539

457

Click here to load reader

Upload: kotob-arabia

Post on 21-Jun-2015

332 views

Category:

Education


160 download

TRANSCRIPT

Page 1: 539
Page 2: 539

אא

هند: تصميم الغالف

Page 3: 539

طبقا لقوانني امللكية الفكريةא אא

א .אא

א א أو عـرب االنرتنـت(א اى أو املدجمــة األقــراص أو مكتبــات االلكرتونيــةلل

א )أخرىوسيلة אא.

.א א

Page 4: 539

سمكة الجيتار

مـن جلـدها ، علـى ذراعيـه تنزلق عاريـة إال

تين تغفو قليال ، عيناها مفتوحتان علـى اتسـاعهما المتوحش

لتبتلع المشهد بأكمله ، تنساب من بين أحضانه تاركـة إيـاه

فـي يصفعها على كل جزء من أجزاء جسدها ، يجرجرهـا

دوامة بعد دوامة فتستريح قيال علـى كتفيـه ثـم تواصـل

االنفالت ، يغطي عريها بزبده ، ينهشـها بزئيـره العـالي

" فتستكين قليال ثم تنتفض وتشق بذيلها صدره وتمضي قدما

نحو الشاطئ ، يهيأ لمن يراها أنها سوف تمأل الفضاء بلحن

.لم يسمع من قبل فيشرع آذانه وينتظر وينتظر

Page 5: 539

حوض الجاموس

-١-

ةف كبيـر ند" !! حوض الجاموس " ثلج في

ستطع رب من التكوين الهالمى الذي لم أ تهطل وتقت من الثلج

قط تحديده ؛ فها هو ذا العربي الجميل ربع القامة ، ذو اللحية

عا فـي طع المدى بخطواته الواثقة مسر المهذبة األنيقة ، يق

إنـه . رصة تأمله جيـدا تيح لي ف ربما لي البداية ثم متمهال

يخلخل منظومة انهمار الثلج في المجاالت التي يمر عليهـا ؛

حيث تنعقد حباته منسابة في هالة من الضوء حـول رأسـه

مـن الـثلج وحدود جسده كله ليتفتت من جديد ندف كبيـرة

، وعيناي مفتوحتان على اتساعهما تتجمد فوق رموشى تماما

.فال أرى

" موسـكو " معفرة لم أزل ببرودة يبدو أنني

مازال أزيز الطائرة يطن في . التي تركتها منذ ساعات قليلة

وعبـارات ل مطار القاهرة في الثالثة صـباحا أذني ، وخمو

زوجي اإلخبارية المتقطعة التي تريد اإلعالن عن األحـداث

لقـد ! أنا ال أحلـم إذن . دفعة واحدة ، فال تعلن عن شيء

المنمق ، وشوارع " ميدان روكسي " سي أجرة ك تا اجتزنا في

Page 6: 539

قترب من ، واآلن ن الشفتين غضبا مسطرد الفارغة المزمومة

وكأنهم ألقوها ـ هكذا كيفمـا مجموعة بيوت سوداء متناثرة

فانبطحت علـى األرض تفق ـ من مركبة طائرة عمالقة ؛ ا

ـ مجروحة ومستاءة بعض الشيء لعجزهاعن هش الـذباب

.ا األخضر عن وجهه

ثـم " الزريبة" في البداية كان اسم هذا الحي

" سكانية فسمى تأدبـا لجأ إليه الموظفون بعد انفجار األزمة ال

" .حوض الجاموس

نافضة عن رأسـها " مها السويفى " ابتسمت

يبـة ، أرادت أن الط" أحمـد " ذكرياتها المراقة على مالمح

تليفونيـا ختها معه ، وكان قد أخبرهـا تشكره على إحضار أ

صباح يوم سفرها ، أنه أعد لها مفاجأة ستنتظرها في المطار

، وها هي تجلس أمامها على المعقد األمامي تتأملها بعينـين

بشعرها األسود الطويل الملموم بدبابيس " نجوى : " جامدتين

. لم ترتكب رخيصة ، وضحكة خجلى مليئة بالذنب على ما

ين التي لم ترها فيها ، ولم اإلمساك بعدد السن " مها " حاولت

حتى أنهـا أنبـت ع ؛ فقررت بمرارة أن تحبها فورا تستط

Page 7: 539

نفسها كثيرا لعناقها البارد لها في المطار وتمنـت أن تقـف

.إلى جوارها " نجوى " السيارة لتجلس

مؤقتا وسننتقل إلى القاهرة " مها " سنعيش هنا يا ـ

.عندما تتحسن ظروفي المالية

ارة بالكاد في شارع ضيق ملتـو دخلت السي

جـدار بـه بخـط على نفسه ، كشحاذ ، مكتوب على أول

مـرة " مهـا " ، فابتسمت " طه حسين .شارع د : " ردىء

أخرى وهي تواجه أجمل بيت في الشـارع مـن طـابقين ،

متمعنة في نوافذه الخشبية الخضراء وبوابته الحديدية الصدئة

ثها بأنها ستعيش في هذا ، أزاحت إحساسا قوي الرائحة يحد

.البيت إلى أن تموت

قارئا ، سيظل ية ، لم يتغير أبدا كل شيء معد بعنا "

أنه نني أشعر أحيانا ى الصغيرة حتى إ لجميع تفاصيل عظيما

" .يقصد أن أظل عابدة له

ى أن أواجه عينيها ، تغيرت كثيرا لكم أخش "

