال يض��اهيها أي ك��ان ص��حابيا ك��ان أو نبي��ا أو ح��تى مالك��ا مقرب��ا.. فكي��ف تتص��ورون أن ص��حابيا ��� ال ي��رون عص��مته ��� يك��ون أعظم خلق��ا

منك؟ وليت األمر توق��ف على ه��ذا.. ب��ل إنهم ��� س��يدي ��� راح��وا يص��ورونك في مش��اهد ال يرض��ونها ألنفس��هم، وال لمن يجل��ونهم من الناس، حرصا على إثبات المناقب لمن يرغبون في تحسين صورهم، ولو على حسابك، ومن األمثلة على ذل�ك م�ا رووه عن

جالس�ا فس�معنا لغط�اعائشة، وأنها قالت: كان رس��ول الل�ه فإذا حبشية تزفن والصبيانوصوت صبيان، فقام رسول الله

حولها، فقال: )يا عائشة تعالي فانظري(، فجئت فوضعت لح��يي)( رواه مسلم.2

م��ر على معم��ر)( ومنها ما روي عن محمد بن عب��د الل��ه بن جحش أن الن��بي 3 : )خم��ر فخ��ذك ي��ا معم��ربفناء المسجد محتبيا كاشفا عن طرف فخذه فقال له الن��بي

فإن الفخذ عورة(، رواه أحمد ورواه الطبراني في الكبير، ورجال أحمد ثقات.346

، فجعلت أنظ��ر إليه��ا م��ا بين المنكبعلى منكب رسول الله إلى رأسه، فقال لي: )أما شبعت، أما شبعت؟(. ق��الت: فجعلت أقول ال ألنظر منزلتي عنده إذ طلع عمر، قالت: فارفض الن��اس

: )إني ألنظ��ر إلى ش��ياطينعنها: ق��الت: فق��ال رس��ول الل��ه .(1)اإلنس والجن قد فروا من عمر(، قالت: فرجعت

هل رأيت سيدي تلك الصورة المشوهة التي صوروك به��ا.. لقد ذكروا أنه كانت هناك جارية.. وأنها عاقلة بالغة.. بدا له��ا أن ترقص كما يرقص الحبشة في الش��ارع.. وأم��ام الن��اس.. وك��ان الص��بية يلتف��ون حوله��ا، وهي بتل��ك الحال��ة.. وأن��ك لمحته��ا، فأسرعت إلى عائشة، وطلبت منها أن تحضر مجلس ال��رقص.. وعندما حضرت وضعت عائشة � بحس�ب الح��ديث �� ذقنه�ا على منكبك.. وأمام الناس.. وبعد مدة طلع عمر ف��انفض الن��اس عن الجارية خوفا منه.. مع أن��ك كنت معهم.. وم��ع ذل��ك لم يش��عروا

بشيء.. وليت األمر توق��ف عن��د ه��ذا.. ب��ل إنهم ذك��روا أن��ك عن��دما رأيت الناس يفرون لحضور عمر قلت معظم��ا ل��ه ومثني��ا علي��ه:

)إني ألنظر إلى شياطين اإلنس والجن قد فروا من عمر( وهذا عجب عجاب.. وتصور المشهد وحده كاف لضرب كل القيم التي جاء بها القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، التي

تمثلك � سيدي � أحسن تمثيل. ولم يكتف��وا به��ذا س��يدي في تش��ويهك، ب��ل راح��وا ي��روون الروايات الكثيرة التي تجعلك فاحش��ا ومتفحش��ا، ال تختل��ف عن قومك األجالف الغالظ الذين لم ينالوا حظهم من الت��أديب ال��ذي

)( رواه الترمذي.1

347

.(2)أدبك به ربك

فأسألك � سيدي ��� وأتوس��ل ب��ك إلى الل��ه أن يجعل��ني من ال��ذابين عن��ك، ال��رادين لتل��ك التش��ويهات.. فال يمكن لألم��ة أن تعرفك، أو تحس��ن عالقته��ا ب��ك، وهي تعتق��د في تل��ك الرواي��ات المريضة التي وضعها مرض�ى القل�وب ليش�وهوك، ويحول�وا بين

العقالء وبينك. وأسألك سيدي أن أكون من المتأدبين على يديك، ال��راعين للحقوق واألخالق التي أمرت برعايتها، حتى أكون أقرب الن��اس

إليك في الدنيا واآلخرة، فال فوز إال لمن كان قريبا منك.

)( ذكرنا الكث��ير من األمثل��ة على ذل��ك، ورددن�ا عليه�ا في كت��اب ]رس�ول الل�ه 2

والقلوب المريضة[، وذكرنا فيه القاعدة التي نتبناها في الموقف من أمثال تلك األحاديث.348

الذاكر النجي سيدي يا رسول الله.. أيها ال��ذاكر ال��ذي ال يغف��ل.. والعاب��د الذي ال يفتر.. والخاشع ال��ذي ال يتي��ه قلب��ه في أودي��ة األم��اني..

المن���اجي ال���ذي ال يك���ف عن الح���ديث إلى رب���ه،(1)والنجيوالحضور بين يديه.

لقد رحت � سيدي ��� إلى م��ا ورد في س��نتك المطه��رة من األدعية المحفوظة عنك، أرتلها، وأقارنها بكل م��ا ورد في ت��راث العالم من أدعية؛ فوجدت أن زمام التواصل مع الله كل�ه بي�دك، وأن كل من يريد أن يتعلم كيف يناجي ربه يحتاج إلى التعلم في مدرستك.. فأنت أستاذ الذكر وال�دعاء، وش�يخ مري�دي الحض��رة اإللهية ودار البقاء.. ومن لم يتعلم على يديك تل��ك الفن��ون ظ��ل

جاهال في التعامل مع ربه، مسيئا لألدب معه. ف��إذا ض��ممت إلى ذل��ك ��� س��يدي ��� م��ا ورد عن عترت��ك الط��اهرة ال��تي ورثته��ا علوم��ك وأحوال��ك وآداب��ك، ثم أوص��يت باتباعها، وركوب سفينة نجاتها، وج��دت من األدعي��ة والمناجي��ات واألذكار، التي لم تكن سوى أثر من آث��ارك، وقبس من أن��وارك، م��ا ال يمكن ع��ده وال حص��ره.. وب��ذلك تك��ون ه��ذه األم��ة هي المتفردة بكل الوسائل المؤدية إلى الحضور مع الل��ه، وال يوج��د

في األمم من يضاهيها فيه أو يدانيها. ولذلك كان هذا الجانب وح��ده كافي��ا للعقالء والب��احثين عن الله، ليستدلوا به على نبوتك، واستمرارها، فأول أه��داف النب��وة وأعظمها الداللة على الله، والتواصل معه، وال��ذكر والمناجي��ات

ا )( المراد بالن�جي: المناجي، كما قال تعالى: 1 [، أي يناجي بعضهم بعضا. 80 ]يوسف: فلم�ا استيأسوا منه خلصوا نجي

349

هي الحبال الموصولة من الله لعباده لتحقيق ذلك.. ولذلك كنت ��� س��يدي ��� من أعظم الناص��حين لن��ا ب��ذكر الل��ه ودعائه واللجوء كل حين إليه، بل إنك اعت�برت حياتن�ا متوقف�ة على الذكر.. ال على م�ا نتنفس�ه من ه�واء، أو نش�ربه من م�اء.. فالم�اء والهواء يغذيان الطين، ويمدانها بالحي�اة، أم�ا ذك�ر الل�ه، فه�و غ�ذاء الروح ومددها، وال حياة لمن لم تحي��ا روح�ه.. لق�د قلت مع�برا عن ذلك: )مثل الذي يذكر ربه والذي ال ي��ذكر رب��ه مث��ل الحي والميت(

(1)

ولهذا كنت تستعمل ك��ل أس��اليب ال��ترغيب وال�ترهيب لتحض القلوب واأللسن على كثرة ذكر الله، فتقول لها � مرغبا في ج��وائز الل��ه المع��دة لل��ذاكرين ���: )ال يقع��د ق��وم ي��ذكرون الل��ه إال حفتهم المالئكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم الس��كينة، وذك��رهم الل��ه

(2) فيمن عنده(

وتقول ألص��حابك أثن��اء م��روركم في طري��ق مك��ة على جب��ل جم��دان: )س��يروا ه��ذا جم��دان، س��بق المف��ردون(، ق��الوا: وم��ا المفردون يا رسول الله؟ قلت: )الذاكرون الل��ه كث��يرا وال�ذاكرات(

(3)

وترغب الفقراء إلى الله، ال��ذين ال يري��دون من الل��ه إال الل��ه،)( رواه البخاري ومسلم.1

)( رواه مسلم.2

)( رواه مسلم.3

350

بأن الله يذكرهم حالما يذكرونه، وكيفما يذكرونه، وتقول في ذل��ك: )قال الله عز وجل: أنا عن��د ظن عب��دي بي، وأن��ا مع��ه إذا ذك��رني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في مأل ذكرته

(1)في مأل خير منهم(

وهكذا كنت ترشد من يريد من األشياء عصارتها، ومن الطرق أخصرها، إلى ذكر الله.. فقد جاءك رجل، فقال: يا رسول الل��ه! إن شرائع اإلسالم قد كثرت علي، فأخبرني بشيء أتش��بث ب��ه، فقلت

(2)له: )ال يزال لسانك رطبا من ذكر الله(

وهكذا كنت ترشد من يريد أن يظف��ر ب��الخير بجمي��ع أص��نافه، وبالصالح بجميع أنواعه، وبالحسنات بجميع أش�كالها إلى ذك�ر الل�ه، فتقول له: )أال أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعه��ا في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب وال��ورق، وخ��ير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويض��ربوا أعن��اقكم؟ ق��الوا: بلى،

(3)قال: ذكر الله تعالى(

ولم تكتف بذلك �� س�يدي �� ب�ل إن�ك وض�عت لن�ا الكث�ير من األذكار التي تعمق جميع جوانب اإليمان، وبأجم��ل ص��ياغة وأرقه��ا.. فمن داوم عليه��ا وص��ل إلى الل��ه، وبأقص��ر الط��رق، وأيس��رها،

وأضمنها. ومن األمثلة على ذلك � سيدي � تلك الصيغ التي علمتن��ا فيه��ا

)( رواه البخاري ومسلم.1

)( رواه الترمذي وابن ماجه..2

)( رواه الترمذي وابن ماجه.3

351

كيف نسبح ربنا وننزه��ه ونقدس��ه، في نفس ال��وقت ال��ذي نحم��ده ونعظمه ونمجده ونذكر كماالته.. وهي صيغ كثيرة كافية لمأل القلب

بكل هذه المعاني اإليمانية. ومنها م�ا ذك�رت لص�احبك أبي ذر، حين قلت ل�ه: )أال أخ�برك ب����أحب الكالم إلى الل����ه؟(، ثم قلت: )إن أحب الكالم إلى الل����ه:

(1)سبحان الله وبحمده(

وقلت: )كلمت���ان خفيفت���ان على اللس���ان، ثقيلت���ان في الميزان، حبيبتان إلى ال��رحمن: س��بحان الل��ه وبحم��ده، س��بحان

(2)الله العظيم(

وقلت: )ألن أقول سبحان الله، والحمد لله، وال إله إال الله،(3)والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس(

وكنت تق��ول مرغب��ا فيه��ا: )يص��بح على ك��ل س��المى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحمي��دة ص��دقة، وك��ل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي

(4)عن المنكر صدقة(

وروي أن ناس��ا من أص��حابك الفق��راء ش��كوا إلي��ك ع��دم

)( رواه مسلم.1

)( رواه البخاري ومسلم.2

)( رواه مسلم.3

)( رواه مسلم.4

352

قدرتهم إلى الصدقة، فقالوا: ي��ا رس��ول الل��ه ذهب أه��ل ال��دثور باألجور، يصلون كما نصلي، ويص��ومون كم�ا نص��وم، ويتص��دقون بفضول أموالهم، وال نتصدق، فقلت لهم: )أوليس قد جع��ل الل��ه لكم ما تصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وك��ل تكب��يرة ص��دقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة،

(1)ونهي عن منكر صدقة(

وروي أن أعرابيا جاءك، فقال: علمني كالما أقوله؟ فقلت: قل: )ال إله إال الله وحده ال شريك له، الله أك��بر كب��يرا، والحم��د لله كثيرا، سبحان الل�ه رب الع�المين، ال ح�ول وال ق�وة إال بالل�ه العزيز الحكيم(، قال: فهؤالء لربي، فما لي؟ فقلت: قل: )اللهم

(2)اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني(

وهكذا كنت تذكر لهم الكثير من صيغ الذكر، وترغبهم فيه��ا بك��ل أص��ناف ال��ترغيب، ومن ذل��ك قول��ك: )لقيت إب��راهيم ليل��ة أسري بي، فقال: يا محمد أقرئ أمت��ك م��ني الس�الم، وأخ�برهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الم��اء، وأنه��ا قيع��ان، وأن غراس��ها:

(3)سبحان الله، والحمد لله، وال إله إال الله، والله أكبر(

وكنت تقول لهم: )ما على األرض أحد يقول: ال إله إال الله، والله أكبر، وال حول وال ق��وة إال بالل��ه، إال كف��رت عن��ه خطاي��اه،

)( رواه مسلم.1

)( رواه مسلم.2

)( رواه الترمذي.3

353

(1)ولو كانت مثل زبد البحر(

وكنت تقول: )من قال ال إله إال الله وحده ال شريك له، ل��ه الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير في ي��وم مائ��ة م��رة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حس��نة، ومحيت عن��ه مائ��ة س��يئة، وك��انت ل��ه ح��رزا من الش��يطان يوم��ه ذل��ك ح��تى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إال أحد عم��ل أك��ثر من

(2)ذلك(

وغيره��ا من األذك��ار الكث��يرة ال��تي ال ي��زال ط��البو الل��ه ومري��دوه في ك��ل الع��الم، وفي ك��ل األزمن��ة ي��ترددون عليه��ا،

ويرددونها، ليترقوا بها إلى منازل القرب التحققية والتخلقية. ولم تكتف بذلك � س��يدي ��� ب��ل إن��ك وض��عت لن��ا منظوم��ة كاملة من األذكار واألدعية، ولكل المناس��بات، ح��تى نرتب��ط م��عالله في جميع أحوالنا، مثلما كنت مرتبطا به في جميع أحوالك.

