نجم وحيد فى األفق

محمد جبريـل

طبقا لقوانني امللكية الفكريةא אא

א .אא

א א أو عـرب االنرتنـت(א اى أو املدجمــة األقــراص أو مكتبــات االلكرتونيــةلل

א )أخرىوسيلة אא.

.א א

إن الحياة ال تبدو شاقة ، غير محتملة ، إالّ على أولئك الذين يتراجعون أمام رؤية قبورهم وهم أحياء

سان جوست

..ال يذكر متى ألف العادة كان يجلس على جذع شجرة عند الساحل ، يتأمل

بوح به من أسرار تغيب تالحق األمواج ، ويتطلع إلى ما قد ت. تضاءل اإلحساس بالنشوة . عنه ، ويتمنى التعرف إليها

حل ـ بدالً منه ـ شعور بالترقب . تالشى تماماً كأنه لم يكن حاول أن يستعيد نظرته القديمة إلى كل . والتطلع ، وبالقلق

لم . ظلت هناك فى موضع ال يتبينه . ما حوله ، فلم يوفق من عينيه ن المرأة وحيلها ، غابت الدهشة تعد تستهويه أفاني

أعادوا الذكريات . فى دردشات الجيران ونفسه ، وغابت يستغنون بالشرود عن . القديمة ، فاتسعت مساحات الصمت

ألف التجول ـ بال هدف . الحكايات التى تكرر سماعهم لها عرف . يطيل التأمل والتحديق . ـ فى أرجاء الجزيرة

لم يعد ثمة ما يجتذبه ، أو يثير . ات والسحن المواضع والكائنتحولت كل المشاهد إلى المألوف ، ذوت لحظات . اهتمامه

تكررت المشاهد . ، وحلت الرتابة االكتشاف والدهشة ربما يغمض عينيه . حتى التوقعات لم تعد غائبة . وتكررت

ما أذهله . بالشرود ، فتظل جزئيات المشهد ومنمنماته الدقيقة

قدم إلى الجزيرة يراه اآلن صوراً ثابتة ، يتوقع أن تكون منذ

.. هى رؤيته فى قادم األيام يحيا . لم يفلح فى كتم الهاجس المتصاعد من داخله

يستعيد مالمح . الشجن والحنين والرؤى واألغنيات البعيدة مئات الصور من حياته مع اختفت. الذين فارقهم ، وفارقوه

فى المقدمة ، م يحتفظ إالّ بصور قليلة ل. والولدين مديحة ماذا تفعل مديحة والولدان .صورة لها وهى تودعه باكية

اآلن ؟ هل تزور أمه ؟ وهل تصحب الولدين ـ كما أوصاها هل ينفذ إيهاب القبانى ـ برعايته لهم " ـ إلى الشيخ نجاتى

..ـ ما وعده به ؟ تيقظ الحنين فى أعماقه ،. عششت فى صدره وحشة

حنين لم يسبق له معاناته ، أبدع ألحاناً لم يستمع إليها من قبل ..

ربما ظل . اكتفى بتأمل األفق ، فى جلسته أمام الساحل فى موضعه منذ يتركه القارئ ـ بعد أن يردد وراءه آيات

..القرآن ـ حتى يأتيه القارئ فى المرة التالية . لبه ضاقت الجزيرة بحنينه إلى بحرى ، أكل الحنين ق مديحةلم يشعر بأقسى من نيران الشوق إلى مدحت ويسرى و

وغازلى الشباك الكابتنونجاتى والشيخ وإيهاب القبانى

ات شوشوالصيادين ونقطة األنفوشى وميدان المساجد ووتصاعدت من الظالل العميقة . النخيل فى طريق الكورنيش

تاق إلى المالمح . صور لشخصيات ومواقف وأحداث حدوة الحصان : اكن والكلمات والتفصيالت الصغيرة واألم

أمام سراى رأس التين ، زحام شارع الميدان ، سرادقات المولد فى أبو العباس ، التمشى على كورنيش الميناء الشرقية

انتظاره لمدحت ويسرى على . ، الجلوس على قهوة السيالة ال األخذ والرد والفص. الرصيف المواجه لمدرسة راتب باشا

حلقة المصلين حول إمام على تمراز فى . فى حلقة السمك التسلى بقزقزة اللب فى الشرفة المطلة على . درس المغرب حتى التردد على األطباء ، ومتابعة . تقاطعات الطرق

التحاليل واألشعة ، غلبه الحنين إليه ، ضجت فى داخله . مواويل الوجد ، تحركت جذوة الحنين ، وعلت نار الشوق

نسى فى لهيبها حتى أشعة الشمس قبل أن يحتويه ضياء ..يتوق إلى الدهشة واالكتشاف واالنفعال . الجزيرة

غاب . الضياء الشامل قائم ، فال ليل وال نهار اإلحساس بالزمن ، وإن يعرف الوقت من أذانه ، من مواعيد

الصالة ، ويكتم ـ فى داخله ـ اشتعال نيران الغربة والحنين

..شواق واألشجان والوجد واألترك لتوالى األيام شفاءه من الحنين ، لكن الغصة ظلت

..يشعر أنه يفتقد شيئاً ما فى داخله . فى نفسه ، ال تغادرها لم يكن منشغالً . فاجأته نوبة من البكاء ، غاب باعثها

. ـ فى تلك اللحظة ـ بما يمضى به إلى مواضع الحنين حاول أن يكتم ما يعانيه . وعال النشيج انفعل بالبكاء واهتز ،

..، لكن الرغبة فى البكاء فرضت نفسها ، فترك لها المدى . الطيور تعود إلى أعشاشها . تزايد شوقه لبحرى

..بحرى هو عشه الذى البد أن يعود إليه فى بحرى ، هناك بد ، توقعات تشغله ، يتوق إليها ، ع

د ، ال توقعات ، وال ع بفى الجزيرة ال يوجد. أو يخشاها حتى لحظته المعاشة ال . انشغال بغير اللحظة التى يحياها

..التصرفات تسبق ذهنه ، فيهمل التفكير . تشغله :نجاتى قال له الشيخ

..ـ كنت تعلم أن رحلتك قد تكون بال عودة :وهو يتجنب عينيه

!..ـ وهل كنت أملك أن أرفض ؟

:وضغط على شفته السفلى

.. أن أفعل شيئاً خير من الملل ـ :وهمس بصوت حزين

!..ـ الملل قاتل !.. الملل

تسلل إلى أعماقه ، فأحس . تعرف إلى معنى الكلمة اختفى الغموض واأللغاز المتسربلة فى نفثات . باالختناق

تساوت كل . بدا كل شئ فى حجمه وطبيعته . السحر ات أياماً ، واأليام واتصلت اللحظ. األشياء ، وكل المعانى

. شهوراً ، واألشهر أعواماً ، وال جديد يطرد الملل من نفسه ..واإلثارة يحرك الدهشة والتوقع

ثم . تكلم الرجل ، وتكلم . فطن إلى القراءة بالمصادفة تكررت اإلعارة ، . دفع إليه بالكتاب يوضح ما غمض

ى ما لم تعرف إل. وتكرر جلوسه على حافة النهر يقرأ ويقرأ ثم ضاقت . يكن يعرفه ، وصادق الدهشة واألسئلة واالنفعال

..دائرة الملل ، ملل ال يدرى بواعثه ، وال كيف يتجاوزه اإلحساس بالملل فى داخله ، وفى عالقاته بما تنامى

ألف دمع العين ، . عانى خواء مميتاً . حوله ، حتى أمضه

. األرض البعيدة يسافر مع األصوات إلى.حنيناً إلى السفر

تتوالى مشاهد البحر . إلى األحالم والذكريات والرؤى قصر : والشاطئ والبالنسات وطريق الكورنيش والميناء

، والصيادين وغازلى الشباك ، رأس التين ، وقلعة قايتباىوشارع ، ومبانى السلسلة ، وحاجز األمواج ،وحلقة السمك

والجندى ، الحقانية وسراى ، وميدان المنشية ، الميدان ، وعساكر السواحل ، والبحارة ، والمشايخ ، المجهول

، والبوصيرى ، وياقوت العرش ، والمرسى أبو العباس ومعهد ، وميدان المساجد ، ونصر الدين ، وعلى تمراز

، وصفر باشا ، وجودة ، والسيالة ، األحياء المائية ويحيط بها ، والمسافرخانة ، وما يتفرع منها ،، والحجارى

.. من شوارع وحوارى وأزقة يجد نفسه وراء مكتبه ، يجيب ، !.. لو يغمض عينيه

حتى . ويسأل ، ويناقش ، ويتسلم أوراقاً ، ويوقع أوراقاً طلبات المترددين على مكتبه ، وإلحاحهم ، وتالغط األصوات بما كان يضايقه ، تساقطت عنه الغالالت ، فتبدت

ناسى حتى إن كان المرض ـ بعد أن يعود ت. المالمح مجلوة يعانى اآلالم التى ال يدرى . إلى بحرى ـ سيعود إليه

ينشغل بالتوقعات . يجرى التحليالت واألشعة . مصدرها

..القاسية أدرك أنه لن يستطيع العودة ، لكن الحلم ناوشه واحتواه

.. ..جديدة ؟، متى يبدأ رحلة أخرى

..بعد كل عودة إلى اليابسة عاد السندباد إلى البحر ..هذا ما يناوشه

نسى كل المتاعب ، وتمنى أن يبدأ رحلة العودة إلى ..يابسة الحنين

. عندما اتخذ قراره بالرحيل ، فألنه بدا الحل الوحيد طالت أيام معاناة التوتر واألرق واالستيقاظ فى الصباح

التركيز غابت القدرة على . ت شهيته للطعام قل. بصعوبة حتى القراءة بدت . تفضى الذاكرة إلى خواء . والقراءة

لم يعد يطيق البقاء فى . فقد سكينة النفس . مجهوداً متعباً ضاقت عليه األرض بما . الجدران من حوله تخنقه . البيت ..رحبت

يصطخب المتداخلة ، الشوارع الضيقة ، المتعرجة ،

والطحالب واألعشاب ليود هواء المحمل برائحة الملح واالفيها ويترامى هدير الموج وراء البنايات العالية وتقاطعات ،

الشوارع المفضية إلى الميناء الشرقية وخليج األنفوشى ، والمقامات واألضرحة فى نواصى الحوارى واألزقة ،

ذات األسقف المنخفضة ، والشرفات البيوت المتالصقة ، ولحيطان المتآكلة ، والمالط الخشبية ، والنوافذ الصغيرة ، وا

والنسوة الجالسات أمام األبواب ،المتساقط بملوحة البحر ، ينشغلن بتنقية األرز فى الصوانى الكبيرة وتقشير الخضر والكالم الذى ال ينتهى ، ويرتمى على الجدران كومات الغزل

اختالط و، ونداءات الباعة ، والحبال القديمة وقطع الفلينوالبراز المتعفن فى األركان والبول القلى و الطبيخروائح

والعطن وبقايا السمك والقطران والسجاير والمعسل والحشيش والطائرات ، المحترق ومياه الغسيل والمياه الطينية الزلقة

ذلك كله يحياه حتى دون أن ينظر إليه .. الورقية تعلو السماء مألوفة النخيل فى امتداد الطريق ، بدت له وشوشاتحتى .

على مديحةوكان يأكل كل ما تضعه . ، ومتكررة ، ومملة

تساوى مذاق كل . ال يرفض حتى ال يضايقها . المائدة

..األطعمة فى فمه ثمة شعور تملكه بأن شيئاً ما ينقصه ، شيئاً ال يدرك طبيعته على وجه التحديد ، لكنه يتسلل إلى داخله بالقلق

..والخواء داخله ، ال يعرف بواعثه ، وال أدرك أن الخوف فى

أقوى من المرض ، وال ما هوكيف يتخلص منه ، أنه يعانى يشعر أن جسداً آخر ، غريباً ، وال . شأن له بحياته العادية

..صلة له به ، قد احتل كيانه حين وخزته اآلالم فى صدره ، ضغط بأسنانه على

أمام ومض . إلى ما يعانيه مديحةشفتيه ، حتى ال تفطن بريق خاطف كالومضة ، ثم . عينيه ضوء ال يعرف مصدره

أخذ وقتاً لتزول ضبابية الرؤية ، وتبين . حل ظالم وسكون وإيهاب وفتاة ، خمن من البالطو األبيض أنها مديحةمالمح

ثمة ما قبل وما . تبدل الحال من أيامها . طبيبة ، أو ممرضة ..بعد

، والتوتر بال سبب ، ألف نوبات الغثيان ، والصداع .. بساعديه مديحةواإلخفاق عندما يحيط

، واألرواح الشريرة ، امتأل صحوه ونومه باألشباح

والنداءات التى ال يدرى مصدرها ، ، واألصوات الهامسة ..والسحن التى تظهر ، ثم تختفى

يتمدد . لم يعد يقدر على البقاء طويالً فى مكان واحد ل تكوينات النشع والطالء فى الجدران يتأم. على السرير

. يقف فى الشرفة المطلة على تقاطعات الشوارع . والسقف ..ينزل الطريق لغير هدف

يفضل . تجنب السير فى شوارع السيالة الضيقة . الشوارع الواسعة ، فال يدخلها إالّ عند اقترابه من البيت

ورنيش يمضى ـ بخطوات متمهلة ـ فى الناحية المقابلة للكيهمل . عند اقترابه من السيالة ، يميل ناحية شارع التتويج .

نواصى الحارات واألزقة فى جانب السيالة ، إلى شارع ..سيدى العجمى فيدخله

حتى الجالسين على مقهى السوهاجى ، فى ناصية الشارع ، أسفل البيت ، لم يعد يعنى بالتعرف إليهم ، وال

متداخلة ومختلطة ، يغلفها مجرد مالمح. إلقاء السالم الضباب ، وإن التقط صوتاً ميزه ، ربما استعاد صورة

..صاحب الصوت فى مخيلته ، ثم واصل السير

صعب عليه أن يوضح ما يشعر به ، أو أن يشير إلى

ربما . لم يعد يقتصر على موضع من جسده . موضع األلم ال األلم تواصل الصداع قاسياً ، أو اشتد مغص البطن ، أو ع

ليس ألماً . جسد الشمل األلم كل . فى مواضع من جسده بالتحديد ، لكنه حالة من التوتر والضيق والقرف والالمباالة

، وال يأسف على ىءلم يعد يكترث بأحد ، وال بش. والتحدى وكان يبذل . غاب عنه اإلحساس الخاص بالمعانى . شئ

مات تخرج من حتى الكل. جهداً فى كل حركة ، وكل كلمة ..بين شفتيه بصعوبة

ينزل من . تردد على المستشفى األميرى بالشاطبى يعبر الميدان إلى شارع صفية . فى محطة الرمل ٥ترام

تطالعه ـ . مستشفى كلية الطب يميل من شارع . زغلول يعرف . فى نهاية الشارع ـ األبواب الحديدية السوداء

..لى األقسام الخارجية طريقه ـ عبر الساحة الواسعة ـ إ :رفع الطبيب يديه فى تسليم

..ـ األدوية ال تفيد نصح بطبيب فى تخصص آخر ، ربما يتوصل إلى

..العلة ، وإلى عالجها

سأل الطبيب عن األمراض السابقة ، وعن أعراض

..ربما أحس بها ، وإن لم يكن يتصور أنها تعنى شيئاً . نزع قميصه . صبعه إأشار بدون الطبيب ما قاله ، ثم

استدار ، . صبعه إنقر ب. مال الطبيب على صدره العارى السماعة على أذنيه طرفى ثم ثبت . فنقر الطبيب على ظهره

.. على صدره وظهره ها، ووضعألف التردد على المستشفى األميرى وعيادات األطباء

.لم تظهر التحليالت وال األشعة ما يقلق . ومعامل التحليل دا األمر أقسى من الصور التى أظهرتها األشعة والمناظير ب

..ونتائج التحليالت :قال الطبيب

لعلها حالة .. ـ أنت ال تعانى مرضاً عضوياً فأعالجه ..نفسية

:ونصح ..ذهب إلى طبيب نفسى اـ

وضع . جلس على الكرسى المواجه لمكتب الطبيب . القلم على فمه أسند طرف. الطبيب النوتة الصغيرة أمامه

..تأمله بنظرة متفحصة ، واكتفى بهز رأسه وهو ينصت

اختلطت الروايات . تحدث عن كل ما يشعر به

لم يتوقف ، ألن الطبيب لم يقاطعه بالسؤال ، ولم . وتشابكت ..يطالبه بالتوقف

تناول أدوية وصفها له الطبيب ، ولزم تصرفات نصحه ..بها

صرفاتها ، هو الذى قاده إلى وتمديحةالقلق فى عينى يخرج من تردده على األطباء بالمرض الذى . الشيخ نجاتى

لم تفلح األدوية فى عالج ما يعانيه . نه كامن فى جسده أالبد قل نومه ، .يشعر بثقل أعضائه ، وضيق روحه فى جسده .

..فكاد ينعدم حين خلف مبنى إدارة الجامعة بالشاطبى وراءه ، كان

لم . جازة طويلة إفى أوراقه مذكرة تهبه الحق فى قد دس تتوصل التحليالت وال األشعة إلى مرض محدد ، هو يصحو

ويقرأ وينام ويفعل كل شئ مما يفعله ويجلس ويعمل ويمشى وفى ، لكن المعاناة عكست كمونها فى جسمه هزاالً . الناس

يزداد األلم فال يقوى على الجلوس. التحلل بداخله شعوراً . يمشى خطوات . يتحرك بعصبية . يفز واقفاً . فى موضعه

. يظهر التألم . يتحسس أماكن فى جسده . يدور حول نفسه

انشغاله بالمرض . يغمض عينيه ، ويقلص مالمح وجهه

يشغله عن المناقشات من حوله ، وزحام الطالب من حوله ـ األيدى الممدودة باألوراق . فى إدارة الجامعة ـ يخنقه ..واألسئلة والنداءات والصخب :مديحةقال لإلشفاق فى عينى

..ـ أمامى سنة أتسلم فى أثنائها مرتبى كامالً :ثم عال صوته بالتساؤل

!..ـ هل أظل أعانى أكثر من سنة ؟عندما حاول التقاط خيط البداية ، التعرف إلى بواعث

مل تكتفى بتأ. خارج إطار أحزانه مديحةما يعانيه ، بدت يلمح نظراتها المشفقة وهى . أحواله ، ال تضايقه بمالحظات

..تتابع انكماشه فى نفسه التخمين يصعب. كان تنفسها فى أثناء النوم بال صوت

يتأمل الشعر الناعم المسدل على . إن كانت نائمة أم ال الوسادة ، والعينين المغمضتين ، واألنفاس الهادئة ، والمالمح

تصورها بأنه حدس. ق أنها تحبه ، وأنه يحبها يث .المنمنمة أهملت خوفهما الباكى من الحجرة . ضاق بنوم الولدين بينهما

حاول أن يساير تصورها ، ويقبل عليها بمثل . المجاورة

يفارقه ، األيام الماضية ، لكن الهاجس تصاعد فى داخله ، ال

..ينغص عليه حياته :مديحة قالت

..انى على شيخ قد تجد عنده الشفاء ـ دلتنى جارتنا ته :صرخ

..هل شكوت ألحد ؟.. ـ هل شكوت لك ؟ حاول أن . تكررت فحوص األطباء ، وتكررت األدوية

يحيا باالطمئنان لسالمة األشعة والتحليالت ، لكن الهاجس ، العارض ، المرض الذى ال يعرفه ، كان يعلو بالصراخ فى

فى أعماقه ، لكنه عجز عشرات األسئلة اصطخبت. داخله ظل ذهنه فى . عن أن يصوغها فى سؤال واحد محدد

شعر أنه . تشوشه ، وروحه قلقة ، والطمأنينة غائبة عن قلبه أسير شبكة جرافة ، أو طراحة ، كتلك األسماك التى تأسرها

تصاعد فى داخله إحساس بأن . شباك الصيادين فى الساحل لم يخمن صورته ، وال . حدثاً قاسياً على وشك أن يحدث

حصر قلبه عن الخوض فى أمور الدنيا ، . حدد قسماته وداوم العزلة عن الناس ، والصمت ، وحرص على اإلقالل

يأكل فى نصف بطنه ، وال يدقّق فى اختيار . من الطعام

يتشاغل . وكان يطيل تأخير التوجه إلى السرير . مالبسه

يخشى النوم ، التعب بالقراءة ، أو التأمل ، حتى يقهره ..فتزوره الكوابيس

همس لنفسه ـ وهو يتأمل مقابر المنارة من نافذة هل اقترب موعد رقاده .. أبوه وأمه يرقدان هنا : األوتوبيس

..إلى جانبهما ؟ ..ـ واضح أنه ال فائدة

:ونفث أف صغيرة !ـ تعبت

أكثر من . أدرك عجزه ، وتساوت أمامه كل الخيارات على األضرحة والمقامات ، وإن رفض زيارة ساحر التردد

شارك فى حلقات الذكر ، وفى . له شهرة فى جبل ناعسة ربما تمشى فى . ، لم يعد يطيق البقاء فى مكان واحد الموالد

شوارع الحى ، ال يقصد مكاناً محدداً ، لكنه يخلى لقدميه يشقيه اإلحساس بأنه غريب ، أو عابر سبيل ، ال .طريقهما

أحس أن حياته . شأن لآلخرين به ، وال شأن له بما حوله التجأ ـ مضطراً ـ إلى . تتآكل ، وأن ما بقى ال معنى له

..لم يعد لديه حيلة . الشيخ نجاتى

حبب إليه الشيخ الخلوات ، وفتح له سبيل المناجاة ،

توالّه فأغناه عن حيل األطباء . وأمد روحه بمعانى الكلمات .. فشلها التى أدرك

:قال الشيخ .. ـ إذا عرف المرء نجمه ، ووصل إليه حيث يكون

..اتصل ماضى حياته بما هو قائم ، بمالمح اآلتى :وأحاطه بنظرة مشفقة

ـ كلما حاولت أن ترى النجم قبل أن يتقدم بك العمر ..كان ذلك أفضل ..

:دون أن يفقد ابتسامته أردف ..العمر ـ النجوم يقل لمعانها بتقدم

:همس بالسؤال ـ وبعد الموت ؟

..ـ عندما يموت ابن آدم يذوى النجم حاالَ ويموت :وهز سبابته فى وجهه

!..ـ إذا أردت رؤية نجمك ، فاذهب اآلن كانت تروعه التحوالت التى تطرأ على الشيخ فى جلسته على دكة المبلغ بين صالتى المغرب والعشاء ، فى

صفو عيناه ، وتلتمعان ، ويكسو وجهه ت. سيدى نصر الدين

ينعكس على وجوه . النور ، ويغمر النور كل ما حوله يسلمون أنفسهم . المصلين الجالسين فى نصف الدائرة أمامه

إلى كلماته ، يستغرقون فيها تماماً ، حتى يعلو أذان العشاء ، ..فتعود المالمح إلى مألوفها ، ويخفت الصوت

كان يفصل فى الخصومات ، . ة الشيخ هيبأدناه منيكتفى بالعيش . ل إلى العزلة امويجيب عن المسائل ، وإن

شتغل بالزهد ا. ـ إالّ نادراً ـ على كسرات من الخبز ، كان على وضوء دائم . والعبادة ، وترك سائر األشغال

اقتصرت حياته على إمامة المصلين ، . وموقناً بما عند اهللا ن الدنيا ، ىء م يفرح بشال. وة القرآن وقراءة الكتب ، وتال

أئمة مساجد الحى فاق . وال يأسف على ما ضاع منها فى علوم الفقه والقرآن والسنة والتفسير ومشايخ المسافرخانة

إذا فرغ من أداء الفرائض ال يشتغل بنوافل العبادات ، . ربط قلبه فى . وإنما بالفكر وتجريد النفس عن شواغل الدنيا

ى قلبه من الحجب المانعة لها صفّ. بسائر أوقاته وخلواته اهللا عن مطالعة الغيوب ، فتحلّت نفسه بنفائس األسرار واألنوار

لم يكن يفصح عما اختصه اهللا به من قوى روحية .