النهايـة ، أة الصغيرة التي ستخربش روحي حتـى هذه المر

فستانها الذي ترتديه اآلن اشتريته لها منذ ثالث سـنين مـن

محل صغير بشارع جوركى ، بينما كانت هي تضع قـدميها

Page 8: 539

شكيل البحـار علـى في وجه مدفأة وترسم مالمحها وتعيد ت

اليابسة ، كل ما عليها وما تمتلك ملكي أنا الذي لم أسطتع بعد

" .كما ينبغي فض بكارتها والولوج في أسباب عيشها

غرف كثيرة رحبة في الطابق األول والثاني

" أحمد الـدالى " ضغط . مهيأة للحياة ، تنعم بإضاءة فجرية

جميع مفاتيح النور ولما قابلـه الظـالم عرفـوا أن التيـار

. الكهربائي منقطع

يحدث هذا ويقومون بإصـالحه ـ غالبا ما

.فورا

جههـا مـن جميع النوافذ ليوا " مها " فتحت

األمام بيت قديم من طابقين يلتصق به فناء فسيح لبيت آخـر

أسقف مغطاة امن طابق واحد به حجرتان على ما يبدو ، ذات

بخرق قديمة وأكواز ذرة وألواح خشبية متفحمة ، وباب آخر

عائم في إضاءة خفيفة ، ربما كان دورة مياه ، تتوسط الفناء

، وحمار ضخم تمنت الشيء خشبية مرتفعة بعض " طبلية "

ليال ونهارا أال يكون نهيقه العالي هذا مستمرا " مها "

Page 9: 539

ـ لو مد هذا الشارع إلى منتهـاه سـيؤدي

مباشرة إلى ميدان رمسيس ، ومن الشرق بداية طريق مصر

.... إسكندرية الزراعي و

" .نجوى " أريد ؟ " نجوى " أين ذهبت -

أنـا فـرح تعد الطعام ، وترتب حاجياتـك ، -

لوجودها معك هنا ؟ فهي تشبهني تماما منـذ عرفتهـا

.وهي ترتب لك الحياة هنا لتكون مستطاعة

.ـ أشم أنك مسافر

.ـ بعد غد

.ـ أنت مجرد وغد

ا لصدره فسقطت في بئر سحيق جذبها من شعره

: مس وهو يه

.ه ـ آ

ما الذي يشبه تلك الرائحة ؟ أيـة طرقـات " ـ

مرء السير فيها للوصول إلى يقـين متعرجة يجب على ال

، فوق صدري هكذا بخبرة قهتل محتـرف تشنجينتما ؟

أسرار نورك أفزعنى الظالم ، وما فإذا ما حللت جميع

حتى أغلق عيني عن صهيل إن أتوغل في ظالمك قليال

Page 10: 539

وحي لي ، صامتة ترميننى في كوة ضـيقة شموسك ، ب

ر أن يجأ تك ذلك الحقل الممتد يجب بهذه الروعة ، صو

اآلن تحت وقع سيولى ، أمن الجائز أن تتورط جـذوري

في أرض طائرة هكذا ؟

ما الذي يشبه تلك الرائحة ؟ قدر من العسل فوق " ـ

ارتقاؤه وحدي ولك أن تزيح كل مـا قمة جبل وحيد ، على

يحراشى وشواطئ قى من ستائر عن وهجى ، سأريك كل أ تب

فحـاول إذا اسـتطعت أن ، فإذا ما رفعت قليال رأسك عنى

ى هذا الفرح تسم " .