ومن األمثلة عنها تلك األذكار التي علمتنا فيها كي��ف نطب��ق تلك األوامر اإللهية التي تدعونا إلى الذكر صباحا ومساء، كقول��ه

)االنس��ان:﴿تعالى: يال ك بكرة وأص�� (، وقول��ه:25﴾ واذكر اسم رب�ه حين تمسون وحين تصبحون )الروم:﴿ (17﴾ فسبحان الل

ومن األمثلة عنها ما ورد في قولك: )ما من عبد يق��ول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة: بسم الله الذي ال يضر مع اسمه ش��يء في األرض وال في الس��ماء وه��و الس��ميع العليم، ثالث

)( رواه أحمد والترمذي.1

)( رواه البخاري ومسلم.2

354

(1)مرات، لم يضره شيء(

ومنها هذا الدعاء الجميل الج��امع ال��ذي تق��ول في��ه: )اللهم أنت ربي ال إل��ه إال أنت، خلقت��ني وأن��ا عب��دك، وأن��ا على عه��دك ووعدك ما استطعت، أع��وذ ب��ك من ش��ر م��ا ص��نعت، أب��وء ل��ك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي فاغفر لي، فإنه ال يغفر الذنوب إال أنت(، وال�ذي س��ميته [س�يد االس��تغفار[، وذك�رت الج�زاء ال�ذي أناطه الله به، فقلت: )من قالها من النهار موقنا به��ا فم��ات من يومه قبل أن يمسي فهو من أه��ل الجن��ة، ومن قاله��ا من اللي��ل

(2)وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة(

ومنها ه��ذا ال��دعاء الخاش��ع: )أمس�ينا وأمس��ى المل��ك لل��ه، والحمد لله، ال إله إال الل��ه وح��ده ال ش��ريك ل��ه، ل��ه المل��ك ول��ه الحمد وهو على كل شيء ق�دير، رب أس�ألك خ�ير م�ا في ه�ذه الليلة وخير ما بعدها، وأعوذ بك من شر ما في هذه الليلة وش��ر ما بعدها، رب أعوذ بك من الكسل وسوء الك��بر، رب أع��وذ ب��ك

(3) من عذاب في النار، وعذاب في القبر(

وغيرها من األذكار واألدعية الكثيرة التي خصصت بها ذينكالوقتين المباركين.

وهكذا تركت لنا � سيدي � ثروة كب��يرة من ال��ذكر وال��دعاء ترتبط بكل الجوانب.. منها القصير ومنها الطوي��ل ح��تى ت��راعي

)( رواه الترمذي.1

)( رواه البخاري.2

)( مع تبديل الصيغة بقوله: ): أصبحنا وأصبح الملك لله( رواه مسلم.3

355

الظروف المختلفة ألصناف الناس، فمن األدعية الم��أثورة عن��ك في السفر ما حدث به بعضهم عنك، قال: ك��ان رس��ول الل��ه

إذا أراد أن يخ��رج في الس��فر ق��ال: )اللهم أنت الص��احب في الس��فر، والخليف��ة في األه��ل، اللهم إني أع��وذ ب��ك الض��بنة في الس��فر، اللهم إني أع��وذ ب��ك من وعث الس��فر، كآب��ة المنقلب،

(1)اللهم اقبض لنا األرض، وهون علينا السفر(

إذا خرج إلى سفر ق��ال:وحدث آخر قال: كان رسول الله )اللهم بلغ بالغا يبلغ خيرا، ومغفرة منك ورضوانا، بيدك الخ�ير، إن�ك على كل شئ قدير، اللهم أنت الصاحب في الس��فر، والخليف��ة في األهل، اللهم هون علينا الس�فر، واط��و لن��ا األرض، اللهم إني أع�وذ

(2)بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب(

س��فرا ق��ط إال ق��الوحدث آخر قال: لم يرد رس��ول الل��ه حين ينهض من جلوسه: )اللهم بك انتشرت، وإلي��ك ت��وجهت، وب��ك اعتصمت، اللهم أنت رجائي، اللهم اكف�ني م�ا أهم�ني، وم�ا ال أهتم ل��ه، وم��ا أنت أعلم ب��ه م��ني، وزودني التق��وى، واغف��ر لي ذن��بي،

(3)ووجهني للخير حيث ما توجهت(

قولك:ومن األدعية المأثورة عنك عند الدخول إلى السوق )باسم الله اللهم إني أس�ألك خ�ير ه�ذه الس�وق وخ�ير م�ا فيه�ا وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها، اللهم إني أعوذ بك أن أصيب

)( رواه مسدد وابن أبي شيبة وأحمد، والطبراني، والبزار.1

)( رواه أبو يعلى برجال ثقات.2

)( رواه أبو يعلى.3

356

(1)فيها يمينا فاجرة أو صفقة خاسرة(

قول��ك:ومن األدعية المأثورة عنك عند الدخول إلى ال��بيت )اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخ��رج باس��م الل��ه ولجن��ا وباسم الله خرجنا وعلى الله ربنا توكلنا.. الحمد لله الذي كفاني وآواني والحمد لله الذي أطعمني وسقاني والحمد لله الذي من

، ثم تسلم على أهلك.(2)علي أسألك أن تجيرني من النار(

ما ورد فيومن األدعية واألذكار المأثورة عنك عند الطعام قولك: )إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الل��ه تع��الى في أول��ه، ف��إن نسي أن يذكر اسم الله تعالى في أوله فليقل: بس��م الل��ه أول��ه

(3)وآخره(

وقولك: )من أكل أو شرب فقال: الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام ورزقنيه من غير حول مني وال قوة غفر له ما تق��دم

(4)من ذنبه(

وقولك عند االنتهاء من الطعام: )الحمد لل��ه ال��ذي أطعمن��ا )اللهم أطعمت وس��قيت، وقول��ك: (5)وسقانا وجعلنا مس��لمين(

)( رواه الترمذي وابن ماجة والحاكم.1

)( ذكره النووي في األذكار.2

)( رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.3

)( رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.4

)( رواه أبو داود والترمذي.5

357

،(1)وأغنيت وأقنيت وهديت واجتبيت فلك الحمد على ما أعطيت( وقولك: )الحمد لله كثيرا طيبا مباركا فيه غ��ير مكفي وال م��ودع وال

(2)مستغني عنه ربنا(

قول��ك:ومن األدعي��ة واألذك��ار الم��أثورة عن��ك عن��د الن��وم )اللهم، ف��اطر الس��موات واألرض، ع��الم الغيب والش��هادة، رب كل شئ، وإله كل شئ، أشهد أن ال إله إال أنت، وحدك ال شريك

عبدك ورس��ولك، والمالئك��ة يش��هدون، اللهملك، وأن محمدا أعوذ بك من الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي إثم��ا أو

(3)أجره على مسلم(

وقولك: )باس��م الل��ه وض��عت جن��بي، اللهم اغف��ر لي ذن�بي(4)وأخسئ شيطاني، وفك رهاني واجعلني في الندى األعلى(

وقول���ك: )اللهم إني أع���وذ بوجه���ك الك���ريم، وبكلمات���ك التام��ات، من ك��ل داب��ة أنت آخ��ذ بناص��يتها، اللهم أنت تكش��ف المغ��رم والم��أثم، اللهم ال ينه��زم جن��دك، وال يخل��ف وع��دك، وال

(5)ينفع ذا الجد منك الجد، سبحانك اللهم وبحمدك(

)( رواه النسائي.1

)( رواه البخاري.2

)( رواه الطبراني.3

)( رواه أبو داود.4

)( رواه أبو داود.5

358

وقولك: )اللهم أعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ برض��اك من سخطك، وأعوذ بك من��ك، اللهم ال أس��تطيع ثن��اء علي��ك ول��و

(1)حرصت، لكن أنت كما أثنيت على نفسك(

وقول���ك: )اللهم رب الس���موات الس���بع، ورب الع���رش العظيم، إله أو رب كل شئ، منزل التوراة واإلنجي��ل والفرق��ان، ف��الق الحب والن��وى، أع��وذ ب��ك من ش��ر ك��ل ش��ئ أنت آخ��ذ بناصيته، اللهم أنت األول، فليس قبلك شئ، وأنت اآلخر، فليس بعدك شئ، وأنت الظاهر فليس فوقك شئ وأنت الباطن فليس

(2)دونك شئ، اقض عنا الدين واغننا من الفقر(

وقول���ك: )اللهم رب الس���موات الس���بع، ورب الع���رش العظيم، ربنا ورب كل شئ، منزل الت��وراة واإلنجي��ل والفرق��ان، فالق الحب والنوى، ال إله إال أنت، أعوذ بك من ش��ر ك��ل ش��ئ، أنت آخ��ذ بناص��يته، أنت األول فليس قبل��ك ش��ئ، وأنت اآلخ��ر فليس بع�دك ش��ئ، وأنت الظ�اهر ليس فوق�ك ش�ئ، اقض عن��ا

(3)الدين، واغننا من الفقر(

ومن األدعي�ة واألذك�ار الم�أثورة عن��ك عن�د قيام�ك للتهج�د قول���ك: )اللهم رب جبرائي���ل وميكائي���ل وإس���رافيل، ف���اطر

)( رواه الطبراني.1

)( رواه ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم وابن مردويه، والبيهقي.2

)( رواه ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم وابن مردويه، والبيهقي.3

359

الس���ماوات واألرض، ع���الم الغيب والش���هادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الح��ق

(1)بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم(

وقول��ك بع��دها: )اللهم ل��ك الحم��د، أنت قيم الس��ماوات واألرض ومن فيهن، ولك الحم��د، ل��ك مل��ك الس��ماوات واألرض ومن فيهن، ول��ك الحم��د، أنت ن��ور الس��ماوات واألرض، ول��ك الحمد، أنت مل��ك الس��ماوات واألرض، ول��ك الحم��د أنت الح��ق، ووعدك الحق، ولقاؤك ح��ق، وقول��ك ح��ق، والجن��ة ح��ق، والن��ار ح��ق، والن��بيون ح��ق، ومحم��د ح��ق، والس��اعة ح��ق، اللهم ل��ك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاص��مت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما

(2)أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر، ال إله إال أنت(

وقول��ك بع��دها: )ال إل��ه إال أنت س��بحانك، اللهم أس��تغفرك لذنوبي، وأسألك رحمت��ك، اللهم زدني علم��ا وال ت��زع قل��بي بع��د إذ

(3)هديتني، وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب(

وغيره��ا من األذك��ار واألدعي��ة الكث��يرة ال��تي ألفت فيه��ا المصنفات الطويلة.. باإلضافة إلى تعليمك لنا كيف نستعيذ بالله من كل ما يمكن أن يؤذينا.. حتى نصحب الله في ك��ل أحوالن��ا.. وحتى ال تؤثر فينا الظروف المختلف��ة، لنبتع��د عن ربن��ا، ونتعل��ق

)( رواه مسلم.1

)( رواه البخاري.2

)( رواه أبو داود.3

360

بما سواه، أو نرى نفعنا عند غيره. نس��تعيذ بالل��ه من الكس��ل، وس��وء القض��اءفقد علمتنا كيف

ودرك الش��قاء، وش��ماتة األع��داء، وجه��د البالء، والعج��ز واله��رملع ال�د�ين وغلب�ة الرج�ال، والمأثم والمغرم، وشر ما خلق الله، وض� وشر الغنى والفقر والقل�ة والذل�ة، وزوال النعم�ة وتحوي�ل العافي�ة،قاق والنف��اق وس��وء قم��ة وجمي��ع س��خط الل��ه، والش�� وفج��اءة الن األخالق، والجوع والخيانة، وعلم�ا ال ينف�ع وقلب�ا ال يخش�ع ونفس�ا ال تشبع ودعاء ال يسمع، وشر السمع وشر البصر وشر اللسان وش��رط القلب وش��ر الم��ني، واله��دم وال��تردي والغ��رق والح��رق، وتخب الشيطان والموت في سبيل الله م��دبرا، والم�وت ل��ديغا، وال�برص والجن��ون والج��ذام وس��ئ األس��قام، ومنك��رات األخالق واأله��واء

واألعمال. كما علمتنا � سيدي � كيف ندعو الله، ولكل حاجاتنا، ومنها هذا الدعاء الرقيق: )اللهم إني أسألك خير المسألة وخير الدعاء، وخ��ير النجاح، وخير العمل، وخير الث��واب، وخ��ير الحي��اة، وخ��ير المم��ات، وثبتني وثقل موازيني وأحق إيماني، وارفع درجتي، وتقب��ل ص��التي، واغف���ر خطيئ���تي، وأس���ألك ال���درجات العال من الجن.. اللهم إني أسألك فواتح الخير، وخواتمه، وجوامعه، وأول��ه، وآخ��ره، وظ��اهره، وباطن��ه وال��درجات العال من الجن��ة.. اللهم إني أس��ألك خالص��ا من النار سالما، وأدخلني الجنة آمنا، اللهم إني أسألك أن تبارك لي في نفسي، وفي سمعي، وفي بص��ري، وفي روحي، وفي خلقي، وفي خليق��تي، وأهلي، ومحي��اي، وفي مم��اتي.. اللهم تقب��ل حس��ناتي،

(1)وأسألك الدرجات العال من الجنة آمين(

)( رواه الطبراني برجال ثقات.1

361

ومنه��ا: )اللهم متع��ني بس��معي، وبص��ري، واجعلهم��ا ال��وارث مني، وعافني في ديني، واحشرني على ما أحييتني وانص��رني على من ظلمني، حتى تريني منه ثأري، اللهم إني أس��لمت دي��ني إلي��ك، وخليت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظه��ري إلي��ك، ال ملجأ وال منجى منك إال إليك، آمنت برسولك الذي أرسلت، وكتاب�ك

(1)الذي أنزلت(

ومنه��ا: )اللهم اجعل��ني أخش��اك ح��تى ك��أني أراك أب��دا ح��تى ألق��اك، وأس��عدني بتق��واك، وال تش��قني بمعص��يتك، وخ��ر لي في قضائك، وبارك لي في قدرك ح��تى ال أحب تعجي��ل م��ا أخ��رت، وال ت��أخير م��ا عجلت، واجع��ل غن��ائي في نفس��ي، وامتع��ني بس��معي وبصري، واجعلهما الوارث مني، وانصرني على من ظلمني، وأرني

(2)فيه ثأري، وأقر بذلك عيني(

ومنها: )اللهم إني أسألك إيمانا يباشر قلبي، ح�تى أعلم أن��ه ال (3)يصيبني إال ما كتب لي، ورضا من المعيشة بما قسمت لي(

ومنها: )اللهم بارك لي في ديني الذي هو عصمة أم��ري، وفي آخرتي ال��تي إليه��ا مص��يري وفي دني��اي ال��تي فيه��ا بالغي، واجع��لحياتي زيادة في كل خير، واجع�ل الم�وت راح�ة لي من ك�ل ش�ر(

)( رواه الطبراني.1

)( رواه الطبراني والبزار.2

)( رواه الطبراني.3

362

(1)

ومنها: )اللهم اجعلني شكورا، واجعل��ني ص��بورا واجعل��ني في (2) عيني صغيرا، وفي عين الناس كبيرا(

ومنها: )اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أم��ري، وم��ا أنت أعلم ب��ه م��ني، اللهم اغف��ر لي ج��دي وه��زلي، وخط��ئي وعمدي وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أس�ررت وم�ا أعلنت، وم�ا أنت أعلم ب�ه م�ني، أنت المق�دم، وأنت