البوح يعنى مغادرة الدنيا ، أو زوال الهبة اإللهية . وكرامات

ربما لحقه . نه أدخل اهللا الحكمة فى قلبه ، فانطلق بها لسا. الوجد ، وكثر بكاؤه ، فى دروس المغرب ، على دكة المبلغ

.. ..شغله األمر :قال له أبوه

..ـ أنت ابن بحر :ارتجفت عضلة فكه

ـ كيف ؟أصرت على شم الهواء فى .. ـ ولدتك أمك فى بالنس

..وكانت فى شهرها األخير .. البحر :وهو يحاول السيطرة على مشاعره

!هل كان من الصعب إعادتها إلى الشاطئ ؟ـ :تألقت عينا أبيه ببريق باسم

!ـ صراخك عال قبل أن نصل إلى الشاطئ :سأل بالفضول .. ـ أين حصل ؟

..ـ بالقرب من جزيرة صغيرة خارج البوغاز

رواه له أبوه يتخيل ـ فى جلسته قبالة الجزيرة ـ ما

.. تظهر فى السماء ما النجم ؟ هل هو نجم حقيقى كالتى

.. ليالً ؟لم يعد جزءاً من العالم المحيط . ضاقت عليه األرض

ال شهوة فى . شئ يجتذب انتباهه ال. لم يعد له به صلة . به استوحش من الناس . نفسه ، وال حرص على شئ من الدنيا

اقتصرت . يصوم النهار ، ويقوم الليل . ، وانقطع إلى اهللا يؤدى الصالة ، وينصت إلى . جامع حياته على البيت وال

يجلس ـ . طالت صحبته للشيخ نجاتى . عظات الشيخ يضع يديه على فخذيه كالجالس . بتأدب ـ فى حضرة الشيخ

ال يرفع صوته ، وال يسأل إالّ إذا أذن له الشيخ . فى الصالة ، وال يتناول ما يقدم إليه فى مجلسه إالّ إذا كانت دعوته كأمر

على سماع حتى الهمس من حديث الشيخ ، عود نفسه. وعلى رؤية ماال يكاد يبين من إشاراته ، ويلبى ما يصدر عن الشيخ فى صورة تلميحات ، أو أنه يظهر فى عينيه ، أو

صار الشيخ فى داخله أغلى من نفسه ، يحبه . مالمح وجهه إذا أشكل عليه شئ زار الشيخ . والولدين مديحةمثل حبه ل

يقف على باب الحجرة المطلة على الميناء . فى الجامع

يثق أن رؤية الشيخ صادقة . الشرقية حتى يأذن له بالدخول ، وتوقعاته ال تحتمل الشك ، وطاعته واجبة ، وأمره البد أن

..ينفذ عرف فى نفسه ـ منذ الطفولة ـ تعطشاً إلى درك

خلوته إلى نفسه ، فترات مديحة اعتادت. حقائق األمور ال . وتقصر ، يتفرغ فيها تماماً إلى القراءة والتأمل تطول

يترك البيت إالّ ألداء الصالة فى جامع سيدى أبو العباس ، أو ربما سحب كتاباً من . فى جامع سيدى نصر الدين القريب

المكتبة الخشبية الصغيرة لصق جدار صحن أبى العباس ، كان والزمان ، قطع حباله من الم. يقرأه ، ثم يعيده إلى مكانه

مديحةفال صلة له بموضع غير الجامع ، وال بأحد غير ..والولدين

:زاد من فضوله قول الشيخ حين ألح فى سؤاله ..ـ لن يغادر النجم مكانه حتى يأتى موعد الرحيل

!ـ الرحيل ؟ :احتضنه بالنظرة المشفقة

!ألن ترحل ذات يوم ؟.. ـ رحيلك

عن نفسه ما تعانيه من احتواه شوق عميق ألن ينفض

والولدين مديحة داخله العزاء بأنه يذهب بعيداً عن . تشوش ..لكى يعود إليهم ، بعد أن يسترد نفسه

ال . بذل همه فى أن يفهم إشارات الشيخ وتلميحاته يتكلم ، وال يسترسل فى الكالم ، إال إذا هز الشيخ رأسه داللة

المكاشفة ما لم يملكه أحد تيقن أن الشيخ يملك من . المتابعة من أئمة جوامع الحى وال شيوخه ، وال حتى المتفقهين فى

عليه قبل أن يبدأ رحلة التعرف إلى النجم ، . العلم من أبنائه . أن يخضع نفسه للتصفية ، والتجرد من العالئق الدنيوية

يشغلها باكتساب الصفات المحمودة ، كالصمت والعبادة الصبر والرضا والشكر والحياء والتوكل والزهد والمجاهدة و

شدد عليه بأن يقطع . والشوق والتسليم واألنس والمحاسبة . عالقته بالدنيا والناس من حوله ، يفرغ قلبه من كل شئ

يقتصر على الفرائض والسنن ، يجتهد فال يخطر بباله شئ تنفتح المغاليق ، وتصل إلى قلبه األنوار . إال اهللا سبحانه

..ار واإلمدادات والرحمة والسكينة واألسراستولى عليه . ابتعد عن الناس ، وانصرف إلى العبادة

حرص ، فهو ال يتكلم فى حضرة الشيخ إالّ . سلطان الحقيقة

إذا سأله ، أو دعاه إلى الكالم ، وهو ال يرفع صوته ، وال

جعل الشيخ أسوته ، واتباعه شغله الشاغل ، والسير . يتململ . ه هدفه الذى ال يتحول عنه فى طريق

لما أظهر الخوف حين انقطع التيار الكهربى فى أبو :حانيةالعباس ، وميدان المساجد ، قال له الشيخ فى لهجة

..ـ عود نفسك على الظلمة ، ألنك ستحيا فيها طويالً :دارى قلقه بابتسامة مستخفة

..ـ ما أعانيه ليس مرض موت :ذقنه الشيخ مسد ..هل تكلمت عن الموت ؟ـ و

تحول بأحاديث الشيخ ، . تاقت نفسه إلى عالم الغيب وما روته أمه ، ولقاء النجم المتسربل بالغموض ، إلى رغبة

شدد عليه الشيخ ، فال يمضى إالّ . جياشة فى ركوب البحر ال يتطلع إلى ما قد يعجز . بمقدار طاقته الروحية واستعداده

..فسه بما قد يأتى بنقيض نتائجه عن بلوغه ، وال يرهق ن :قال الشيخ

. ـ أنت ال ترحل إلى دنيا تصيبها ، أو امرأة تنكحها ..رحيلك للبحث عن إجابات ألسئلة تشقيك

يجلس على الكورنيش . كان دائم التردد على المكان . يحاول أن يقرأ أسراره . يتطلع إلى أفق البحر . الحجرى

فى الفراغ ، يلتذ برذاذ األمواج المتطاير يدلى قدميه الحافيتين يرقب البالنسات والفاليك والطيور وغازلى الشباك وهم .

مجرد الجلوس بال عمل ، . يسدون الثقوب فى الغزل المتآكل يهبه اإلحساس بالهدوء والسكينة ، ال يشغله ما يجرى فى

. يطيل الوقفة فى أيام الشتاء .الناحية المقابلة من الطريق يختار أوقات النوات وهطول األمطار واصطدام األمواج

تعروه . بالحواجز األسمنتية ، واندفاعها إلى الناحية المقابلة مشاعر تتمازج فيها القوة والخوف ، والطيور السوداء تعوى

..وتصرخ فى السماء التى تغطيها السحب المتكاثفة قه ما الذى يخفيه البحر فى أعماقه ، وأمواجه ، وآفا

..المترامية ، وغموضه ؟فى ذهنه الكثير من . لم يكن قد رأى أعماق البحر

حكايات عرائس البحر والجنيات والخوارق والعوالم لم يكن على ثقة مما قرأه وسمعه عن أعماق . المسحورة

بالفعل ، أم أنه تعبير حدثالبحر ، وما إذا كان ذلك هو ما

..جميل عن خيال ظ معوض شيخ الصيادين ، وصديق الريس عبد الحاف

أبيه ، تحدث ـ ودخان النرجيلة يختلط برائحة األسماك فى الحلقة ـ عن اطمئنان أرواح الموتى للحياة فى قيعان البحار ، وعن مخلوقات ليست كالتى يراها فى الحلقة ، وال فى

مخلوقات تأكل األسماك والنبات والبشر ، . شارع الميدان تلمسه ، فال يتبقى منه حتى الرماد ، ومخلوقات تصعق من

ومخلوقات تلتقط شخصاً بكامله ، فتبتلعه دون أن تستخدم ..أنفاسها

:قال أبوه !ـ لماذا هذه المهنة الخطرة ؟

:فى لهجة تسليم ..ـ هذه حياتنا

صحبه أبوه إلى األنفوشى وهو صغير ، ليعلمه السباحة فعة التى هوى حتى الص. ، غلبه الخوف ، فرفض النزول ..بها أبوه على صدغه لم تبدل رأيه

:قال له أبوه

..لكنك ال تحاول ركوبه .. ـ أنت ابن البحر

كان يكتفى فى العالقة مع البحر بالوقوف ـ أو يتأمل صيد السنارة ، وصيد . الجلوس ـ على الشاطئ

والنوارس تهبط على األمواج ، تلتقط الطراحة والجرافة ، األسماك المتقافزة ، وغزل الصيد مفرود على بمناقيرها

ظهور القوارب الصغيرة ، والهياكل الخشبية للبالنسات فى البعيدة ، والتقاء أفق البحر وصوارى البالنسات ، (*)القزق

..هل هو النهاية ، فال مرئيات بعدها ؟.. وأفق السماء لما دعاه أبوه ليرافقه فى رحلة إلى الجزيرة بعيداً عن

..خليج األنفوشى ، رفض الكورنيش . لم يكن يتجاوز شاطئ البحر إلى داخله

كان .الحجرى ، أو رمال الشاطئ ، هما غاية صلته بالبحر ..المجهول ويخشى المجازفة

قبالة حلقة السمك . ألف الجلوس على مقهى الصيادين يتأمل حركة البيع والشراء ، والطبالى ، وألواح الثلج ، .

ت الفريشة ، واألعمدة الرخامية ذات الطراز الرومانى وعربا، والسقف ذى الكمرات الحديد ، والكراسى ذات القيعان المجدولة من الخوص ، وضربات النرد على الطاولة ،

وصيحات العبى الكوتشينة ، وروائح البخور والمعسل

..والتمباك ، وصرير عجالت الترام فى انحناءة الطريق تحولت الرغبة الضبابية . إلى فكرة الرحلة ظل مشدوداً

ولد النجم يوم والدته ، . إلى عزم ثابت ال يستطيع دفعه . البداية الواحدة تمضى إلى النهاية الواحدة . لحظة والدته

..هو قادم من نجمه ، والبد أن يذهب إليه بدت الطريق وحيدة ، البد أن يمضى فيها كى يعود إلى

لم يكن يملك ما يفعله . ، ويعود إلى نفسه ، والولدين مديحة..

تيقن أنه ال يملك إفشاء سر الرحلة ، إالّ أن يأمره الشيخ ذن بأن يخبر من إللم يجاوزه إلى ا. اكتفى الشيخ بما قال .

..حوله باستعدادات الرحلة هو يطلب ما . لم يكن ما يطلبه أسراراً وال وصايا

..ينه على حياة أيامه ينقذه مما يعانيه ويؤلمه ، ويعهل هو هاتف حقيقى ، نداء عليه أن يلبيه ، أو أنها

..ربقة سحر قيدته ، فال يملك التخلص منها ؟ ــــــــــــ

ورش المراكب= القزق *

يهاب القبانى إلى باب الحجرة ذات السقف العالى إرافقه أسلم نفسه لطمأنينة جاوزت الزمان . هرة اواألضواء الب

..ن ، فعزلته عن كل شئ والمكا عن الطريق مديحةيهاب فلم يتحدث إلى إشدد على

لم يكلم . الوحيدة ، أفضت إليها طرق متعددة ، مسدودة الخوف ـ وربما الفضول ـ يطرح . فى نية الرحلة مديحة

..أسئلة ال نهاية لها .. لماذا ؟ وكيف ؟ ومتى ؟ : األسئلة ..ا أحد ـ ال معنى للرحلة إذا صحبنى إليه

:ثم وهو يحاول السيطرة على انفعاله .. ـ شرط الرحلة أن أسافر بمفردى

:يهاب القبانى إقال ..بالغها إدع لى أمر .. طريق الشفاءـ مادامت هذه

:وتهدج صوته بصدق مشاعره ..وهى تثق بى .. ـ أنا أخوها

:ثم بنبرة ملونة ..ـ وبك أيضاً

:وقال له الشيخ وهو يودعه

ال تعد قبل أن تلتقى .. مض فى الطريق إلى نهايته اـ !بنجمك

: الشيخ متذكراً استطرد ..ـ ال تخض البحر بقارب يعجز عن الفهم

:رفع عينيه متسائالً ..ـ هل القارب هو الذى

..ولم يكمل كالمه

كان واقفاً ينتظر على السقالة الموصلة إلى البالنسات إلى يمين المسجد الصغير . الدناجل واللوتسات والفاليك و

وإلى اليسار ـ امتداد . ومعهد األحياء المائية وقلعة قايتباى تفرقت القوارب مبتعدة . البنايات إلى السلسلة فى مدى األفق

إلى الميناء الشرقية ، وإلى خليج األنفوشى ، وبعيداً إلى ما ان تتناهى إليه أصوات الواقفين على اللس. بعد البوغاز

صيادين وغازلى شباك : الخشبى الممتد داخل البحر وثمة شباك منشورة لتجف على حبال . ونجارى سفن

..ممدودة بين المراكب الراسية على الرمال

:قال له إيهاب القبانى

..ـ سأصحبك إلى الكابتن :رمقه بنظرة متوجسة

..ـ من هو ؟ه اسماً ال يعرف الناس ل.. الكابتن .. ـ هذا هو اسمه

..آخر :وهز قبضته فى تأكيد

..ـ لن يعدك لهذه الرحلة سواه ـ هل هو من رجال البحر ؟

:عال صوت القبانى بضحكة منفعلة ..ـ قل هو البحر نفسه

قامة .فى حوالى الخامسة والخمسين . له قبول احتواه طويلة أقرب إلى النحافة ، وبشرة سمراء اصطبغت بلون

تتخلل رأسه شعيرات . اد مقوس قليالً نحاسى ، وأنف حبيضاء ، تطل من عينيه السوداوين العميقتين نظرة هادئة ، ويعلوهما حاجبان مثل هاللين صغيرين ، ويتدلى شارب رفيع على جانبى فمه ، وثمة أثر جرح ممتد من أسفل الذقن

يرتدى قميصاً أسود ، ثنى أكمامه ، فكشف عن .إلى العنق

، وبنطلوناً قصيراً ، ينتهى عند الركبتين ، ساعدين قويين

الحظ تداخل سواد فى بياض أسنانه ، . وحذاء من الكاوتش . وكان يدس يده فى جيبه . فخمن أنه يكثر من التدخين

..يتأمل الوقت ، ثم يعيدها . يخرج ساعة بكتينة ..ـ الكابتن ؟ ..ـ أنا هو

وأخرج ـ من جيبه ـ مشطاً ، تخلل به شعره ، ..وأعاده إلى موضعه

وجه مستطيل أبيض ، : حدجه الكابتن بنظرة متأملة . عينان واسعتان ، يطل منهما حزن . وإن مال إلى الشحوب

أنفه الصغير ال يتسق مع اتساع عينيه ، وغلظة شفتيه ، وثمة شامة بنية أسفل خده ، والسنة األمامية ناتئة بصورة واضحة

.. .. تصورتك أكبر سناً منى ـ لما كلمنى إيهاب عنك

:هز رأسه بما يعنى عدم الفهم ـ لماذا ؟

:وهو يهرش قفاه ، ويحدجه بعينين متأملتين ..ـ ما عانيته يكفى لحياة شيخ

:انتزع ابتسامة فاترة

ـ أنا سنبلة قمح داخلها خواء ، وإن ظلت القشرة ..متماسكة

ظرة أغمض عينيه لداللة التعبير ، ثم اتجه إليه بن :متسائلة

ـ ماذا تريد أن تتعلم ؟ ..كل شئ عن البحر .. ـ كل شئ

:تأمله بنظرة متفحصة ..لن تصبح صياداً .. ـ كما أرى

:فى لهجة تقريرية ..ـ أريد أن أركب البحر

:انعكست الدهشة فى نظرته !..ـ بحار ؟

..أراد أن يروى ما يعانيه ، لكن أمر الشيخ أسكته أتعلم الحياة فى البحر ؟ـ مجرد أن

:أردف فى لهجة باترة ..ـ أريد أن أركب البحر

تأمل الكابتن رجالً عارى الصدر ، وضع شعلة النار

قال . انطلق أمامه لسان من اللهب . بالقرب من فمه ، ونفث :

؟المسافرخانةـ تعرف ..ـ أمر بها أحياناً

العشاء تجدنى بين المغرب و.. سأل عن قهوة حودة اـ ..

تابع المناقشات والفصال والمساومات والتعاقد على الشروات وركوب البحر ، وتوقعات الحرارة والبرودة

اكتفى باإلصغاء . واألمطار والرياح والنوات ومناطق الوفرة ينشغل الرجل فى أحاديث ال تنتهى ، تشمل كل . فال يتدخل

والرحالت يروى قصص البحارة ، . ما رآه فى البر والبحر البعيدة ، والصيادين الذين غالبوا توالى ارتفاع األمواج ،

يجيد . والنوات ، واألسماك المتوحشة ، وحيوانات الماء يعيد الحكايات فى . غزل الخيوط بما يجتذب السامعين

ينسب بعض . قعدات تالية ، يضيف ويحذف ويحور قد رأى الحكايات إلى نفسه ، يبين من كلماته وتصرفاته أنه

غرائب . الكثير ، وعاش الكثير من لحظات االنفعال

وخوارق يقسم أنه لم يكن يصدقها لوال أنها جرت معه ،

وكانت . وعانى تأثيراتها ، ورآها رؤية العين ، وعاشها ..األمور تستوى فى نظره ، فهو ال يأسف على شىء

يتكلم يجيد الحكى ، وكان . لم يكن يشعر حتى بوجوده واثقة ، فهو يجبر الملتفون من حوله على أن يكتفوا بنبرة

ربما . يبدأ بالعبارة التى تلفت االنتباه .باإلنصات والموافقة مجرد طرف . التقط حادثة ليست هى البداية لما ينوى روايته

يختار . خيط يصله ببقية الخيوط ، بما يدفع إلى المتابعة . المنتبه والمتابع يشغله الصمت . يثير األسئلة . الوقفات

ربما دخل المقهى مجموعة بحارة ، تعلو أصواتهم بلغة ال ..يفهمها ، يتجه إليهم الكابتن باللغة نفسها

يقوم . كان يتردد ـ وقت الظهر ـ على قهوة فاروق يرفع إصبعه ، . من جلسته فى القهوة إن لمح قدوم جنازة ل المشاركة فى ويتلو الشهادتين ، ثم يندفع أسفل النعش يحاو

. خطوات ويعود . حمله ، ليكسب ثواباً يشفع له فى آخرته يلقى السالم ، أو . يلقى السالم ، ويمضى قبل أذان العصر

يلبى . يرد عليه ، أو يهز رأسه رداً على هزة رأس مماثلة ربما طال سيره مع . الدعوات فى داخل القهاوى والدكاكين

لم يعرف من كانوا معارف .صديق التقى به على الكورنيش

يحادث الجميع كأنهم أصدقاء . الرجل أو أصدقاؤه القريبين ينهى اختالف المناقشات . قدامى ، بينه وبينهم مودة عميقة

وتصلح ، ـ إن احتدت ـ بمثل يبدو وجهة نظر مناسبة وكان يشرد أمام المناقشات التى تتناول أموراً دينية . لالتفاق

..الة الجمعة فى أبو العباس يكتفى بأداء ص، وأدهشه أن الكابتن يستطيع التعرف على جنسية بحارة السفن األجنبية ، أو السياح ، بسحنهم المختلفة ، ورطاناتهم

المالمح والتصرفات . التى ربما تغيب عنه هو نفسه ..حتى تعبيرات اليدين يبنى تخمينه بتوقعها . وااليماءات

ء صالة الجمعة ـ إلى متحف صحبه الكابتن ـ بعد أداأطاال الوقوف أمام األحواض الزجاجية ، . األحياء المائية

سماك ال حصر لها األتسبح فيها أشكال وتكوينات وألوان من ..

يطل على شارع الدخاخنية . زار الكابتن فى بيته فى أسفل دكاكين لبيع الذهب . المتفرع من شارع الميدان

: ، وثمة أصوات متصاعدة عطارة والعطور واألقمشة وال

طالعه على باب الشقة حلقة . نداءات وصيحات ودقات خافتة وفى المدخل علقت هياكل محنطة . من األصداف والقواقع

ألسماك ، وألجساد تشبه أجساد البشر ، واستندت إلى وعلى الجدار ، لوحة صياد . الجدران رماح ، وحراب

الجدار ، فوق باب الحجرة طراحة يلقى شبكته ، وفى امتداد ..الوسطى ـ هيكل لسمكة هائلة ، لعلها القرش

تناهى ـ من وراء الحجرة المواربة ـ صيحات أوالد ..وبنات

:قال لمالحظته الصامتة ..ـ خلفتى من ثالث نساء

:وأطلق من فمه ضحكة مبتورة ..ـ أحل اهللا الزواج من أربعة

كنه أدرك أن الجدية كان يتصور فى كلماته سخرية ، ل ..حقيقية التى يتحدث بها

لم يسأل الرجل عن وظيفته ، وإن عرف من كالمه إنه ، يتكلم عن البواخر الهائلة . يعمل فى رصيف إصالح السفن

، وتحويل البواخر إلى خردة ، وعمليات الترميم واإلصالح

وفهم إنه يجيد . وانتشال السفن الغارقة ، ووسائل اإلنقاذ

غيل أنواع المراكب ، البالنس واللوتس واللنش والفلوكة ، تشويجيد صيانتها وإصالحها ، وربما ابتكر قطعاً بدالً من التالفة

.. قلّب الكابتن أمامه ألبوماً هائالً يحفل بصور المحيطات والبحار والحيتان والدرافيل وأسماك القرش واألسماك العادية

..لع صورها حتى أسماك الزينة الصغيرة طا. حين سأله عن عدد الرحالت التى ركب فيها البحر ،

ثم هز رأسه داللة عدم . أغمض عينيه فى محاولة لالستعادة ..التذكر

نصحه بأن يكثر . دعاه إلى أكلة أم الخلول بالحباش :قال البتسامة متخابثة . من تناول االستاكوزا أو الجمبرى

هم أنها تمدك بشجاعة الفائدة األ.. ـ ال أقصد الجنس ..مطلوبة

:استطرد كأنه يوضح ما قال ..ـ لن تصحبك إالّ الشجاعة فى ركوب البحر

:وهرش ذقنه بطرف إصبعه

ـ أصارحك بأن عملى فى البحر دفعنى إلى التظاهر

..بما ال أقوى على احتماله :وارتعش صوته باالنفعال

..قدها ـ لما ماتت أمى لم أستطع أن أظهر حزنى لف :وأرخى جفنيه

كنت قد قلت . لكننى تماسكت .. ـ فكرت فى أن أبكى !..للصيادين إن الرجل الحقيقى ال يبكى مهما يحدث

أذهله ما يعرفه الرجل عن الكثير فى السماء ، والبحار بدت السماء . ، والمحيطات ، واألعماق ، واألسرار المثيرة

بحار بال أعماق ، ـ فى ضوء معرفته ـ بال حدود ، والخيل إليه أن . واألسرار المغلقة صفحات فى كتاب مفتوح

الرجل قاس أعماق البحر إلى نهاياتها ، وقرأ أسرارها ، بدا على معرفة بكل .وتعرف إلى كل ما تحويه من أسماك

الجزر ، ومناطق الوفرة والجدب ، والشواطئ من األنفوشى ..إلى السلوم

السنارة ، : ر ، ووسائل الصيد طرق اإلبحاكلّمه عن والكنار ، والبوصة ، والشراكة ، والطراحة ، والجرافة ،

األسماك التى تستطيع الطيران ، وعن نذر األنواء ، و

وتتسلق الشجر ، وتحدث الصدمات الكهربائية ، وتؤدى

حتى األسماك التافهة شوكاتها إلى الموت ، حتى وهى ميتة ، البساريا ، السيفوليا ، الكحلة ، الشرغوش ، المغازل ،:

الحيوانات المائية ، الهائلة ، تبتلع البالنسات وكلمه عن سفنج والطحالب إلوعن ا. والبواخر الكبيرة بمن فوقها

وكان ينصح . والقواقع واألصداف والقنافذ والسالحف بطحالب عالجاً لألمراض ، وطرداً للديدان ، ويجيد صحن

.حول إلى مراهم تداوى الجروح تت. األعشاب وخلطها الدود يأكلنا بعد . ويجد فى الملح غوالً يدمر كل ما يصل إليه

يأكل حتى جدران . الموت ، أما الملح فيأكلنا فى الحياة ..البيوت واألثاث والقضبان الحديدية

. فرق ـ للمرة األولى ـ بين مواعيد األنواء وقوتها ى الريح والمطر والبرد فيستدع، نوة : يستمع إلى القول

. نوفمبر ، تستمر خمسة أيام ١٧نوة المكنسة فى . القارص ديسمبر ، تستمر خمسة أيام ، الفيضة الصغرى ، ٥قاسم فى

عيد الميالد ، أو الفيضة . ديسمبر ، تستمر خمسة أيام ٢٠ ١٩ يوماً ، الغطاس ، ١٢ ديسمبر ، تستمر ٢٩الكبرى ،