.متكئة على نصف غيبوبة أشارت

وما هذا ؟ -

عادوا على ما أعتقد ثانية ، أناس بال -

وسهم أسـقفا بيوت افترشوا األرض ورفعوا فوق رء

.من القش يعيشون تحتها

يعيش في هذه العشش ناس ؟ -

.لحين ... نعم -

Page 11: 539

تركـت . لم أر الشمس اليوم أيضا -

على حافة نافذتي فـي موسـكو ، ثلج هناك مكوما ال

.أرجو أال يذوب قبل أن أذوب أنا هنا

" نجـوى " وأشارت إلى صدره ، وقفزت تبحث عن

:وراء أبواب الغرف المغلقة وهي تتمتم

؟ لماذا تتعمـد أين تختبئ هذه أيضا -

هـا وعندما وجدتها وسألتها عـن أوراق البعد عنى ؟

" السوداء الصغيرة ـ أخفـت كانت في الحقيبة التي

شيء وأيقنت وجهها عن عرى ال ينقصه " ...ىنجو

أنها ستعيش مع امرأة ربما أوصلتها إلى ما ال يمكن

:تصوره ـ أجابت بصوت منخفض

رتبتها في درج هذا المكتب كما قال -

.لي زوجك

ممتزجة بنهـار محجـوب نوافذ تعكس أصواتا

بعينـين هادئـا ال أعينهم ، وظالم يحبو إليهم طف عن

سيكبر إنه : ماكرتين تغمزان بخالعة من يريد أن يقول

. عليهم في يوم ما وسيشتد ساعده وسيصير سيدا

Page 12: 539

أمس ؟ " البراغيث " أين كانت هذه -

.أنا لم أشعر بها

حذار أن تنـامي إذن وإال أكلتـك ، -

وعليك أن تخلصيني من وطأة فراقك ألخلصك اآلن

.منها

تك أنام فـي حضـر تعرف أنني ال -

.أبدا

في هاتين العينـين فقـط تتـزوج " -

الشمس بالقمر وتكتسى الصـحارى بشـيء مـا ،

لماذا ترفضين أن تكونى لـي . غامض غير رملها

كل ما يلزم الفاتحين أملكه ، فلماذا " يا مها " مرفئا

قالعك هكذا ؟ أنا أحفر ماءك علـى تستعصى على

دينة على شـوارع أخضرك ، أنسق مدائنك مدينة م

قلبي ، لماذا ال تفتحين لي إذن وتحتفين بمواسـمى ؟

لماذا ـ مثال ـ ال تمسكين جيدا بحذائي وتطيـرين

حطين أينما حللت تحت قدمي تمامـا أينما حلقت ، وت

! "ـ أال أستحق ؟

Page 13: 539

كما بندول ساعة يتأرجح على أيامي هكذا ، تاركا -

ادة وقت ناعمـة لى بين غيابه الجميل وحضوره األجمل سج

أن أكون " نجوى " أغوص فيها حافية ،هذا ما اتفقنا عليه يا

له ، ويكون هو للحياة يحرث ما يمكنه من بهائهـا ، وأنـا

.أفتش عن بهائى مرة معه ، وأخرى في وحدتى

. سأفتح هذه النوافذ -

ـ نعم ، هذا ما أردت قوله ، في حضرته ال أستطيع

ي فلكه بال توقف ، وأنـا أحـب أن إال فتح سماواته ألدور ف

نى يجب أن أكف عـن الـدوران قلـيال أدور وأدور ، ولكن

.ألجرب هذا الثبات

تسربت أشعة الشمس متمهلة في البداية ، ثم سرعان

ها ، وعندما يالتي أغمضت عين " مها " ما انكسرت على وجه

ولم تقو طـويال علـى واجمة تماما " نجوى" تحتها كانت ف

وجه أختها التي ال يمكن ببساطة وصـفها ؛ فهـي النظر في

حتى أجمل من أمها التي كان الطيبون يعتقدون أن المالئكـة

ـ بالشك ـ تشببها ، بينما رأى األخرون أنها جنية مسحورة

هديها حتى تتحـول إلـى ما إن تكسر مرآتها المخبأة بين ن ،

.عجوز شوهاء

Page 14: 539

يارب ، كيف يحتمل زوجك تركـك -

هكذا ؟

اذا تسـألين وجوده معى ، لم أيضا ه ال يحتمل ـ ألن

ما كنت أتـذكرك وأنـت صـغيرة ، ؟ هل تعرفين ، دائما

ورثت شكل أبيها وحظه ، ولى شكل أمـي " نجوى " وأقول

قولي لي كم من األعوام لم أرك ؟.. وحظها

ال أعرف ولكنني وأنا أبكي خلفـك -

على درجة سلم مكسورة كنت أنظر إلى مكان سنتك

.امية الفارغة األم

. إلى أن نموت سنبقى معا -

: يرتل " أحمد الدالي " في الطريق ظل

وأمشى ال سبيل أمامي إال االحتفاظ " -

برائحة جسدها التي لن يخلصنى منها هـذا التـراب

المحلق فوق رأسي كالسحابة ، وال كـل مسـاحيق

وال عطورهن الباريسـية وال عبـق نسائي القادمات

لمـاذا أتركهـا تتكـئ . سأدخلها المستشفيات التي

ظافرها هكذا على روحي ألسير على حبل رفيـع بأ