(3)المؤخر، وأنت على كل شئ قدير(

ومنها: )اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد ونق قل��بي من الخطاي��ا كم��ا نقيت الث��وب األبيض من ال��دنس، وباع��د بي��ني وبين

(4)خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب(

ومنها: )اللهم طهرني بالثلج والبرد والم�اء الب��ارد، اللهم طه�ر قلبي من الخطاي�ا كم�ا طه�رت الث�وب األبيض من ال�دنس، وباع�د بي��ني وبين ذن��وبي كم�ا باع�دت بين المش�رق والمغ�رب اللهم إني أعوذ بك من قلب ال يخشع، ونفس ال تشبع ودع��اء ال يس��مع، وعلم ال ينفع، اللهم إني أعوذ بك من هؤالء األربع اللهم إني أسألك عيشة

)( رواه البزار برجال ثقات.1

)( رواه البزار برجال ثقات.2

)( رواه البخاري ومسلم.3

)( رواه البخاري ومسلم.4

363

(1)نقية، وميتة سوية، ومردا غير مخز وال فاضح(

ومنها: )اللهم إني ضعيف فق�و في رض�اك ض�عفي، وخ�ذ إلى الخير بناصيتي، واجع�ل اإلس�الم منتهى رض�ائي، اللهم إني ض�عيف فقوني، وإني ذليل فأعزني، وإني فأغنني، اللهم بلغني من رحمت��ك ما أرجو من رحمتك، واجعل لي ودا عند الذين آمنوا وعهدا عن��دك(

(2)

ومنها: )اللهم إني أس��ألك الطيب��ات، وت��رك المنك��رات، وحب المس��اكين، وأن تت��وب علي، وإن أردت بعب��ادك فتن��ة أن تقبض��ني

(3)إليك غير مفتون(

ومنها: ))اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخل��ق أحي��ني م��ا علمت الحياة خ�يرا لي، وتوف�ني إذا علمت الوف�اة خ�يرا لي، اللهم أس��ألك خش��يتك في الغيب والش��هادة وكلم��ة اإلخالص في الرض��ا والغضب وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيم��ا ال ينف��ذ، وقرة عين ال تنقط��ع وأس��ألك الرض��ى بالقض��اء، وب��رد العيش بع��د الموت، ولذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك، وأعوذ ب��ك من ضراء مضرة، وفتنة مضلة، اللهم زينا بزين��ة اإليم��ان واجعلن��ا ه��داة

(4)مهديين(

)( رواه أبو يعلى، ورواه مسلم والترمذي والنسائي مختصرا.1

)( رواه ابن الضحاك.2

)( رواه البزار بسند حسن.3

)( رواه النسائي وابن ماجه، والحاكم.4

364

ومنها: )اللهم أصلح لي في ديني ال�ذي ه�و عص��مة أم�ري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحي��اة لي زي��ادة في ك��ل خ��ير، واجع��ل الم��وت

(1)راحة لي من كل شر(

ومنه���ا: )اللهم ارزق���ني حب���ك، وحب من يحب���ك، وحب من ينفعني حبه عندك، اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله قوة لي فيماتحب، اللهم وما زويت عني مما أحب فاجعله ق��وة لي فيم��ا تحب(

(2)

ومنه��ا: )اللهم انفع��ني بم��ا علمت��ني، وعلم��ني م��ا ينفع��ني، (3)وارزقني علما تنفعني به(

ومنها: )اللهم أحسن عاقبتنا في األمور كلها، وأجرنا من خزي ، )ومن ك��ان ذل��ك دع��اءه م��ات قب��ل أن(4)الدنيا وعذاب اآلخرة(

(5)يصيبه البالء(

ومنها: )اللهم احفظ��ني باإلس��الم قائم��ا، واحفظ��ني باإلس��الم قاعدا، واحفظني باإلسالم راق��دا، ال تش��مت بي ع��دوا وال حاس��دا،

)( رواه مسلم.1

)( رواه الترمذي وقال: حسن غريب.2

)( رواه الحاكم، والنسائي.3

)( رواه ابن حبان، والحاكم.4

)( زيادة للطبراني.5

365

اللهم إني أسألك من كل خير خزائنه بيدك وأعوذ بك من ك��ل ش��ر (1)خزائنه بيدك أنت آخذ بناصيته(

ومنه��ا: )اللهم اجعل��ني أعظم ش��كرك، وأك��ثر ذك��رك، وأتب��ع نصيحتك، وأحف�ظ وص�يتك.. اللهم أقل�ني ع�ثرتي، واس�تر ع�ورتي، واكفني، وأع�ني على من ظلم�ني، وأرني ث�أري.. للهم إن�ك لس�ت بإله استحدثناه، وال برب ابتدعناه وال ك�ان لن�ا قبل��ك إل�ه نلج�أ إلي�ه ونذرك، وال أعانك على خلقنا أحد، فنشك فيك ��� أو نش��ركه في��ك �

(2)تباركت وتعاليت إنك أنت التواب الرحيم(

ومنها: )اللهم ال تسلط علي ع�دوا أب�دا، وال تش�مت بي ع�دوا أب��دا، وال ت��نزع م��ني ص��الحا اكتس��بته أب��دا، وإذا أردت فتن��ة ق��وم، فتوفني إليك غير مفت��ون، وأرني الح��ق حق��ا أتبع��ه، وأرني المنك��ر منكرا أجتنبه، وال تجعل شيئا من ذلك علي اشتباها فأتبع هواي بغير هدى منك، وأتبع هواي محبتك ورض�ا نفس�ك، واه�دني لم�ا اختل�ف

(3)فيه من الحب بإذنك(

ومنها: )لبيك اللهم لبيك وسعديك، والخير في ي��ديك ومن��ك وبك وإليك، اللهم ما قلت من ق�ول أو ن��ذرت من ن��ذر أو حلفت من حلف فمشيئتك بين يدي��ه، م��ا ش��ئت ك��ان، وم��ا لم تش��أ لم

)( رواه الحاكم، عن ابن مسعود وابن حبان.1

)( رواه ابن الضحاك، وأحمد.2

)( رواه ابن الضحاك.3

366

يكن، وال حول وال قوة إال بك، إنك على ك��ل ش��يء ق��دير، اللهم وما صليت من صالة فعلى من صليت، وما لعنت من لعنة فعلى��ك أنت وليي في ال��دنيا واآلخ��رة، توف��ني مس��لما من لعنت، إنالحين، أس��ألك اللهم الرض��ا بع��د القض��اء، وب��رد وألحق��ني بالص�� العيش بعد الممات ولذة نظر إلى وجهك، وشوقا إلى لقائك من غير ضراء مض��رة وال فتن��ة مض��لة، أع��وذ ب��ك اللهم أن أظلم أو أظلم، أو أعتدي أو يعتدى علي، أو أكتس��ب خطيئ��ة محبط��ة، أوماوات واألرض ع���الم الغيب ذنب���ا ال يغف���ر، اللهم ف���اطر الس��� والشهادة ذا الجالل واإلكرام، فإني أعه�د إلي��ك في ه�ذه الحي��اة الدنيا وأش��هدك وكفى ب��ك ش��هيدا، أني أش��هد أن ال إل��ه إال أنت وحدك ال شريك لك، لك الملك ولك الحمد وأنت على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدا عبدك ورسولك، وأشهد أن وعدك ح��ق،اعة آتي��ة ال ريب فيه��ا، وأنت تبعث من في ��ة ح��ق، والس�� والجن��ك إن تكل��ني إلى نفس��ي؛ تكل��ني إلى ض��يعة القب��ور، وأش��هد أن وعورة وذنب وخطيئة، وإني ال أثق إال برحمتك ف��اغفر لي ذن��بي��واب ��ك أنت الت ��ه ال يغف��ر ال��ذنوب إال أنت، وتب علي إن ��ه إن كل

(1)الرحيم(

وغيرها من األدعية الكثيرة ال��تي ال ي��زال محبي��ك ومتبعي��ك يرددونها، فيشعرون بالقرب من الله، ومنك، ويتقون بها من كل ذل��ك ال��دجل والخراف��ة ال��ذي ح��اول المحرف��ون أن يغ��يروا به��ا دينك.. لكن الله شاء أن يحفظه بكتاب��ه، وبتل��ك اآلث��ار العظيم��ة

المروية عنك، وعن أهل بيتك. فأس��ألك ��� س��يدي ��� وأتوس��ل ب��ك إلى الل��ه أن أك��ون من الذاكرين الله كثيرا، أولئك الذين ال تف��تر ألس��نتهم وقل��وبهم عن

)( رواه أحمد والطبراني.1

367

ذكر ربهم. وأسألك � سيدي � أن ينيلني الل��ه من األح��وال والفض��ائل ما وعد به الذاكرين، ح��تى يك��ون ذك��ري مرق��اة أرقى ب��ه إلي��ه، ومعراجا أرحل به من ع�الم نفس�ي األم��ارة بالس��وء، إلى ع�الم النفس المطمئنة بذكر الله، الراضة عن الل��ه، المرض��ية بفض��ل

الله.

368

العفو الحليم سيدي يا رسول الله.. يا من أدبه ربه فأحسن تأدبيه، ورباه

فحفأحس�ن تربيت��ه.. وك�ان من تأديب��ه ل��ه قول��ه: فح الص��� فاص��الم[، وقول��ه: 85 ]الحج��ر: الجمي��ل فح عنهم وق��ل س�� فاص��

[89 ]الزخرف: فسوف يعلمون لقد رحت أقرأ هذه الكلم��ات المقدس��ة في س��فر حيات��ك؛ فوج��دتها منطبع��ة بحروفه��ا في ك��ل لحظ��ة من لحظاته��ا.. أو موقف من مواقفها.. حتى تلك المواقف الشديدة التي تهتز له��ا القل��وب.. وي��أبى الطب��ع إال أن يغلب ص��احبه فيه��ا.. لكن��ك ��� ي��ا سيدي يا رسول الله � كنت تمل��ك زم��ام نفس��ك، وتواجهه��ا بم��ا

أدبك ربك من الصفح الجميل. ال أزال أرى بعي���ني ذل���ك األع���رابي ال���ذي راح ي���دنس المسجد.. فهم به األصحاب لينهروه.. لكنك نهرتهم بكل لطف.. وقلت لهم بكل هدوء: )دعوه وأهريقوا على بوله ذنوب��ا من م��اء

(1) أو سجال من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين(

وال أزال أرى بعيني ثمامة بن أثال، ذلك الذي حاربك، فلم��ا تمكنت منه، وأصبح أس��يرا ل��ديك، خ�رجت إلي��ه، وقلت ل�ه: )م��ا عندك يا ثمامة؟( فقال: )عندي خير يا محمد إن تقتلني تقت��ل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر. وإن كنت تريد المال فس��ل من��ه ما شئت(.. فأطلقته من غير أن تطالب بفدية وال مال.. فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المس��جد، وق��ال مخاطب��ا ل��ك، بع��د أن أس��رت قلب��ك بص��فحك وجمي��ل أخالق��ك:

( 284( ومسلم )6128 )10)( البخاري- الفتح 1

369

)أشهد أن ال إله إال الله، وأشهد أن محمدا رسول الله. يا محمد، والله ما كان على األرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أص��بح��ه م��ا ك��ان من دين أبغض إلي من وجهك أحب الوجوه إلي. والل دينك، فأصبح دينك أحب الدين إلي. والله ما كان من بل��د أبغض

(1) إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البالد إلي(

وال أزال أرى ذلك ال��ذي س��ل س��يفه علي��ك، ليقتل��ك، فلم��ا تمكنت منه بفضل الله عفوت عنه، وتركت��ه يع��ود إلى أهل��ه من غير أن تف��رض علي��ه أن يص��حبك، أو أن تكره��ه على اإلس��الم.. لقد حدث حديثه جابر بن عبد الله، فقال: غزونا مع رسول الل��ه

قبل نجد، فلم��ا قف��ل رس��ول الل��ه قف��ل مع��ه، ف��أدركتهم ، وتفرق الناسالقائلة في واد كثير العضاه، فنزل رسول الله

تحت شجرة وعلق به��ايستظلون بالشجر. فنزل رسول الله يدعونا، وإذا عنده أعرابيسيفه ونمنا نومة، فإذا رسول الله

فقال: )إن هذا اخترط علي سيفي وأن��ا ن��ائم، فاس��تيقظت وه�و في يده صلتا، فقال: من يمنعك مني؟ فقلت: )الله( )ثالثا(، ولم

(2) يعاقبه وجلس(

وال أزال أرى أولئ���ك اليه���ود والمن���افقين ال���ذين ك���انوا يسخرون منك كل حين، فلم تكن تب��ادلهم إال بص��فحك الجمي��ل، وق�د روي عن عائش�ة أنه�ا ق�الت: دخ�ل ره�ط من اليه�ود على

فقالوا: )السام عليكم(، فهمتها، فقلت: )وعليكمرسول الله : )مهال ي��ا عائش��ة، إن الل��هالسام واللعنة(، فقال رسول الله

يحب الرفق في األمر كله(، فقلت: يا رسول الل�ه، أو لم تس��مع( 1764)( مسلم )1

( 843( ومسلم )2910 )6)( البخاري- الفتح 2

370

(3) : )قد قلت: وعليكم(ما قالوا؟ قال رسول الله

وال أزال أرى ذل��ك الموق��ف ال��ذي اخت��برك في��ه بعض��هم، ليتقين من نبوتك.. وقد حدث عنه عب��د الل��ه بن س��الم ق��ال: إن الله تبارك وتع��الى لم��ا أراد ه��دى زي��د بن س��عنة، ق��ال زي��د بن سعنة: إنه لم يبق من عالمات النبوة شيء إال وق��د عرفته��ا في

حين نظ��رت إلي��ه، إال اثن��تين لم أخبرهم��ا من��ه:وج��ه محم��د يسبق حلمه جهله، وال يزيده شدة الجهل علي��ه إال حلم��ا، فكنت أتلطف له ألن أخالطه فأعرف حلمه وجهله، قال: فخرج رسول

من الحج��رات، ومع�ه علي بن أبي ط��الب، فأت��اه رج�لالل��ه على راحلته كالبدوي، فقال: يا رسول الله، قري��ة ب��ني فالن ق��د أس��لموا ودخل��وا في اإلس��الم، وكنت أخ��برتهم أنهم إن أس��لموا أتاهم الرزق رغ��دا، وق��د أص�ابهم ش��دة وقح�ط من الغيث، وأن�ا أخشى، يا رسول الله، أن يخرجوا من اإلسالم طمعا كما دخل��وا في��ه طمع��ا، ف��إن رأيت أن ترس��ل إليهم من يغيثهم ب��ه فعلت،