يناير ، تستمر سبعة ٢٨الكرم ، . م يناير ، تستمر ثالثة أيا

فبراير ، تستمر ثالثة أيام ١٨نوة الشمس الصغيرة ، . أيام

نوة العوة ـ ما بعدها . مارس ، تستمر يومين ٢السلوم ، . .. مارس ، تستمر ستة أيام ٢٤نوة ـ ،

كان الكابتن يملك قرار النزول إلى البحر ، أو لزوم يعرف قوة النوات قبل . الشاطئ البر ، فتظل البالنسات على

يطيل تأمل السماء ، والتنصت لصوت الهواء . مجيئها :يقول فى هدوء . والريح

..ـ اركبوا البحر :ربما تبين مالمحه عن التأثر وهو يقول

..ـ ال تركبوا البحر ينزل الرجال البحر ، أو يمتنعون عن الصعود إلى

..ذها كلماته وصايا يجب تنفي. البالنسات روى إيهاب القبانى عن مواجهته لهياج البحر ، إن

..خشى اآلخرون التصدى لتقلباته وأحواله قال الكابتن إنه ال يذكر من أطلق عليه التسمية للمرة

حتى فى . األولى ، لكنها التصقت به ، كأنها اسمه الحقيقى بها وكانت هى التسمية التى يقدم . البيت كانوا ينادونه بها

عرف أن أباه كان فتوة السيالة إلى حدودها مع رأس .فسه ن

ورث مهابة . التين ، والمنطقة التى تلى ميدان أبو العباس

. تواصلت أعوام ركوبه البحر . أبيه ، وإن لم يرث مهنته يعود محمالً بالحكايات ، . يسافر إلى الموانى والمدن البعيدة ظ أنه لم يبدل ارتدائه الح. وبما يعين الصيادين على أيامهم

يكتفى ـ فى األيام الباردة ـ بوضع ما . للقميص والبنطلون ..يشبه الفانلة من قماش قلوع المركب تحت القميص

:قال الكابتن ـ إن مياه البحر ليست مجرد شئ نستعمله ، أو نستمتع

..إنها حياة .. برؤيته :واتجه إليه بعينين متأملتين

ـ هل تحب البحر ؟ :ارتبك لمفاجأة السؤال

..ـ هل هناك من ال يحب البحر ..ـ أقصد أن يصبح البحر حياتك

أنصت ـ بالدهشة ـ لما رواه إيهاب القبانى من أن . الكابتن أوصى بأن يدفن ـ بعد موته ـ فى مياه البحر

البحر بيته الحقيقى الذى ال يتصور ـ حتى بعد الموت ـ أنه

سماك التى يحبها أفضل من أن تأكله يفارقه ، وأن تأكله األ

..الديدان التى يكرهها : قرأ فى كتب الجغرافيا العربية ، وكتب الرحالت

عجائب المخلوقات ، نخبة الدهر فى عجائب البر والبحر ، خريدة العجائب ، آثار البالد ، حديث السندباد القديم ، سندباد

لفيل قرأ حكايات البحارة أحمد بن ماجد وم. عصرى والسندباد والنساء المعلقات من الشعور إلى األشجار ، يرددن

إذا أثار المشهد !.. تبارك اهللا الخالق .. واق واق : القول أهمل . من يحاول فصلهن ، لفظن األنفاس فى الحال

يتأمل ما . الصفحات التى لم يجد فيها ما يهمه ، أو ال يفهمه أكلة : لمشاهد واختلطت تشابكت ا. يجد أنه يفيده فى رحلته

للحوم البشر ، يعلقون من يقع فى أيديهم منكساً ، يقطّعونه ، تنين تصدر النار من فيه ودبره ، فتحرق كل ما .. ويأكلونه

حيوانات هائلة األحجام واألشكال ، تضرب المراكب .. تلقاه حيات تبتلع األفيال ، وتبتلع كل ما .. بذيولها ، فتغرقها

.. بشر واألسماك والقوارب الصغيرة بما تحمله ال: تصادفه طيور تغطى أسرابها وجه الشمس ، ترفع الناس فى مناقيرها

سالحف ضخمة ، إن لم تغادر أماكنها ، .. أو مخالبها

براكين تمور فى .. يتصور من يراها أنها جزيرة فوق المياه

األعماق ، تقذف حممها ، تبتلع المراكب والجزر والشواطئ ..

ما سر فهم الكابتن لخصائص : عرف جواب السؤال األعشاب ، حين الحظ تردده على دكاكين سوق الترك

يدخل فى مناقشات ودعابات ، ويصرخ . القريب من بيته ..صوته بالغضب ، ويعلو بالضحكات المقهقهة

. ل على حرصه بأن يخفى باعث الرحلة فى نفسه ظ، وعن الرحلة اكتفى بأن يحدث الكابتن عن رغبته فى

خفى حتى نصائح أ. األعراض الغريبة التى ال يدرى سرها بدا الكابتن محباً للحياة ، فهو سيرفض فكرة . الشيخ نجاتى

..الرحلة ـ إن عرف باعثها ـ من األساس

انزلق ـ ببطء ـ من جانب القارب ، حتى ال يتناثر ..الرذاذ

قفته على تلفت نحو الكابتن فى و. تقدم فى المياه عاود التلفت عندما غمرت . الشاطئ لما غطت المياه ساقيه

توقف تماماً ، واتجه إلى الكابتن . المياه بطنه وصدره وعنقه

..أشار إليه الكابتن ، داللة أن يسبح . بنظرة متسائلة حرك ذراعيه وساقيه ، . دار حول نفسه دورة سريعة

..بما يتيح لجسده العوم فوق الماء يتأمل البحر ، يحاول تخمين ما يحدث تحت كان

..سطحه ، سواء كان هادئاً ، أم تعلو أمواجه :وحك جبهته بظفر إبهامه

فى األعماق عالم ال يقل .. ـ البحر ليس هو السطح ..األرض صخباً عن عالم

:وقطب حاجبيه ت الماء ال يعنى أنه غير ـ عدم رؤيتنا لما تح

..موجود :ليؤكد المعنى ومط صوته ربما نركبه ، ونصطاد منه ، ونسبح فيه .. ـ البحر صديقنا

إنه مثل األسد الذى اطمأن . لكن صداقته غير مضمونة .. ..ألوان غدره بعد فوات تبينإليه مربيه ، ثم

أحواله ، وطرق : طالبه أن يختبر من أمر البحر بنفسه ..ص الصيد ، وصناعة القوارب وكيفية تسيرها ، والغو

قدميه تدلى افتر فمه عن ابتسامة مشفقة ، وهو يلحظ

:فى الماء مكة شقية فى رجلك ما يغرى ـ ربما وجدت س

!بالعض :ثم لون صوته بنبرة جادة ..هناك القناديل .. ـ ال تنخدع بهدوء البحر

حدثه عن األجسام الهالمية المتناثرة على امتداد الساحل ..حتى شباك الصيادين تمزقها . ، تحرق الجلد بمالمستها له

رفض . لم يستطع أن يتخيل ميادين وشوارع وأبنية تصور حتى مدن عرائس البحر والجنيات ، كما فى الحكايات

عن عرائس ت قد تحدثأمه تكان. التى قرأها ، واستمع إليها يقترب من حيث . البحر ، تغرى ضحاياها بالشدو الجميل

مات القاسية إلى أعماق البحر ، تجتذبه الدوا. جاء الصوت حتى حكايات السندباد لزمت اليابسة وسطح البحر . فال يعود

تحددت صور التخيل فى غابات . ، ولم تهبط إلى األعماق وأحراش وصخور وبراكين وأسماك صغيرة ، وهائلة ،

..الحجم

حين دفع إليه الكابتن بالكراسة الصغيرة ، ساعده على

ا الخط الواضح المشكول ، ربما ليعفيه من قراءة مفرداتهكل مفردة لها ما يقابلها من لغة ، سيم . عناء القراءة الخاطئة = الحبل .. البوغاز = مدخل الميناء : ، البحارة والصيادين

الصارى الكبير .. صبرصه = ربط أطراف الحبال .. لبان الصارى.. ميزان = أحد صوارى السفينة .. جراندى =

العود الخشبى لربط .. تراكيت = القريب لمقدمة المركب قطعة الخشب لدفع المركب فى المياه .. قاريه = الشراع قرينه = أسفل السفينة الغاطس فى الماء .. المدرة = الضحلة

قطعة معدنية تثبت فى حافة سور القارب ، وتستخدم .. طرف = ِترناق .. الركاب ، أو الجاليه = لتثبيت المجداف

= نزال المرساة إلى أعماق الماء إ.. المرساة الخطافية الشكل جسم عائم فى .. قلفط = لواح المركب أسد شقوق .. فوندا

اإلبحار من نقطة ما .. شمندورة = الماء إلرشاد المراكب سيه = عودة المركب إلى الوراء .. بولطة = والعودة إليها

البرواز الخشبى ، .. ى التراك= مالمسة المركب للشاطئ .. أومن الحبال ، أو الفلين ، تبطن به أرصفة الرسو لحماية

الفندر ، = السفينة من االحتكاك المباشر بالرصيف الخرسانى

.. السنجق = اليمين .. الدشور= المياه الغريقة .. التكاية .. أجانتا = امسك .. بيرة = اسحب .. السقالة = الشمال

مقدم السفينة .. كاورته = سطح السفينة ..الضمان = الدفة = عجلة القيادة .. األش = مؤخرة السفينة .. البروة =

عمود نقل الحركة من .. دفة = أداة توجيه السفينة .. دومان = الهلب .. عمود الرفاص = الماكينة الرئيسية إلى الرفاص

نة أحد جانبى السفي.. االباندا = اآلخر أو النهاية .. المخطاف القارب الصغير .. سنجق أالباندا = يمين لآلخر .. البنده = .. كيك = القارب الصغير السريع .. كوتر أوفلوكة =

القارب الشراعى الكبير ـ .. لنش = القارب البخارى القارب .. لوتسو = يستخدم خاصة فى صيد السردين

المركب الكبير باألشرعة واآللة .. ويلر = مسحوب الطرفين = السمك الكبير .. الماجة = ثقوب الشباك .. البالنس =

= طى الشراع وربطه .. الدور = السمك الصغير .. العفر .. لَلْسكه = إرخاء حبل حتى ال ينشر الشراع .. استنجه

= حواجز صد األمواج .. مانيه = خفض شئ ما فى السفينة = ارتداد المركب ، أو تغيير اتجاهه ، أو سحبه .. مولص

األمر برفع .. ألسطه = استعداد المركب لإلبحار .. هاله

= اإلذن بمخالطة أهل المركب ألهل الشاطئ .. إيصا = شئ

االستفادة .. بوجى = االستفادة من الريح المواتية .. براتيكة السير بالسفينة الشراعية .. قورصه = من الريح المعاكسة

همك = ألرجوحة فراش معلق كا.. التبليط = فى خط متعرج حاجز من قماش الخيام .. يطَق = فراش يرقد فيه البحار .. رئيس المالحين ، أو المالح المكلف .. ورده صوله =

..يلكنجى = بتشغيل األشرعة . قرأ عن الطائر الهائل ، يهبط على راكب السفينة

يأخذه بين مخالبه ، ويطير إلى حيث ال يدرى أحد ، وربما .. حدى الجزر المتناثرة فى البحررمى به على إ

إذا تنبهت إلى تردده ، . حذره الكابتن من حيات البحر أو خوفه ، تقافزت عليه ، فال تتركه إالّ بعد أن تحيل جسده

ذا سبقت نظرتها نظرته ، مات من إوتحدث عن حية . ثقوباً . وحذّره من سالحف بحرية تجيد االختفاء والتسلل . فوره

من ركوب البحر بمفرده ، أحاطت به تنهشه ، ال إذا تأكدت ..تبقى حتى العظام

عرف الكثير من حكايات البحر ، والموانى ، وعرائس البحر ، والصيادين ، واألسماك المتوحشة ، وتقلبات األحوال

، والدمار الذى تسببه النوات ، لكن البحر ظل ـ فى باله ـ

..ؤى الباهتة غامضاً ، محاطاً بالرهبة والغموض والر

:قال الكابتن وهو يتفحص السمانة بين أصابعه ..ـ هذا نوع من السمان تكفى نفخة فم إلسقاطه

:ومط شفته السفلى ..ـ لكن طعمه أقل حالوة

مد . كان قد تنبه إلى ارتطام السمانة بالقارب المقلوب :يده فتناولها

!ـ لم تحاول أن تهرب الصافية فيما عدا نتف من كان قوس قزح يعلو السماء

السحب البيضاء ، المتناثرة ، وتكسرات األمواج تترامى على الصخور القريبة ، وجحور حفرتها الكابوريا ، وقناديل ميتة ، وبقايا أعشاب وطحالب ، والطيور تلمع كالومضات

تلتقط األسماك وتعلو ، وثمة فلوكة تجر . السريعة فوق المياه المتباطئ ، الطراحة فى عومها

تعلم كيف يحتفظ بالقارب سليماً ، أياً تكن الرياح

التأكد من سالمة معدات المركب ، . واألنواء التى تواجهه ومعرفة حركة الرياح والتيارات ، ومواعيد النوات ،

تعلم . واالطمئنان إلى سالمة البوصلة ليعرف إلى أين يذهب جذبه بحبل إلى ي. كيف ينزل من القارب فى األرض الضحلة

وتعلم . الشاطئ ، ثم يربط الحبل بوتد مغروس فى األرض طفو األعشاب : كيف يقيس عمق المياه بالتحديق فيها

والطحالب ، وحركة أسراب السمك ، وتباين األلوان بين حركة المد والجزر ، عرف. الشفافية وكثافة الزرقة تيارات ، وردود أفعالها ، وتأثير الودورات هجرة السمك ،

وانعكاسات األعماق فى اختالف وتقلبات األمواج عليها ، كل . ألوان السطح بين سماوى وأزرق فاتح وأزرق داكن

لون يبين عن اختالف العمق ، ونوع القاع ، وما يضمه من ، وأماكن التجمعات والوفرة أسماك وأعشاب وطحالب

ره حذ. تعلم كيف يمسك بالدفة ، وكيف يديرها . والجدب من أنه إذا تاه بالقارب فقد يمضى إلى حيث ال يعرف أحد ،

..وال يعرف هو نفسه

حين يبدأ رحلته لن . حتى نشر الشراع وطيه ، تعلمه

يركب سوى لنش ، لكن الرجل حرص على تعليمه كل ما ..يتصل بالبحر ، ألن ذلك هو ما طلبه

صرخ باأللم ـ فى اليوم األول ـ لتقلص فى سمانة فقد القدرة على . حرك الساق ومشط القدم وهو يتأوه . اق الس

انتزعه الرجل من الماء ، ودلّك سمانة الساق . السباحة ..بسرعة ، حتى اختفى التقلص

كانت تعرو ركبتيه ـ فى بدايات التعلم ـ رعشة ، تهتزان فال يقوى على إسكاتهما ، تخذالنه ، وتهويان به إلى

، ويبذل جهداً للسيطرة على فمه يكتم الصرخة فى . أسفل ..جسده ، ويتمنى الخالص من الموقف على أى نحو

ميل : أبدى مالحظة ، فاعتبرها الكابتن أمراً مألوفاً تعلو المياه إلى حافته ، فيبدو كأنه . القارب إلى الجانب

..يغرق أفق المياه الالمتناهى ، : ألف السباحة ، ومجال الرؤية

متناثرة ، والشريط الرمادى الساحلى يبين ـ والبالنسات العند اقترابه من الشاطئ ـ من البيوت المتالصقة فى امتداد

من انحناءة الطريق إلى سراى رأس التين ، إلى ،الطريق

.انحناءته فى دوران الترام أذهلته السمكة الكبيرة ، تلتهم ما يصادفها من أسماك

..صغيرة ، ثم تواصل العوم : الكابتن قال له

حتى تأكلنا .. الكل يأكل الكل .. ـ هذه هى الحياة !..األرض فى النهاية

لم يجد فى كل من تحدث . لمح بما رواه الشيخ نجاتى أبدوا عدم الفهم ، فأمسك . إليهم من سعى إلى رؤية النجم

سره الذى . رواه الرجل سر خصه به ما. عن اإلفاضة ..ر السر وبينه الشيخ وسيط بين مصد. يخصه

إذا جاء ، فمن . حذّره الشيخ نجاتى من توحش النجم ..الصعب أن نتنبأ بما يحمله

:هز رأسه بما يعنى الفهم ..ـ أنا أمتلك عناد أمواج البحر

ينظر . كان الكابتن يعرف اتجاه القارب دون بوصلة ثم يشير إلى االتجاه . إلى موضع الشمس ، وحركة األمواج

..الصحيح

:لة ئقال لمالحظته المتساهل تحتاج إلى بوصلة للسير فى .. ـ هذه خبرة عمر

!..بيتك ؟ :وتهدج صوته بصدق مشاعره

ليس مجرد مياه وسماء . كذلكـ البحر عندى ليس ..وأتعلم منه .. أنا أسأله وأناقشه . ومراكب وأسماك

:وألقى برأسه إلى الوراء مغمض العينين والبحر .. من قبل أن تنشأ األرض ـ البحر موجود

وأسراره ـ .. يصل إلى كل مكان ، ويحتاج إليه كل البشر !..حتى اآلن ـ ال نهاية لها

:وأحاط جبهته بأصابعه ـ أودعت رأسى أسراراً كثيرة ، ثم أغلقت عليها ،

..وقذفت بالمفتاح فى البحر :ثم فى لهجة تأكيد

..بحر ـ تستطيع أن تتعلم الكثير من ال :ورفت على شفتيه ابتسامة غامضة

ـ قبل أن أعتزل ركوب البحر ، كنت أتمنى أن أموت ..فى الغميق البعيد

:وهز رأسه

..ـ كنت سأدفن فى المياه حسب القوانين :وتداخلت فى صوته بحة

..ـ السمك أفضل من الدود :تمتم بما يشبه الهمس ..ـ أطال اهللا عمرك

:ين متأملتين اتجه إليه بعين ـ تحب البحر ؟

:قال ..ـ طبعاً

..وإنما تخشاه.. ال تكرهه .. اً ـ ينبغى أن تخشاه أيض :أضاف فى لهجة مشاركة

..ـ البحر مثل األب ، نحبه ونخشاه

أشعة الشمس تميل على . اختار الصباح موعداً للصيد ..سطح الماء ، فيسهل تبين األعماق القريبة

:قال الكابتن

..ـ أنت ال تستطيع أن تصيد السمك من الطبق

:وعبر بيديه ..ـ البد أن تلقى بالسنارة فى الماء لتصيد السمك

:وتعكرت نبرات صوته ..ـ الصيد حرفة الفقراء وهواية األغنياء

:استطرد فى مرح متكلف ـ الصياد المحترف يشغله أن يمتلئ الغلق ليكسب من

ربما أعاد األسماك التى اصطادها إلى الهاوى .. بيع الشروة ..الماء ثانية

:انتزع ابتسامة هيئة ..أنا أتعلم .. ـ أنا ال هذا وال ذاك

:هز رأسه مؤمناً ..ـ صيد السمك غية

:وطرقع بإصبعين ..ـ لكنه علم وفن كذلك

:وحدجه بنظرة طويلة ، كمن يتأمل وقع كالمه ..لغية تطلب الحب لكن ا.. ـ سبوبة الصيد ال تعنيك

لم يسأل إن كان هناك باعة ألدوات الصيد غير دكان

امتألت باألجولة وعلب الكرتون والقصبات . وكالة الليمون والسنارات ، واندلقت على الرصيف مجموعات الدوبارة والخيوط النايلون والحبال وغمازات الفلين وتقاالت

..الرصاص واإلسفنج وبراميل القطران رة األولى ، اشترى البوصة السنارة والطعم ، ثم فى الم

علمه . اقتصر ما يشتريه ـ فيما بعد ـ على الطعم وحده الكابتن كيف يحسن اختيار الخيوط ، فال تنقطع وهى ترتفع

لكل منطقة أنواع من األسماك ، ولكل نوع خيط . بالسمكة ..يستخدم لصيدها

:قال الكابتن ..ـ اآلن ، نبدأ الصيد

:أردف فى لهجة مهونة و ..ـ صيد السنارة ال يحتاج لالبتعاد عن الشاطئ

راقب اندفاع األسماك . نثر قطعاً من الطعم فى الماء دفع ، تلتقط الطعم وهو يهبط إلى القاع ، أو وهو ننحوها ، ت

يستخدم األسماك الحية والميتة والجمبرى .يعوم على السطح ربما تقطع . و العجين الصغير ، أو الطعم الصناعى ، أ

يغطى السنارة . السمكة المتوسطة الحجم قطعاً صغيرة

..بالطعم ، فال يظهر جزء من السنارة ، يبعد السمكة عنها . صبعيه ، وطوح البوصة بقوة إترك الخيط ينساب بين

اتسعت دوائر الماء فور سقوطهاكان يرقب أسراب السمك وهى تلتهم الطعم المتناثر فى

، يطفو على السطح ، أو تلتقطه األسماك وهو يهبط الماءيخفق فى . يصبر على اهتزاز البوصة فى يده .إلى القاع

يظل فى جلسته حتى يطمئن إلى ما علق . اجتذاب السنارة السمكة ال تحاول التقاط الطعم بمجرد . بالسنارة ، فيجتذبها

، بالذات فى سكون سطح البحر. تعرف الحذر . رؤيتها له لم يعد السطح . ربما انقضت على الطعم إذا تحرك الموج

. ربما العبت الطعم مثلما يالعب القط الفأر . حصيرة إذا . تتركه ، وتعود إليه ، قبل أن تقدم على التهامه . تناوشه

بدت السمكة ـ من شدة جذبها ـ كبيرة ، عليه أن يرخى ..الخيط الخيط لها ، فال تجذب الصياد نفسه ، أو تمزق

:قال الكابتن ..ـ صيد السمك ليس سهالً كما يبدو

:ذبها بيده ، وأردف . وتنبه لذبابة على أنفه

..ـ يعلمك الصبر أفضل مما يطعمك السمك

:ثم فى لهجة ذات معنى ..ـ تحتاج إلى صبر كثير فى رحلتك

تهتز فى تنتفض فى السنارة ، وهى تأمل السمكة وهى دأ حركة الزعانف واختالجة الخياشيم ، المشنة ، ثم ته

لم يفلح الماء العالق بجسمها فى إخفاء . وانطفاء تألق العين ..سكون الموت الذى ران على السمكة

فرحها لألسماك التى حملها فى الغلق مديحةأبدت :الصغير

..ـ هذه أجمل أكلة ألنها من مجايب يدك :همس بالتساؤل

!..خص آخر ؟ـ هل ينفق على البيت ش ..ـ األسماك التى اصطادتها سنارتك معناها أجمل

:وزمت شفتيها باسمة ..فهو مجلب للبركة .. ـ ليتك تكتفى بالصيد .. السفر ـ فى نفسه ـ لم يكلمها فى أنه دبر

:قال الشيخ ..ـ صيد السمك حالل

:وجرت أصابعه على حبات المسبحة

.. الخنزير ـ الحرام هو الميتة والدم ولحم ثمة من . ألف طبائع السمك فى تعامله مع الطعم

تقترب من السنارة المدالّة ، وتبتعد ، ومن تدور حوله دورات متتالية ، ثم تنشغل بما لم يتبينه ، أو تبتلعها سمكة

وكان . كبيرة ، ومن تندفع نحو الطعم المغرى ، فيجتذبها يشعر . صغيرة يضايقه أن الطعم ال يلتقط سوى األسماك ال

. يجذب البوصة إلى أعلى . كأن السنارة قد التقطت صيداً يطلق أف مغتاظة لرؤية السمكة الصغيرة وهى تحاول

..اإلفالت من السنارة العالقة بفمها ال تحدث اهتزازات وال . تعلم الحرص بالممارسة

. دوامات وال أصوات تخيف األسماك ، وتدفعها إلى الفرار ة الصغيرة التى يحدثها سقوط السنارة الحاملة مجرد الدوام

يظل فى جلسة الصبر ، حتى تهتز السنارة فى يده ، . للطعم يضغط على عينيها : تعلم كيف يمسك السمكة . فيجذبها

..بسبابته وإبهامه ، أو يشل حركتها بإمساك الخياشيم أحس ـ ذات صباح ـ بارتعاشة خفيفة ، كأنها اهتزاز

..بية الصدمة الكهر

:قال الكابتن

..ـ إنها من السمك الرعاش مالت . ثمة جسم ـ ال يعرف صاحبه ـ علق بالسنارة

زادت . تشبث بنهايتها ، وجذب الخيط . البوصة فى يده ثمة ما هو أقوى من . أخذت هيئة القوس . البوصة فى ميلها

قاوم جذبته بإمساك حافة القارب بأصابع . سمكة عادية لجأ إلى قوة اليدين ، . وشد السنارة باليد األخرى متقلصة ،

..وجذب اضطر ـ لكى ينجو . قاوم الجسم مندفعاً نحو القاع

لم يعد . بنفسه ـ أن يترك البوصة كلها ، فغاصت فى الماء ..بيده شئ ، ونجا بحياته

.. البورى فى أغسطس وأكتوبر : عرف مواسم الصيد السردين فى .. خر سبتمبر السبارس من أوائل أغسطس إلى آ

الشرغوش والكحلة من أول مايو حتى .. سبتمبر وأكتوبر الموزة من منتصف يونيو حتى منتصف .. أواخر نوفمبر

الكابوريا من يوليو .. البطاطا فى يوليو وأغسطس .. سبتمبر .. حتى آخر سبتمبر

. عرف أن أردأ مواسم الصيد فى مارس وإبريل ومايو

..التلقيح ، تزهد فيه األسماك الطعام هذا هو موسم

لم يكن يخاف من البحر ، ال من النوات ، وال األعماق

وكان على دراية . ، وال التيارات ، وال الدوامات المتالحقة يخمن التوقعات . بمواعيد المد والجزر ، وبالتيارات البحرية

ف تغير اتجاه الرياح ، تكثّ: من مالحظة الظواهر المبكرة تعلم . السحب الداكنة ، صراخ الطيور وتحليقها فى فوضى

شقشقة العصافير تتعالى . متى يظهر الطير ، ومتى يختفى حركة الغربان والصقور . فى الفجر ، وعند الغروب

هجرة الطيور . والنوارس والبط تزداد فى تلك اللحظات تتجه ـ فى الشتاء ـ من الشمال إلى الجنوب ، ثم تعكس

..لة فى أول الصيف الرحزل فى البالنس قبل أن يلقى غلم يكن الرجل يضع ال

يطمئن إلى اتساع الثقوب ، أو ضيقها ، خلوها . نظرة عليها يأذن بنقلها إلى البالنس واستعمالها ، أو . من التمزقات

وضعها بين أيدى غازلى الشباك فى شاطئ األنفوشى ،

لصق أذنه بقاع ي. يرتقون الثقوب والمواضع المتهرئة

صت إلى أصوات األسماك ، ويخمن حركتها ، نالبالنس ، يت ..قبل أن يلقى أمره بإلقاء الجرافة فى الماء

:قال الكابتن ـ أنا ال أتعلم الحياة من الكتب ، وإنما أتعلمها من

..الحياة نفسها :ورشق نظرة ثابتة فى عينيه

م من البحر من المهم أن تتعل. ـ علمنى البحر الكثير ..أنت أيضاً

يلقى الرجال . الصيف هو أنسب األوقات لصيد المياس ينشرون الشبكة على المدى . الجرافة فى الميناء الشرقية

يسحبون الحبال المتصلة بالشبكة . األوسع ، الحلقة األوسع بعد أن تستقر إلى آخر ما يأذن لها الفلين المحيط بها ، فتظل

كل رجل يسلم طرف الغزل إلى جاره . اء أطرافها عالقة بالمكل جذبة تسحب الجرافة مسافة إلى . يسلمه إلى ثالث .