" . أال أقع دود إلى غمامتين وعلىمش

Page 15: 539

عبر نافـذة واحـدة . ا إذن ما من شيء غامض هن

أن تلم بالمشهد كله أمامها بيت ال يسكنه إال " مها" استطاعت

" امرأة سمينة تتحسس الجدران ، ستعرف فيمـا بعـد مـن

وفتـى فـارع " سكينة العمياء "أن اسمها " تاتى نشراح البس ا

الطول عيناه غائرتان ووجهه األسمر الجميل يرقد على هدوء

في المسـاء وهـو " نجوى " جدار أحد الفراعين ، سيحيى

وانقطاع النور ، أمازال مقطوعا يبتسم ، ويسألها عن حالها ،

ن الـآل ، أمـه تتحسـس " أحمد منصور " ه أنب؟ وسيخبرها

األطباق ، ترصها فوق منضدة صغيرة وتحدثه بصوت عال

: كعادة العميان

" .أحمد العتر " يا بني أن تلحق بعربة -

قطعة خبز ويخرج تاركـا " أحمد " يخطف

أحمـد " ما أعدت أمه له ، وفي الشارع يلقى السالم علـى

صاحب الدكان الذي يشغل غرفة من الطابق األسـفل " العتر

لهم ، والوحيد المفتوح على ما يبدو في الشارع ، ومـن لمنز

الصعب تحديد فيم يتاجر بالضبط ستعرف بعد هذا أنه نجـار

كتلك التـي تقـل " بوكس " ثم يفعل أي شيء ويمتلك سيارة

المتهمين من السجن وإليه مغطاة بخيش أسـود مـن جـراء

Page 16: 539

التراب المتراكم عليه ، وكان األهالي ينتقلون بواسطتها مـن

ميدان المؤسسة العمالية بشبرا الخيمة وإليه ليواصـلوا مـن

.سعيهم في الحياة هناك

سور سـطحها ، " سكينة " أخيرا تتحسس

وإنما للجانـب األيسـر ، بنها وجهها لم يكن موجها ناحية ا

ـ صـحن البيـت حيث تشاهد ـ إذا ما استطاعت الرؤيـة

لفيتـين ، المالصق لها الحمار الذي يرفع إحدى سـاقيه الخ

وبكثرة وضجة يبول ويعود إلى نهيقه ، وامرأة تحوم حولـه

مما يجعل من الصـعب تحديـد ،تشبه إلى حد كبير السمكة

عمرها ، أخذت تنظف هذه الطبلية التي تتوسط صحن البيت

ب اسشيء فيما عداها وسخ ـ ثم ين دونما سبب واضح ، فكل

لعشش التي باستقامة جدار بيتها طابور طويل شبه أبدى من ا

فإحداها مغلقة بستار من قماش .ال تشبه واحدة منها األخرى

من علب السـمن الفـارغ ، أو قديم ، وأخرى بقطع صفيح

بأكثر من لون ونوع مـن األخشـاب المتراصـة المثبتـة

وسكان هذه العشش جميعهم خارجها متنـاثرون . بالمسامير

أمامها على طول الشـارع ، بـه يطبخـون ، ويغسـلون ،

.ويغمزون بأعينهم خلسة ويتشاجرون

Page 17: 539

.افتحى الباب يا نجوى -

".انشراح البستاتى " مؤكد ، -

.يا ساتر -

وبعون ساتر الفضائح وأسرار البيوت والعشق والفقر

البيت " انشراح " دخلت ،والمرض وسائر ما يخجل اإلنسان

" .جالت فيه للمرة الثانية كما عرفت مها

قوة إال باهللا شـوفى يـا ـ ما شاء اهللا وال حول وال

ربنا عندما يشاء يجعل من عباده آيـة علـى " . مها " ست

، وعندما يشـاء يضـع علـى " فظ المرسى حا" رأى الشيخ

.وجوههم مثل هذا المنخار

:وأشارت إلى أنفها واهتزت ضاحكة

.ـ تبارك اهللا فيما خلق

، أما عن أنفك فال يسـتحق اهللا أن " مها " ـ ناديني

!بيه عليه هكذا ، هه هل تخافين الحسد ؟تعات

حـوض "نورت . هللا على السالمة حمدا . ـ المهم

.كله " الجاموس

محاولـة أن يخـرج منهـا " مها " ارتفعت ضحكة

.الكالم

Page 18: 539

.ـ منذ وصلت والنور مقطوع

.ـ يا غمى ، واهللا ما كان قصدي

شعر مائل إلى األصفر كان ينفر من منديل أسـود ،

مراوغتان في عسلهما مكحلتان بمجون علـى وجـه وعينان

تتـذوق " سـيدة " أبيض ، بفم متسع بما يكفي لتحديد فرحة

لها " مها " حياتها ،هي تصلح بال شك لهذا الدور الذي تخمنه

؛ فأنفها الصغير بفتحتيه الواسعتين والمرتفعتين إلـى أعلـى

ن يندس في كل شيء حوله بكرم من يريـد مرشح لأل قليال

.حقيق فرح ما لنفسه ولآلخرين ت

. مسحت معها غبار البيـت ـ قالت لى نجوى إنك

" .انشراح "عشت يا

التي أعدت شايا أسود مما ينبغـي ذهبـت " نجوى "