إلى رجل جانبه، أراه عمر، فقال: م��اقال: فنظر رسول الله بقي منه شيء يا رسول الله، قال زي��د بن س��عنة: ف��دنوت إلي��ه فقلت له: يا محمد، هل لك أن تبيع��ني تم��را معلوم��ا من حائ��ط بني فالن إلى أجل كذا وكذا؟ فق��ال: ال ي��ا يه��ودي، ولكن أبيع��ك تمرا معلوما إلى أج��ل ك��ذا وك��ذا، وال أس��مي حائ��ط ب��ني فالن،

، فأطلقت همياني، فأعطيته ثمانين مثقاالقلت: نعم، فبايعني من ذهب في تم�ر معل��وم إلى أج�ل ك�ذا وك�ذا، ق�ال: فأعطاه�ا الرجل وقال: اعجل عليهم وأغثهم بها، قال زيد بن سعنة: فلم��ا

فيكان قبل محل األجل بيومين أو ثالثة، خ��رج رس��ول الل��ه جن��ازة، فلم��ا ص��لى على الجن��ازة دن��ا من ج��دار فجلس إلي��ه،

( 2163( ومسلم )6024 )10)( البخاري- الفتح 3

371

فأخذت بمجامع قميصه، ونظرت إليه بوج��ه غلي��ظ، ثم قلت: أال تقضيني يا محم��د حقي؟ فوالل��ه م��ا علمتكم ب��ني عب��د المطلب بمطل، ولقد كان لي بمخالطتكم علم، قال: ونظ��رت إلى عم��ر وعيناه تدوران في وجهه كالفل��ك المس��تدير، ثم رم��اني ببص��ره

ما أسمع، وتفع��ل ب��هوقال: أي عدو الله، أتقول لرسول الله ما أرى؟ فوالذي بعثه بالحق، لوال ما أحاذر فوته لضربت بسيفي

ينظ�ر إلى عم�ر في س�كون وت�ؤدة،هذا عنقك، ورسول الله ثم قال: إنا كن��ا أح��وج إلى غ��ير ه��ذا من��ك ي��ا عم��ر، أن ت��أمرني بحسن األداء، وتأمره بحسن التباعة، اذهب ب��ه ي��ا عم��ر فاقض��ه حقه، وزده عشرين صاعا من غيره مك��ان م��ا رعت��ه، ق��ال زي��د: فذهب بي عمر فقضاني حقي، وزادني عشرين ص�اعا من تم�ر،

أن أزي��دكفقلت: ما هذه الزيادة؟ قال: أم��رني رس��ول الل��ه مكان ما رعتك، فقلت: أتعرف��ني ي��ا عم��ر؟ ق��ال: ال، فمن أنت؟ قلت: أنا زيد بن سعنة، قال: الحبر؟ قلت: نعم، الحبر، قال: فما

م��ا قلت، وتفع��ل ب��ه م��ا فعلت؟دعاك أن تقول لرسول الله فقلت: يا عمر كل عالمات النب��وة ق��د عرفته��ا في وج��ه رس��ول

حين نظرت إليه إال اثنتين لم أختبرهما منه: يسبق حلمهالله جهل�ه، وال يزي�ده ش��دة الجه�ل علي�ه إال حلم�ا، فق�د اختبرتهم�ا، فأش��هدك ي��ا عم��ر أني ق��د رض��يت بالل��ه رب��ا، وباإلس��الم دين��ا،

نبي��ا، وأش��هدك أن ش��طر م��الي ف��إني أكثره��ا م��االوبمحم��د مش��اهد.. وش��هد م��ع رس��ول الل��ه صدقة على أمة محمد

(1) كثيرة، ثم توفي في غزوة تبوك مقبال غير مدبر(

وال أزال أذكر أولئك العتاة الغالظ من قومك الذين حاربوك ألك��ثر من عش��رين س��نة، لكن��ك بمج��رد أن تمكنت منهم، قلت

( وقال: صحيح اإلسناد. 6547، رقم 3/700(: رجاله ثقات. والحاكم )8/240( قال الهيثمى )5147 رقم 5/222)( رواه الطبرانى )1

372

��ون أني فاع��ل بكم؟(، فق��الوا )خ��يرا، أخ ك��ريم لهم: )م��اذا تظن وابن أخ ك��ريم(، فقلت لهم: )ال ت��ثريب عليكم يغف��ر الل��ه لكم..

(1)اذهبوا فأنتم الطلقاء(

وحكى ابن مسعود حالك، فقال: )ك��أني أنظ��ر إلى رس��ول يحكي نبيا من األنبياء ضربه قومه وهو يمس��ح ال��دم عنالله

(2)وجهه ويقول: )رب اغفر لقومي فإنهم ال يعلمون(

بع��د أن ع��رفت ك��ل ه��ذا وغ��يره مم��ا يعج��ز اللس��ان عن وصفه، عرفت عظم الكيد الذي كادك به المحرفون المدلس��ون الذين راحوا يتهمونك بأنك قلت: )اللهم إنما أنا بش��ر فأيم��ا عب��د سببته أو جلدته أو دعوت عليه، وليس ل��ذلك أهال، فاجع��ل ذل��ك

(3)كفارة وقربة تقربه بها عندك يوم القيامة(

ولم يكن قصدهم من ه��ذا الح��ديث ال��ذي ك��ذبوه علي��ك إال تبرئة أولئك الطلقاء من أصحاب الملك العضوض الذين ح��ذرت منهم، ونبهت األم��ة إلى خط��رهم.. وب��دل أن يأخ��ذوا أحاديث��ك عنهم مأخذ الجد، ويعملوا بها، راحوا يتهمون��ك بأن��ك لم تقله�ا إال

في حالة غضب.. وأنك في تلك الحال لم تكن واعيا لما تقول. ول��و أن أولئ��ك ال�ذين قبل��وا ه��ذا الح��ديث، واتهم�وك بأن��ك تسب وتلعن من ال يستحق الس��باب واللعن��ة، عرف��وك، وعرف�وا

. 142- 141/ 2)( رواه ابن سعد 1

( 1792(، مسلم )3477 )6)( البخاري- الفتح 2

( 10408، رقم 493/ 2(، وأحمد )2601، رقم 2008/ 4)( مسلم )3

373

ص��فحك الجمي��ل، وخلق��ك الرفي��ع، وأن��ك أك��بر من أن تص��يبك ن��زوات الغض��ب ال��تي تص��يب من اس��تحوذت عليهم نفوس��هم

وشياطينهم.. لعلموا أنه يستحيل عليك أن تقول ذلك. وكي��ف تقول��ه، وأنت نفس��ك ق��د ح��دثتهم.. وهم رووا عن��ك قولك لبعض أصحابك عندما قال لك: )يا رس��ول الل��ه، أكتب م��ا أسمع منك؟(، فقلت له: )نعم(، فقال: )في الرضا والس��خط؟(،

(1) فقلت: )نعم، فإنه ال ينبغي لي أن أقول في ذلك إال حقا(

ب��ل إنهم ل��و عرض��وا ذل��ك الح��ديث على الق��رآن الك��ريم، ما ضل� صاحبكم وما غ��وىوسمعوا منه قوله تعالى في حقك:

��وحى )3( وم��ا ينط��ق عن اله��وى )2) (4( إن ه��و إال� وحي ي-�� 2]النجم: [ لعلموا أنك أرفع من أن يص��يبك ذل��ك الض��عف4

الذي يصيب غيرك، فيتكلم في حال غضبه بما ال يرضي الله.

. 89، وابن عبد البر في جامع بيان العلم، ص 1/105)( رواه الحاكم 1

374

الجواد الكريم سيدي يا رسول الله.. أيها الجواد الك��ريم ال��ذي ال يض��اهيه أح��د في ج��وده، وال في كرم��ه.. وأنى ل��ه ذل��ك، وج��ودك ش��مل األزمنة، ومدد فضلك تعالى أن تحصره األمكن��ة.. فنحن ال ن��زال نعيش في فيض كرم��ك وم��ددك.. فك��ل من أقب��ل علي��ك أقبلت

عليه بأنواع اإلكرام والتفضل. وكيف ال تفعل ذلك سيدي، وقد قال الله تع��الى عن أولئ��ك

��اهمالجاحدين الذين لم يعرف��وا قيمت��ك: وم��ا نقم��وا إال� أن أغن�ه ورسوله من فضله [؟74 ]التوبة: الل

وما لك ال تكون كذلك س��يدي، وأنت عب��د الل�ه ال�ذي تجلى عليه الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، فتخلق به��ا، وتحققت فيه، فص��ار م��رآة له��ا، وقبس��ا من نوره��ا، وق��د قلت مع��برا عن ذلك: )أال أخبركم عن األجود؟ الله األج��ود، وأن��ا أج��ود ول��د آدم، وأج�ودهم من بع�دي رج�ل تعلم علم�ا فنش��ر علم��ه، يبعث ي��وم

(1)القيامة أمة وحده، ورجل جاهد في سبيل الله حتى يقتل(

وما لك ال تكون كذلك س��يدي، وأنت ال��ذي كنت تعطي من سألك، وتبدأ من لم يسألك، وال تحتفظ في بيت��ك ب��دينار واح��د.. وعندما دخلت على بالل ال��ذي وكلت��ه بك��ل م��ال يحص��ل ل��ديك، فوجدت عنده صبرة من تمر، قلت له: )ما هذا يا بالل؟( فق��ال: تمر أدخره، فقلت: )ويحك يا بالل، أو ما تخاف أن يكون له بخار

(2) في النار؟ أنفق يا بالل، وال تخش من ذي العرش إقالال(

)( رواه بقي بن مخلد وأبو يعلى..1

375

ولذلك كنت تنف��ق ك��ل م��ا يص��ل إلي��ك من الم��ال في ك��ل مواضع الخير، وال تحتفظ لنفسك بش��يء، وق��د روي أن��ك دخلت على أم س��لمة، فرأت��ك كئيب��ا حزين��ا، فس��ألتك عن س��بب ذل��ك، فقلت لها: )من أج��ل ال��دنانير الس��بعة ال��تي أتتن��ا ب��األمس، ولم

(1)نقسمها(

وحدثت عائشة ق��الت ��� مخاطب��ة شخص��ين ج��اءا يس��أالنها في م��رض ل��ه، وك��انت عن��ديعنك �: لو رأيتما رس��ول الل��ه

ستة دراهم أو سبعة، فأمرني أن أفرقها، فش��غلني وجع��ه ح��تى عاف��اه الل��ه، ثم س��ألني عنه��ا، فق��ال: )م��ا فعلت، أكنت ف��رقت الستة الدنانير أو السبعة؟( فقلت: ال، والل��ه، لق��د ك��ان ش��غلني وجعك.. فدعا بها، فوضعها في كفه، فقال: )ما ظن نبي الله ل��و

(2)لقي الله وهذه عنده؟(

، وعن�دي ش��يء منوحدث بالل قال: دخل رس�ول الل�ه تمر، فقال: )ما هذا؟( فقلت: ادخرنا لشتائنا، فقال: )أم��ا تخ��اف

(3)أن ترى له بخارا في جهنم؟(

فيوح�دث أب�و ذر ق�ال: كنت أمش�ي م�ع رس��ول الل�ه صرة المدينة فاس��تقبلنا أح��دا، فق��ال: ي��ا أب��ا ذر، قلت: لبي��ك ي��ا رسول الله، قال: )ما يسرني أن عندي مث�ل أح�د ذهب��ا، تمض��ي

)( رواه البيهقي، والبزار، والطبراني، وأبو يعلى.2

)( رواه ابن حبان والبيهقي.1

)( رواه ابن سعد والبيهقي.2

)( رواه الطبراني والبزار.3

376

على ثالثة، وعندي منه دينار، إال شيئا أرصده لدين، إال أن أق��ول(1)في عباد الله هكذا، وهكذا(

حتى دخلوحدث ابن عمر قال: خرجت مع رسول الله بعض حيطان األنصار، فجعل يلتقط من التمر، ويأكل، فقال لي: )يا ابن عمر ما ل��ك ال تأك��ل؟( قلت: ي��ا رس��ول الل��ه ال أش��تهيه، قال: )لكني أشتهيه، وهذه صبح رابعة لم أذق طعاما، ولم أجده، ولو ش��ئت ل��دعوت ربي فأعط��اني مث��ل مل��ك كس��رى وقيص��ر، فكيف ب��ك ي��ا ابن عم��ر إذا بقيت في ق��وم يحب��ون رزق س��نتهمن ��أي ﴿ويضعفون؟ قال: فو الله ما برحنا، وال زمنا حتى نزلت: وكميع العليم �اكم وهو الس��� �ه يرزقها وإي �ة ال تحمل رزقها الل ﴾من داب

: )لم ي��أمرني بك��نز ال��دنيا،(، فقال رسول الله 60)العنكبوت: وال اتباع الشهوات، فمن ك��نز دني��اه يري��د به��ا حي��اة باقي��ة، ف��إن الحياة بيد الله، أال وإني ال أكنز دينارا، وال درهما، وال أخبئ رزق��ا

(2) لغد(

وهكذا كنت � سيدي � ال تحتفظ بشيء من المال لنفس��ك، بل كنت تقدم��ه جميع��ا في س��بيل الل��ه، وال تحتف��ظ لنفس��ك إال بمقدار حاجتها المحدودة جدا، وقد روي أنكم ذبحتم شاة، فرآها بعض الفقراء، فرحت تأمر أهلك بتق��ديمها لهم، ثم س��ألتهم: م��اها غير بقي منها؟، فقالوا: ما بقي منها إال كتفها، فقلت: )بقي كل

(3) كتفها(

)( رواه البخاري.1

)( رواه أبو بكر الحميدي.2

)( رواه الترمذي، وقال: حديث صحيح. 3

377

وق��د ك��ان ذل��ك الخل��ق العظيم س��ببا في إس��الم من لم تبه���رهم المعج���زات الواض���حات.. لكنهم عن���دما رأوا ي���ديك المرسلتين بالعط��اء، م��ع حاجت��ك الش��ديدة، عرف��وا أن��ك لس��ت

طالب دنيا، وأنه ال يمكن لكاذب أن يحمل أوصافك. إذالقد ذكر اإلم��ام علي ذل��ك ق��ال: )ك��ان رس��ول الل��ه

سئل عن شيء، فأراد أن يفعل��ه ق��ال: )نعم( وإن أراد أال يفعل��ه(1) سكت، وكان ال يقول لشيء ال(

على اإلس��الموذكره أنس، فقال: )ما سئل رسول الل��ه (2) شيئا إال أعطاه(

ثم ذكر نموذجا لذلك، فقال: )فسأله رجل غنم��ا بين جبلين فأعطاه إياها، ف��أتى قوم��ه فق��ال: ي��ا ق��وم أس��لموا، فوالل��ه إن

(3) محمدا ليعطي عطاء من ال يخاف الفقر(

وم��اوق��ال: )وإن ك��ان الرج��ل ليجيء إلى رس��ول الل��ه يريد بذلك إال الدنيا، فما يمسي حتى يك��ون دين��ه أحب إلي��ه من