وكان يتابع موظفى مصلحة الموانى والمصايد ، . الشاطئ يفتشون على الشباك ومدى صالحيتها ، البالنس ومالءمته

ركوب البحريتأكدون من وجود اللوحة ، ورخصة . للصيد

.. قفين فى دائرة غير مكتملة حول كان يلتصق بالوا

يقلبها الرجال ، فتمتلئ . الجرافة الملقاة على الشاطئ أنواع . الطاوالت بما كانت تحمله من تموجات الفضة

بورى ومرجان وقراميط ومحرات : مختلفة من السمك تنفذ . وشجرى وبربونى ومياس ودنيس وموزة خضراء

ب ، وتتساقط الكبيرة األحجام الصغيرة ، البساريا ، من الثقو ..فى تقافزها إلى األرض

أن تقف ـ ومعها مدحت ويسرى ـ مديحةحرصت على الكورنيش الحجرى وهو يشارك الرجال نشر الجرافة ،

الصديرى المخطط : ارتدى زى الصيادين . وسحبها ، وعلى بصفوف األزرار المتوازية ، والسروال الواسع

..رأسه طاقية بيضاء من التيل دهمه خجل لما ضمت أصابعها على شفتيها ، وقذفت

..تلفت حوله ليعرف إن كان قد رآها أحد . إليه بقبلة . عادا إلى البيت فى تناهى أذان العصر من أبو العباس

:قالت وهى تتأمل انسحاب ظالل األصيل على الجدران

..ـ صيد السنارة أسهل

:أشاح بيده .. واحدة دوب يمأل بطناً فى أكلة ـ يا

:وتكلف ابتسامة متوددة ..ـ عمل الجماعة أجلب للرزق

. ركب ـ للمرة األولى ـ بالنساً للصيد فى عز الليل ..ضوء اللمبات حول السفينة يحتذب أسراب السمك

كان الكابتن يعيب على الصيادين إنهم يضيقون ثقوب ية الغزل ، تصطاد أمهات األسماك ، ال تنفذ منها حتى البسار

..الصغيرة :قال

..ـ نحن نصيد األسماك لنأكلها ، ال لنسلّك بها أسناننا :والح فى عينيه كدر

ـ توسيع ثقوب الغزل يعنى الحصول على أسماك ..الطعام توضع على موائد

:وانعكس انفعاله الغاضب فى ارتجافة أهدابه ـ لو ظلوا على طريقتهم فى الصيد ، فسيخلو البحر

..مك من الس

حتى الديناميت ذى . وكان يرفض الصعق بالديناميت

تتأثر . التيل الطويل يظل على اشتعاله حتى يصل القاع بانفجاره صخور القاع وكهوفه وشعابه وكل ما يحيا فى

ربما امتد التأثير إلى . المنطقة التى يمتد إليها تأثيره ..البالنسات فوق سطح الماء

اعد ـ مكتومة ـ من القاع ، انفجارات الديناميت تتصتحرك األمواج ـ لثوان ـ فى مساحة تتسع ، ثم تذوى ،

كل األسماك . وتختفى ، ثم تطفو األسماك الميتة على السطح ينشر . فى منطقة االنفجار تموت ، وتطفو على السطح

تغترف األسماك الميتة ، . الرجال الشبكة على أوسع مساحة ربما دلى الرجال . انفجارات القاع الطافية ، وما لم تتأثر ب

أعلى أجسادهم ، يلتقطون األسماك الطافية براحات األيدى ، ..ويلقون بها فى المشنات

:قال الكابتن ..وعملنا صيد السمك .. ـ نحن صيادون

الحظ أن مالمح السمك لم تكن مثلما كانت عليه عند . ديناميت صيدها بالسنارة ، أو بالجرافة التى تستغنى عن ال

..أعين ثمة تقطيع وتورم وانبثاق دم وجحوظ

ما أذهله أن . كان يعرف أن الصيد بالديناميت ممنوع

مستقبل البحر هو ما يزعجه . الرجل أهمل المنع فى كلماته ..

ـ لو أن الكل لجأوا إلى الصيد بالديناميت ، فلن يكون ..اليوم الذى يخلو فيه البحر من األسماك بعيداً

:وعال صوته بالتأثر فألحيا .. حينى اليوم وأمتنى غداً أـ أنا أرفض حكاية

..اليوم وغداً ، وليحيا الناس أيضاً بدا الكابتن متأثراً وهو يروى ما حدث للصياد عيد

لم . صبع الديناميت ذا الفتيل المضاد للماء إألقى . الرشيدى قبل أن يفطن إلى قصر الفتيل ، فاحترق بسرعة ، وانفجر

علت األمواج . استحالت المياه فوهة بركان . يبتعد البالنس تخللت الثقوب . من تحت البالنس وحوله ، واشتعلت بالغليان

. البالنس ، وتكسرت األلواح فى جانبيه ، وغمرته المياه أطلق صرخة وحيدة ، . انتتر الرجل إلى قلب الماء الساخن

..ثم اختفى إلى بوصلة ، فهو يعرف االتجاه لم يكن الكابتن يلجأ

يضع يده على جبهته ، . إلى الشمسمن مجرد النظر

ال يطيل النظر . ويزوى ما بين عينيه ، ويرنو ناحية الشمس

، إنما هى التفاتة سريعة ، ثم يخفض يده وعينيه ، ويحدد ، فال يخطئ فى التنبؤ بحالة االتجاه الذى يمضى فيه البالنس

الموج ، وال مواعيد هبوب الرياح والنوات الجو ، وال حركةوكان يفاجئ الصيادين باكتشاف مناطق صيد ، ربما ال .

تبعد عن اإلسكندرية ، لكن فترات الغياب عنها ـ لجدبها ـ ..تطول ، فيشير بالعودة إلى المواضع القديمة

مصارحة الرجل له بأنه يركب البحر منذ أعوام أدهشته ال . يكره السباحة ، وإن أجادها . لمياه بعيدة دون أن ينزل ا

..البيت يسلم جسده إالّ إلى مياه الحمام فى تساءل وهو يتابع عمليات تفريغ طبالى األسماك إلى

كيف ينقذ نفسه لو : عربات النقل ، تمضى بها إلى الحلقة !أدرك أنه نسى السباحة والبالنس يواجه الغرق ؟

*** ، عندما ينطلق به القارب فى عرف أنه سيكون بمفرده

يحيط الشبكة . اختار الطراحة فى صيده . اتجاه نجمه يصل الحبال بحبل طويل ، يجر به الشبكة من . بالحبال

يحدس .مكانه فى القارب ، أو األرض التى قد يستقر فوقها

انفالت السمك . معنى ثقل الطراحة وهو يسحبها من الماء

: أهمل النصيحة المحذّرة . مزقة من الثقوب الواسعة ، المتعلم كيف ! . أنت ال تحسن إلقاء الشبكة ، فيهرب السمك يرفو قماش . يرتق الغزل إن تهرأت الشباك ، أو ثقبت

يصل الحبال ، فتظل تعمل أطول . الشراع إن مزقته الرياح يرتّب اآلالت والمعدات ، فال يضل الطريق إليها وقت . فترة

الطعام حتى ال تفسده الحرارة وتوالى األيام يخزن . الحاجة ..

حين ارتدى بدلة الغوص للمرة األولى ، خشى أن تقيد ثم أعاد . ارتداها ، نزعها . حركته ، أو تهبط به إلى القاع

دس . نظارة الغطس ، والزعانف وضع ها ، وءارتداالزعانف فى الماء ، وحرك قدميه داخلها ، حتى أخذتا

..أمسك ببندقية الصيد وسكين الغطس و. وضعهما :قال الكابتن

..ـ هل سبق لك العوم فى مياه عذبة ؟ :فى نبرة تسليم

..ـ أنا سكندرى وإن كنت لم أنزل البحر

السباحة فى البحر أيسر من السباحة فى .. ـ عموماً ..مياه البحر أقل كثافة من الماء العذب .. النهر

:ده ، وفى يده حمله على جس أشار إلى ما ..لن أستخدم كل هذه األشياء .. ـ إن غصت

:قال الكابتن ..قبل أن تبدأ المباراة .. ـ أنت ترتدى بدلة التدريب

الغوص ال يحتاج إلى . نصحه بأن يجيد السباحة أوالً يطفو . بالذات إذا كانت المياه مالحة ، ضحلة . مهارة عالية

ماذا لو أنه فقد إحدى : لكن . فيها المرء دون مجهود .البد أن يجيد السباحة . البد أن يعود بدونها .. الزعنفتين ؟

إذا الحظ توقف المؤشر ، أو . حذّره من نفاد األوكسجين ..اقترابه من نقطة الصفر ، فإن عليه أن يسرع بهزه

:قال الكابتن وجود .. ـ من األفضل أالّ يغطس الشخص بمفرده

..مواجهة فى لحظة الخطر زميل يساعد على ال :أردف كالمتذكر

ـ لكن الشيخ ـ كما قلت لى ـ نصح بأن تمضى إلى

..الرحلة بمفردك :عيهصبإقبل أن يضع النظارة ، التقطها الكابتن بطرفى

..ـ النظارة التى تفيد غيرك قد ال تفيدك :صبعيه إلى جانبى وجهه إوأشار ب

رة مثبتة على ـ وجهك طويل ، والبد أن تكون النظا ..الوجنتين جيداً حتى ال يتسرب الماء إلى العينين

:قال . ساعده فى تثبيتها على وجنتيه . تأمل النظارة ..ـ خذ شهيقاً

..أشار الكابتن ، فأغلق أنفه وفمه . التقط نفساً عميقاً :قال الرجل

ـ عندما تغوص ، تحمل فى صدرك كل ما تختزنه من ..أوكسجين

: يكور يده ثم وهو ..ـ حاول أال تفقده بسرعة

. تأملها . صبعيه إعاود الكابتن التقاط النظارة بطرفى :قال

أن النظارة ثبتت على وجهك ـ هذا البخار يعنى

..جيداً :وسرت فى صوته رنة تحذير

ـ ستلحظ أن كل شئ تحت الماء يزداد حجمه بالنظارة ..حوالى الثلث

: واضح وخالط صوته المحذر حنو أيضاً فى مكانه الصحيح ( *)ـ البد أن يكون الشنوركل

..أمام أذنك حتى ال يدخل الماء إلى النظارة استخلص . استل الكابتن السكين من الجراب الجلدى ..محارة ملتصقة بتجويف داخل الصخرة الصغيرة

الحظ أن الرجل يستخدم السكين فى استخالص ..ا المحارات من قواقعها وصدفاته

مرة وحيدة أخطأ استخالص المحارة ، فالمس السكين امتصها بشفتيه ، ثم . انبجست قطرات من الدم . ببطن يده

..استخالصها امتد بالسكين إلى المحارة يعيد :وهو يربت صدره بيده

أنبوبة التنفس= الشنوركل ( *)

يجب أن نحذر .. ـ هذا درس تعلمناه من المصادفة

..ونحن نستخدم السكين من المطاط ، ليحمى أصابعه ونصحه باستخدام قفاز

..من خدوش الصخور هون الكابتن من شعوره ـ عند الغطس ـ بضغط على

:قال . جبهته وعينيه وأذنيه ..ـ هذه مالحظات البداية

..ثم غاب اإلحساس بالضغط باً عنه ـ صابتلع ـ غ. تسرب الماء من الشنوركل

بس الماء كان يح. لم يعد ـ فيما بعد ـ يتنفس . كمية منه ..عند فمه

. الغوص بالقرب من السطح ، يتيح له رؤية األسماك أشعة الشمس تنفذ . آالف األسماك المتباينة األشكال واأللوان

حتى. تضئ جوانب المكان . من خالل األمواج الهادئة األعشاب والطحالب والصخور والكهوف والثقوب ، الرمال و

إلى أسماك لم يكن تعرف . تبدو واضحة فى ضوء الشمس رآها من قبل ، تسكن الكهوف ، والشقوق العميقة ، وبين

وثمة ومضات فوسفورية تلتمع فى الظلمة الشفيفة . الصخور

.. . تعلم كيف يواجه انقباض عضالت القدم أو الساق

ربما امتدت إليها أصابعه . يبسط العضلة ويقبضها فى توال كيف يواجه تقلص تعلم. بالتدليك حتى يزول االنقباض

..األصابع والساعد وعضالت البطن وعضالت خلف الساق يعطى اإلشارة للكابتن الذى يمسك بالحبل المتدلى من

. يجذبه الكابتن ـ بسرعة ـ إلى سطح الماء . سطح القارب تأكد ـ . سطح الكان إذا شعر بضيق فى تنفسه ، صعد إلى و

رجت كلها قبل من خالل النفخ بالشنوركل ـ أن المياه خيستعيد نصيحة الكابتن بأالّ يحاول التنفس ، وبقايا . تنفسه

االختناق هو ما ستواجهه لو أنك أهملت : ماء فى الشنوركل وكان يأذن ـ إذا أرهقه ضغط النظارة ـ كما . وجود الماء

علمه الكابتن ـ بتسرب هواء فى النظارة ، يقابل الضغط ربما . وخزته آالم األذن ويتوقف عن الغوص إذا. داخلها

..ـ كما حذره الكابتن ـ واجه اإلغماء أذهله الغضب الذى أخلى له الكابتن مالمحه ، لما صعد

:إلى السطح

..ـ ال تستسلم لغواية البقاء تحت الماء

:قال ..ـ لم أشعر باختناق ، وال إلى حاجة للهواء

:رماه بنظرة مؤنبة لكنه صعود .. عماق فقط ـ الغوص ليس نزوالً إلى األ

..مسافتان ال مسافة واحدة .. إلى السطح أيضاً :ووشى صوته بتفاخر

أغوص إلى أعماق البحر فى عز كنت.. زمان ـ ..الظهر ، ويظل غوصى حتى يحل الظالم

روى انزعاجه لرؤية سمكة هائلة الحجم ، تلتقط ن األسماك الصغيرة ، وتواصل السير ، كأن ما حدث جزء م

..تنفسها :قال الكابتن وهو يضحك

..ـ كل األسماك تجد طريقها إلى موائدنا فى النهاية جرب استجابة جسده للحياة فى الماء ، التيارات

عرف كيف يحبس أنفاسه وهو . واألمواج وضغط الماء يغطس فى الماء ، ودون أدوات غطس ، أطول مدة ممكنة ،

، ويصعد ، ويعاود ثم يصعد اللتقاط األنفاس ، ويغوص

يحتفظ باألوكسجين فى . يكرر الشهيق والزفير . المحاولة

. يعاود المحاولة ، ثم يعيدها . صدره أطول مدة ، ثم يطرده عرف . ثم يمتص أكبر ما يستطيع من أوكسجين ، ويغوص

كيف يقلل الجهد فى األعماق ، حتى ال ينفد األوكسجين ..بأسرع مما هو متوقع

:تن قال الكاب.. ـ ال تأخذ كمية زائدة للغاية من الهواء قبل الغطس

..ربما يؤدى ذلك إلى اإلغماء :واستعاد لهجته المحذرة

..ـ حاذر أيضاً من استنشاق الهواء تحت الماء :ثم وهو يهز رأسه

وإنما سيقتحم الماء أنفك وفمك .. ـ أنت لن تجد هواء ..وهذا أخطر ، ألن معناه .. ورئتيك

..وعبر بيديه عن معنى الموت :قلب الزعانف المطاط بين يديه

.. ـ هذه الزعانف ستكسبك ثقة فى السباحة والغوص ..أنت بها سمكة داخل البحر

: وقال فى حسم ، وإن ظلت لهجته على ودها

ـ المهم أال تكون الزعانف واسعة حتى ال تكره

..الغوص ظارة البحر ، أنبوبة تعلم كيفية استخدام قناع الغطس ، ن

التنفس ، الشنوركل ، الزعانف ، بندقية الصيد ، السـكين ، يثبت . يراجع ما فى الحقيبة القماش . زام األثقال ـالبدلة ، ح

السكين فى الجراب المتدلى من الحزام ، ويدس قدميـه فـى ..الزعنفتين ، ويصل أنبوبة التنفس بحزام القناع

العلم يشير إلى . قاء ألف رؤية أعالم الغطس الزريحرص ، فال . وجود غطاس ـ تحت الماء ـ بالقرب منه

ربما عضته . تقترب يده من الجحور والكهوف والفجوات أفلح فى . سمكة كبيرة ، أو ثعبان أجاد اتخاذ لون المكان

تبين ثعابين البحر ، حتى وهى تكسو جلدها بلون مداخل الحجم ، تفد من حذره الرجل من أسماك هائلة. الكهوف

أما إذا حاول . إذا تركها المرء واصلت طريقها . بحار بعيدة وكان يحرص ـ فى صعوده . النظر إليها ، فإنها تهاجمه

إلى البالنس ـ على النظر إلى أعلى ، فال يصطدم رأسه ..بأسفل البالنس

أجهده . صعد بقوقعة كانت ملتصقة فى الصخور

..انتزاعها :قال الكابتن

..ـ هذا بلح البحر :وابتسمت عيناه ..ـ بلح الملوك

:وتنهد ..ـ الكيلو منه بالسعر الفالنى

:وزم شفتيه ، فبدت الكرمشة فوق الشفة العليا ..ـ أهم شئ أنك تحسن استخدام السكين

ابتسم الكابتن لدهشته وهو يصعد إلى السطح ، بيده ا تقول تصور أنها ـ كم. زجاجات وعبوات بداخلها

فضها الكابتن . الحواديت ـ تحمل رسالة من أرض بعيدة على أحجبة وقصاصات وطالسم وأسماء من بحرى ، ومن

:أحياء ومدن أخرى ..لكن الناس يصرون على توسيخه .. ـ البحر طاهر

:وهز رأسه داللة االستياء ..ـ هذه أعمال للتربيط والتفريق وتحقيق المراد

ربما ظل نصف . رة يغطس فيها يستريح عقب كل م

. ساعة مسترخياً على ظهر البالنس قبل أن يعاود الغطس اإلجهاد ليس هو النتيجة . حذره الرجل من النزول المتوالى

ربما عانى أمراضاً تصيب القلب ، أو . الوحيدة المتوقعة ..الرئتين ، أو الجسد كله

:قال ..ـ ماذا لو أنى نزلت إلى عمق أكبر ؟

:ل الكابتن قاكلما علت طبقات الماء ، زال ضوء .. ـ ال شئ

.. النهار حتى يتالشى :أردف بنبرة محايدة

!..ـ لن تجد بعد مائتى متر إالّ الظالم أحس بأنه . اختلط كل شئ حوله ، وتداخل ، وتغير

محاصر فى دوامة عاتية من المشاعر الصاخبة ، بما يشبه عاودته ـ كومضات ـ .االختناق يضغط على صدره

فكر فى أن . لحظات اليأس والسأم والرغبة فى الموت يكتم أنفاسه داخلها فال يصعد ، لكن أوامر . يغطس فى المياه

..الرجل الحادة ، المتوالية ، كانت تعيده إلى نفسه

:مديحةقال لإلشفاق فى عينى

..ـ عندما تتحقق الحياة بالخوف فال بأس :مديحةقالت ال أسترد أنفاسى حتى .. ف أشعر أن قلبى يقـ

..تصعدحذره الرجل من أن الخبرات البحرية ال تكتسب

البحر عالم آخر . بالصيد وحده ، وال بالغوص فى األعماق ..حياتها ، دنيا أخرى ، لها جغرافيتها وتضاريسها

:اتجه إلى أفق البحر ى وتنتهى دون أن تحتاج إلـ ربما تبدأ الرحلة

..الغطس :وأومأ برأسه مؤمناً

..ـ وربما تضطر إلى الغطس فتكسب السالمة حين روى للشيخ ما تحقق له من قدرة على الغوص إلى أعماق لم يتصور أنه بلغها ، قال له الشيخ فى لهجة ذات

:داللة ..ـ أنت لن تعرف البحر إال إذا سبحت فيه :وحدق فيه بعينين تفتشان عن معنى مفتقد

..ـ المهم أن تصل فى غوصك إلى الجوهر

أصاخ سمعه لترامى صوت محرك لنش فى مكان بعيد لن تكتمل الرحلة . تلفت حوله ، يتأكد من أن أحداً ال يتبعه .