عنـدما لـم " مهـا " لتأتيهما بشيء يأكالنه معه ، وابتسمت

.ظنها ؛ فهمست متعجلة اإلجابة " انشراح " تخيب

ختـك دى علـى حى أ ما تصـال " مها " ـ يا ست

" نجوى " الطالق يا أختى أبغض الحالل عند اهللا و . جوزها

ر مش راضية تبوح لى بحاجة أبدا ، ولما دى عاملة زى القب

Page 19: 539

نصحها بتبحلق في وشي زى ما أكـون أقول لها الكالم ده وا

.عبيطة

وبعـد أن " انشـراح " ـ لقد هجرها منذ سنوات يا

! ؟طلقها ال نعرف أحى هو أم ميت

.يا عيني يا ابنتي ـ

هذا الحزن غير مزيف والبد أن نبدد بعضه في ليلة

ثر فيها نقيق ضفادع آت من مكان مجهول ناجديدة سوداء سيت

، وسيستدير عليها قمر غير قادر على تفتيت كثافة الظـالم

المحيط برأسيهما ، أختان كانتا واثقتين من أن جلستهما هـذه

المواجـه لقطعـة أرض صـغيرة في الشرفة الخلفية للبيت

األيام الكثيرة القادمـة والتـي لمـا تتحـدد ،ستكون فاكهة

.مالمحها

ـ هكذا إذن يا نجوى ، ليلة واحدة سـوداء كتلـك

!استطاعت أن تبت في األمر كله وأن تحدد مصيرك ؟

ت له ، أنا ال أعرف ، وكنت فعـال ال ـ قل

بقعتي دم ، ظل يبحث في كما فهمت عن أعرف ، لم يصدقني

إلى أن طلع الفجر ، وفي الصباح أعادني إلـى أمـك التـي

!أغلقت مع حجر قبرها سرى هذا ، ورغبتي في كل الرجال

Page 20: 539

ثم أخذت تفتشـين عمـن : شبه هامسة " مها " قالت

.......... فعل بك هذا و

بعد أن تيقنت أنني لم أختـل عجزت تماما ـ ولما

دمى رغما عنـى ، وأنـا برجل ، قلت ربما وقع منى أبدا

أقفز سلمنا القديم أو ربما خلقنى اهللا غير كل البنات بدون دم،

. ورضيت

ـ دعينا ننظف أمام البيت في الصباح ونزرع شجرة

.لبالب

" محمـد القـط " الصـغير بنها ا" انشراح " أرسلت

على وجـوه أختهـا " نجوى " ته تفرجت شقوعلى صوت م

هو ذا فمها ـ هـذه المرةــ المرسومة بشكل غريب ؛ فها

معوج بحدة من اليمين ، وفي لوحة أخرى أنفها نفسه ولكنـه

معقوف ألسفل بقوة شيطان ، ثم لوحة أخرى وحول مرعب

... ؟في إحدى عينيها الجميلتين ، لماذا ترسم نفسـها هكـذا

.سبحان اهللا

ـ هل سترسمين هنا ؟

.سأكتب .. ـ نفدت ألواني منذ فترة

ألم تنتهى من كل المذاكرة ؟ . أية كتابة-

Page 21: 539

ـ كتابة أخرى ، وسأحاول أن أسـمي مـا ال اسـم

هذا البيت الكبيـر نظرى كيف سافر ولم يترك لي في ا..له

. قلما واحدا

؛ أن يشترى قلما " محمد " " نجوى " سألت

. من شـرفته قاذفـا بقلـم لهـا " أحمد منصور " فضحك

:وقائال

أحمـد " اج لسـيارة ـ إن أقرب مكتبة تحت

. فال أحد في هذا الحي يحرص على اقتناء األقالم "العتر

واقفا على أطراف أصابعه وعلـى رغبـة فـي أال

:يصدق ما يرى قال

ـ آه يا أم ، قليل من الحفر في رخام مصقول وتقف

.ثابتة بدون تنفس ليحيلها مثال إلى ما ال عين رأت

" : سكينة العمياء " زجرته

، كيف تتحدث عن امرأة متزوجة ، اخرس ـ شوف

.، وامش ذاكر دروسك

القانون يقف فوق رأسه كذبابة كبيـرة ال يسـتطيع

إلى جامعته كل هشها أو التخلص من طنينها ، هو من يذهب

صباح ممتطيا جميع وسائل النقل الممكنة وغيـر الممكنـة

Page 22: 539

القتل والسرقة والرشوة ، وشـكل ليستمع إلى وابل من مواد

سيس الشركات ، وكل ما ليس له صـلة علـى اإلطـالق تأ

بحوض الجاموس ، يريد أن يسألها اآلن ماذا درسـت ؟ وال

محالة أنه سيبتسم ، تكبره بأعوام ال يعرف حتى اآلن عددها

، فلماذا تبدو صبية صغيرة تغرى الحوائط ـ حتى الحـوائط

.بالب أحد غيره لـ بامتالكها ؟ لن يزرع لها ال

لنهار استمر النور في انقطاعه سأكتب في ا إذا" ـ

فأظل أحكى ،وسأجعلها تضـع ليال " نجوى " ما قد يعجب

" .بموسيقاه في صندوقه " السنتر ميوزيك " جهاز

كنا ـ والنيل على امتداد بصرنا ـ قـد خرجنـا ،

جماعة من الفتيات ، ال بهدف رؤية مسرحية يزعـق فيهـا

اء ، ال أتذكر اآلن على مـاذا ، الرجال والنساء على حد سو

ولكن خرجنا لكى نخرج فقط في المساء لنجرب أن نضـرب

بكعوب أحذيتنا العالية األرض وميعاد رجوع التاسعة لبيـت

كان هو صاحب دعوتنـا . فليكن ما يكون : الطالبات قائلين

وقريب إحدى صديقاتنا ، تتبعته وهو يشير لسيارة لتوصيلنا ،

شفقة صادقة تظلهما غيمة غامضة ال توجد تان ب ملوءعيناه م

.على أعين سائر من قابلتهم من الرجال

Page 23: 539

:قلت

.ـ لعله هو من أريد

.قال ببطء وكأنه يقرأ أفكاري

لجمالك هذا ؟ ـ أتعانين كثيرا

: قلت وأنا اتجاوز عينيه

ـ اآلن هذا المخرج عرض على أن أعمـل معـه

ممثلة ؟

:يح عينيه عنى قال بحزم وتصميم دون أن يز

.ـ أنت ال تصلحين

وكنت أعرف ؛ فأنا أرى روحى في المرأة منعكسـة

ن أمثل سواها ؟ وجهي بشكل كامل ومؤلم ، فكيف لى أعلى

وقفت سيارة وساعد الفتيات فـي الصـعود إليهـا ،

بداخلها أبقانى إلى جـواره جاذبـا يـدي وعندما استقررن