(4) الدنيا وما بينها(

)( رواه الخرائطي، والطبراني، و المراد من عدم قوله: )ال( ما يفهم منها عدم اإلعطاء مع القدرة عليه، أما إذا ك��انت من ب��اب االعت��ذار، فال1

:، ففي القرآن الكريم حكاية عن النبي حرج في ذلك، وقد قالها وا وأعينهم� ��ه تول ��وك لتحملهم قلت ال أج��د م��ا أحملكم علي �ذين إذا م��ا أت وال على ال

( 92 )التوبة:تفيض من الد�مع حزنا أال يجدوا ما ينفقون

)( رواه مسلم. 2

)( رواه مسلم. 3

)( رواه مسلم. 4

378

حيي��ا الوحدث سهل بن س��عد ق�ال: )ك�ان رس��ول الل��ه (1)يسأل شيئا إال أعطى(

وذكر أن امرأة جاءت ل��ك ب��بردة منس��وجة فيه��ا حاش��يتها، وقالت: نسجتها بيدي ألكسوكها فخذها، فأخذتها، وأنت في أش��د الحاجة إليها، ثم خرجت بها أمام أصحابك، فرآها أعرابي، فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي هبها لي، فقلت: )نعم(، ثم رجعت

. (2)إلى بيتك، فطويتها، وأعطيتها له

س��بعون أل��فوحدث هارون بن أبان ق��ال: ق��دم للن��بي درهم، وه��و أك��ثر م��ال أتي ب��ه ق��ط، فوض��ع على حص��ير من

.(3)المسجد، ثم قام بنفسه، فما رد سائال، حتى فرغ منه

بم��ال من البح��رين، فق��ال:وق��ال: أتي رس��ول الل��ه ،انظروا، يعني صبوه في المس��جد، وك��ان أك��ثر م��ال أتى ب��ه

من المسجد، ولم يلتفت إليه، فلما قض��ىفخرج رسول الله الصالة جاء فجلس إليه، فم��ا ك��ان ي��رى أح��دا إال أعطى إلى أن جاء العباس، فقال: يا رسول الله أعطني، فإني فاديت نفس��ي، وفاديت عقيال، فق��ال: )خ��ذ( فحث��ا في ثوب��ه، ثم ذهب يقل��ه فلم يستطع، فقال: يا رسول الله مر بعض��هم يرفع��ه إلي ق��ال: )ال(، قال: فارفعه أنت، قال: )ال أستطيع(، ثم نثر منه، ثم ذهب يقل��ه فلم يستطع، فقال: يا رسول الله: مر بعضهم يرفعه علي، قال:

)( رواه الدارمي.1

)( رواه البخاري، وابن ماجه، وابن سعد، والطبراني، واإلسماعيلي والنسائي 2

)( رواه الدارمي. 3

379

)ال(، قال: فارفعه أنت، قال: )ال( ثم ن��ثر من��ه فاحتمل��ه، فألق��اه يتبع��ه بص��ره ح��تىعلى كاهله، فانطلق فما زال رسول الله

، وثم منه��ا درهم(خفي علينا، عجبا منه، فما قام رسول الله (1)

ولم تكن تكتفي بكل ذلك ��� س��يدي ��� ب��ل كنت تعطي ك��ل من سألك، ولو علمت أنه لم يفع��ل ذل��ك عن حاج��ة، وإنم��ا لم��ا اش�تهر من ج�ودك وكرم�ك، وق�د ح�دث أب�و س�عيد ق�ال: دخ�ل

يس��أالنه عن ثمن بع��ير فأعانهم��ارجالن على رس��ول الل��ه ب��دينارين، فخرج��ا من عن��ده، فلقي��ا عم��ر، فأثني��ا خ��يرا، وق��اال

بهم��ا، ف��دخل عم��ر علىمعروفا، وشكرا ما صنع رسول الله : )لكن فالن��ا ف��أخبره بم��ا ق��اال، فق��ال رس��ول الل��ه الن��بي

أعطيت��ه م��ا بين العش��رة والمائ��ة فلم يق��ل ذل��ك، إن أح��دهم يسألني، فينطلق بمسألته يتأبطها، وما هي إال نار(، فقال عم��ر: ي��ا رس��ول الل��ه، فلم تعطهم م��ا ه��و ن��ار؟ فق��ال: )ي��أبون إال أن

(2) يسألوني ويأبي الله لي البخل(

وذك���ر في ح���ديث آخ���ر أن ناس���ا من األنص���ار س���ألوك، فأعطيتهم، ثم سألوك، فأعطيتهم، ثم قلت: )ما يكون عندي من خير، فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعف�ه الل�ه، ومن يس�تغن يغنه الله، ومن يتصبر يص��بره الل��ه، وم��ا أعطي أح��د عط��اء ه��و

(3) خير، وأوسع من الصبر(

)( رواه البخاري1

)( رواه ابن أبي الدنيا وغيره.2

)( رواه البخاري ومسلم وغيرهما.3

380

وحدث جب�ير بن مطعم أن�ه بينم�ا ك�ان مع�ك مقبال من ح�نين علقت بك األعراب يسألونك، حتى اضطروك إلى س��مرة فخطفت رداءك، ف�وقفت، وقلت لهم: )أعط�وني ردائي، فل�و ك�ان لي ع�دد

(1) هذه العضاة نعما لقسمته عليكم ال بخيال، وال كذابا، وال جبانا(

وحدث أنس أنك عام حنين سألك الناس، فأعطيتهم من البقر والغنم واإلبل، حتى لم يبق من ذل��ك ش��ئ فقلت: )م��اذا تري��دون؟ أتريدون أن تبخلوني؟ فوالله ما أن�ا ببخي�ل، وال جب�ان، وال ك�ذوب(،

.(2)فجذبوا ثوبك حتى بدت رقبتك

حلة أنم��اروحدث سهل بن سعد قال: حكيت لرسول الله ص��وف أس��ود، فجع��ل حاش��يتها بيض��اء، وق��ام فيه��ا إلى أص��حابه، فضرب بي�ده إلى فخ�ذه فق�ال: )أال ت�رون إلى ه�ذه م�ا أحس�نها!( فقال أعرابي: يا رسول الله بأبي أنت وأمي هبها لي، وكان رس�ول

ال يس��أل ش��يئا أب��دا فيق��ول: ال، فق��ال: )نعم(، فأعط��اهالل��ه .(3)الجبة

ولم يقف كرمك � سيدي ��� به��ذا الح��د، ب��ل كنت في ح��ال عدم قدرتك على العطاء تتكلف كل السبل لترض��ي من س��ألك، حتى ال يذهب إال راضيا، وق��د ح��دث عم��ر ق��ال: ج��اء رج��ل إلى

فقال: ما عندي ش��ئ أعطي��ك، ولكن اس��تقرض، ح��تىالنبي يأتينا شئ فنعطيك، فقال عمر: ما كلفك الل��ه ه��ذا، أعطيت م��ا

)( رواه البخاري.1

)( رواه ابن األعرابي.2

)( رواه الطبري.3

381

ذل��ك،عندك، فإذا لم يكن عندك فال تكلف، فكره رسول الله حتى عرف في وجهه، فقال الرجل: يا رسول الل��ه، ب��أبي وأمي أنت، فأع���ط، وال تخش من ذي الع���رش إقالال، فتبس���م وج���ه

(1) وقال: )بهذا أمرت(رسول الله

ه��ذه س��يدي بعض مش��اهد ج��ودك وكرم��ك، وهي كافي��ة للمستبصرين المؤمنين ب��ك، ال��ذين يعلم��ون أن��ك المث��ل األعلى في كل شيء.. فأسألك س��يدي، وأتوس��ل ب��ك إلى الل��ه أن يمأل القلب بالمعارف التي تجعل��ني ج��وادا كريم��ا، ال أقبض ي��دي عن معروف، وال أبخل به��ا عن إحس��ان، ح��تى أك��ون أهال لص��حبتك، ومعيتك في الدنيا واآلخرة، إنك أنت الوسيلة العظمى، وصاحب

الجاه العظيم.

)( رواه الترمذي والخرائطي.1

382

الصادق األمين سيدي يا رسول الله.. أيها الصادق الذي شهد له كل شيء بالصدق.. األمين الذي أقر له كل شيء باألمانة.. حتى صار لقبه

في العالمين: الصادق األمين. وكي��ف ال تك��ون ك��ذلك س��يدي، وأنت ال��ذي حملت أعظم رسالة، وكلفت بأضخم مهمة، وأنيطت بك أثقل أمان��ة.. فأديته��ا بكل دقة ورعاية وإتقان، وبجميع تفاصيلها، ظاهرا وباطن��ا، ح��تى

لقيت الله تعالى، وقد أديت كل ما عليك من تكاليف.. ��ذبوقد شهد الل��ه ل��ك ب��ذلك، فق��ال: فمن أظلم مم�ن ك

���وى �م مث دق إذ ج���اءه أليس في جهن ���ذ�ب بالص��� �ه وك على الل���افرين ) ���ه أولئك هم32للك د�ق ب دق وص��� �ذي ج���اء بالص��� ( وال

�قون [33، 32 ]الزمر: المت وقد أثبتت األيام صدق كل ما ذكرته، فال استطاع العلم وال التط��ور وال التق��دم التق��ني وال العق��ول البش��رية الكث��يرة، وال المؤسسات العلمية الضخمة، أن تكذب حرف��ا واح��دا مم��ا جئت به، بل كلها أقرت لك بالصدق، وأنك بلغت كل ما كلفت ب��ه من

غير زيادة وال نقصان. وأثبتت األيام معها عظيم نصحك ألمت��ك ال��تي خالفت��ك في كثير من وصاياك؛ فنزل بها ما ن��زل ب��األمم قبله��ا من البع��د عن كتابها وهديك، فآل حالها إلى الضعف واالس��تبداد والتف��رق، ول��و أنها اتبعت وصاياك، ونفذت تعاليمك كم��ا بلغته��ا، لك��انت أفض��ل

األمم، وأقواها، وأطهرها، وفي جميع العصور.

383

ولم تكن األيام فقط هي التي شهدت لك بذلك ��� س��يدي � بل إن قومك أنفسهم، أولئك الذين نصبوا لك العداء، كانوا أك��ثر الناس تصديقا لكم، لكن الك��بر والظلم والعت��و ح��ال بينهم وبين

�ذياتباع��ك، كم��ا ق��ال الل��ه تع��الى: ��ك ال �ه ليحزن ق��د نعلم إن�ه يجح��دون �هم ال يكذبونك ولكن� الظ�المين بآيات الل يقولون فإن

[33]األنعام: وقد روي في سبب نزولها أن أبا جهل لقي��ك؛ فق��ال: إن��ا ال

نكذبك، ولكن نكذب ما جئت به(1).

أبا جهل فص��افحه، ق��الوحدث بعضهم قال: لقي النبي له رجل: أال أراك تصافح هذا الص��ابئ؟! فق��ال: والل��ه إني أعلم

إنه لنبي، ولكن متى كنا لبني عبد مناف تبعا؟ وروي أنه جاء يستمع لقراءتك من الليل، هو وأب��و س��فيان، واألخنس بن شريق، وال يش��عر واح��د منهم ب��اآلخر، فاس��تمعوهاقوا، فجمعتهم الطريق، فق��ال إلى الصباح، فلما هجم الصبح تفر� كل منهم لآلخر: ما جاء بك؟ فذكر له ما جاء ل��ه، ثم تعاه��دوا أال يع��ودوا، لم��ا يخ��افون من علم ش��باب ق��ريش بهم، لئال يفتتن��وا بمجيئهم، فلما كانت الليلة الثانية جاء كل منهم ظنا أن ص��احبيه ال يجيئان، لما تقدم من العهود، فلما أجمع��وا جمعتهم الطري��ق، فتالوموا، ثم تعاهدوا أال يعودوا. فلما كانت الليل��ة الثالث��ة ج��اءوا

أيضا، فلما أصبحوا تعاهدوا أال يعودوا لمثلها، ثم تفرقوا.ريق أخ��ذ عص��اه، ثم خ��رج ح��تى فلما أصبح األخنس بن ش�� أتى أبا سفيان في بيته، فقال: أخبرني ي��ا أب��ا حنظل��ة عن رأي��ك

)( رواه الحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.1

384

فيما سمعت من محمد؟ قال: ي��ا أب��ا ثعلب�ة، والل��ه لق��د س�معت��راد به��ا، وس��معت أش��ياء م��ا ع��رفت أشياء أعرفها وأعرف ما ي

معناها وال ما يراد بها. قال األخنس: وأنا والذي حلفت به. ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل، فدخل علي��ه في بيت��ه فقال: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال: م��اذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا،كب، حملوا فحملنا، وأعطوا فأعطين��ا، ح��تى إذا تجاثين��ا على ال��ر وكنا كفرسي رهان، ق�الوا: من��ا ن�بي يأتي�ه ال�وحي من الس�ماء! فمتى ندرك هذه؟ والله ال نؤمن به أبدا وال نصدقه، ق��ال: فق��ام

. (1)عنه األخنس وتركه

ريق لب��ني وروي أنه لما كان ي��وم ب��در ق��ال األخنس بن ش�� زهرة: يا بني زهرة، إن محمدا ابن أختكم، فأنتم أح��ق من ك��ف عنه، فإنه إن كان نبيا لم تقاتلوه اليوم، وإن كان كاذبا كنتم أحق من كف عن ابن أخت��ه قف��وا هاهن��ا ح��تى ألقى أب��ا الحكم، ف��إن غلب محم��د رجعتم س��المين، وإن غلب محم��د ف��إن ق��ومكم لم يصنعوا بكم شيئا.. فخال األخنس بأبي جهل فقال: ي��ا أب��ا الحكم، أخبرني عن محمد: أصادق ه��و أم ك��اذب؟ فإن��ه ليس هاهن��ا من قريش غيري وغيرك يسمع كالمنا؛ فقال أبو جهل: ويحك! والل��ه إن محمدا لص��ادق، وم�ا ك�ذب محم�د ق�ط، ولكن إذا ذهبت بن��و قصي باللواء والسقاية والحج��اب والنب��وة، فم��اذا يك��ون لس��ائر

(2)قريش؟(

)( رواه ابن إسحق وغيره.1

)( رواه ابن جرير.2

385

وحدث آخر قال: إن أول يوم ع��رفت في��ه رس��ول الل��ه أني كنت أمش��ي أن��ا وأب��و جه��ل في بعض أزق��ة مك��ة إذ لقين��ا

ألبي جه�ل: ي��ا أب��ا الحكم، فق��ال رس��ول الل��ه رسول الله هلم� إلى الل��ه ورس��وله، أدع��وك إلى الل��ه. فق��ال أب��و جه��ل: ي��ا محمد هل أنت منته عن سب آلهتنا؟ هل تريد إال أن نش��هد أن��ك قد بل�غت؟ فنحن نشهد أن قد بل�غت، فوالله ل��و أني أعلم أن م��ا