ذلك ما ألح به الشيخ نجاتى ، وعليه أن . إالّ إذا كان بمفرده زود القارب بكل ما قد يحتاجه فى رحلة ال يدرى . ينفذه أطعمة ال يتغير مذاقها بطول الوقت ، وجراكن . د أيامها عد

وموقد وعصائر ، مملوءة بالماء العذب ، وأقفاص فاكهة ، وخيط ، وإبر ، للطهى ، وسكين ال تصدأ من ملوحة البحر ،

ودبابيس ، ونظارة مكبرة ، وبطانية ، وعلب أدوية ، وحبوب ال ضد لدوار البحر ، وأمص" درامامين " ملح ، وحبوب

التسمم ، ومراهم لعالج التسلخ والحروق ، وكمية من الكتب ومعدات ، وطوق نجاة ، وسترة نجاة ، ومصباح ببطارية ،

والبلطة والمثقاب اليدوى القادوم والمنشار : القاربإلصالح حتى السالسل والخطاف الحديدى . واألزميل وحديدة القلفطة

..القارب ، والدلو لرفع المياه المتسربة إلى

عن مديحةأنهى كل خطوات الرحلة ، قبل أن يكلم

. ، فال شأن للرحلة بما يعانيه طبيب شهير يعالج مثل حالته ..لجأ بعينيه إلى إيهاب القبانى ، فطمأنها

: حر عليه بترك الكابتن لنفسه اختيار القارب الذى سي ..بالنس ، لنش ، لوتسو ، فلوكة ، دنجل

:قال الكابتن أنت تريد قارباً تركب به البحر ، فال شأن لك بنوعه ـ

.. أن يجعله من ذلك كلهرحيمهو قارب وسأوصى المعلم .. حدثه الكابتن عن خبرة المعلم رحيم القديمة فى صناعة

كل العائلة . السفن ، مهنته التى ورثها عن أبيه ، عن جده البالنسات والفاليك والدناجل : تعمل فى صناعة المراكب

..والكوترات واللوتسات :قال الكابتن

..ـ أفضل أن تركب البحر على القارب :داخلته ربكة التجربة األولى

..ـ أليس الالنش أسرع ؟ :حدجه بطرف عينه

..ـ فإذا لم تحسن إصالح أعطاله ؟

:فوت المالحظة

..ـ أى قارب تفضل ؟ ..ـ البالنس يحتاج إلى جماعة :وتالعب بقطعة حبل فى يده ..ـ والفلوكة ال تصلح للغميق

: واستطرد كالمتنبه يمكن أن تقوده " .. لوتسو " ـ أقترح أن تصنع

..مفردك ب :وأطال النظر إليه ، كأنه يتأكد من فهمه لما يقوله

وبالمجاديف .. تعمالن بالشراع .. ـ الفاليك واللواتس .. أيضاً

دقق فى التعرف إلى . فى القزق التصنيعتأمل عملية المقطوعة ، اللبخ أشجار . المواد التى يصنع منها القارب

وحبال شاطئ ، وبلوطات األخشاب مكومة على رمال التأكد . وعلب البويات والقار فى الصناديق المفتوحة الكتّان ،

طرقه بقادوم صغير ، . من عدم إصابة الخشب بالسوس صحب . يتعرف على األجزاء الصلبة واألجزاء الجوفاء

، يتأكد من أن الخشب الذى تقطعه " المخرطة " الكابتن إلى

المعلم تابع . فى باله وضع نصائح الكابتن . هو الذى اختاره

رحيم وهو يضع هيكل القارب على قاعدة خشبية ، ثم وهوالمارينا الممتدة بطول القارب ، : يضع أول جزء من القارب

أفاده توالى الخطوات فى التعرف .تحيط بها بقية األجزاء القاعدة ، الصارى ، القلع ، الدفة ، : إلى أجزاء القارب . أللواح الخشبية تتجاور ، تلتصق ا. المقدمة ، المؤخرة

القالفطى يسد ما بين األلواح من الشقوق والثغرات ، األلواح تتالصق ، وتسد الفجوات بالكارينا والمعجون ، ثم تطلى ،

.. وتجرى فيها عمليات الحدادة والسمكرة ، وتجهز باألدوات ..الفاليك ، واللواتس : مراكب الشراع

فى هيئته الكلية ، األخيرة ، وهو يتأملهالقارببدا هذا القارب هو ـ .صغيراً ، وال يقوى على ركوب البحر

يمضى . منذ نزوله فى الماء ـ رفيق رحلته ، رفيق حياته إلى نهاية الرحلة ، فيرى النجم ، أو يغرق القارب ، فيغرق

..معه :قال

ـ أين الشراع ؟ ..ـ ال موضع له فى القوارب الحديثة

:يه بنظرة مباشرة وحدق ف

..ـ حل الموتور بدالً منه :ابتلع إحساساً بالخيبة

..أخشاب تخلو من الموتور أيضاً .. ـ لكن هذه الـ ..ـ إنه قارب وليس مجرد أخشاب

:لم يستطع السيطرة على انفعاله ..ـ إنه ال يصلح للوصول إلى صخرة األنفوشى

:وأردف فى كلمات متلكئة ..صمد لألمواج العالية ي اً كبيرـ أريد مركباً :قال الكابتن

ـ ثق أن المراكب الصغيرة تثبت لهياج البحر أكثر من ..غيرها

:ثم فى هيئة الذى اتخذ قراراً ..وهذا القارب يكفى .. ـ ترحل بمفردك

..فإن جاءت النوة .. ـ يكفى والبحر حصيرة ..ـ النوة تغرق المراكب الصغيرة والكبيرة

:فى صوت باتر ثم ..ـ توكل على اهللا

: رحيم لمعلمسأل ا ..سم الذى ستختاره للقارب ؟االـ ما ..سم اـ أى

أال يكون فى البحر قارب آخر .. ـ مهم أال يتكرر ..سم االبنفس

..سم ااختر له أى .. ـ هذا ال يشغلنى " ..رحلة " ـ فليكن اسمه

: لرؤية القارب خوف صيحة مديحةأطلقت ..ـ هل هذا ما ستركب به البحر ؟

ن السفينة الصغيرة رد الكابتن على مالحظتى بأـ ..أقوى على تحمل األمواج العالية من السفن الكبيرة

عاودت إطالق صيحتها . وشت مالمحها بعدم فهم :الخائفة

..ـ كيف ؟ :وهو يدارى انقباضاً يخنقه بيدين غير مرئيتين

..ون أكثر منا وهم يعرف.. ـ هذا عملهم :قالت بلهجة فاهمة

..ـ لماذا ال تعود إلى األطباء وتترك هذه الرحلة

:أدرك أنها عرفت ما حرص على إخفائه

!..لم يبق إالّ رحمة اهللا .. ـ بذل األطباء كل علمهم لم يحذره . همست دعوات الشيخ نجاتى برحلة طيبة قد يطفو ى مامن النظر لما حوله ، وإن نصحه بأال يطمئن إل

فوق المياه من أسماك وأعشاب قبل أن تالمسه يده ، وطالبه بأن ينشغل بفكرة الرحلة ، واتجاهها ، وال يكلم أحداً فى

..طريقه ، ال يكلم حتى نفسه بصوت يسمعه . رافق الكابتن إلى صانعى األشرعة فى مينا البصل بحر حدق ، وتأمل ، وتفحص متانة القماش بإصبعيه ، فال ي

.. اشترى الحبال من دكان وكالة الليمون . بشراع ردىء تأكد من . طمأن إلى البوصلة ، وصحة االتجاهات ا

تأكد . ضرب بهما الماء . موضع المجدافين فى مقبضيهما تظاهر بعدم .من استجابتهما لحركة الذراعين ، وانطلق

لم . مالحظة األعالم وقطع القماش الملونة التى علت القارب يسأل إن كان ذلك ما طلبه الكابتن من المعلم رحيم ، أم أنه

..تقليد يرافق نزول القوارب ـ للمرة األولى ـ فى الماء القارب كانت هذه هى المرة األولى التى يقود فيها

استقر فى أعماقه طلب النجم الذى . بمفرده ناحية الجزيرة

ه تلبية لنصائح لم يعد يفعل ما يفعل. أطال التعلم حتى يجده

ال. الشيخ ، وإنما هو تلبية لنداء سماوى ال يقوى على رده عليه أن يواجه . شئ يمنعه من الوصول إلى ما خرج للقائه

كل ما يراه ، كل من يلتقى به ، وحيداً ، أعزل ، إالّ من ..بندقية الغوص السكين

فضل الصباح الباكر موعداً لبدء الرحلة ، حتى تسهل ..ؤية أطول فترة ممكنة له الر

كان آخر رؤيته لمديحة والولدين ، وقفتهم على الجانب يلوحون بأيديهم ، والقارب يمضى . األيسر للميناء الشرقية

بين البالنسات والفاليك والالنشات والدناجل واللوتسات واصل تجديفه ، وهو يعاود االلتفات . الواقفة ، المتناثرة

فة نقطة ، والكورنيش خط رمادى فى وراءه ، حتى بدت الوق ..نهاية األفق

..اتجه إلى أفق البحر ، وواصل التجديف ***

جال حوله بنظرة متطلعة ، يحدد موضع القارب فى حل ـ بدالً . غابت عن أنفه رائحة البحر .المياه المترامية

منها ـ تداخل الرائحة المميزة باختالط الملح واليود

..ب واألعشاب والطحالكانت عيناه معلقتين بخيط ال يراه ، وإن تيقن أنه

..موجود هناك ، فى نهاية األفق احرص : قال . أوضح له الكابتن كل ما ينبغى تعلمه

حتى ما قد يبدو طبيعياً ، . على قوة المالحظة لكل ما حولك المالح الحقيقى هو الذى يقدر قوة : وقال .ربما ليس كذلك

وحين تواجه الخصم . ه ألف حساب الخصم ، ويضع ل. إن التقيت بما يخيفك فواجهه : وقال . بمفردك فهو الخصم

.تغلب على خوفك فيظهر خوفه أدرك أن فى داخل الكابتن قوى هائلة ، تملى عليه

لم يعد البحر ذلك الغامض المثير الذى . كلماته وتصرفاته تعلم كيف . يكتفى بتأمله فى جلسته على الكورنيش الحجرى

يواجه النوات والعواصف والرياح وارتفاع األمواج جباالً ..صغيرة ، متوالية ، واألسماك المتوحشة ، أو الخطرة

نه تلقى كل الدروس ، وعرف ما ينبغى معرفته أأدرك ،حتى التعبيرات التى ربما لن يجد من يستخدمها معه .

.. راء عودة المركب إلى الو: ِسيه : حرص على تعلمها

جسم عائم فى الماء إلرشاد السفن إلى أماكن : الشمندورة

: قُورصة .. الرسو ، أو للتحذير من األماكن الخطرة اإلبحار ضد الريح ، اإلفادة من الريح المعاكسة ، فوق الريح

خفض : ماينَه .. إرخاء حبل لمنع نشر الشراع : لَسكة .. .. أرصفة صد األمواج حواجز و: مولْص .. شئ فى السفينة

ارتداد المركب ، أو تغيير اتجاهه ، أو جره ، أو : هالة ..سحبه

:دارى قلقه بابتسامة مهونة ـ هل يمكن أن أصحب مديحة والولدين معى ؟

:قال الكابتن ال أحد : وكما أشار الشيخ .. ـ هذه رحلتك بمفردك

..يرافقك . يبدأ الرحلة عزى نفسه بأنه كان يحيا الوحدة قبل أن

..ألفها ، فهى ال تثيره وال تضايقه ثمة بواخر . ظلت الريح ثابتة ، واألمواج هادئة

وبالنسات تمر من بعيد ، تطلق صفاراتها ، أو ترسل إشارة وكانت األسماك تتقافز فوق المياه . تحية ، وتواصل سيرها

وسمكة هائلة الحجم ، تفتح فكين متسعين ، . حول القارب

. ض كل ما حولها ، أو تنهشه ، وتبتلع األسماك الصغيرة تع

. وأسماك تهاجم األسماك األخرى ، تعضها ، أو تبتلعها ..تخلف وراءها بقعاً من الدم

الجزر والبواخر : أزمع أن يجعل عالمات الطريق فكر فى أن يضع . العابرة والشمندورات والصخور الناتئة

لكن .. ب عاد من حيث أتى ربما القار. عالمة يهتدى بها ال جزر صغيرة وال كبيرة ، . المياه امتدت فى كل اآلفاق

..وال حطام سفن ، وال شئ يدل على مكان الحظ أن ارتفاع األمواج فى قلب البحر لم يعد مثلما

كان يحدث نفسه بما تعلمه . كان عليه بالقرب من الشاطئ البورة ، هواء .. قى الَبرانى ، ريح الشمال الشر: من الرجل

.. اِلشرش ، ريح الشمال الغربى .. كالنسيم فى يوم ساكن .. الشلَوق ، ريح الجنوب الشرقى .. الطَياب ، ريح الشمال

العدل ، جو .. الغَلّينى ، جو هادئ ، ساكن الهواء والموج الفُرتينة ، عاصفة بحرية .. شرد ، جو الصاخب .. معتدل

اِلمريسى ، ريح .. ب من الجنوب الغربى ِلِبشْ ، ريح ته.. المالظَة ، موجة عالية ، تهدد .. دافئة تهب من الجنوب

..الملْتم ، ريح طيبة من الشمال .. البالنسات

:قال الكابتن

أنا لن أتركك . ـ إذا اتبعت نصائحى ، فكن مطمئناً سأكون معك ـ بنصائحى . عندما تفرق الرحلة بينى وبينك

.. تذهب ـ حيثها هو ذا يوشك ـ فى النهاية ـ أن يلتقى بما جاء

يتطلع إلى نفثات البحر المتصاعدة من المياه ، غاللة . للقائه . شفيفة تتراقص من ورائها المرئيات بمالمح غير واضحة

يشعر أن ذلك . ه سوف يلتقى بالنجم بأنيقين ، فى داخله فوق الجزيرة النجم الذى يبحث عنه فى مكان ما ، هناك ،

ترك الشيخ . الصخرية ، أو بالقرب منها ، أو يعلو وحيداً الدم يحن فى المثل الشعبى ، . لحدسه وسيلة التعرف إليه

تحفز . والنجم هو الدم واللحم والذات والبدء والمنتهى أخفق فى تصور مالمحه ، وما إذا كان . لرؤيته ، لمواجهته

نه كائن حى ، قد ال يكون أ أم نجماً عادياً كما تدل التسمية ، .. ويصمت ،ويتكلم، ويتحرك ، من البشر ، لكنه يفكر

يتذكر كل حرف . أعد نفسه لينصت إلى ما يقوله النجم حتى ما قد يعجز عن فهمه ، يطبعه فى . وكلمة وجملة

..ذاكرته ، ويستعيده متأمالً

.. انتهاء ظل مشدوداً أمام األفق الرحيب ، الممتد بال ..كان يعد نفسه للرحلة ، ولم يكن يشعر بالخوف

ال . هى هدف فى ذاته . لم يعد يشغله هدف الرحلة أهمل كل التفصيالت والجزئيات . صلة لها بما قبل وال بعد

االنطالق بالقارب يحمل البداية والنهاية ، . والمعانى ..واإلجابة عن األسئلة التى ربما لم تطرح نفسها

أفق البحر ـ قبل أن ينطلق القارب ـ اقتحمه لما واجه وثمة .خوف مفاجئ ، غامض ، اعتصر نفسه . الخوف

أبخرة تصاعدت إلى صدره ، وشىء ـ ال يدرك كنهه ـ يناوشه الشعور بأنه أجبر على الرحيل إلى . ينتزع من داخله

..جهة ال يعرفها ، وإن كان الهدف هو رؤية النجم ى مكان يظهر له ويعرفه ؟ يبدو أين يجد النجم ؟ فى أ

النجم نجماً ، أو متحوالً فى هيئة تغيب عن تصوره ؟ وهل يفلح فى تبين الهيئة المتحولة ؟ وما تصرفه إن تيقن مما رأى ؟ هل يسأل ، أو يعفيه النجم ، فيرد ـ من نفسه ـ عن أسئلة

تشغله ؟

اختفى الخط الرمادى فى امتداد الساحل ، وغابت

التوالى الرتيب لألمواج يعمق الصمت ، . ض رائحة األر ..ومن شعوره بالوحدة

هو سريره حتى انتقل من . جلس على طرف السرير شارع السيالة إلى بيته فى شارع رأس التين لم تبدل أمه

يستلقى على . تسمية الحجرة بعد رحيله ، فهى حجرته ..السرير ، ويستعيد ذكريات ، فى أوقات زياراته المتباعدة

االنفعال أوقفها على باب الحجرة ، ال تدخل وال تحاول اكتفت بلم شعرها . أضاف القلق إلى عمرها . الجلوس

وجهها مال إلى الشحوب ، . األبيض فى إيشارب أسود وازدادت التجاعيد فى الجبهة وحول العينين والفم ، والترهل ظهر فى خديها ، ورموش عينيها دائمتا االرتجاف ، وثمة. زغب خفيف فوق شفتها ، وبقع سوداء تغطى ظاهر كفها

يغلب التمهل . دائمة المسح على جبهتها كأنها تمسح عرقاً والبطء فى حركاتها وإيماءاتها ، وتطيل حديثها بفترات

..صمت ، للبحث عن كلمات محددة ، أو للشرود ـ هذه نصيحة الشيخ بعد أن عجز األطباء عن

..مداواتى

:مع فى عينيها تحير الد

..ـ ال أتصور ابتعادك عنى :ثم فى نبرة متوسلة

ـ هل نسيت أنى أحيا بمفردى بعد موت أبيك ؟ ..ـ تشعريننى بالذنب ألنى أقصر فى زيارتك

أبقاك اهللا .. ـ يكفى أن أشعر بأنك إلى جوارى !ألوالدك

:فاجأها بالسؤال ـ أين ولدت ؟

:حدجته بنظرة متسائلة تقصد ؟ـ ماذا

أين ولدت ؟.. ـ أقصد :غالبت التردد

ـ ما شأنك بهذا ؟ ..ـ هذا شأنى جداً

:أعاد السؤال ..ـ أين ولدت ؟

:ثم وهو يهرش ذقنه بطرف إصبعه فى حيرة

ـ هل كان أبى يداعبنى حين قال إنى ولدت على

..جزيرة ؟ولدتك فى جزيرة بعد .. ـ ما قاله أبوك صحيح

..األنفوشى :مضت عينيها تحاول التذكر وأغ

تنزهت مع أبيك فى الجزيرة .. ـ كان البحر حصيرة ثم فاجأنى ألم الوالدة ؟..

:أخلى وجهه للدهشة !ـ تركبين البحر وأنت على اآلخر ؟

..ـ هذا ما حدث :وواجهته بنظرة متوجسة

..ـ لماذا تسأل ؟ ..سكت ـ بالعجز ـ أمام التماع الدمع فى عينيها

.. ـ بتوالى األيام ـ معاناة دوار البحر نسىألف اختالف تكوينات السحب ، وتبدل المياه من األزرق إلى األخضر إلى تداخل ألوان تعكس ـ فيما قدر ـ لون السماء ، صافية ، أو محملة بسحب بيضاء متناثرة ، أو

إذا واجهه الضباب ، أبطأ من سير القارب ، . سحب داكنة

فإذا غيرت الرياح اتجاهها ، أو علت . ماماً وربما أوقفه ت

..األمواج ، أدار الدفّة ، وواصل السير آالف األسماك . فاجأته كثرة األسماك بما لم يتصور

تتالصق فى مجموعات هائلة ، كأنها قطع متداخلة ، تبطىء ، وتسرع ، وتتوقف ، واألسماك الطيارة تتقافز حول القارب

تهبط . ر على األسماك المتقافزة اجتذبه انقضاض الطيو. وتعلو ، تلمع كالومضات السريعة فوق المياه ، تدور فى

..نصف دائرة ، ثم تعاود انقضاضها علمه الكابتن كيف . النجوم مبثوثة فى السماء لهدف

يمضى فى الطريق الصواب ، ويعود عن . يهتدى بها ..الطريق الذى يذهب إلى المجهول

يل دون محاولة الستخدام المجدافين أن يقضى اللأزمعيصحو ، فيجد سمكات على ظهر . ، ثم يواصل الرحلة

. يشويها على المقالة ، ويعتبرها وجبة الغداء . القارب ..يتنفس الهواء المشبع برائحة الملح واليود واألعشاب

حاول أن يميز بين أنواع الطير ـ مما قرأه ، ومما ور التى كانت تحوم فوق القارب رواه له الكابتن ـ من الطي

أشكال . وحوله ، تضرب بأجنحتها ، وتطلق الصيحات

وتكوينات تطير وتتقافز فوق الماء ، وتلتهم األسماك التى

وحومت مجموعات من الغربان فوق . تتطاير على السطح استقرت على جوانب القارب ، . هبطت أعداد منها . القارب

، أو تلتقط بمناقيرها ما ال تنعق. وعلى الشراع والصارى .. يتبينه ، أو تقذف بفضالتها

تناهت أصوات بعيدة ، تفيض بالعذوبة واإلغراء ، لعروس بحر ، جنية بحر ، اخمن أنه. كأنها الشدو الجميل

. تمضى به إلى األعماق . تسحره حتى يرتمى فى حضنها ى أياً كانت احتماالت النهاية ، فإنهم ال يعودون ، تود

..العروس بهم روى له الريس عبد الحافظ معوض عن عرائس البحر

يغنين بأصوات جميلة ، ويعزفن على آالت . ، جنيات البحر ربما . موسيقية مسحورة ، ويجتذبن المسافرين بأغنياتهن

مال ، يجلسن على رجورة ، يستلقين على الهلذن بالجزر الملجأن إليها فى الصخور ، يتجولن داخلها ، يقمن كهوفاً ي

الرحلة تمضى إلى جزيرة خالية . أوقات متقاربة ، ومتباعدة قى فيها بجنيات البحر ؟ هل تكيف يكون تصرفه لو أنه ال:

رواه الريس عن اختطاف الجنيات للبشر ، الرجال يصدق ما

ينزلن بهم . من البشر ، من فوق األمواج ، أو من الشاطئ

يأتى األبناء . ات الماء يتزوجون من بن. إلى قاع البحر مخلوقات خرافية ، نصفها األعلى جسم امرأة ، ونصفها

..األسفل لسمكة روى له الريس عن اجتذاب عرائس البحر لراكبى السفن ، والمقيمين فى الجزر المتناثرة ، والذين ينزلون إلى

الجن األكبر فى محيطات العالم وبحاره ، بهن يبعث . البحر يتسلل غناؤهن إلى آذانهم ، أو . كب المياه فيفتنون من ير

يقع من تغويهم فى هواها ، . يصدرون أصواتاً كالغناء يسلمون أنفسهم إلى أسرها ، ال يملكون الفكاك من النداء

وربما صحبته . تأخذهم إلى حيث ال يدرى أحد . الموحى ليست .واحدة إلى جزيرة بعيدة ، فتكلّفه أن يستمتع بها

ر التى شاهدها فى متحف األحياء المائية ، وال عروس البحالعروس التى رسمتها فى خياله روايات الصيادين فى الحلقة

ليست الوجه الجميل والجسد األنثوى . ، وعلى مقاهى السيالة تظهر فى هيئات . والساقين المدغمتين فى ذيل سمكة

، تحرك الريح ، وتذلّل األمواج. وأشكال ال نهاية لتحوراتها وثمة عرائس تقتصر مناداتها . وتخضع الكائنات إلرادتها

على صوتها الداخلى ، لكن االستجابة تنتقل إلى داخل المرء

..الذى تعنيه بالنداء دون أن يقوى على الرفض تغوى راكبى البحر ، تجتذبهم ، تهبط بهم : هذا عملها

تروى الحكايات . إلى أعماق البحر ، إلى حيث ال يعودون القصور : عن الحياة الهانئة التى تمتّعوا بها فى األعماق لكن الذين . المسحورة والذهب والكنوز التى ال تخطر ببال

ثمة عروس ترفض . تغيبهم الجنيات فى البحر ال يعودون تظل . معاشرة البشر ، تكتفى باإلغواء فال يظفر بها أحد

تهن بالغناء ، تعلو أصوا. الجنيات فى مواقع ال يتبينها أحد ينطقن بكلمات السحر التى تُخْضع األمواج والسحب واألمطار والرياح والنوات واألسماك المتوحشة ، يأمرن ، فتتوالى األمواج ، تثور ، تعلو ، يغوص القارب إلى أعمق

يهبن األعماق من تجتذبه الغواية . األعماق فال يظهر ثانية ..