هن انطلقـت بهـن إياهن وقبل أن يتجاوزن دهشـت ومحييا

، كان يمسكنى من كتفـى السيارة ، وقبل أن أتجاوز دهشتي

: ويقول دون أن يطرف له رمش

....ـ سنتزوج

:ثم أحكم يديه حولى وهو يقول بعد لحظة

Page 24: 539

.ـ اآلن

نعم ، بسرعة من اكتشفت أنه الرجل الوحيـد : قلت

الذي طلب منها الزواج ، فجميعهم من قبل ظلوا يحملقون في

نقلـت . ون أن يتفوهـوا بكلمـة واحـدة ين د ى مأخوذ وجه

حاجياتي من بيت الطالبات لشقة واسعة بالهرم ، كانت ألول

مرة في حياتي لى وحدى ، ثم صارحنى بعد سنوات ونحـن

ف أنه اشتراها وأسسـها فـي ثمـاني يعلى نهر الدينبر بكي

في ليلة زواجنا ، هكذا ساعات وأن هذا هو ما جعله مرقها

رأسـي علـى ذراعيه مرهقا وموسـدا باحتوائي بين مكتفيا

ـ صد مم رائحـة جسـد ره ، نام بسرعة ، سامحا لي أن أتش

أنه كان متزوجا وقتها من بمختلف سأكون له ، ثم صارحنى

فتاة من أقربائه ولديه منها طفالن ، وأنه سيظل يتزوج كلما

.سواى أمكنه ولن يحب امرأة

يفـرغ ظالمهـا ، هذا الليل ومخازن السماء ال كل

مـا والليل جميل شريطة أال يطول ؛ فأنيابه تزداد حـدة إذا

لطيفا يا ليـل وتعـرف متـى طال ، فلماذا ال تكون زائرا

لمن ال سقف له ؟ ال تلح على سقفا ومتى تكون ! تنسحب ؟

الناس حتى ال يكرهوك وال ترغمهم على قذفك بأفدح الشتائم

Page 25: 539

رنا وأغنياتنـا قرونـا ، ، وأنجل أنت يا من كنت تزين أشعا

لماذا ال تفهم اآلن أنك أسود وكريه ؟ ارتفع عنا فلقد ضـقنا

بنجومك الخافتة وقمرك الواهن ، نحن ال نريدك غطاء لنـا

بعد اآلن ، سننام في العراء ، وسنحتفل بأسرارنا كلها دونما

فقط ارفع يدك عنا ؟.. خجل

ستخدم في أن ت " مها " " انشراح السبتاتى " استأذنت

:حمامها وقالت بعد أن صارت مترعة برائحة الصابون

أنا عمري ما حلمـت " . مها " ـ اهللا يهدى بالك يا

ي حمام زي بتاعك ده بشقة لكن طول الوقت باحلم يكون عند

ختى ساعات وأنا نايمة أشوف أنى شايلة كرسي ، والنبي يا أ

من الدهب الخالص وأول ما أوصل العشـة واحطـه علـى

ض يبقى زي كرسي الحمام بتاعك ده تمـام ، أفـرح ، األر

" يزغـدني ة ، لكن فرحتي ماتكملش أنا أبـدا وأشلح الجلبي

وهو بيصرخ في وشي قومي يـا مـرة يـا " حجازي القط

.وسخة

" :مها " تضحك

ـ تعالى كلما احتجت إليه ، سأترك لك الباب مفتوحا

! طيلة النهار ، ولكن أين يستحم األوالد ؟

Page 26: 539

في العشة يا أختى ، بانقعهم في طشـت الغسـيل ـ

الكبير وأسيب عليهم خرطوم الميه ، باحطـه فـي حنفيـة

.المخبولة بطة

ما الذي يجعلها تحتفظ بهذا " انشراح " ـ صحيح يا

!الحمار ، ألم يمت زوجها العربجي كما عرفت ؟

حتى يستلقى رأسها على مسـند " انشراح " فتضحك

.الكرسي

البخل ؛ الحمـار ده بيونسـها ، " مها " ـ البخل يا

" مها" وبيكلفها مش زى ما أي راجل هيكلفها ، طيب واهللا يا

أنا سقت لها رجالة الحي كلهم ، العازب واألرمـل والنبـى

حتى كان فيهم شبان لسه ، علشان تتجوزهم ، لكـن الكلبـة

واألرض اللـي ورا ييتايما كانت بتقول لى طمعانين في ب د

انتى عارفة بقى إن الحمير بتأكـل وتشـرب لكـن و. بيتي

ربنا يأخدها كانت هاتنقذ راجل م الرجالة . عمرها ما بتورث

.اللي متلقحة في العشش وتحطه تحت سقفها

تحوم حول حمارها منذ الصباح وحتى المساء مدندنة

بأغان ماجنة ، وهي تقوم بغسل أطباقها أو تقطيـف أعـواد

Page 27: 539

يقطع عليها غـذاءها . إلى جواره الملوخية أو نشر غسيلها

.أحيانا من فوق سطحها " سكينة العمياء" زعيق

ل لها داهيـة ـ أال تلمين نفسك يا عاهرة اللهم أرس

.خذها تأ

أو تؤكد صـمتها ، تصمت أحيانا " بطة " وال ترد

.بجملة واحدة ال تتغير

. لن أرد عليك ، ألنك ست كبيرة -

لتواصل هي ما " عمياء سكينة ال " حتى تنتهي طلقات

.بدأته

:ويردد الجيران فيما يشبه الكورس

خـدلي بيتـك فتـدخل أ" سكنية " ـ معلهش يا ست

: حانقة وهي تصرخ

.ـ واهللا ، شيء زاد عن حده

وألنهم ما من سنة إال وتبعوها ، وما من بذرة فـي

فلقد راحوا يحاربون الشتاء بإيمان من أيديهم إال وزرعوها ؛

طنوا صـفيح أبـوابهم بخـرق حالة ، ب الدفء ال م سيحصد

جمعوها من أكوام القمامة التي راكموها صـيفا علـى أول

اآلن أكواما موزعينها بالعـدل الشارع ، ثم أخذوا يقسمونها

Page 28: 539

.. م على األيام ليشعلوها من أجل الدفءوكسر سم هذا الظال

لوا أسـفلت الشـوارع سدوا ثقوب العشـش بعـد أن أسـا

بعيدة ، غطوا أسقفهم بأكياس البالستيك المملوءة المرصوفة ال

:باألحجار الصغيرة وتساءلوا

ـ هل انقطاع النور له صلة بحدة برد هـذا

العام ؟

وصلوا صالة استغاثة داعين اهللا أال تمطـر السـماء

.حتى ال يدفنوا تماما في خوص عششهم والوحل

على القزعة " قصر النهار حتى صار بقامة

أحمد " الليل فاردا عباءته السوداء عليهم ، وقال لها وطال "