، وأقب��ل علي� فق��ال:تقول حق التبعتك، فانصرف رسول الله والله إني ألعلم أن ما يقول ح��ق ولكن يمنع��ني ش��يء: أن ب��ني قصي قالوا: فين��ا الحجاب��ة، قلن��ا: نعم، ثم ق��الوا: فين��ا الس��قاية، قلن��ا: نعم، ثم ق��الوا: فين��ا الن��دوة، فقلن��ا: نعم، ثم ق��الوا: فين��ا اللواء، فقلنا: نعم، ثم أطعموا وأطعمنا، حتى إذا تحاكت ال��ركب

.(1)قالوا: منا نبي، والله ال أفعل

بل إنهم � سيدي � شهدوا لك بذلك، ومن أول يوم دع��وتهم فيه إلى دينك، فكل المؤرخين متفقون على أنه لما ن��زل علي��ك

يرتك األق��ربين قول��ه تع��الى: ��ذر عش�� [214 ]الش��عراء: وأن صعدت على الصفا، فجعلت تن��ادي: ي��ا ب��ني فه��ر ي��ا ب��ني ع��دي لبطون قريش حتى اجتمعوا، فقلت لهم: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيال بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي�؟ ق��الوا: نعم م��ا جربنا عليك إال ص��دقا، فقلت: ف��إني ن��ذير لكم بين ي��دي ع��ذابشديد، قال أبو لهب حينها: تبا لك يا محمد ألهذا جمعتنا ف��نزلت:

�ت يدا أبي لهب وتب� (2)(1 )المسد:﴾﴿ تب

ومن األع��داء ال��ذين ش��هدوا ل��ك بالص��دق رغم ع��داوتهم)( رواه البيهقي، وابن أبي شيبة بنحوه.1

)( رواه البخاري ومسلم.2

386

الشديدة النضر بن الحارث الذي خاطب قومه قائال: )ي��ا معش��ر قريش إنه والله قد ن��زل بكم أم��ر م��ا ابتليتم بمثل��ه، ولق��د ك�ان محم���د فيكم غالم���ا ح��دثا، أرض��اكم عقال، وأص��دقكم ح��ديثا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم فى صدغيه الشيب، وجاءكم بما جاءكم قلتم: ساحرا! ال والله ما هو بساحر، لق��د رأين��ا الس��حرة ونفثهم وعقدهم، وقلتم: كاهن! ال والله ما هو بك��اهن، ق��د رأين��ا الكهنة وحالهم، وسمعنا سجعهم، وقلتم: شاعر! ال والله م��ا ه��و بشاعر، لقد رأينا الش��عر، وس��معنا أص��نافه كله��ا هزج�ه ورج��زه وقريض��ه، وقلتم: مجن��ون! ال والل��ه م��ا ه��و بمجن��ون، لق��د رأين��ا الجنون، فما هو بخنقه وال وسوس�ته وال تخليط�ه(، ثم ق��ال لهم: )يا معشر قريش، انظروا فى شأنكم، فإنه والل��ه لق��د ن��زل بكم

(1)أمر عظيم(

هذا كالم النضر بن الحارث الذى كان شيطانا من شياطين قريش، ومثله قال سائر أعدائك كالولي��د بن المغ��يرة وعتب��ة بن

ربيعة وغيرهما. ولم تكن هذه الشهادة خاصة بحياتك � سيدي � بعد البعث��ة، بل إن��ه قب��ل البعث��ة اش��تهرت باس��م الص��ادق األمين، وق��د ذك��ر شريكك في التجارة السائب المخزومي كيف كنت تتعامل معه، فق�ال �� بع�د أن لقي�ك ي�وم الفتح ��:)مرحب�ا ب�أخي وش�ريكي ال تداري وال تماري(، وقال:)كنت شريكي في الجاهلية فكنت خ��ير

شريك ال تداري وال تماري((2)

(270/ 1)( سيرة ابن هشام )1

)( رواه أحمد.2

387

ولما قامت قريش ببناء الكعبة قبل بعثتك تنازعوا في رف��ع الحجر األس��ود إلى مكان��ه، واتفق��وا على تحكيم أول من ي��دخل عليهم الب��اب، فكنت أول داخ��ل؛ ففرح��وا جميع��ا، وق��الوا: ج��اء األمين، ج��اء محم��د.. وق��د ك��انوا يلقبون��ك بلقب األمين؛ لم��ا

يعلمونه من أمانتك. وهكذا عندما ذهبت إلى المدينة المنورة، علم أحبار اليه��ود صدقك، لكن كبرهم حال بينهم وبينك، ولهذا فإن أول من أس��لم كان من كبار أحبارهم بشهادتهم، ومنهم عبد الله بن سالم الذي

المدينة كنت ممن انجف��ل، فلم��ا ت��بينتقال: )لما قدم النبي وجه��ه ع��رفت أن وجه��ه ليس بوج��ه ك��ذاب، فس��معته يق��ول: )أفشوا السالم وأطعموا الطعام، وصلوا األرحام، وص��لوا باللي��ل

(1)والناس نيام، تدخلوا الجنة بسالم(

وهكذا � سيدي ��� ال ت��زال األي��ام والتج��ارب تكش��ف ص��دق كلماتك ونصائحك ووصاياك.. لكن من النفوس ما هو لين طيب، يقب��ل م��ا جئت ب��ه، ويقب��ل علي��ك.. ومنه��ا م��ا ه��و ق��اس غلي��ظ

كالحجارة يأبى أن يسلم لك، ولو أنه موقن بصدقك.. فأسألك � سيدي � وأتوسل بك إلى الله أن أك��ون من ذل��ك الصنف الذي يسلم لك، ويصدقك، ويصدق كل ما جئت به، بلغ��ه عقله أو لم يبلغه.. فأنت عقل العقول، وأنت ن��ور األن��وار.. ومن لم يسلم لك عاش في ظالل نفسه األمارة بالسوء، يستقي من أهوائها، ويجتني من غيها ودسائسها م��ا يح��ول بين��ه وبين الح��ق

وأهله. وأسألك � سيدي � وأتوسل بك إلى الله أن أكون من أولئك

)( رواه أحمد والترمذي وغيرهما.1

388

الصادقين الذين صدقوا في صحبتك، قوال وفعال، وإرادة وعزم��ا، من الم��ؤمنينوم��اتوا على ذل��ك، فتحق��ق فيهم قول��ه تع��الى:

��ه ومنهم �ه عليه فمنهم من قضى نحب رجال صدقوا ما عاهدوا اللدقهم23من ينتظر وما بد�لوا تبديال ) ادقين بص�� �ه الص�� ( ليجزي الل

��ان غف��ورا �ه ك ��وب عليهم إن� الل اء أو يت ��افقين إن ش�� ويعذب المن[24، 23 ]األحزاب: رحيما

389

الملهم الخبير س��يدي ي��ا رس��ول الل��ه.. أيه��ا الملهم المس��دد.. المعلم المؤيد.. يا من علمك ربك ورباك، وفهمك ووعاك.. وأعطاك من كل أنواع اإلدراك.. فص��ار الك��ل تالمي��ذك، وص��رت أنت إم��امهم

وخبيرهم وقائدهم وحكيمهم.�ه أعلم حيث يجع��لوكيف ال تكون ك�ذلك �� س��يدي �� و الل

[.. فما ك��ان لمن يت��ولى ذل��ك المنص��ب124 ]األنعام: رسالته الرفي��ع ال��ذي توليت��ه، وال��ذي ص��رت بس��ببه الواس��طة بين الل��ه وعب���اده.. إال أن يك���ون ل���ك من ق���وة العلم واإلدراك والفهم والحكم��ة، م��ا يجعل��ك مس��ددا تض��ع ك��ل األم��ور في مواض��عها الصحيحة: إما بإرشاد مباشر من الل��ه تع��الى وذل��ك ه��و اإلله��ام

والوحي.. أو بالصفاء والقدسية، وتلك هي العبقرية والخبرة. فلذلك كنت ��� س��يدي ��� تمل��ك من الق��درات اإلدراكي��ة م��ا يفوق ب��درجات كث��يرة جمي��ع العق��ول، ول��و اجتمعت م��ع بعض��ها بعضا؛ فقد كنت تملك قوة الذكاء والذاكرة وح��دة ال��ذهن ودق��ة المالحظة واستبصار العواقب وغير ذلك مما تحتاج إليه الوظيفة

التي أنيطت بك. باإلضافة إلى ذلك كله، ذلك الصفاء والقدسية التي تجعل��ك محال لتنزل إلهامات الله ومالئكته، فترى العواقب، واألم��ور كم��ا

هي من غير تشويه وال تحريف وال تبديل. ومن يجادل في امتالك��ك لك��ل تل��ك الق��درات جاه��ل بق��در النبوة وعظمتها، ذلك أن النبوة تتناقض مع كل ما يخ��ل ب��أدوات اإلدراك، واالستقبال؛ فيستحيل أن يك��ون الن��بي أبل��ه أو غبي��ا أو

390

مغفال أو غ��ير ذل��ك من النق��ائص ال��تي يت��بين من خالله��ا نقصجوهره، وضعف إدراكه.

وكيف يكون ذل��ك س��يدي؟.. وه��ل يمكن لمن اس��تطاع أن يعاين الملكوت أن يعجز عن معاين��ة المل��ك؟.. وه��ل يمكن لمن

التواص��ل م��عاستطاع أن يتواصل مع عالم الغيب أن يعج��ز عن عالم شهاده؟.. وهل يمكن لمن استطاع أن تمت��د عين��اه لألفالك

أسرارها ما ال يراه غيره أن يعجز عن رؤي��ة م��االعليا، فيرى منهو أمامه؟

إن الذي يقول ذلك سيدي، ال يختلف عن ذلك الذي يتص��ور أنه يمكن لمن استطاع عقله أن يحل أعق��د المس��ائل الرياض��ية

أن يعجز عن حل مسألة جمع أو طرح أو ضرب. بل إن األمر بالنسبة لك أعظم؛ فأنت لم تكن تملك ال��ذكاء المجرد، وال العبقرية البشرية المحدودة فقط، وإنما كنت تمل��ك معهم�ا حكم��ة مس��ددة من المأل األعلى متواص��لة تواص�ال دائم��ا

معك.. ولذلك كنت غنيا عن استشارة غيرك، وق��د قلت في ذل��ك: )أما إن� الله ورسوله لغنيان عنها، ولكن جعلها الله تعالى رحم��ة ألمتي، فمن استشار منهم لم يعدم رشدا، ومن تركه��ا لم يع��دم

ا( (1)غي

ب��ل إن الق��رآن الك��ريم أش��ار إلى ذل��ك عن��دما أم��رك باستشارة أصحابك، فقد أخبرك أن ذلك من مقتض��يات رحمت��ك�ه لنت فبم��ا رحم��ة من الل ﴿بهم، وتأليفك لقل��وبهم، ق��ال تع��الى:

)( رواه ابن عدي والبيهقي في الشعب.1

391

لهم ولو كنت فظا غليظ القلب النفضوا من حولك ف��اعف عنهم[159﴾واستغفر لهم وشاورهم في األمر ]آل عمران:

إن مثلك في ذلك � سيدي � مثل األستاذ الذي يتيح لطلبت��ه أن يدلوا بآراهم في مس��ألة من المس��ائل، ثم يظه��ر عجب��ه من عبقريتهم وذكائهم، وإن كان هو نفسه يعلم بذلك مسبقا.. ولكن

رحمته بهم تجعله ينهج ذلك المنهج. وقد ورد هذا في شمائلك � س��يدي �� فق�د وص�فك هن��د بن أبي هال��ة، فق��ال: )يض��حك مم��ا يض��حكون من��ه، ويعجب مم��ا

(1)يعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في المنطق(

وقريب منه ما وص��فك ب��ه أنس حين ق��ال: )ك��ان إذا لقي��ه أحد من أصحابه فتن��اول أذن��ه، ناول��ه إياه��ا، ثم لم ينزعه��ا ح��تى

(2)يكون الرجل هو الذي ينزعها عنه(

وقريب من ذلك أيضا ما ورد في القرآن الكريم من عت��اب الل��ه تع��الى ل��ك، وه��و عت��اب المحب لمحب��ه، فعن��د التأم��ل في موارده��ا نج��دها جميع��ا تنبعث من رحمت��ك بمن تري��د أن تؤل��ف قلوبهم.. ولذلك فإن ذلك العتاب لم يكن حقيقي��ا، وإنم�ا ه�و من

باب ]إياك أعني واسمعي يا جارة[ إن مثله � سيدي � مثل أن يقول الوال��د لمعلم ابن��ه: لم لم تعاقبه عندما أخطأ؟.. ولم لنت له م��ع أن��ه ك��ان في إمكان��ك أن تعاقبه؟.. وهو ال يقصد بذلك عت��اب المعلم، وإنم��ا يقص��د توجي��ه

)( شمائل الترمذي.1

)( رواه ابن سعد.2

392

اللوم البنه وتربيته من خالل ذلك.م �بي لم تح��ر ه��ا الن ياأي ﴿ولهذا، فإن قوله تعالى مخاطبا لك: �ه غف��ور رحيم ات أزواج��ك والل ��ك تبتغي مرض�� �ه ل ﴾م��ا أح��ل� الل

[ ليس من ذل��ك العت��اب ال��ذي يفهم��ه المحجوب��ون،1]التحريم: وإنما هو من عتاب المحبين..

فأنت لم تحرم ما أحل الل��ه ل��ك إال ألن��ك كنت تش��عر أن��ك مأمور ب��أن تحس��ن لزوجات��ك، وأن تعطي المث��ل للمؤم��نين في الرفق بهن مهما أسأن التصرف مع��ك، ول��ذلك كنت تس��عى في مرض��اتهن، ال ألجلهن، وإنم��ا ألج��ل تحقي��ق عبودي��ة الل��ه في التعامل معهن، ولهذا نبه��ك الل��ه، أو نبههن بطري��ق غ��ير مباش��ر

إلى أن يراعين حسن العشرة معك.. ولهذا جاء بعد تلك اآليات ذلك التهديد الش��ديد لنس��ائك إنغت �ه فق��د ص�� ��ا إلى الل إن تتوب ﴿أسأن العشرة معك، قال تعالى: الح �ه ه��و م��واله وجبري��ل وص�� قلوبكما وإن تظاهرا عليه ف��إن� الل

��ك ظه��ير ) �قكن�4المؤمنين والمالئكة بع��د ذل ه إن طل ى رب ( عس����ات ��ات تائب ��ات قانت لمات مؤمن ��را منكن� مس�� أن يبدله أزواجا خي

بات وأبكارا ) [5، 4﴾( ]التحريم: 5عابدات سائحات ثي�ه عف�ا الل ﴿ومثل ذلك ما ورد في قوله تع�الى مخاطب��ا ل�ك: �ذين صدقوا وتعلم الكاذبين �ن لك ال �ى يتبي ﴾عنك لم أذنت لهم حت

[، فق��د كنت ��� س��يدي ��� في قم��ة الص��فاء والرق��ة43]التوب��ة: والرحمة.. ولذلك كنت تقب��ل ك��ل من اعت��ذر ل��ك ح��تى ل��و كنت تعلم كذبه حرصا عليه ورحمة ب��ه، فنبه��ك الل��ه أو نبههم إلى أن

إذنك ال ينفع إال الصادقين. ومثل هذا أيضا تل��ك الرحم�ة ال�تي كنت تب�ديها للمن��افقين،

393

والتي تصور البعض أن��ك كنت مخطئ��ا فيه��ا ح��تى ج��اء من ج��اءليصحح لك خطأك.