أن يفرق بين المسافر ال يستطيع قال الريس إن ربما تقمصت الجنيات هيئة . عرائس البحر والجنّيات

عرائس البحر ، مثلما يفلحن فى تقمص هيئات الكثير من الجنية تتبدل وتتحور كأنها . البشر والحيوان والطير والنبات

تبدو صياداً فى قارب ، أو سمكة جسدها من ألوان . الشيطان

كالشدو الجميل ، أو الطيف ، أو طائراً يصدر أصواتاً ..أعشاب بحر تسبح فوق الماء

ال تعود . ، تتبدل ، تتحور ، تأخذ أشكاالً تتحول الجنية إلى هيئتها ـ نصف إنسان ، ونصف سمكة ـ إالّ بعد أن

قبل أن يفيق من . تالمس الجسد الذى تحولت الجتذابه مضت به إلى المجهول . ارتباك الصدمة ، تكون قد اجتذبته

..يعود فال ،هل يصدق رواية االختطاف إلى القاع ؟ أو يضطر إلى خوض معركة تغيب نتائجها ؟ أو تعود إلى البحر بصوت

.. األمر ؟ اقتراب القارب من الجزيرة ، فينتهى هل الجنية ـ كما وصفها الريس عبد الحافظ ـ ذات

ى الشعر الناعم المسدل عل. جمال ليس فى نساء العالمين الجسد البض األملس ، والنهدان المتكوران ، تضفى عليهما

هل هى كما وصفها الرجل ، أو أنها .. ؟ قطرات الماء ألقاً ـ كما شاهد فى متحف األحياء المائية ـ أقرب إلى جسد

رأس صغير ، يخلو من الشعر ، : متداخل التكوين والمالمح طس ، وعينان ضيقتان ، تناقضان حجم الوجه ، وأنف أف

وشفتان غليظتان متدليتان ، وثديان صغيران يهبطان ـ بانحراف ـ إلى اإلبطين ، وجلد أسود مجعد ، ويكسو الجسد

..؟شعر خشن حذّره الكابتن من . عندما عال القمر ، لم يلتفت إليه

اجتذاب ضوء القمر إلرادته ، فتجتذبه الجنية إلى مملكتها لليالى القمرية الختيار تفضل الجنيات ا. فى أعماق البحر

..الضحايا ، يخضعن ضوء القمر ، فيسلب المسافر عقله أزمع أن يصم أذنيه ، فال يجتذبه النداء ، ال تجتذبه

حتى لو كانت العروس عروساً حقيقية ، . المترنمة األصوات . فإنه ترك بحرى للقاء نجمه ، ال يشغله ما يثنيه أو يعطّله

، ولتظل الجنيات ـ مهما تتحور لتكن كل العرائس جنيات وتتشكل ـ فى حقيقتها التى يجب أن يخافها ، وليواصل

عليه أن يمضى إذا أراد . التجديف نحو المعنى الذى يشغله . صوتلأن يبلغ الجزيرة ، ال يهب انتباهه لمشهد ، وال

وراء األفق ، يفتش عن المجهول تتطلع نظراته إلى مايظل . لها على الكائنات من حوله واألسرار التى تلقى بظال

يجدف حتى يصل بالقارب إلى حيث يوجد نجم ، إلى حيث يعرف أن الرحلة بعيدة . يجد اإلجابة عن ما يشغله من أسئلة

، لكنها بدت له ـ وهو يضرب بالمجدافين ـ أبعد من تقديره

..بدت بعيدة للغاية ، كأنها حلم يصعب اإلمساك به . يثق . يتصور أنه هو . إلى كل نجم كان يطيل التأمل

حتى النجم ذى الذيل . نجم ملتمع أو شاحب الضوء . أنه هو يهمل قول الشيخ نجاتى إن . يظل يتابعه بدعوات متالحقة

تتالحق الكلمات من . النجم قد يتحور فى غير صورته ربما قال ـ باللهفة . استغاثات وابتهاالت ودعوات . أعماقه

.. ، وغير مترابطة ـ كلمات مندفعة، ثم حومت فوق رأسه لمح نورساً يحلق فى األفق

أسراب من الطير ، تحولت إلى غمائم بيضاء ، أو سوداء ، صغيرة ، متحركة ، تنطلق فى المدى ، وتداخلت بين ..األسماك ثعابين بحرية ، وعلت المياه أعشاب برية خضراء

رسو أدرك أنه قد اقترب من الجزيرة ، وأن موعد النورس ـ كما تعلّم ـ يطير على امتداد .القارب قد حان

السواحل ، والثعابين واألعشاب البرية تحيا فى األرض ..الضحلة ، بالقرب من الشاطئ

امتدت . دارت عيناه فى التقاء األرض والبحر والسماء

. المياه ذات الزرقة الداكنة من كل الجهات على اتساع األفق لكل ما يترامى من أصوات ، حتى تقافز أصاخ السمع

األسماك الصغيرة فوق المياه ، ورفرفة أجنحة الطيور ثمة ضوء خافت يميل إلى الحمرة ، بدأ . الصغيرة من فوقه

..الموجوانعكس على ، تصاعده حذّره الكابتن من أن يصطدم القارب بصخرة تغمرها

ما ال ورب. تتحول إلى مجرد قطع من األخشاب . المياه وربما نهشته األسماك . يحسن السباحة ، فيفقد حياته

..المتوحشة . واصل االقتراب ، حتى تبين تضاريس الجزيرة

تداخل الصخر والرمل والتراب وقطع الحجارة الصغيرة ، وثمة . تحوطها األعشاب ، فتبدو إطاراً من اللون األخضر ع تحت طحالب تنمو ـ متناثرة ـ فوق سطح المياه ، وتلم

..الشمس جذب الحبل ، فتأكد من . قذف بالهلب على الشاطئ

..تثبيته

لم ير فى الجزيرة الصغيرة سوى كومة من الصخور

قيل إنها . والحجارة المتداخلة بالطحالب وأعشاب البحر كانت موضعاً لمدفن ولى دفنه أصحابه حيث مات ، وحيث

وايات فلم يتفق اختلفت الر. كان يخلو إلى نفسه وسط البحر قيل إن الصيت ظهر له بالكرامات . اثنان فى رواية واحدة

لما ضاق بأفعال الناس ، مد بساطاً على الماء . والمكاشفات رفع البساط بطالسم . مشى عليه حتى وصل إلى الجزيرة .

، وإن ظل يمشى على الماء وأدعية ، ثم أقام فى الجزيرة تجلّت كراماته . تبتل قدماه بين األنفوشى والجزيرة دون أن

. حين بدأ النور المنبعث من الجزيرة يهدى المراكب العابرة كانت ظلة من الطير تحلق دائماً فوق موضعه بالجزيرة ، و

فإذا أتت النوة . فى أثناء صعود الشمس إلى منتصف السماء وكان يشاهد . دعا ربه ، فهدأت ، وعاد سطح البحر حصيرة

ضاقت . ويتعرف إلى الطائفين من حولها مكة من موضعه ،الدائرة الواسعة المحيطة بكوخ أقامه لنفسه وسط الجزيرة ،

ينثر المال فى . بعشرات الباحثين عن النصفة والبرء والمدد يلقونه ، فيقضون حاجاتهم . طريق الفقراء والمعوزين

يعظهم ، ويتلو آيات القرآن ، ويهمس . ويشكرون اهللا

. ، ويقوم بأفعال يعجز عنها اإلنس والجان مستقبل بتوقعات ال

وقيل إنه اشتهر بقدرته على قضاء الحوائج ، وحل المشكالت ، وعالج ، ونصرة المظلومين والغالبة ، وفك المربوطين وقيل إنه . الممسوسين والملبوسين والمسحور لهم من الجان

م من كان يشفى النسوة من العقم ، ويشفى األطفال مما يصيبهأمراض ، يحرك أصابعه فوق موضع العلة ، أو يدلّك الجزء

دقائق ، تسرى فيها الطاقة الروحية من . المريض براحة يده وكانت . اليد الطاهرة إلى حيث األلم ، فيتم الشفاء بإذن اهللا

النساء من أهل بحرى يحرصن على نزول المولود فى قطعة وكان يأتى . لبركة قماش مما يستخدمه الشيخ ، فهو أجلب ل

وروى أن . بالفاكهة فى غير أوانها لمن يلح عليهن الوحم ابن الفريش حسونة غراب غرق وهو يسبح فى مياه

رأى الشيخ الحادثة . هدت المصيبة األب المكلوم . األنفوشى فاجأ الولد . أشار إلى موضع خلف قلعة قايتباى . مصادفة

إذا وكان . مطل على البحر أباه باستناده إلى جدار القلعة النفد ما عنده من طعام ، مد يده إلى الهواء ، يلتقط ما تهديه له

رض ، ويمشى وكان يطوى األ. السماء ، ويأكل حتى يشبع على الماء ، ويظهر فى أكثر من مكان فى وقت واحد ،

يتشكل حتى يمأل أركان خلوات مريديه وحياة المؤمنين

اشف الناس بمواقف حدثت ـ أو بمكاشفاته وكراماته ، ويكوكان فى بنصره خاتم ، إذا دلّكه حضرت . ستحدث ـ لهم

المالئكة والجان واألرواح والطيور والزواحف والشياطين ، يطعم الطير من يده ، ويكلمها وكان . ضع نفسه فى خدمتها ي

بلغتها ، وينادى على األسماك بأسماء أنواعها ، فتعلو إلى سماك ، فتسمع له وتطيع ، األيأمر . حيته السطح ، وتسبح نا

ويسخّرها لتنقل رسائله إلى أتباعه فى الناحية المقابلة للجزيرة ويمد يده فى الهواء ، فتعود بطير ال يبدى مقاومة حين .

ويشير إلى األسماك ، . يكبر ، ثم يجرى على عنقه بسكين . ه فتقفز فى الشباك إن لم تسعف الطراحة الصياد بما يطلب

وكانت تقوم على خدمته ثالث من عرائس البحر ، يتناوبن وقيل إنه أشفق على ترسة مقلوبة على . الخروج من الماء

همس فوقها بكلمات ، . ظهرها ، حتى يأتى موعد ذبحها فانقلبت ، وجرت بما ال يتوقعه الناس من سلحفاة ، حتى

للص ، إنه لمح لصاً يتسلل إلى كوخه ، ورآه اوقيل . اختفت حسبى اهللا : نظر إليه الشيخ ، وقال . فاندفع نحوه يقصد قتله

شهق الرجل ، وسكنت حركته ، ونزلت . ونعم الوكيل

كواسر الطير على الجثة تنهش لحمها فلم تبق منها حتى

إن مصلياً فى ياقوت العرش أنكر والية الشيخ وقيل . العظام لم يعد . كلماته سلبه الشيخ كل ما حفظه من شعائر الدين و.

يعرف صالة وال صياماً وال آيات قرآن أو أدعية وابتهاالت تناهى الصوت من . تمسح الرجل بمقام الشيخ مستغيثاً .

ثم عفا . أنكرت واليتنا ، فطمسنا ذاكرتك : داخل الضريح ..عنه

الخالء السماء والبحر و: النظر ما يحيط به أطال والنباتات البرية عشاب واألوالصخور والكهوف واألشجار

..أين ولدته أمه ؟: والطحالب العائمة واألفق دسه فى الماء ، وصعد . مد الطائر منقاره فبدا كرمح

..بسمكة كبيرة تلعلط ليست الطيور مجرد غمائم بيضاء أو سوداء ، متحركة

عرف الخصائص التى يتميز بها طائر . ، تنطلق فى المدى ناحين ، والذيل ، ومالمح الوجه ، الحجم ، والج: عن آخر . أفلح فى تمييز الكثير من الطيور بأصواتها . والمنقار

لم يقنعه نفى .. ينصت إلى الصوت ، فيخمن نوع الطائر

طيور النورس تجسد : الرجل لما كان قد استقر فى يقينه

..ظل يعتبر صيد النورس شؤماً . الغرقى أو القتلى الحياة من حوله ، بين انقطعت الصلة بينه وبينال صحف وال إذاعة وال . الجزيرة والبحر المترامى اآلفاق

رأدرك . تليفزيون ، وال حتى من يحدثه عن األحوال فى البكانت الساعات تمضى دون . أن صيد السنارة علمه الصمت

أن يتبادل الكالم مع أى إنسان ، وهو ـ منذ بدأ رحلته ـ ال عات تعلم صيد السنارة علمته الصبر ، سا. يكلم حتى نفسه ..وعلمته الصمت

ألف تكسر األمواج على شاطئ الجزيرة على شريط الرمال ، تكشف شفافية المياه عن القاع ، تناثرت فيه الحصى

..واألصداف الصغيرة واألعشاب صاد بالسنارة ، وألقى الجرافة ، :لجأ إلى كل ما تعلمه

يبحث فة من الجزيرة الصخرية والطراحة ، وغاص إلى مساترك فى . ينزع ثيابه تماماً ، ويغطس . عن مأكوالت بحرية

أدرك أنه لن يستطيع . بحرى بدلة الغطس ، وأدوات الغطس ليس السمك وحده هو ما : فى باله قول الكابتن . الغوص بها

هناك الكثير من الحيوانات المائية .. نأخذه من البحر

: وقال الكابتن . سفنج والمحاريات واإلواألعشاب والطحالب

كل ما فى البحار يجد ما يأكله ، المهم أالّ يكون هو ما يؤكل تألق فى داخله الماء العذب . حفر بئراً فى الجانب الشرقى . أخذ . جعل همه أن يروى زراعة نبتت بالقرب من البئر .

أعده على النار ، وأكله ، . بيض الطير من األعشاش اهللا أكبر ، ثم جرى بالسكين على أعناق طيور : س وهم

..كثيرة ، وأكلها مشوية أطال تأمل البيضة الدائرية ، المستطيلة ، ونقرها ،

..فوشى داخلها بالحياة :قال له الكابتن

..الكائنات تأكل بعضها .. ـ هذه هى الحياة فى البحر :مط شفتيه

..ـ هذا ما يحدث فى األرض أيضاً يبدو . يستطيع رؤية القاع فى األجزاء الضحلة كان

أفلح ـ بعد أن أخفق مرات كثيرة ـ . الحصى بألوان متباينة ال سنارة ، وال طراحة ، . فى صيد السمك بيديه العاريتين

كلما أسرعت اليدان بالغوص ، وبالصعود ، . وال جرافة ..أفلحتا فى صيد سمكة ، ثم يدفع يديه لتصعدا بسمكة أخرى

لم يكن يغطس إالّ إذا دلّته شواهد على وجود األسماك

يعثر عليها داخل الجحور والمغارات ، أسماك من كل . حتى األسماك الهائلة الحجم كان ينالها . األنواع واألحجام

..بالتصويب المتقن من البندقية ، أو الحربة أزمع . طالت لحيته ـ بتوالى األيام ـ فبلغت صدره

اكتفى بثوبين ، يرتدى أحدهما ، . ضايقتها له أن يهمل م التنقل والبحث اعتاد. ويغسل اآلخر ، وينتظره حتى يجف

فهو يحصل عليه من . لم يعد طعامه مشكلة . عن الطعام البحر ، ومن األشجار ، ومن النباتات البرية ، ومما زرعت

يصطاد األرانب والدجاج . يمضى إلى داخل الجزيرة . يداه يحاول تسلق النخيل واألشجار ، والتقاط . ط البرى والب

الثمار من أعالها ، يجمع الحطب ، وفروع األشجار ، واألعشاب الجافة ، يوقد فيها النيران ، يطهو عليها طعامه ،

وانشغل . أو يشوى األسماك ، أو يعد مشروبات ساخنة ..بصناعة السالل

مد قدميه فى . أهمل النزول إلى المياه لبرودتها القاسيةأهمل . المياه المثلجة ، ثم سحبها ، ولم يعاود المحاولة

..األرض اعتمد على ما أثمرته قطعة . الصيد

تتكسر على . كانت األمواج تعلو ، وتتوالى ، وتندفع

نفخ يديه . وكان الطقس بارداً . صخور الجزيرة وشعابها صغيرة ، تقرفص بين أشجار . ضرب األرض بقدميه . بفمه

أحس أنه ينتفض من البرد ، وأسنانه تصطك ، . متجاورة .. وأطرافه تتجمد

كانت أمه تحرص ـ فى الشتاء ـ أن يدس قدميه فى لف حول . وكانت ترى فى ذلك تدفئة للجسد كله . جورب

غطى . قدميه فوطة كبيرة ، لكن البرودة ظلت تنخر جسده ، وضم ركبتيهكتفيه وظهره ببطانية ، ووضع رأسه بين

وتعمد هز جسده ، وضرب قدميه فى ساقه بذراعيه ، .. يحاول أن يدفئ نفسه بنفسه األرض ،

دافع عن نفسه من أذى الطيور . واجه الخطر تنقل بين الشقوق . المتوحشة والزواحف والحشرات

حاذر الصخور المسنّنة ، . بين الصخور والفجوات والكهوف . تار كهفاً صغيراً ، يقضى فيه الليل اخ. المدببة ، كسكاكين

المدى من حوله طبقات من . يدخل إليه على يديه وركبتيه الظالم والرؤى المتخيلة ، وهدير األمواج يترامى وهى

يرهف سمعه ، يحاول أن يتبين .تصطدم بصخور الشاطئ

الفرق بين هدير أمواج البحر ، واألصوات العابرة التى ربما

..ادرها يلجأ إلى مصوكان يلجأ إلى مقام الولى إذا همه أمر ، أو حزبه ما

يبلغه بالرأى . ه ويعطى نيأخذ م. يكلمه كأنه يراه ، كدره ..الصواب حين يزوره فى نومه

..ترامى صوت لم يكن ألفه منذ نزل الجزيرة توقع أن يكون . ثمة شئ صغير فى األفق ، ظل يكبر

..باخرة لم يتحقق . ه ـ باخرة هائلة الحجم رأى ـ من موضع

من نوعها ، وما إذا كانت بارجة حربية ، أم باخرة ركاب ، واصلت سيرها ـ عن بعد ـ حتى تحولت . أم ناقلة بترول

..إلى نقطة فى األفق ، ثم اختفت تماماً يشعل النيران ، أو يرفع قطعة : فكر فى وسيلة اجتذاب

كتم الرغبة فى داخله ، .قماش ، أو يصدر أصواتاً عالية ..تنبه إلى أنه لجأ إلى الجزيرة باختياره ، لم يدفعه أحد

بدت الرحلة منفذاً وحيداً ، مضى من خالله لينعم

سرار المقدسة ، والعبارات ، واإلشارات ، واأللفاظ ، باألآالف الطيور الصغيرة . والمجاهدات ، واللطائف الروحانية

لزاعقة ، غمر الضوء أجنحتها ، ، السوداء ، الصارخة ، اتحلق فى السماء الصافية الزرقة ، تمأل جو الجزيرة

تختلف عما قرأ عنه . ال يذكر أنه رآها من قبل . بالصخب . فى أحجامها ، وألوانها ، واألصوات التى تصدر عنها

تندفع نحو القارب فى . تقترب ، فتلقى ظاللها على المياه ، تختفى شىءب ـ فى اقترابها ـ كالمياه بال آفاق ، ثم تذو

..كسراب ثمة طائر وحيد ، التمع كومض البرق ، وإن لم يصدر

صفع الفراغ من حوله بجناحيه الكبيرين ، ثم حلق . صوتاً رف بجناحيه فى السماء ، ثم مال ، . انطلق . فى األفق

ألقى ظالالً سريعة على صفحة . وعاد وانحدر نحو الماء ،نه يرافق القارب ، أعاد نشر جناحيه ، وعال فوق كأ، الماء

مضى فى نصف دائرة ، ثم اندفع ـ ثانية . األمواج ، وعال هو ال . ينوى الغطس ينوى مالمسة األمواج ، أو ـ كأنه

..يبتعد عنه حتى يعود إليه

..استدار الطائر هابطاً

لبث أن طار فوق توقع أن يغوص فى البحر ، لكنه ماتناثرت على السطح ـ فى ابتعاده ـ . فكاد يالمسها المياه ،

..دوامات صغيرة ، متجاورة ..نه يعرف هذا الطائر ، وأنه رآه من قبل أخيل إليه

.. أين ؟ ومتى ؟ربما كان هو الذى ألف وقوفه على إفريز الشرفة

يهدل كحمامة ، يتقافز على شارع رأس التين ، المطلة على ..اإلفريز الحديدى

يتأمل تمازج ألوان . قترب ، فيستقبله بشعور األلفة يالجناحين ، والعينين الحادتى النظرات ، والمنقار الدائم

..الحركة ، كأنه يتكلم بلغة هو ـ بالقطع ـ ال يعرفها : نجاتى قال له الشيخ

..ربما يتجسد النجم فى هيئة سمكة أو طائر ـ :همس لنفسه

نجمه الذى خرج للبحث ـ هل يكون هذا الطائر هو ..عنه ؟

هل المعنى هو ذلك الطائر ، . ألزمناه طائره فى عنقه

..النجم ، الذى يرافقه منذ الميالد إلى الممات ؟: حاول أن يتوصل إلى معنى يرشده لما يبحث عنه

حركة الطائر ، الخطوط المستقيمة ، والمتعرجة ، االنطالق شكال والتكوينات التى إلى أعلى ، والهبوط إلى أسفل ، األ

يمسك باللحظة . يرسمها الطائر ، دورانه فى دائرة المدى ..التى تعينه على الوصول إلى ما خرج للقائه

تمنى أن يتلقى السر الذى خرج فى رحلته القاسية ..لمعرفته

لكن الطائر بدا مجهداً ، ذاوياً ، يطير بصعوبة ، أو ال ..يقوى على الطيران

هل أجل : ه وهو يواجه بالعجز معاناة الطائر قال لنفس ..بدء الرحلة حتى نفد وقتها ؟

طوى الطائر جناحيه الكبيرين ـ فجأة ـ ودس عنقه بدا أنه يعانى ماال قبل له على تحمله ، وانه . بين كتفيه

. مضى الطائر قريباً من سطح الماء .. يوشك على السقوط ..شى فى داخله تال. صار جزءاً من امتدادات الفراغ

ساد الصمت ، والغموض ، والرؤى التى ترفض البوح

.. تناهت أصوات من أعماق البحر ، ال يدرى مصدرها

آن أوان : تصاعد فى داخله هاتف . على وجه التحديد ..الرحيل

عرف ـ كأمر ال يستطيع رده ـ أن عليه أن يهجر أين االستقرار ، ويكمل الرحلة التى ال يدرى كيف وال

..تنتهى اًبدا ما يفعله تلبية لهاتف ، وصية ، نداء مجهول ، أمر

يعرف مصدره ، فيلتقى بالنجم ، الطائر ، السمكة ، ال ..المجهول الذى سيهبه سر حياته

اقتحمه خوف من المتوقع ، ال يخمن مالمحه ، وال خوف يلح بأن شيئاً يوشك أن يحدث ، . حتى صورته الكلية

..ى على دفعه شيئاً ال يقولكن النداء فى داخله ظل أقوى من تمنى المضى فى

، وصحت ـ فى داخله ـ أشياء كان قد تصور أنها الرحلة .ماتت

..التفت وراءه تحولت إلى نقطة . تضاءلت الجزيرة ، وشحبت

من كل للقاربعاد احتواء المياه . صغيرة ، ثم اختفت تماماً كان قد أعاد ملء . هدير األمواج لم يعد يسمع إالّ. الجهات

.. بالفاكهة والخضرالقاربالجراكن بالماء العذب ، ومأل . لم يسفر األفق عن نهاية ، أو حتى مالمح للنهاية

. حتى هبات الهواء كانت الفحة . اشتدت سخونة الهواء استحالت الشمس قبة عريضة من البياض المتوهج ، تفح

..متصاعد يحيل األفق سراباً البخار ال. سخونة الهبة حاول أن يجتاز النهار بأية وسيلة ، ال يجهد نفسه فى

همه أن يفر من القيظ . التجديف ، وال محاولة اإلسراع لو أن الكابتن كان معه فى القارب يمسك . والشمس الالهبة

بالدفة ، لكن الشيخ طالبه بأن تمضى رحلته إلى منتهاها ، ..دون رفيق :شيخ نجاتى قال ال

كل واحد يذهب .. ـ ال أحد يذهب مع آخرين

..بمفردهرأى الكثير من األسماك التى لم يحدثه الرجل عنها ،

ربما اجتذب عينيه ومضات سريعة .وال يعرف أسماءها ..يخمن أنها األسماك الفوسفورية . كلمحات البرق

أفلح فى تجنب التيارات الصاخبة ، الموارة ، فال تقذف حذّره الكابتن . إلى موضع ليس هو الذى يمضى إليه لقاربا

تدفع القارب إلى . من التيارات البحرية المجهولة ، المفاجئة ..شاطئ صخرى ، فتحطمه

تبين ـ فى األفق ـ نقاطاً متناثرة ، بعيدة ، كأنها تطفو تراءى ما بدا كأنه جزر صخرية ، أو . على سطح الماء

على وشك الوصول إلى األرض ، تصور أنه. رءوس جبال ..ظل القارب يشق األمواج . لكن المسافة خدعته

هل تكون هذه الصخرة البعيدة هى حجر المغناطيس يجتذبه القارب ناحيته حتى .. الذى قرأ عنه فى الحكايات ؟

..يلتصق به ، فتتفكك أجزاءه ، وتغرق

سفينة من أى نوع جزيرة ، وال مر زمان دون أن يلمح

شعر أنه وحيد فى هذا البحر . ال صغيرة وال هائلة الحجم ، ..المترامى

أحس بالتعب من طول الرحلة ، ومن التجديف ، ومن اآلفاق المترامية من كل الجهات . توقع ما تغيب مالمحه

قهره الشعور . فقد األمل فيما وراء الوراء . حاصرته ..بالوحدة والعزلة والحياة فى سجن

اآلفاق من حوله ، تحولت إلى أسوار غير امتدادات ..مرئية ، يصعب عليه عبورها

، كمن يطرد شيئاً عال صوته ـ دون تدبر ـ بالغناء لم يتدبر الكلمات وال األلحان . من داخل نفسه ، أو ال يتبينه

مجرد أن يدفع . غنى ما أسعفته به ذاكرته .وال المعانى ..الوحدة عن نفسه ، ويدفع الوحشة

..جاء الليل تكاثفت الظالل ، حتى انعدمت . ازداد سواد السحب

. غشيت عيناه فهو ال يرى شيئاً . سادت الظلمة . الرؤية

ليس حوله من كل الجهات سوى األمواج الصاخبة من حوله

دامها بالصخور الصغيرة ، ط، ال يبين منها سوى هدير اص ال يرى فيها بقعة المتناثرة فى المياه ، الظلمة المتكاثفة ،

ضوء ، وال يتعرف إلى موضع المالمسة ، وال حتى إلى ..تقاطيع جسده

حاول أن يسترشد بالنجوم ، ثم أزمع أن يتوقف إلى الرؤية فى ضوء النهار أفضل من . صباح اليوم التالى

..الرؤية فى الليل لم يعد يفرق ـ بتأثير الظلمة الداكنة ـ بين الليل

هى لحظة ساكنة ، ممتدة . يعرف توالى األيام والنهار ، وال ..، وإن ألف أصوات الليل ، يغيب فيها التوقع

حين أراق القمر ضوءه ، تشاغل بعد النجوم ، وتأمل علمه . الطحالب الطافية فوق المياه واألسماك المتقافزة

الكابتن كيف يحدد مكانه فى قلب المياه ، بالتطلع إلى النجوم . الشمس تشرق على كل الدنيا . ير إلى ناحية كل نجم يش.