: وهو ينظر في عينيها ويبتسم في مرارة " منصور

ـ هذا كل ما حدث في البداية ينقطع ساعة ثم يأتي ،

. ، فإلى ما شاء اهللا وها هي الساعة تمتد يوما فشهرا

.كوى جماعية إلى هيئة الكهرباء ـ فلنرسل ش

ونائبنا في مجلـس الشـعب نباءـ وإلى وكاالت األ

،فعلنا ، وضربنا بفؤوسنا فوق السحب السوداء حتى نحصل

.على شرارة ، نخصبها بطريقتنا

:ثم أضاف باستعطاف

Page 29: 539

قـادر ، وال ـ لماذا ال تتركين هذا المكان ؟ زوجك

ألـيس ... نت حقا لن تعيشى هنـا شيء يناسبك هنا أبدا ، أ

كذلك ؟

اة هكذا ؟ من أعطاه الحق لماذا يطردني هو من الحي

؟

وأين أذهب ، ما الذي يريد هو واآلخـرون إخفـاءه

عنى ؟

وهل أنا حقا النشاز الوحيد في هذا الحي ؟

من تنظيف بقـع دم أختهـا كثيرا " نجوى " عانت

الذي أخذ يفر منها إلى السرير ، وبالط الحمام ، والحـوائط

س في بطنهـا الذي حب " مها " والمالبس حتى اعتقدت أن دم

ترى أين كانت تحتفظ بكل هذا . أربعة أشهر كان ينتقم منهما

! ؟ تلك الجميلة النائمة اآلن ليال ونهارا

غارقة كنت في توبة حمراء ظللت أرتب جرائمـي

" سفوكة على زجاج نوافذ بيتنـا القـديم مالصغيرة وأيامي ال

قررت أن أرقص وأرقص فـي ميـدان " بالزواية الحمراء

حتشد فيه اآلالف وتماوجوا على نغمة واحدة ح بكييف ، ا فسي

: سرة وآ

Page 30: 539

.أنا كم أريد أن أكون معك

ولسوف أكون معك

.في الحياة أو الموت

.ن معك وسأك

إن الجسد يتفكك اآلن إلى عناصره األولى ، يخـتلط

لكـم ! ، يا لألنهار "الدينبر" هواؤه بمائه في غروب روعة

كان بال أم وكنت بال أب أو أم ، ! من حفروها تشبه كثيرا

:قلت له ـ فقط ـ لكى أتعلم اللغة

ترك أبي أمي ألنها كانت أجمل مما ينبغي في البداية

أجر لها غرفة وحيدة حبسها فيها حتى ال تضيع منـه وراء

األبواب ، ولما كانت أحيانا تخرج إلى الشرفة لنشر الغسـيل

ـ أو وضع القلل الفخارية لتبرد على حا ربها ، فتها كـان يض

ما كان يجدد أسبابه لضربها ـ فقط ـ لينشر تحـت ودائما

بوجنتيها ليكسـر كدمة حمراء أو زرقاء ، أو ورما هايعين

حدة ما خلقه اهللا بهذه الجودة ، ثم لم يجد في ضـربها حـال

مثيالتها قد انتهى منذ قـرون لـدينا لمشكلته ، ولما كان وأد

نني أشبهها ، وأن يترك لها ذني ؛ أل طلقها متفقين على أن يأخ

ختا كبرى لي ألنها تشبهه ؛ كنت أراها نادرا في زيـاراتي أ

Page 31: 539

القليلة لها والتي كانت تستمر بمقدار نفاد حجرى شيشة أبـي

ى أن انقطعت هذه الزيارات تماما إل ،على مقهى بجوار بيتها

، وال أعرف السبب ، إنني أذكرهـا اآلن فـي انكسـارها ،

وكان . تها رغم صغر سني أنها ستموت من حبها له فهمت وق

مـا ال يقوى على النظر مباشرة فيوجهها لكي ال يسقط حائط

منهارا بينهما ؛ فيركع أمامها ويأخذها إلى حيـث ال يوجـد

رأيت تجهم حزنه على وجهـه الحريـري الناصـع . بشر

وميـاه البياض عندما أضاءت الصواريخ النارية ابتسـامتي

تقالية في هذه المرة ، أزاح خصالت شعر غطـت النهر البر

: عيني وقال

إنك يمكنك جمـع ذكرياتـك وأسـطول . ـ أرأيت

عينه يكـون هـذا هـو صغير أينما تض أحبائك في صندوق

الوطن ، بشرط أن يكون لك فيه قطعة أرض تضعين يـدك

ماذا . ين هذه ملكي ، وقطعة سماء لترى فيها اهللا عليها وتقول

؟ *"مخا " ير هذا يا يكون الوطن غ

:قلت مداعبة

" .خاء " الهاء تنطق في اللغة الروسية *

Page 32: 539

أن ينطـق " ديما " ـ ربما كان الوطن لدى اآلن يا

يـا أخـي " مها " ، " مها " اسمى كل لحظة بشكل صحيح ،

" .مخا " وليس

" تشيخوف " روسية أقرأنى مدرسي للغة ال " ديما " و

ولم يكن محبا له لحزنه وإحساسه بالفقراء ، وأحببته ، كامال

كلما انطلق صـاروخ نـاري **"أورا " ردد مع الجموع كنا ن

لم أفهم لماذا حتى اآلن ، فهو يرقص .جديد ، وكان هو حانقا

فاحة مـن شـجرة إلـى في ميدان عام ويقطف إذا ما جاع ت

، حدث هذا كله قبل جواره ، تماما كما جاء في وصف الجنة

" ر دبابة بالميدان األحمر ويقرر وهو يذ " يلتسن " أن يمتطي

" يلتسن " عينيه الضيقتين ـ بعثرة عقد البالد ترى ألم يسمع

وراحـت إلـى األبـد " ديمـا " حينذاك ؟ راح "ديما " أمنية

احتفاالت أكتوبر ، وكل األشياء المبهجة ، وبقينا نحن الـذين

الصـوبة التـي جلبونا مما يسمى بالعالم الثالـث كنباتـات

ريبة ، موفرين رعونها في أرض غ ويزيأخذونها من أرضها

لها بعض شروط الحياة من عدل وخير وجمـال واضـعين

" .هييه "صيحة انتصار تقابل **

Page 33: 539

عليها خيمة تعصف الرياح بها مرة من اليمين ومـرة مـن

.الشمال

؟ هل ماتت فعال " نجوى " لماذا ال تحدثينني عنها يا

؟ تسـاقطت أوراق " نجـوى " عليه ؟ هل نمت يـا حزنا

ين في شرفة كيف تنام . النعناع من مصفاتك ولن أجمعها لك

مفتوحة على صقيع حارق هكذا ؟ قـولي لـي هـل كـانوا

خوفا عليهـا مـن " يخبئونها إذا ما مر موكب الملك فاروق

شغفه باألشياء الجميلة ؟ كانت قليلة الكالم ، أعرف، وأريـد

أن أضع وردة على أي شيء يخصـها ، إذا مـا اسـتطعت

.الخروج

حت عينيها رقمها ، وفت نوم ساعتين بأ " مها " نفضت

على اتساعهما دفعة واحدة، كان البيت ممتلئا بأصوات رجال