وهكذا يقال في ك��ل م��ا ورد في الرواي��ات من استش��ارتك ألصحابك؛ فلم تكن عن نقص حكمة، وال عن حاجتك لهم، وإنم��ا

كانت تأليفا لقلوبهم وتربية لهم. لكن المغرضين س��يدي، راح��وا يفهمونه��ا من غ��ير مراع��اة لقدرك، وال احترام لنبوتك، ولذلك رم��وك بالعظ��ائم، وج��ردوك � من حيث يش��عرون أو ال يش��عرون ��� من ك��ل مع��اني الحكم��ة

والذكاء والبصيرة، وجعلوك عاجزا تنتظر ما يقرره أصحابك.. وكل ذلك � سيدي � في سبيل أن يرفعوا أص��حابك، ويثبت��وا من��اقبهم، ال��تي توهم��وا أنه��ا ال يمكن أن تثبت إال بالح��ط من ش��أنك، وإب��راز ض��عفك، لت��برز من خالل تل��ك المواق��ف ق��درة أصحابك وذك��اؤهم وحكمتهم، وأن الل��ه اص��طفاهم ل��ك، وأن��ك �

لوالهم � لنزل بك العذب، وألخرجت من ديوان النبوة. ال يمكنني � سيدي � أن أورد لك هن��ا م��ا ذك��روا، فه��و كث��ير جدا، وهم يذكرونه بفخر واعتزاز، معظمين لذلك الصحابي الذي ج��رت تل��ك المواق��ف على يدي��ه، متناس��ين أنهم ب��رفعهم ل��ه وضعوك.. وبتبيينهم لذكائه وفطنته وحكمت��ه واستبص��اره لألم��ور اتهموك بالغب��اء والغفل��ة والعجل��ة وغيره��ا من الص��فات ال��تي ال

تتوافق مع نبوتك. ومن األمثلة على ذلك ما يسمونه ]موافقات عمر[، وال��تي ألفت فيها الكتب التي حاول أصحابها � من أج��ل إعط��اء المزي��د من القدسية للصحابة � أن يعتبروا عمر هو ص��احب الفض��ل في تلك األحكام اإللهية.. وهو ما يعطي بعد ذلك ذريعة لكل مش��كك

394

في أن يعتبر عمر ممن أسسوا هذا ال��دين، وممن وض��عوا بعضاألحكام المرتبطة به..

فمن تلك الموافقات: الصالة عند مقام إبراهيم، والتي ورد)البقرة: �خذوا من م�قام إبراهيم مصلى وات ﴾بشأنها قوله تعالى: ﴿

125)ومنها دعوته للحجاب، والذي ن��زل في ش��أنه قول��ه تع��الى:﴾ وإذا سألتموهن� متاعا فاسألوهن� من وراء حجاب )األح��زاب: ﴿

53)�قكن� أن ه إن طل ى رب عس�� ﴿ومنها قوله ألمه��ات المؤم��نين:

(، فنزلت كما5﴾يبدله أزواجا خيرا منكن� مسلمات.... )التحريم: قال.

ومنها ما ورد في تحريم الخمر في عدة آيات، كقوله تعالى�اس ﴿يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للن

219﴾ )اليقرة: ��وا ��وا ال تقرب �ذين آمن ه��ا ال ��ا أي ي ﴿(، وقوله تع��الى: ��ون )النس��اء: �ى تعلم��وا م��ا تقول كارى حت (،43﴾الص�الة وأنتم س��

اب �ما الخمر والميسر واألنص�� �ذين آمنوا إن ها ال يا أي ﴿وقوله تعالى: �كم تفلح��ون يطان ف��اجتنبوه لعل ﴾واألزالم رجس من عم��ل الش���

(90)المائدة: ومنه��ا م��ا ورد في س��ورة المؤمن��ون من قول��ه تع��الى:

)المؤمنون: �ه أحسن الخالقين ﴾ فتبارك الل ﴿14) ومنها الصالة على المنافقين عند م��وتهم في واقع��ة م��وتل وال تص�� ﴿عبد الله ابن أبي ابن سلول ونزول قول الل��ه تع��الى:

)التوبة: (84﴾على أحد منهم م�ات أبدا وال تقم على قبره

395

واء عليهم س�� ﴿ومنه��ا اإلس��تغفار للمن��افقين، ق��ال تع��الى: �ه ال �ه لهم إن� الل تغفر لهم لن يغف��ر الل تغفرت لهم أم لم تس�� أس��

)المنافقون: (6﴾يهدي القوم الفاسقين

معتموه ��وال إذ س�� ول ﴿ومنها واقعة اإلف��ك في قول��ه تع��الى: ��ان عظيم بحانك ه��ذا بهت �م به��ذا س�� �تكل ��ا أن ن ��ون لن ﴾قلتم م�ا يك

(16)النور: ق��ل ﴿ومنها واقعة اليهود وعداوة جبريل وقول الله تع��الى: ما له على قلبك بإذن الله مصدقا ل �ه نز� جبريل فإن من كان عدوا ل

)البقرة: (97﴾بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين ومنها واقعة قت��ل عم��ر لمن رفض حكم رس��ول الل��ه حيثموك فيما شجر بينهم �ى يحك ك ال يؤمنون حت فال ورب ﴿قال تعالى: ليما موا تس�� ل يت ويس�� ﴾ثم� ال يجدوا في أنفسهم حرج��ا مم�ا قض��

(65)النساء: ��ا ي ﴿ومنها واقعة اإلستئذان في الدخول وقول الل��ه تع��الى: وا �ى تستأنس�� ��وتكم حت ��ر بي ��دخلوا بيوت��ا غي ��وا ال ت �ذين آمن ه��ا ال أي

)النور: �رون �كم تذك �كم لعل موا على أهلها ذلكم خير ل (،27﴾وتسل

ما كان لنبي ﴿ومنها حكمه في أسارى بدر، فنزلت كما ذكر:�ى يثخن في األرض... )األنفال: (67﴾أن يكون له أسرى حت

وفي ه��ذا المق��ام ي��ذكر الخطب��اء والوع��اظ كث��يرا، وببعض�ه �ون ل �ان لنبي أن يك م�ا ك ﴿التباهي أنك حين ن�زلت ه�ذه اآلي�ة:

�ى يثخن في األرض )األنفال: ( قلت: )لو نزلت نار67﴾أسرى حت (1)من السماء ألحرقتنا إال عمر(

)( ذكر القصة الطبري وابن كثير والقرطبي وابن العربي والماوردي وغيرهم.1

396

وهم ال يكتف��ون ب��ذلك ��� س��يدي ��� ب��ل إنهم يمطط��ون في القص��ة، ويض��يفون إليه��ا بعض التواب��ل ليخ��رج الن��اس منبه��رين بعبقرية عمر وذكائه وحكمته، وينسوا أنهم خرجوا أيضا وقد بنوا كل ذلك البنيان على حساب تقديرهم لك ولنبوت�ك وإلله�ام الل�ه

لك. ونحن ال يهمن��ا ��� س��يدي ��� أن يق��دروا عم��ر أو غ��يره من الصحابة أو الت��ابعين أو ت��ابعيهم.. ولكن ال على حس��ابك.. فنحن مأمورون بالتأس��ي ب��ك وتعظيم��ك وتعزي��رك وتوق��يرك.. ولس��نا

مأمورين بفعل ذلك مع غيرك. لم يكتفوا بذلك � سيدي ��� ب��ل إنهم راح��وا ألخط��ر موق��ف وقفه بعض أصحابك معك، وذلك عند احتضارك، في ذل��ك الحين الذي كان األصل أن يطلبوا منك في��ه الوص��ية، ليعرف��وا من ه��و خليفت��ك من بع��دك.. لكنهم لم يفعل��وا، ب��ل راح��وا يمنعون��ك أن

توصي.. لقد ذكر ابن عباس ما حدث في ذلك اليوم متأسفا حزين��ا، فقال: )لما حضر رسول الله، وفي ال��بيت رج��ال منهم عم��ر بن

: )هلم أكتب لكم كتاب��ا ال تض��لوا بع�ده(،الخطاب، قال الن��بي قد غلب عليه الوجع، وعندكم الق��رآن،فقال عمر: )إن النبي

حسبنا كت��اب الل��ه(، ف��اختلف أه��ل ال��بيت فاختص��موا، منهم من كتاب�ا لن تض��لوا بع�ده، ومنهميقول: قرب�وا يكتب لكم الن�بي

من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو، واالختالف عن��د الن��بي قال رسول الله ،قوموا(، قال عبيد الله: )راوي الحديث( :

عن ابن عباس، وهو ابنه(: فكان ابن عب��اس يق��ول: )إن الرزي��ة وبين أن يكتب لهم ذل��ككل الرزية، ما حال بين رسول الل��ه

397

(1)الكتاب من اختالفهم، ولغطهم(

لق��د روى ابن عب��اس ه��ذه الحادث��ة متألم��ا متأس��فا، وك�ان األصل في كل األمة أن تفعل ذلك، فكي��ف يح��ال بين ن��بي وبين أن يوص��ي؟.. لكنهم لألس��ف ��� س��يدي ��� لم يفعل��وا، ب��ل راح��وا يعتبرونك مخطئ��ا بطلب كتاب��ة الوص��ية، ويعت��برون الحكم��ة في

قول من منعك.. وكل ذلك جهال بقدرك. لق��د ع��بر بعض��هم عن ذل��ك، فق��ال: )إنم��ا ج��از للص��حابة االختالف في هذا الكتاب مع صريح أمره لهم بذلك، ألن األوام��ر قد يقارنها ما ينقلها من الوجوب، فكأنه ظهرت منه أي من كالم

قرين��ة دلت على أن األم��ر ليس على التحتم، ب��لالرس��ول على االختيار، فاختلف اجتهادهم، وصمم عمر على االمتن��اع لم��ا

ق��ال ذل��ك عن غ��ير قص��د ج�ازم،قام عنده من القرائن بأن��ه كان إما بالوحي وإما باالجتهاد، وكذلك ترك��ه إن ك��انوعزمه

(2)بالوحي فبالوحي وإال فباالجتهاد أيضا..(

وما قاله عجيب جدا، فكيف يقال ألمرك � سيدي ��� أن��ه لم يكن على س��بيل الحتم والل��زوم، وق��د ورد في الق��رآن الك��ريم��وا �ذين آمن ه��ا ال ياأي ﴿التشديد على إجابت��ك مطلق��ا، ق��ال تع��الى:

ول إذا دع�اكم لم�ا يحييكم ]األنف�ال: س�� �ه وللر� [،24﴾استجيبوا لل بل حذر بعدها من الفتنة التي قد تنجر من عدم إجابت��ك، فق��ال:ة واعلم��وا أن� �ذين ظلم��وا منكم خاص��� يبن� ال ��ة ال تص�� �قوا فتن ﴿ وات

�ه شديد العقاب ]األنفال: [25﴾الل

)( رواه البخاري. 1

(7/740)( هو قول المازري، كما نقله الحافظ في الفتح )2

398

ثم كي��ف يق��ال ب��أن ذل��ك األم��ر لم يكن على س��بيل الحتم واللزوم، وقد قلت � سيدي � مبين��ا أهميت�ه وخط��ره: )هلم أكتب لكم كتاب��ا ال تض��لوا بع��ده(، فه��ل هن��اك ش��يء أهم من ع��دم

الضالل.. بل عدم الضالل األبدي؟ ومثل ذلك � سيدي � ما ذكره آخر م��بررا فع��ل عم��ر، حيث

حين غلب��هقال: )إنما قصد عمر التخفي��ف على رس��ول الل��ه أن يكتب ما ال يستغنون عنه لم يتركهالوجع، ولو كان مراده

��ك ]المائ��دة: ��زل إلي غ ما أن ﴾الختالفهم وال لغيره لقوله تعالى بل ﴿ [ كما لم يترك تبليغ غير ذلك لمخالفة من خالفه ومعاداة من67

ع��اداه، وكم��ا أم��ر في ذل��ك الح��ال ب��إخراج اليه��ود من جزي��رة (1)العرب وغير ذلك مما ذكره في الحديث(

وما ذكره هذا ال يقل غرابة عما ذكره من قبله، ألنه يتنافى مع ما ورد في الحديث من اهتمامك بالوصية، أما تركك للكتابة، فليس تقصيرا منك � سيدي � حاشاك.. وإنما يفس��ر األم��ر فيه��ا كما يفسر سكوتك عن تحديد ليلة الق��در بع��دما حص��ل التن��ازع،

فقد ورد في الحديث عن عبادة بن الصامت قال: خرج النبي ليخبرن��ا ليل��ة الق��در فتالحى )أي تخاص��م وتن��ازع( رجالن من المسلمين، فقال: )خ��رجت ألخ�بركم بليل��ة الق��در، فتالحى فالن وفالن ف��رفعت، وعس��ى أن يك��ون خ��يرا لكم، فالتمس��وها في

(2)التاسعة والسابعة والخامسة(

وهك��ذا ك��ان التن��ازع س��ببا في الحرم��ان من تحدي��د ليل��ة

(.11/132)( نقله عنه النووي في شرح مسلم )1

)( رواه البخاري.2

399

القدر.. ألنها نعمة كبرى.. فلما لم يق��دروها ح��ق ق��درها حرم��وا من ذلك.. وهكذا كان حرمانهم من تلك الوصية العظيمة بس��بب التنازع.. ألنه حصل لك علم � سيدي � بأن هؤالء ال��ذين اج��ترأوا على التنازع بين ي��ديك لن يص��عب عليهم أن يمزق��وا وص��يتك أو

يؤولوها أو يفعلوا بها ما شاءوا. وهكذا قال آخر مبررا فعل عمر: )ائتوني أم��ر، وك��ان ح��ق المأمور أن يبادر لالمتثال، لكن ظهر لعمر م��ع طائف��ة أن��ه ليس على الوجوب، وأنه من باب اإلرشاد لألصلح، فكرهوا أن يكلفوه من ذلك ما يشق عليه في تلك الحال��ة م��ع استحض��ارهم لقول��ه

يء تع��الى: ��اب من ش�� ��ا في الكت طن [،38 ]األنع��ام: م��ا فر�يءوقوله: ��ل ش�� ��ا لك لنا عليك الكتاب تبيان [،89 ]النح��ل: ونز�

ولهذا قال عم��ر: حس��بنا كت��اب الل��ه، وظه��ر لطائف��ة أخ��رى أن األولى أن يكتب لم��ا في��ه من زي��ادة اإليض��اح، ودل أم��ره لهم

بالقيام على أن أمره األول ك��ان على االختي��ار، وله��ذا ع��اش بعد ذلك أياما ولم يعاود أمرهم بذلك، ولو ك��ان واجب��ا لم يترك��ه الختالفهم، ألنه لم يترك التبلي��غ لمخالف��ة من خ��الف، وق��د ك��ان الصحابة يراجعونه في بعض األمور ما لم يجزم باألمر فإذا عزم

(1)امتثلوا(

وقال آخر: )أما كالم عمر فقد اتفق العلماء المتكلمون في شرح الح��ديث على أن��ه من دالئ��ل فق��ه عم��ر وفض��ائله ودقي��ق

أمورا ربما عجزوا عنها واستحقوانظره، ألنه خشي أن يكتب العقوبة عليها ألنها منصوصة ال محالة لالجتهاد فيها، فقال عم��ر:

طنا في الكتاب من شيءحسبنا كتاب الله لقوله تعالى: ما فر� :[، وقول��ه: 38 ]األنع��ام��وم أكملت لكم دينكم وأتممت الي

(.1/252)( نقله ابن حجر في الفتح 1

400

[؛ فعلم أن3 ]المائدة: عليكم نعمتي ورضيت لكم اإلسالم دينا الله تعالى أكم�ل دين��ه ف��أمن الض��اللة على األم�ة وأراد الترفي�ه

، فكان عمر أفقه من ابن عباس وموافقي��ه(على رسول الله (1)

هذه � سيدي � مواقفهم من طلبك لكتابة الوص��ية، ومنع��ك منها.. والتي جعلهم حرصهم على الص��حابة يتهمون��ك بأن��ك كنت المخطئ في طلب ذل��ك، وأن الحكم��ة فيمن منع��وك من كتاب��ة

وصيتك. لكنهم في نفس الوقت يقف�ون موقف�ا متناقض��ا تمام��ا م�ع وصايا أصحابك الذين أحل��وهم من المنزل��ة م��ا لم يحل��وك.. ب��ل أج��ازوا لهم م��ا لم يج��يزوا ل��ك.. فهم ي��ذكرون بإعج��اب ش��ديد موقف أبي بكر في م��رض موت��ه عن��د وص��يته لعم��ر، ويعت��برون ذلك من حرص أبي بكر على األمة من بع��ده، ورحمت��ه به��ا، م��ع أن الحالة التي أملى فيها أبو بكر وصيته أخطر من الحال��ة ال��تي كنت فيها.. فقد حدث بعضهم قال: )دعا أب��و بك��ر عثم��ان خالي��ا فقال له: أكتب بسم الله الرحمن الرحيم هذا م��ا عه��د أب��و بك��ر بن أبي قحافة إلى المسلمين: أم��ا بع��د.. ق��ال: ثم أغمي علي��ه، فذهب عنه، فكتب عثمان: أما بعد: ف��إني ق��د اس��تخلفت عليكم عمر بن الخطاب، ولم آلكم خيرا منه. ثم أفاق أب��و بك��ر فق��ال: أقرأ علي�، فقرأ عليه، فكبر أبو بكر وقال: أراك خفت أن يختلف الناس إن أفتتلت نفس��ي في غش��يتي! ق�ال: نعم! ق��ال: ج�زاكالله خيرا عن اإلسالم وأهله. وأقرها أبو بك��ر من ه��ذا الموض��ع(

(2)

(.11/132)( النووي في شرح مسلم ) 1

401

وهك��ذا نج��دهم ي��روون عن أم المؤم��نين عائش��ة قوله��ا مخاطبه عبدالله بن عمر: )يا بني أبلغ عمر س��المي وق��ل ل��ه: ال

بع��دك ت��دعهم وال، عليهم تدع أمة محمد بال راع، استخلف ،همال (3)(الفتنة عليهم أخشى فإني

وهم يثن��ون عليه��ا، وعلى ك��ل من أوص��ى من الخلف��اء، ويذكرون أن ذلك من حرص��هم الش��ديد على مص��الح األم��ة.. إال أنت ��� س��يدي ��� ف��إنهم يحتق��رون وص��يتك، ويعت��برون األولى أال توصي.. لتقوم األمة بأمر نفسها من غير أن تستند إلى ما ت��راه

صالحا لها. هذه مجرد نم��اذج عن تل��ك الص��ورة ال��تي يص��ورونك به��ا � س��يدي ��� وله��ذا ي��رون أن��ك يمكن أن تخطئ وتت��وهم وتغف��ل.. وتص��يبك ك��ل اآلف��ات ال��تي تح��ول بين��ك وبين اإلدراك الص��حيح لألشياء.. وكل ذل��ك لجهلهم ب��النبوة، ومرتبته��ا العالي��ة الس��امية

التي ال يمكن إدراكها. فأسألك � سيدي � وأتوس��ل ل��ك إلى الل��ه أن أعرف��ك كم��ا أنت، ال كما عرفوني بك.. فأنت � سيدي � أحكم الحكماء، وأعلم العلماء، وأذكى األذكياء.. وأنت الذي لو اجتمعت عقول العالمين جميعا ما عدلت عقلك.. ولو اجتمع إيمانهم ما عدل إيمانك.. ولو اجتمعت حكمتهم ما عدلت حكمت��ك.. وأنى لهم ذل��ك وأنت ولي

الله األعظم، ورسوله األكرم.

:3. الطبق��ات الك��برى 411:�� 3. ت��اريخ مدين��ة دمش��ق 618:�� 2)( تاريخ الطبري 2..192: 2. الثقات 200

..28 | 1)( االمامة والسياسة: 3

402

وأس��ألك ��� س��يدي ��� وأتوس��ل ب��ك إلى الل��ه أن يهب��ني من الذكاء والحكمة وكل أدوات اإلدراك، ما يعينني على فهم حقائق األشياء كم��ا هي، ال كم��ا يص��ورونها لي، وأن يس��ددني في ذل��ك كل��ه، ويلهم��ني، ح��تى أك��ون أهال لص��حبتك ومعيت��ك، إن��ك أنت

الوسيلة العظمى، وصاحب الجاه العظيم.

403

الهادي البصير سيدي يا رسول الله.. أيها الداعي إلى الل��ه على بص��يرة.. ي���ا من ال يس���تنير بن���ور ه���دايتك إال الموفق���ون المت���أدبون المتواض�����عون.. وال يغض الط�����رف عنه�����ا إال المخ�����ذولون

المستكبرون المتفيهقون. لقد رحت � سيدي � أتأمل فيما جئت به من أل��وان الهداي��ة ومعانيها، وقارنتها بكل ما ج�اء ب�ه غ��يرك؛ فوج�دت أن�ك األوح�د الذي جاء بالهداية الشاملة التي تجيب عن كل األسئلة، وتص��حح كل األخطاء، وتكشف كل الغ�وامض، وت�رد على ك�ل الش�بهات، وتشمل جميع لطائف اإلنس��ان، وتعم ك��ل من��احي حيات��ه.. فمن اكتفي بهدايتك هدي إلى الس��راط المس��تقيم، ومن ابتغى عنه��ا

بدال، أو خلطها بغيرها، انحرف عنه إلى أهوائه وشياطينه. ولم تكن هدايتك سيدي قاصرة على تلك التفسيرات ال��تي أعطت للحياة صورتها الجميلة التي يراه��ا عليه��ا المؤمن��ون، وال تلك القيم الرفيع��ة ال��تي ض��بطت به��ا حي��اتهم، وال تل��ك األذواق اللطيفة التي جعلت المؤمنين يستشعرون الطمأنين�ة والس�عادة والسالم التي ال يمكن تذوقها من من��ابع غ��يرك.. وإنم��ا في تل��ك األساليب والوسائل الكثيرة التي وضحت بها الحقائق، وبينت بها القيم ح��تى فقهه��ا عام��ة الن��اس وخاص��تهم.. ك��ل على حس��ب

قدرته وفهمه. ولم يجتمع كل ذلك � سيدي � ألحد غيرك.. فلذلك ك��ان من أتباع��ك الفالس��فة والحكم��اء.. واألدب��اء والش��عراء.. والعلم��اء والفقه��اء.. والمتخصص��ون في ك��ل المج��االت.. كم��ا ك��ان من

404

أتباعك العامة البس��طاء.. وغ��يرهم من أص��ناف الن��اس.. مم��ا النراه اجتمع عند غيرك.

وكلهم سيدي يذكر أنه نهل من منابعك العذبة، وارتوى من حوض��ك الش��ريف، وأن��ك كفيت��ه وأغنيت��ه وآويت��ه.. وأن��ه لم يج��د

السعادة إال في صحبتك، وال السالم إال في اتباع تعاليمك. وكيف ال تكون كذلك � س��يدي ��� وأنت ال��ذي لم ت��دعو إلى الله من تلقاء نفسك، وإنما دعوت إليه بإذنه، ولذلك وصفك الله

را ونذيرا )تعالى، فقال: �ا أرسلناك شاهدا ومبش �بي إن ها الن ياأي�ه بإذنه وسراجا منيرا )45 45 ]األحزاب: (� 46( وداعيا إلى الل -47]

وكيف ال تكون كذلك، وأنت الذي آت��اك الل��ه البص��يرة، فلم تختلط دعوتك باألهواء، وإنما كانت عن رؤية خالصة، قال تعالى

��امخاطبا لك: يرة أن �ه على بص�� بيلي أدع��و إلى الل ق��ل ه��ذه س��ركين ��ا من المش�� �ه وم��ا أن بحان الل �بعني وس�� ]يوس��ف:ومن ات

108] ولذلك � سيدي � انتشرت دعوت��ك بين مالي��ير البش��ر، وفي جميع األجيال، وبين جميع اللغات واألعراق والبلدان.. واحت��وتهم جميع��ا، وش��عروا جميع��ا أن��ك الن��بي ال��ذي يمكنهم أن يفهم��وه

ويتبعوه ويحبوه. لذلك � سيدي � كنت أنت الهادي البصير.. الذي يق��ود ل��واء ال��دعوة إلى الل��ه.. فال ينجح داعي��ة إال إذا اس��تن بس��نتك.. وال

يفشل أو يخذل إال بابتعاده عنها. ائذن لي سيدي، أن أشكو إليك بعض ما فعله من يس��مون

405

أنفسهم دعاة وهداة من قومي.. فقد راحوا يتركون اتباع سنتك في الهداية إلى الله، تلك التي ع��بر عنه��ا الل��ه تع��الى بقول��ه:

�تي ��ال ك بالحكمة والموعظة الحسنة وج��ادلهم ب ادع إلى سبيل رببيله وه��و أعلم ل� عن س�� �ك ه��و أعلم بمن ض�� ن إن� رب هي أحس��

[، وراحو يستعملون بدلها طرقا كثيرة،125 ]النحل: بالمهتدينخلطوها بأهوائهم.. فزادوا دينك تشويها، وزادوا الخلق تنفيرا.

فبعضهم � سيدي � راح يعرض اإلسالم كما تعرض األحزاب السياسية مشاريعها، ولذلك استعمل كل الحي��ل، ولج��أ إلى ك��ل أنواع التمييع لدينك، ح��تى ي��راه الن��اس بالص��ورة ال��تي يرغب��ون فيها.. ولذلك بدل أن يرفع الخلق إلى دينك، والهداية ال��تي جئت بها، راح ينزل ب��دينك إلى مس��تواهم، ليتحلل��وا من ك��ل ش��رائعه وقيمه.. وقد غفل هؤالء أن دين الل��ه أعظم من أن يك��ون حزب��ا من األحزاب، أو جمعية من الجمعيات التي تخلط الدين بال��دنيا،

والقيم باألهواء. وراح آخرون يأخذون من الدين بعض مظاهره البعي��دة عن حقائقها، ف��اعتبروا س��نتك مج��رد لحي��ة طويل��ة، ولب��اس قص��ير،

ومعهما الكثير من الجفاء والغلظة. وراح آخ��رون يص��ورون ال��دين بص��ورة الس��يف والعن��ف

واإلرهاب.. وهكذا راح الكثير يستعملون وس��ائل منحرف��ة لل��دعوة إلى دين��ك.. بعي��دا عن اله��دي ال��ذي جئت ب��ه، واتباع��ا لأله��واء ال��تي

حذرت منها. ول��و أنهم س��يدي تخل��وا عن أه��وائهم، ولج��أوا إلي��ك، وإلى الق���رآن الك���ريم ال���ذي لم ي���ترك ش���اردة وال واردة إال بينه���ا

406

وفس��رها.. ولج��أوا ��� مثله��ا ��� إلى س��نتك الص��حيحة الموافق��ة للقرآن.. ولجأوا � معهما ��� إلى اعترت��ك الط��اهرة ال��تي حفظت هديك.. الهتدوا.. ودعوا إلى الل��ه على بص��يرة.. ول��دخل الن��اس

حينها في دين الله أفواجا. فأسألك � سيدي � وأتوسل بك إلى الله.. أن يعص��مني من ك��ل تل��ك التحريف��ات، وأن تك��ون أنت ق��دوتي في ال��دعوة إلى الله.. حتى ال أش�وه دين��ك أو أح�رف القيم العظيم�ة ال�تي جئت به��ا.. وح��تى أك��ون أهال لص��حبتك ومعيت��ك، إن��ك أنت ص��احب

الوسيلة العظمى، والجاه العظيم.

407

هذا الكتابتهدف هذه الرسائل إلى ثالثة أهداف كبرى:

في المج��االت � بي��ان كم�االت رس�ول الل��ه أوالالمختلفة، فالحب ال يكون إال بعد إدراك الكمال.

��� رد الش��بهات والتحريف��ات عن رس��ول الل��هثانياذلك أنها تتنافى مع الكمال، وق��د تس��يء إلي��ه، وق��د ،

تكون هي الحجاب الذي يحول بين القلب وبين المحبة. لتحقي��ق م��ا يرتب��ط � التوسل برسول الل��ه ثالثا

بالكمال من سلوك وأخالق وغيرها، وقد جعلنا ذل��ك في خاتمة كل رسالة، مثلما يقدم لل��دعاء بالثن��اء على الل��ه،

ثم يختم بطلب الحاجات. ولم يكن ه��دفنا من التوس��ل طلب الحاج��ة فق��ط، وإنما كان هدفنا األكبر منه تبيين األث�ر الس�لوكي لمحب��ة

في كل جانب من الجوانب، ألن العقي��دةرسول الله ال���تي ال تثم���ر عمال عقي���دة الكس���الى والم���دعين، ال

المجدين والصادقين. وق��د جمعن��ا في ه��ذه الرس��ائل أربعين ص��فة من

، وشرحناها، وبينا أدلتها المختلف��ةصفات رسول الله من خالل تلك الخطابات الموجهة إليه.

408