تحرك النجوم فى السماء . تشير إلى الليل ، وإلى النهار يرتبط باألبراج الفلكية ، وبحركة المد والجزر ، والعواصف

، والنوات ، وخطوط الطول ، وخطوط العرض ، وقوة

..الرياح ، وتغير اتجاهاتها ، وسكونها لكن الدافع للبحث عنه .ائره نه ربما ال يجد طأيدرك ..تاق إلى السر الذى يعرفه حقائق كثيرة . تملكه تماماً

..لو أن الطائر تكلم لكنه . يعرف إنه طائر ، وال يستطيع كالم البشر

عليه أن يوضح ما غمض ، ويفسر المعانى ، . طائره هو ..ويشير إلى الدالالت ، ويملى الفعل اآلتى

اآلفاق ال نهاية . السماء باألرض صحا على التقاء ..لها

استخدم مياه األمطار . فرغت الجراكن من الماء العذب تتلقى القطرات . يضع األوانى الفارغة وسط القارب .

..المنهمرة ، حتى تمتلئ ، فيفرغها فى الجراكن أشرقت الشمس وغربت ، وظهرت النجوم واختفت ،

طوى مراحل .د إليها وتخلى القمر عن استدارته ، ثم عا

ومخاوف ومهالك ، وأيام راحة ، وأيام تعب ، وعانى الحر

..والصقيع ترامت أصوات بعيدة ، متداخلة ، غير مستبينة المعالم

ثم . ومض األفق ببروق متوالية ، كأنها الشهب المتطايرة . تبين ـ فى الظلمة المتكاثفة ـ أعين ملتمعة ببريق غريب ،

..ين ترميه بنظرات كلهب النار ربما أربعة أعليس حوله إال امتدادات األمواج بال نهاية من كل

. شرق أو غرب الجوانب ، ال شمال وال جنوب ، والالقارب بقعة فى مساحات من المياه التى امتزج فيها األزرق باألخضر ، وثمة فلوكة بعيدة ، طافية ، خالية ، يحركها

..التيار . الخوف من آفاق المياه المترامية سيطر عليه إحساس ب

قهره اإلحساس بالعزلة ، والوحدة ، والضآلة ، فى اتساع . إنه حر فى الفراغ المطلق . اآلفاق حوله من كل الجوانب

ارتفع صوته . غنى ليدارى الخوف . مقيد فى الفراغ نفسه بكلمات غير مترابطة ، ومدغمة ، مجرد أن يطرد اإلحساس

..بالعزلة

باخرة ، أو غمامة سوداء ، أو : شيئاً فى األفق ميز

..طائراً كبير الحجم ؟خمن . سرى ـ فى المياه الساكنة ـ اضطراب خفيف

أن شيئاً ما حرك المياه فى الناحية المقابلة ، وراء األعشاب غاصت مقدمته فى . تأرجح القارب .النامية فى قلب البحر

..الموج ، وعلت دفعته . لى القارب ، تعلو به وتهبط تدافعت األمواج إ

ترامى من أسفل صوت . التيارات إلى األمام ، وإلى الخلف ر من الماء ـ فجأة ـ جسم تانت. كالهسيس ، أو كالخشخشة

..قفز عالياً ، ثم عاود الغوص . كالترسة غاب التوقع ، وما . خمن أنه غاص تحت القارب ليقلبه

ن المخلوقات الغريبة التى تن عالكابحدثه . يستطيع أن يفعله تعلم السباحة والصيد وقيادة القارب ، . تحيا فى أعماق البحر

تفصيالت الصورة ، التكوينات والمالمح واأللوان لكن ..والظالل ، ظلت غائبة

علت الريح بما يشبه الزمجرة القاسية ، تخيفه ، وتدفعه ت الشعير استعاد ما تعلمه من الرجل عن نفضا. إلى التلفت

تحولت األمواج إلى .، تأتى بال نذر ، وال مواعيد محددة ..جبال صغيرة ، لم يدر كيف يواجهها

. فكر فى أن يرفع على جانب القارب فانلة داخلية هذا ما نصحه به . لونها األبيض استغاثة للسفن العابرة

أهمل الفكرة . الكابتن إذا واجه ما يدفعه إلى طلب اإلنقاذ ية األمواج المتالطمة ـ وحدها ـ بال آفاق من كل لرؤ

..الجهات علت الفقاقيع . ما يحدث فى المياه كأنه فوران ، غليان

..تصاعدت سخونة لفحت وجهه . السطح ظنه ـ لضخامته ـ غيمة مثقلة ، عابرة ، ألقت بظلها

. لكنه بدا جسماً هائالً ، غريباً . الداكن على سطح الماء الجناحان يرتفعان وينخفضان فى رتابة . قترب اقترب ، وا

..بطيئة لطم المياه بجناحه ، فانفجرت . هوى الطائر الضخم

..كالنافورات مسحت يده ـ بعفوية . اصطدمت رأسه بمقدمة القارب

..وشت به القطرات المتساقطة على وجهه . ـ انبجاس الدم

وان أحجام صغيرة وكبيرة وأل. اندفعت ماليين الطيور

ال يعرف من أين ـ . طيور لم ير مثلها من قبل . مختلفة . حومت فوق القارب ، فوق رأسه . وال كيف ـ أتت . اقتربت . تقافزت على حواف القارب . طارت من حوله

عجز عن دفعها ، وإن لم . حطّت على رأسه وكتفيه وصدره ..يشعر بتألم من توالى نقرها لجسده

ادمة ، نذرها زفيف الريح ، وتعالى بدا كما لو أن نوة قصفير الريح خلخل الهواء من حوله ، حركه ، . األمواج

حفظ . ثارت األمواج بال توقع . عال بالموج والقارب مواعيد النوات ، وحركة المد والجزر ، لكن األمواج ارتفعت بالنوة المفاجئة ـ هل هى نوة ، أو هبة ريح وقتية ؟ ـ

.. دفعت القارب بعيداً :قال الكابتن

..ـ لو أن كل النوات أعطت إنذاراً فلن يغرق أحد خشى أن . اختطفتها األمواج . فاجأه ضياع البوصلة

يكون القارب قد بدأ الدوران فى مساحة دائرية ، فهو يبعد ..عن الشواطئ ، وال يتجه إلى األمام

فكر فى أن يقفز إلى الماء ، لكنه فطن ـ بارتفاع

..الفكرة وفورانها ـ إلى سخف األمواج ..لم يعد بوسعه التراجع

نسى كل ما . أدرك أنه لن يستطيع العوم متراً واحداً المواجهة لن تجدى ، وسيخسر المعركة إن خاضها . تعلمه

.. ..تلفت ، يبحث عن فرصة للهرب ، مالذ يحتمى به

أسكت تردده إصرار بأن يقتحم لجة البحر مهما تعلو ..جه أموا

: نجاتى قال الشيخ ـ السعى إلى لقاء النجم هو الرحلة الوحيدة التى يجب ..على المرء ـ حين تبدو مشكالته بال حل ـ أن ينطلق فيها

الشمس على يمينه ، فهو الشرق إذن . ساعات الصباح ..، والقارب يمضى نحو الشمال ، والجنوب فى أسفل بة ، كأنها تكثف الصمت ، وتشمم أنفه رائحة غري

..العدم، أودعهما كل ما لديه من قوة ، لجأ إلى المجدافين

..يضرب بهما تالطم األمواج

..انفرجت المياه عن كتلة هائلة ، انتترت فى الفراغ

راقب ـ فى ذهول ـ دورة الجسم البطيئة ، الهادئة ، نفث من أنفه ما يشبه السحب الصغيرة . وانزالقه على الماء

تحول . تداخلت األلوان فى البشرة الملساء . قة ، المتالحاألبيض إلى أسود ، وتحول األحمر إلى أزرق ، وحل

..األصفر حتى هزمه األخضر عينين : تبدل الشكل الهالمى ، فاكتسب مالمح إنسانية

تحصن بالمعوذتين وآية الكرسى واألدعية ، . وأنف وشفتين صيحة للهيئة التى لكن المجهول ظل على تبدله حتى أطلق هاتان العينان هما . استقر فيها ، كأنه يرى نفسه فى المرآة

عيناى ، واألنف ، والشفتين ، حتى خصلة الشعر البيضاء حتى الندبة البنية تحت األنف ، وإن زاد . فى مقدمة رأسه

الشعر األبيض فى الفودين ، وأحاطت التجاعيد بالعينين ..وحول الفم

لم يكن الفعل فعله ، لكن القوة . تصدى غالب تأهبه للالمسيطرة ، اآلمرة ، نبعت من داخله ، تلزمه بالسكينة ،

ينظر .. مفتوح العينين ، صامتاً ، جامد األنفاس ، ال يتحرك ..إلى الجسم الهائل ، يتصور أنه يقترب منه

:بدت الكلمات واضحة ، رائقة . تحركت الشفتان

..شيئاً ـ أنت ال تملك من األمر :ثم فى نبرة حاسمة

..ـ إذا وجدت ما يخيف ، فاقذف بنفسك فى الماء تردد فى قذف . ظلت األمواج على صخبها وفورانها

إن اشتدت الريح ، فامض معها : تذكر قول الكابتن . نفسه ..

. علت موجة هائلة ، لم يستطع مقاومتها وال دفعها . اجتذبت القارب أزمع أن يظل فى مكانه ، لكن الموجة

تنبه ـ فى لحظة ـ أنه يقاوم الموج . طوحت به إلى بعيد يتحرك فى موضعه ، وال ينطلق إلى األمام . أكثر مما يعوم

..

جرفت األمواج القارب . مضت أزمان وهو على حاله انفسح البحر أمامه أمواجاً متتالية . ابتعد عن الجزيرة تماماً . ..فى كل اآلفاق لم يعد إالّ األمواج .

. أدرك أن ما تعلّمه من الرجل كان أقل مما ينبغى

تمنى لو . عرف كل شئ ، أكثر حتى مما عرفه من الرجل ..ربما تغيرت أشياء كثيرة . أن الزمن عاد إلى البداية

لم يقتصر هبوب الريح على جهة ما ، لكنه شمل كل ركه ، صفير الريح يخلخل الهواء من حوله ، يح. الجهات

يعلو باألمواج والقارب ، أمواج عالية يهتز لها القارب ، تعالى صوت الرعد ، وومض . حاصرته فى توالى مدها

لم تعد له سيطرة على . وهج البرق ، ثم هطل المطر كالسيل تقلصت يداه على . فاألمواج تعلو به وتهبط . القارب

أن يغرق يعرف إنه إذا سقط فى البحر ، فالبد . المجدافين عانى ضغط الريح على ساعديه ، حتى ال تنتزع . القارب

..األمواج المجدافين أحس ـ فى امتدادات األمواج العالية ، المتوالية ، كأن

ال بشر ، وال طير ، . القارب تحول إلى قبر ، وأنه وحيد حل سكون . استلت األصوات من كل شئ . وال أصوات

تخلل السكون حتى . ر عميق ، مبهم ، حافل باألسراغاب . األعشاب والطحالب التى تطفو على سطح المياه

حتى الهواء . الصوت الذى يحدثه تقافز األسماك فوق الموج

حتى الطيور كأنها لزمت أعشاشها ، والطائر الذى . سكن

..ظل يحوم من فوقه ، اختفى أين ذهب الطائر الذى كان يحلّق وحيداً فى األفق ؟ هل

وهل كان هو نجمه ؟ وهل أومأ موته ـ إن حدث ـ مات ؟ ..بالسر واإلشارة والمعنى ؟

حين ظهر الطائر ، تمنى أن يعرف منه السر ، لكنه ..اختفى

مضى الطائر دون أن يهبه السر الذى طلبه من ..الرحلة

حاول أن يستعيد المالمح التى ربما أشار إليها الشيخ لمات مما لم يفطن إليه ، أو ما تخلل الك. نجاتى فى أحاديثه

نتوء صخرى فى المياه ، أو نجم ، أو بقعة مزدحمة . أهمله إشارة يهتدى بها . بالسمك ، أو خالية منه ، أو سفينة غارقة

..يمضى بالقارب حتى يجد ما انطلق للقائه . ..اختفى الوميض ، والعالمة ، واإليماءة ، واإلشارة

، أو يظهر ما يأمله ، ما هل يظل تائهاً بين األمواج ..يشى بالخروج من المأزق ؟

هل سبقنى الشيخ نجاتى إلى موضع : همس كالمتسائل ..النجم ؟

..تمشّى معه تحت ظل شجرة نهايته ال تبين :قال الشيخ

..ـ هل التقيت بنجمك ؟لكنه بدا كالومضات السريعة ، ثم .. ـ أظن أنى رأيته

..اختفى .. له كان يودعك ـ فى لحظة رؤيتك

:أظهر الدهشة ..ـ لم أكن التقيت به حتى أودعه

..ـ كان يرافقك ـ كما رويت لك ـ منذ والدتك ..ـ أنت أمرتنى أن أبحث عنه :افتر فمه عن ابتسامة مشفقة

..ـ لماذا تصورت أنه يبعد عن ذاتك ؟ :تبدلت نبرة صوته

..هل أعود ؟.. ـ هل انتهت الرحلة ؟

بدأت فى شروق الشمس ، وتنتهى فى ـ رحلتك

..غروبها ..ـ لم تغرب الشمس بعد

ـ إن لك شمسك الخاصة ، وهى تغرب فى موعدها ..تماماً

أذهلته الكلمات ، وتلفت فى طبقات الظالم المتكاثفة من ..حوله ، يبحث عن أصداء الصوت الغائب

هيئ له أنه يشاهد أرواحاً ، ويسمع أصواتاً منغّمة تراتيل ، أو األغنيات ، وثمة شئ ال يتبينه يتولد داخل كال

..نفسه

اهتزت الجزيرة . بدت المرئيات كحلم ، أو كابوس كأنها تتحرك ، كأنها تدخل فى قلب المياه ، أو أن البحر

. هدر الرعد ، وتوالت البروق ، وسقطت السيول . يبتلعها والرمال علت األمواج محملة بالحصى والطحالب واألعشاب

وانحدرت ، وانبثقت البراكين . تتشققت الصخور ، وتفتت. اختلطت الصواعق والعواصف والشهب والنيازك والنجوم .

تعالت النيران ، . اصطدم كل شئ بكل شئ . المتساقطة

تسلل الغبار إلى عينيه . وشاعت الحرائق والشظايا والدخان اختفت تخلل شعره ، وصبغ وجهه ، و. وأذنيه وأنفه

..المرئيات فى سحابات الغبار المتكاثفة غابت اإلشارات ، ال بداية وال نهاية ، ال أرض وال

تبدلت التضاريس واألماكن ، . سماء ، ال بحر وال شاطئ ..وتداخل كل شئ فى كل شئ

..ثم رانت الظلمة والصمت حاول أن يستدعى صوراً ربما كانت موجودة فى حياته

. نسى كل شئ ، وكل إنسان . هن بيضاء ظلت صفحة الذ. ظلت ترافقه إلى هبوب . من بين من التقى بهم مديحةلم تكن

العاصفة التى طيرت القارب ، وقذفت به فى داخل األمواج كأن باباً . عن ذاكرته غابت المالمح واألسماءوحيداً ،

فرضت اللحظة نفسها ، مقطوعة . أغلق على حياته الماضية لم يعد . ا مضى ، وإن ألحت بالخوف من اآلتى الصلة بم

..يقوى حتى على الصراخ

أدرك أن النوة ـ التى . وجد القارب مقلوباً فوق شجرة

أطاحت بكل شئ ـ قذفت بالقارب بين فروع الشجرة الهائلة خمن أنها بقايا . وثمة قطع من الخشب طافية فوق المياه .

بدا أن . ع بنظرة سريعة مسح الموض. مركب أغرقتها النوة ونزل الشجرة ، تسلق . األمواج طوحت باألخشاب من بعيد

لجأ إلى البلطة والمنشار والقادوم حتى هيأه ـ . بالقارب ..ثانية ـ لمواصلة الرحلة

الجسم الغريب تحولظل القارب فى انطالقه ، حتى .. األفق نقطة ذابت فى إلى

امتدت البداية ، . أوغل القارب فى الزمان والمكاناختلط الماضى فى . تشوشت األوقات . فغابت النهاية

ذابت اللحظة . الحاضر ، وغاب الحاضر فى رؤى الماضى ..فى الالنهائية والمطلق

. هدأت األمواج . سكنت الريح ، وصلح أمر البحر إلى حصيرة ، سطح أملس ، المياهتحول . هدأ كل شئ

سماء ، فعرف أن النهار علت الشمس وسط ال. ساكن اتسعت السماء ـ فجأة ـ فبدت بال أفق ، كأنها . انتصف

..نقطة التقاء األرض بالسماء

أقبل من حيث ال يدرى سرب هائل الحجم من الطيور

أعداد ال حصر لها ، شكلت . المتداخلة األحجام واأللوان ..غيمة فوق البحر ، بدلت لون المياه

اتجهت . فسها فى دورات متتالية انقلبت الطيور حول ن ..وعادت ناحية األفق ،

:قال لنفسه ..ـ حيث يطير الطائر ، فهو قريب من األرض

لم يستطع تخمين موقعها . أدرك أن األرض قريبة ..على وجه التحديد ، لكن الطيور المحلقة وشت بقربها

اآلفاق من حوله ممتدة ، مترامية ، ال بشر ، وال ظل ، .. زبد المياه يلتمع تحت انسكابات الشمس . صوت وال

أشرقت الشمس عفية ، وأشرقت . التمع األفق بوميض خلت السماء من . غمرته بحرارتها العارمة . ، وأشرقت

اصطبغت المرئيات . السحب تماماً ، وإن غابت الزرقة بألوان الطيف ، ثم غابت األلوان ، فلم يعد إال اللون األحمر

. الشمس أكثر حمرة ، أقرب إلى قرص هائل من الدم بدت . . تحولت إلى امتزاج ألوان الطيف ، تمددت ، واستطالت

نفث الهواء الساكن قطعاً من اللهب الذى يحس وال يرى ،

وإن دخلت المرئيات ـ بالحرارة القاسية ـ فى ضباب

لم يعد . تصاعدت الشمس من الماء ببخار ملتهب . متكاثف . من الشمس الالهبة فى امتداد األمواج من حوله ثمة عاصم

سيول من الحرارة تتدفق . احتوت كل شئ بسخونة قاسية ، وعلى القاربعلى كل شئ ، تنسكب على األمواج ، وعلى

أتون من . نوافذ متالصقة ، تطل منها نيران مشتعلة . رأسه فارت من حوله . اشتعلت المياه بالسخونة الحارقة . الجحيم

لم تعد األسماك تتقافز فوق . كمراجل ، أو قدور ، متالصقة ظلت فى األعماق الباردة ، والذت الطيور السوداء . المياه

بأماكن مجهولة ، وتحولت الصخور الناتئة من المياه إلى ..قطع فحم شديدة السواد

شعر بأنفاس بشرية قريبة منه ، اقتحمت أنفه ، تكاد ألجساد وتالصقت ، ينز منها ازدحمت ا. تالمس وجهه

. العرق وانتفاضات الخوف ، وغمغمت األفواه بما لم يتبينه دعوات وابتهاالت وهمهمات وأنفاس ورائحة أجساد ال ظالل

حصر لها ، ال يراها ، وإن كان يشعر بلفح أعداد ال. لها خنقه زحام األجساد . أنفاسها ممتزجاً بلفحات الشمس الحارقة

أنها لهجات لم حدس، واستمع إلى همهمات ، ، ضغط عليه

كل شئ فوهة بركان ، تغيب فى تصاعد سخونته . يفهمها

..حتى المرئيات ؟ اهل هو وحده الذى ال يرى األجساد التى تبث أنفاسه

..هل تراه أعين اآلخرين ؟استحال جذوة نار ، واستحالت الجذوة . زاد الوهج

ن الشمس الالهبة شموس تولدت م. شمساً هائلة ، مشتعلة . صغيرة أشد توقداً ، تنفث صهداً ، لهباً ، ناراً حامية

استحالت شمساً كبيرة . تكاثرت ، وتجاورت ، وتالصقت جاوزت أشعتها . تداخلت فى السماء . بمساحة السماء كلها

معنى األشعة ، فهى ألسنة من النيران ، خيوط نارية ال نهاية . المحمى ، قطع من شظايا الزجاج لها ، أسياخ من الحديد

..علت رائحة غريبة ، كأنها الشواء ، أو اللحم المحترق بلل شعر رأسه وجسده ، . تفصد العرق من مسام الجلد

اقتحم الوهج جفنيه فأغلقهما ، ثم نتر ـ . علق برموشه انهمرت حبات العرق . بعفوية ـ العرق العالق بالرموش

. خيوطاً ساخنة كأنها اللهب على وجهه وعنقه وكتفيه ،أحس أن نخاع عظامه . تسللت إلى عينيه وأنفه وأذنيه وفمه

والولدان والشيخ نجاتى األم ومديحةأين . احترق ، ذاب

إالّ نفسه ، شغلهلم يعد ي. والكابتن ؟ أين ذهب الجميع ؟

انطمست الرؤى واألحالم والذكريات . اللحظة التى هو فيها ..

..لظالل تاق لسكنى ا

توالت غالالت زرقاء ، شفيفة ، يبين من ورائها تصاعدت منها جزيرة لم يتحدث له الشيخ ، . الضياء الساطع

تصل سقالة بينها . وال الرجل عنها ، وال توقعها فى رحلته تنبثق فى ضوء الشمس ، وإن . وبين صخرة ناتئة فى البحر

ضوء رائق ، خلت األشعة من الحرارة الالهبة ، فهى مجرد ..صاف

..مال بالقارب حتى حاذاها ، ونزل بدت . أول مرة يترك القارب منذ زمن ال يتذكره

بالكاد وضع قدماً أمام . السقالة ـ مع طولها ـ رفيعة ..األخرى ، وسار فى خطوات متباطئة

لم يهتز فى وقفته على السقالة الرفيعة ، وال خاف .. اطمئنان وسكينة حل فى نفسه. السقوط فى البحر

صافح أنفاسه تمازج روائح الكافور والمسك والعنبر

..والزعفران والطيب قبل أن يبدو النزول على الجزيرة مجرد قفزة ، يتعرف بعدها إلى األرض التى تغطت بالغابات واألحراش ، فأخفت

..ما غاب عن تصوره ، ظهر ما لم تقع عليه عيناه من قبل ..ت مما رآه أعاد النظر للتثب

مع أنه تصور داخل الجزيرة شاغراً بالناس ، فإن وقفة ظل البشر . العجوز فى أول المنحدر إلى البحر أذهلته

يحيون فى ذاكرته وحدها ، حتى طمس الحلم ، الكابوس ، ..كل المالمح والقسمات واألصوات التى ألفها

ه بدا وجهه متألقاً ، وتكوين. لم تش قسماته بسن محددة كأنه يقف فى هالة من النور ، . الجسدى سابحاً فى الضياء

يضع على رأسه عمامة ، .وأن المكان يشرق من نوره ، ويرتدى سرواالً من الجوخ األبيض ، وشملة حمراء . وصديرياً ، فوقها قفطان من الحرير ذو لون ذهبى المع

..ويدس قدميه فى بلغة كالتى يرتديها المغاربة :هفة على صوته غلبت الل

..ـ هل أنت من أهل الجزيرة ؟

:افترت شفتا العجوز عن بسمة حانية

..ـ ما أعرفه إنى لست من أهل البحر :وسأل فى لهجة إشفاق

..ـ متعب ؟ :تنهد

..ـ كانت الرحلة طويلة :ثم وهو يضع راحتيه ـ بتلقائية ـ على رأسه

..ـ أقسى ما فيها أشعة الشمس الحارقة ..كنك فى النهاية وصلت إلى هنا ـ ل

:وخالط صوته حنو واضح ..ـ حمداً هللا على السالمة

فاجأه الشيخ بأنه التقى به فى موالد أولياء الحى ، وفى ة الجمعة داخل أبى العباس ، وفى األذكار بالقرب من الص

الشرقية ، وفى سيره ـ فى غبشة ءالباب المطل على المينا ..ة فى مسجد سيدى نصر الدين الفجر ـ ألداء الصال

بدت مالمح الشيخ مألوفة ، وإن لم يتذكر أين رآه ، وال .. متى ؟

تنحى له الشيخ ، فأدرك أنه يستطيع أن يمضى إلى

..داخل الجزيرة ما لم يكن يتصور أن . رأى نفسه فى دنيا غير الدنيا

بأنواع األرض مكسوة بالنمارق ، واألشجار محملة . يشاهده بالنباتات الدانية لثمار ، وألوان األزهار والرياحين ، وا

خيل إليه إنها تتمايل راقصة على أنغام . قطوف ثمارها ، تخللت سماوية ، لم تألفها أذناه ، وال أنصت إليها من قبل

حركت مشاعره النشوة ، وألوان الطيف . مسام جسده ..تتماوج فى تكوينات ال حد لبهائها

مال إلى . ه الطريق ، أحس بالعطش قبل أن تميل بأحس . أسند فمه إلى راحته ، وشرب . شجرة لها عينا ماء

. كل الذى عاناه أخذ فى التالشى . كأنه اغتسل ، كأنه تطهر وثمة غناء طيور . لم يعد فى داخله ضيق وال ألم وال قلق

يتناهى من داخل الغابة القريبة ، متداخالً ، كأنها تؤدى لحنا ..ه العفويةفرضت

أحس ـ وهو يمشى ـ كأن قدميه ال تالمسان األرض ..، وأنه يطير

.. هذا هو الضياء : همس لنفسه لم تعد الشمس الالهبة ، . اغتسلت عيناه بأشعة الشمس

. تدفق الضياء . وإنما تحولت إلى قبس أضاء الموجودات ور تداخل الضياء فى الضياء ، فتألقت المرئيات بما لم يتص

النور فوقه وأمامه وحوله ، ساطعاً ، قوياً ، . أنه سيطالعه ال . ال نهاية آلفاقه ، وال يبين مصدره . كما لم ير من قبل

هو يضىء ، ويعانق ، . سماء له ، وال أرض ، وال ضفاف طالعه ما ال عين رأت ، وال أذن سمعت ، وال . ويحتوى

، ضياء استغرقه الضياء الشامل. خطر على قلب بشر مسكون بقداسة نورانية ، علوية ، لم يسبق له رؤيته ، وال

استقبل الفيوض والوميض . تصور أنه بكل هذا الجمال واألنوار والتجليات والمعارف واألحوال والكرامات

تصاعدت . خشع الجالل والسكون . واألسرار الربانية لم يعد . توحد مع الكائنات ، ذاب فيها ، وذابت فيه . النشوة

هو هو ، وإنما أصبح قطرة فى البحر الهائل ، نجمة فى لم يعد . ماليين النجوم ، ذرة رمل فى صحراء ال متناهية

..الجزء ، لكنه الجزء ملتحماً فى الكل

غابة خضراء تغيب . طالت وقفته ذاهالً ومسحوراً

، غريبة األشكال أدغال متكاثفة . مساحتها فى امتداد البصر لنخيل واألشجار المتدلية الثمار واألغصان المتشابكة من ا،

. والنباتات التى بال حصر ، تعاقدت الفروع ، وتشابكت غابة متصلة من األوراق الخضراء ، بحر بال أفق من

..الخضرة ال . بهرته الصفرة الجميلة التى كست سيقان األشجار

من ال يكاد يسير . تشبه األشجار التى شاهدها فى حياته ثمار أصغر من . تحت شجرة حتى تسقط عليه ثمارها

شعر ـ لتذوقها ـ بحالوة . الرمان ، وأكبر من التفاح وثمة أشجار تدلّى من فروعها ما يشبه األجراس ، . العسل

تفيأ .تالمسها النسائم فتحركها فى هسيس كأنه الموسيقا ذى ظالل األشجار الممتدة إلى غير نهاية ، وتشمم الزهور ال

لم يتعرف إلى مثل جمالها ، وال أضوع من روائحها الذكية ..النفاذة

األرض شديدة البياض ، وثمة غالالت شفيفة ، تحولت الورد : المروج والحدائق واآلكام . بها المرئيات إلى أطياف

والبنفسج والنرجس والزنبق والسوسن وشقائق النعمان ،

له رؤيتها ، واألشجار وآالف النباتات الغريبة التى لم يسبق

أنواع . المتباينة األطوال واألحجام ، تدلت منها ثمار عجيبة من الطير ـ بكل ألوان الطيف ـ تحلق فى السماء الصافية

ثمة الكثير من الغزالن والظباء والبجع والطواويس . الزرقة األرض مكسوة بالنمارق واألحجار الكريمة ، واألشجار .

خرير المياه من المنحدرات . دانية قطوفها محملة بالفاكهة اليعزف ألحاناً كضوء القمر ، ودفء أشعة الشمس ، والجو

، والضوء سافر مع أن عينيه لم ال هو حر وال برد معتدل ، جدران القصور ـ معظم البنايات . تريا الشمس وال القمر

وثمة غرف من . قصور ـ صفراء ، ملتمعة بما يضوى ها من باطنها ، ويرى باطنها من زجاج ، يرى ظاهر

ظاهرها ، واألبواب مفتوحة ، يصدر من جوانبها ضوء غير تضوع روائح الزعفران والعنبر والقرنفل تمرئى ، و

..والفل والياسمين والعود والصندل الناس أشرقت ألوانهم ، وصفت وجوههم ، وجرت

المئات من الفتيات ، تتضوع من . عليهم نضرة النعيم هن رائحة المسك ، يرتدين ثياباً من الحرير معظمها أجساد

ثمة من وضعت . التفت الفتيات حوله .خضراء اللون

الطست أمامه ، ومن أمسكت باإلبريق ، ومن حملت المنشفة

تناوبن صب الماء فى الطست ، حتى انتهى من وضوئه ، . ..وجفف جسده بالمنشفة

ده ، ذوت اآلالم فى جس. ذهب كان المرض قد وتالشت ، وصفا الذهن ، وتصاعدت من داخله موسيقا

تداخلت . استقامت األلحان ، وعلت . علوية ، غائبة المصدر األصوات المنشدة ، وتدفقت فى المدى ألوان الطيف ،

، وتضوعت وتماوجت رقصات تحلق فى الفضاء الشفيف روائح العنبر والمسك والكافور ، علت ، وامتدت ، فلف

..كل شىء أريجها تمازجت فى نفسه مشاعر الهيبة والخوف واإلجالل

بدا المشهد أكبر مما يستطيع تحمله ، وال الوقوف . والتعظيم ثمة صوت ، ربما انبثق من داخله ، يستحثّه على . أمامه

..السجود فى موضعه عال اإليقاع ، وتصاعدت األغنيات المرتوية من ينابيع

..السماء اإلشارة والحكمة واأللغاز واألحالم أنصت إلى لغة

..المدهشة والسحر والرؤى

أحس أنه أمام لحظة ميالد ، تولدت نشوة لم يدر مبعثها

الوهج فى األفق ، واخترق الظلمة قبس ، وتألق ظهر، فاض الحنين ، . استغرق فى النور ، تالشى فيه . األرجوان

ما فى أحس بحب جارف لكل . وتسربلت األشياء بالشجن ...خطر له أن يطلق صيحة فرح ، لكنه تماسك . الكون

ثمة أطياف ضبابية المالمح ، ساحرة ، تحركت من تحيط بنور لم يسبق له رؤيته ، وإن لم يؤذ شدة . حوله

..بهاره نظره ، محمالً باإلشراق واليقين إسار محفوفاً بمئات الفتيات ، يرتدين ثياباً بيض ،

.. وينثرن األزهار ،يشدون بأغنيات كادت نفسه تضيق عن تصور ما يراه ، لوال أنه هو ما

..يراه بالفعل استعادت . ومضت فى السماء الصافية وجوه يعرفها القسمات . أحداث األعوام االثنين والثالثين نفسها أمامه

توالت الرؤى . والمالمح والتكوينات واأللوان والظالل آالف الوجوه ، . مئات الوجوه عشرات الوجوه ،. متشابكة

. ، تومض ، ثم تختفى توالت فى الذهن متقاطعة ، ومختلطة أنت ال تعالج مرضاً عضوياً فأعالجه ، وقال : قال الطبيب

إذا أردت رؤية نجمك ، فاذهب اآلن ، وقال : الشيخ نجاتى

كنت : رحيلك للبحث عن أسئلة تشقيك ، وقال الشيخ : الشيخ وتأمل السمكة وهى . قد تكون بال عودة تعلم أن رحلتك

تنتفض فى السنارة ، وأنصت إلى حكايات عرائس البحر والجنيات والخوارق والعوالم المسحورة ، وتعلم أسماء السفن واألسماك وأدوات الغوص والصيد ، ولجأ إلى ولى الجزيرة ، يكلمه كأنه يراه ، واستقر الخوف فى داخله ، ال يعرف

كيف يتخلص منه ، وأجهدته األشباح واألرواح بواعثه ، والالشريرة واألصوات الهامسة والنداءات التى ال يدرى مصدرها والسحن التى تظهر ثم تختفى ، ووقف على باب الشيخ حتى أذن له بالدخول ، وعرف ما لم يكن يعرفه عن السماء والبحار والمحيطات واألعماق واألسرار المثيرة ،

ولدتك فى جزيرة بعد . ا قاله أبوك صحيح م: وقالت أمه لماذا ال تعود إلى األطباء : األنفوشى ، وتوسلت مديحة

وتترك هذه الرحلة ؟ ، ولوحت له فى وقفتها على الشاطئ ، وترامت األمواج بال نهاية فى كل الجوانب ، وتداخل كل شىء فى كل شىء ، وتالغطت األصوات بما لم يعد يضايقه

..

لمالمح الهالمية ، المتصاعدة من ضباب تبين فى ا

والولدين مديحةونجاتى شفيف ، مالمح أمه وأبيه والشيخ ..والكابتن ، وأصدقاء مضت أزمان دون أن يلتقى بهم

..حدق فيها ، وتأمل ، وتعرف إلى ما كان قد نسيه أحس باألنس والرضا ، وبحب . استغرق فى الوجد ..عميق لكل ما نظرته عيناه

الصفاء والسكينة والطمأنينة ، وتجلت الحقائق بال حل ..حجاب

ما بداخلها يظهر . أقام فى حجرة لم ير مثلها فى حياته ..من الخارج ، وما بخارجها يظهر من الداخل

أغدقن عليه . لم يعن بإحصائهن . فرغت الفتيات له غنين بما لم يستمع إليه من قبل . الحب والحنان والتعاطف

. حان تمازجت فيها األغنيات ومواويل العذوبة والجمال من أليصغى مغمض العينين ، أو يردد ما يستمع إليه حين يتكرر

دلكن . تعالت ترانيم العشق وآهات النشوة وصيحات الوجد . روين له . جسده بزيت من خالصة األعشاب والزهور

..شغلن األوقات باألحاجى والفوازير واأللغاز . الحكايات

تعرف ـ كما لم يتعرف من قبل ـ إلى السماء والنجوم والشمس والقمر والبحر والنهر والجبل والسحب والطير والحيوان وقطر الندى والريح والنسائم الهادئة والورود

بدا كل شئ كأنه حلم .والـبركات والفيوضات واألنوار ..جميل ال يريد أن يصحو منه

واالرتقاء ، عرف النشوة. سما ، وشفت روحه ..وملذات الحقيقة

..اختلفت الحياة فى الجزيرة عن الحياة فى بحرى اعتاد الجلوس إلى الجميالت واألصدقاء ، أو تناول الطعام فى ظل شجرة ، أو على شاطئ نهر ، أو فوق تل

..مرتفع يطل على المدى لم تعد تشغله سوى اللحظة ، وحدها ، مقطوعة الصلة

الهناءة قائمة فى . لم يعد يشغله التذكر ما بعد ، وبما قبل ، وبرؤى المستقبل أيضاً لم . امتدادات اللحظة ، والنعيم ال ينقطع

كل ما يفد إلى ذهنه يتحقق ، فال تربكه التوقعات . تعد تشغله شاهد األشجار الغريبة ، والثمار التى لم تالمسها يده من .

أذهله أن األيدى تلتقط ما فى الشجر من ثمار ، لكن . قبل

األشجار تظل مثمرة كأنها لم تمس ، والنخيل جذوعها حمراء اللون ، ورطبها أشد بياضاً من اللبن ، وأحلى من العسل ،

من تيقن أن كل ما يحياه من نعيم ، إنما هو. وألين من الزبد قدمت له الفواكه والنقل .تمتع بكل شئ . بركات الشيخ

بدت له لذيذة . لم يكن قد تذوق الخمر فى حياته . والخمر ..المذاق

يرقب البذرة حتى تنمو ، وتكبر ، . فكر فى أن يزرع الخضر . لكن البذور نمت ، وحان حصادها .. وتصبح ثمرة

أكل الطعام فى . والفاكهة دائمة ، ال شأن لها بتبدل فصولجاءته . ألوان بال حصر من الطعام والشراب . غير أوانه

يشتهى السماع والرؤية . األشياء لمجرد أنها خطرت فى باله يأتيه الطعام بمجرد تشهيه له . والطعام ، فيتيسر ما يشتهيه

يقدمه له ناس الجزيرة فى أطباق من الصينى الفاخر ، . تعالى نداء البائع باسم الطعام ، ومن الذهب والفضة ، أو ي

لم يعد يشغله ما يأكله ، وإن تحدد طعامه فى . فيشتريه الطعام سهل الهضم ، فهو . اللحوم واألسماك والطيور

يتناوله فى أوقات متقاربة ، والماء شديد البياض ، وله حالوة

الحظ أنهم . احتسى شراباً يدير الرأس ، ويمتع النفس .

ـ غير مختلط ـ فى إناء واحد ، ماء يضعون الشراب ال يمل الشرب ، وال الشراب ينفد ، وال . وخمر ولبن وعسل

ذهل لرؤية . يتغير مذاق لسانه وال نفسه بتغير ما يشرب غاب تعب . لم يعد هو هو . نفسه فى الصينية الالمعة

ذهب تورم . المرض ، ومعاناة الرحلة لم تجعد مالمحه السوداء تحت العينين ، وشحوب الوجنتين جفنيه ، والهاالت

سرى الدم فى بشرته ، وومضت عيناه ببريق ، وبدا أشد . ..صحة وشباباً

تكرر جلوسه إلى شيخ ذى هيبة ، يتلو وراءه آيات ألف الجلوس إلى جيران ، يتسامرون ، . القرآن

يتذاكرون كيف . ويتضاحكون ، ويتقبل هداياهم ومواهبهم ى المدن البعيدة ، وكيف مضت بهم السفن كانت الحياة ف

لم . الكبيرة والصغيرة ، إلى الجزيرة التى كأنها السحر تقربها المواصالت السريعة كأنها . المسافات الهائلة مترهقه

..لمح البصر أكثروا . التقى بمن كان يعرفهم ويعرفونه فى بحرى

من األسئلة عن أحوال الناس فى بحرى ، كيف هى ؟

ثوا عن ميادين وشوارع وبيوت وجوامع ومقاهى وتحد

. غيبتها األزمان نقلته األحاديث إلى األماكن التى . وأسواق لم يعد يخشى اجتذاب . تراقصت من حوله عرائس البحر

اعتاد الشدو واألغنيات الجميلة واألهازيج . غنائهن له ، وتمازج القيثارات واألعواد والكمنجات والطبول المترنمة

وكان يتمايل مع األلحان داللة النشوة . لدفوف والصاجات وا..

:قالت له المرأة ..ـ أتنام ولك مثلى ؟

..كالومضة ، بدت المرأة كأنها مديحة هل هى مديحة ؟

اختلط الزمان ، فلم يعد يتذكره ، وإن لم تتغير مالمحها ..عما انطبع فى ذهنه

اشتاقت . قالت إنها ظلت تنتظر حتى استبطأت قدومه ..إليه كما تشتاق المرأة إلى زوجها الغائب

..ـ مرت األيام بطيئة وأنا أترقب قدومك :لم يخف دهشته

ـ هل تعرفيننى ؟

..ـ رسمت مالمحك فى ذهنى

:أضافت وهى تتأمله ..ـ لم تتغير عما رسمته لها

:وابتسمت عيناها ..ـ إنما كنت عند زوجتك دخيل يوشك أن يفارق إلينا

. تجلس إليه وهى فى غاية زينتها ، وتطييبها لجسدها عيناها شديدتا السواد . ال أجمل منها ، وال أحسن منظراً

خضبت يديها . تنبعث من فمها رائحة المسك . والبياض األساور فى . وقدميها بالحناء ، وتطيبت بالبخور والعطور

قت فى ل فى ساقيها ، لها رنين ، وعليساعديها ، والخالخأذنيها قرطين كأنهما شمسان صغيرتان ، ورصعت أناملها

..بخواتم ذهبية ، ذات رءوس من فصوص الياقوت يشعر أن . عرف من نساء نبدت له المرأة أول م

إذا فرغ من نكاحها ، . عناقه لها مثل عمره فى بحرى أسرع إلى الماء البارد ، يغمس فيه جسده ، لتزول عنه

إن يشعر بتجدد صحته فور أن ينهض من حرارة جسدها ، وفى داخله قوة مائة رجل فى األكل والشرب والجماع . فوقها

وكانت المرأة تغنى له بأحسن صوت ، ما سمعه من قبل .

تنتقل أصابعها ـ برشاقة ـ فوق أوتار العود ، وتغنى . قط تجيد االنتقال من مقام إلى مقام ، ومن نغم إلى آخر ، .

ورفعه ، وإحداث بحة فيه تزيد من شجنه وخفض صوتها تتمايل . تبدو األنغام نغماً وحيداً ، جميالً ، متصالً . وطربه

..ـ وهى تغنى ـ وتهتز ، كأنها ترقص فى مكانها يذهب إلى جيرانه البعيدين على جواد ـ ال يذكر متى

إذا أحس بالتعب ، . تعلم ركوبه ـ يقضى أوقاته ، ويعود محفة ، يمضون به إلى الجهة التى يريدها حمله رجال على

..فى الجزيرة الحظ أنه لم تصله أنباء موت وال موتى ، وال رأى جنازة فى الطريق ، وال وصله ـ ذات لحظة ـ بكاء أو

..عويل أبو العباس : أدرك أنه لن يعود ثانية إلى بحرى

والبوصيرى وياقوت العرش ونصر الدين والسيالة وشارع وميدان األئمة والموالد وحلقات الذكر وسوق العيد الميدان

وتسابيح الفجر والميناء الشرقية والكورنيش وخليج األنفوشى وضوء الفنار وقلعة قايتباى وسراى رأس التين وفرن حبيب والمسافرخانة والحجارى والموازينى وشارع الميدان وزنقة

الستات وسوق الخيط وصيد السنارة والطراحة والجرافة

وحلقة السمك ونداءات الباعة وابتهاالت الصوفية وتشابك تبهت . ذلك كله يصبح ذكرى .. األذان فى جوامع الحى

..تذوى من الذاكرة ، حتى تغيب تماماً . المالمح ٢٦/٩/١٩٩٩ـ مصر الجديدة " محمد جبريل "

مؤلفات محمد جبريل

ـ نفد ١٩٧٠) مجموعة قصصية ( ـ تلك اللحظة ١ ١٩٩٩ هيئة الكتاب ـ الطبعة الثانية ١٩٧٢) رواية ( األسوار ـ٢

مكتبة مصرالكتاب الحائز ) دراسة ( ـ مصر فى قصص كتابها المعاصرين ٣

هيئة الكتاب١٩٧٣على جائزة الدولة ـ مكتبة ١٩٨١) مجموعة قصصية ( ـ انعكاسات األيام العصيبة ٤

مصر ـ ترجمت بعض قصصها إلى الفرنسية مكتبة مصر ـ ١٩٨٤الطبعة األولى ) رواية ( مام آخر الزمان ـ إ٥

دار الوفاء لدنيا الطباعة باإلسكندرية١٩٩٩الطبعة الثانية دار الحرية١٩٨٦) مقاالت ( من يريدها بسوء .. ـ مصر ٦ هيئة الكتاب ـ ترجمت بعض ١٩٨٧) مجموعة قصصية ( ـ هل ٧

قصصها إلى اإلنجليزية والماليزية ١٩٨٨الطبعة األولى ) رواية ( من أوراق أبى الطيب المتنبى ـ ٨

مكتبة مصر١٩٩٥هيئة الكتاب ـ الطبعة الثانية هيئة الكتاب١٩٨٩) رواية ( ـ قاضى البهار ينزل البحر ٩ هيئة الكتاب١٩٩٠) رواية ( ـ الصهبة ١٠ روايات الهالل١٩٩١) رواية ( ـ قلعة الجبل ١١

ـ هيئة الكتاب١٩٩٢) رواية ( ل ـ النظر إلى أسف١٢ هيئة الكتاب١٩٩٣) رواية ( ـ الخليج ١٣ هيئة قصور ١٩٩٣) دراسة ( صداقة جيلين .. ـ نجيب محفوظ ١٤

الثقافة روايات الهالل١٩٩٤) رواية ( ـ اعترافات سيد القرية ١٥ مكتبة ١٩٩٥) دراسة ( رحلة إلى السيرة النبوية .. ـ السحار ١٦

مصر ١٩٩٥) دراسة ( جيل لجنة النشر للجامعيين .. آباء الستينيات ـ١٧

مكتبة مصر هيئة قصور ١٩٩٥) مقاالت ( ـ قراءة فى شخصيات مصرية ١٨

الثقافة هيئة الكتاب١٩٩٥) رواية ( ـ زهرة الصباح ١٩ مكتبة مصر ـ ترجمت إلى ١٩٩٦) رواية ( ـ الشاطئ اآلخر ٢٠

اإلنجليزية) مجموعة قصصية ( مش من حياة المبتلى ـ حكايات وهوا٢١

هيئة قصور الثقافة١٩٩٦ هيئة الكتاب١٩٩٧) مجموعة قصصية ( ـ سوق العيد ٢٢ هيئة الكتاب ـ ١٩٩٧) مجموعة قصصية ( ـ انفراجة الباب ٢٣

ترجمت بعض قصصها إلى الماليزية مكتبة مصر١٩٩٧) رواية ( ـ أبو العباس ـ رباعية بحرى ٢٤ مكتبة مصر١٩٩٧) رواية ( وت العرش ـ رباعية بحرى ـ ياق٢٥

مكتبة مصر١٩٩٨) رواية ( ـ البوصيرى ـ رباعية بحرى ٢٦ مكتبة مصر١٩٩٨) رواية ( ـ على تمراز ـ رباعية بحرى ٢٧ هيئة ١٩٩٨) دراسة فى القصة والرواية ( ـ مصر المكان ٢٨

ى للثقافة المجلس األعل٢٠٠٠ ـ الطبعة الثانية قصور الثقافة دار الوفاء ١٩٩٨) سيرة ذاتية ( ـ حكايات عن جزيرة فاروس ٢٩

لدنيا الطباعة باإلسكندرية ـ دار الوفاء لدنيا ١٩٩٩) رواية تسجيلية ( ـ الحياة ثانية ٣٠

الطباعة باإلسكندرية ـ هيئة قصور ١٩٩٩) مختارات قصصية ( ـ حارة اليهود ٣١

الثقافة ـ مركز الحضارة العربية٢٠٠٠) رواية ( ـ المينا الشرقية ٣٢ ـ ٢٠٠٠) مجموعة قصصية ( ـ رسالة السهم الذى ال يخطئ ٣٣

مكتبة مصر ـ روايات الهالل٢٠٠٠) رواية ( ـ بوح األسرار ٣٤ ـ مركز الحضارة العربية٢٠٠٠) تبقيعات نثرية ( ـ مد الموج ٣٥ئة قصور ـ هي٢٠٠٠) دراسة ( ـ البطل فى الوجدان الشعبى ٣٦

الثقافة

كتب عن المؤلف ـ الفن القصصى عند محمد جبريل ـ مجموعة من الباحثين ـ ١

مكتب منيرفا بالزقازيق١٩٨٤ ـ دراسات فى أدب محمد جبريل ـ مجموعة من الباحثين ـ ٢

مكتب منيرفا بالزقازيق١٩٨٦ محمد جبريل ـ حسين على رواياتالبطل المطارد فى صورة ـ ٣

دار الوفاء باإلسكندرية١٩٩٩ـ ) دكتور (محمد تأمالت فى العالم الروائى لمحمد جبريل ـ : ـ فسيفساء نقدية ٤

. دار الوفاء باإلسكندرية ١٩٩٩ـ ) دكتور ( ماهر شفيق فريد موال سكندرى ـ فريد معوض وآخرين ـ .. ـ محمد جبريل ٥

كتاب سمول١٩٩٩( جبريل ـ سعيد الطواب ـ استلهام التراث فى روايات محمد ٦

دار السندباد للنشر١٩٩٩ـ ) دكتور ـ تجربة القصة القصيرة فى أدب محمد جبريل ـ حسين على ٧

كلية اللغة العربية بالمنصورة ـ ٢٠٠١ـ ) دكتور ( محمد ـ أصوات معاصرة٢٠٠٤الطبعة الثانية

س ـ ـ فلسفة الحياة والموت فى رواية الحياة ثانية ـ نعيمة فرطا٨ أصوات معاصرة٢٠٠١

هيئة قصور ٢٠٠١ ـ روائى من بحرى ـ حسنى سيد لبيب ـ ٩ .الثقافة