ونساء وهمهمات غير واضحة أتتهـا ـ دون شـك ـ مـن

.سطح بيتها نفسه

ثقيال وبقفزة كانت معهم ، ماذا يحدث ارتدت روبا

؟

:في صدرها برفق " انشراح " دفعتها

Page 34: 539

خديها . ـ يا أختى انزلى أنت ، ونامى في سريرك

" .وىنج " يا

ـ ماذا يحدث ؟

.وخرجت أحشاؤها " بطة " ـ انشقت بطن

ـ وماتت ؟

الشاحب فـي السـطح " أحمد منصور " قابلها وجه

تستطيعين لو ... المقابل ، وابتسم بال مناسبة وهو يهز رأسه

ماذا تخفي خلف ! ، كيف يمتزج بها النوم رؤية ما أرى يا أم

أريـد أن أرى آخـر ؟ هذا الجلد ، هل وراء عينيها عـالم

. إال بهذا المخلوق يا أم ملكوتا ليس موجودا

.ثانية " انشراح " صاحت بها

" نجـوى " يا . ـ يا ستى انزلى وهاحكى لك بعدين

. خديها

.أحسن ما تتنكس تانى إحنا ما صدقنا الدم وقف

ملقاة كانت فوق طبليتها األثيرة ، ومغطـاة بأشـياء

ة ، وجهها ال يمكن رؤيتـه مـن هـذا ناعمة وغامضة كثير

المكان ، وحمارها المبرقشة حوافره بأحمر خفيف أخذ يحوم

. بنهيـق عـال االتجاهات ومستغيثا في كل لفتا حولها مت

Page 35: 539

كانوا يحاولون إذن إيجاد نقطة مناسـبة لمداهمـة البيـت ،

سـكينة " لسـطح وأخرى " مها " صاعدين تارة إلى سطح

لة دخولهم كانوا يتحدثون في صـوت ، ومع استحا " العمياء

" .حافظ المرسي " واحد لم تفهم منه إال صياح الشيخ

ـ وحتى إذا نجحنا فـي الـدخول فالحمـار األن

.مسعور وقد يؤذى الداخلين

ظلوا هكذا مترددين ، يقلبون األمر فيما بينهم حتـى

قد انسحب بهدوء ، ولـم " أحمد منصور "أنهم لم يشعروا أن

ا إليه إال وهو يفتح المزالج الحديدي لبوابـة البيـت ، ينتبهو

ويطرد الحمار بقضيب طويل إلى الخارج ، ولكنه لم يستطع

عتبة الباب أكثر من خطوة فقـد تسـمر تحريك الحمار عن

بمالءة كانـت وطبليتها معا " بطة " طى بشجاعة غ. هناك

ذلك منشورة بصحن البيت ، لم ينهق الحمار نهقة واحدة بعد

وهم يضربونه بكل ما وصلت إليه أيديهم من حجارة وعصى

" .انشراح " ، وصرخت

احنا مش ناقصين بالوى . ات هنا لو م . ـ مصيبة

.، جروه ، جروه بره الحتة

Page 36: 539

أن جروه قاطعين به طرقات ملتويـة كثيـرة قبـل

، ويلقوه في النيل تاركين إياه يربطوا في عنقه حجرا ثقيال

.وت ببطء في القاع ليم

نط زى القـرد إلـى " أحمد" ـ شوفتى إزاى الواد

صحن البيت في لمح البصر ، أقطع ذراعي من هنا ، إن ابن

.العمياء ده كان بيتلصص على بطة وحمارها

ألن تحكى لي ؟" . انشراح " ـ يا

في وجهها مصمصت شفتيها ثـم " انشراح " حملقت

:قالت ببطء

.ـ هو الدم وقف

ألن تحكى لي ؟. انشراح ـ نعم يا

. أحكى إيه ؟ هو أنتى لسه ما فهمتـيش ! حكى ـ أ

.صحيح شر البلية ما يضحك

.وكتمت ضحكتها حتى اهتزت كعادتها

الفاسـقة كانـت " بطة . " البلية ما يضحك " شر "

ردعتها حتى إذا ما هم بها لـيال تدهن جسمها بروثة وتلبس ب

" .، استلقت له على طبليتها العالية

.وقالت شبه صارخة " مها " تحشرج صوت

Page 37: 539

.ـ أنا ال أصدق

كنا ال نطيق رائحتها إذا ما خرجت إلينا ولكن الحق "

" ". سكينة العمياء " أقول لك ، الوحيدة التي تنبأت بميتتها

.ـ أنا ال أصدق

ما الذي كان علينا لنفعله ، ألم أقل لك إننا أرسـلنا "

من المرة مائـة سما في طعامه بدال له أوالدنا خلسة ليدسوا

" .ولكن الداهية كان في كل مرة ينجو

.ـ أنا ال اصدق

لمعت عيناه الغائرتان ببريق يليق بالحادثـة ولـوى

:رقبته بقسوة ليمنع تسرب الخجل إليه وقال

ـ كنت أيام اإلنارة ال أحب أن أشاهد في التليفزيون

حل الظـالم فرجنـى اهللا ، فلما " عالم الحيوان " إال برنامج

فزيون ، كيف يمتزج الحيـوان على ما ال حيلة لعرضه بالتلي

. باإلنسان أيضا

في انقطاع النور ؟هل لي ذنب أيضا ... ماذا ؟

:عصبية قصيرة وأضاف وضحك ضحكة

حتى هذه الفرجـة حرمـت ـ ولكي تفرحوا جميعا

.منها

Page 38: 539

ـ ما أخبار الجامعة ؟

:ليال وببطء قال طالت ضحكته العصبية ق

... أنا أدرس القانون كما قلت لك " مها " ـ يا ست

طيب باهللا عليك ، طبقى لي القـانون علـى مـوت بطـة

وحمارها ، ابحثى لن تجدي مادة واحدة تفيدك في هذا المقام

، وعلى فكرة ال تقولي لي من فضـلك هـذه مـن شـواذ

.المجتمع

الشـرفة ونهض حتى تصورت أنه سيلقى بنفسه من

: ولكنه همس وكأنه يسر لها بسر

األسباب ولكن ناسنا في ـ بالمناسبة ، ستختلف دائما

قتلة أو مقتولون ، سارقون أو مسرقون " حوض الجاموس "

من هذا القانون ودون . ، سيلقون المصير نفسه بدون التفاتة

.أن يأبهوا هم أنفسهم به

، " بطـة " على موت هارا اتشح الحى كله بالسواد ن

لق بعـد اختفـاء نهيـق واستفردت الكالب الضالة بآذان الخ

، وظل الموت هو البقعة الوحيدة البيضاء التي حمارها ليال

:تتكئ بثبات على األفق البعيد ، نقول

Page 39: 539

سنسـتدفئ فـي ريشـه ربما كانت طائرا صغيرا

الناعم الوثير ونحلق معه فينقلنا إلـى سـماوات أخـرى ال

بـال إلضاءة وربما كانـت قاربـا اإلظالم وا تتأرجح بين

مضيئة وال نغرق في زرقة أبدية مجاديف يبحر بنا ، ويبحر

يـة حـال ونحن فيه أبدا ، حيث إننا لن نشعر وقتها علـى أ

بالغرق ، ولن نمل النور المسلط على أعيننـا مـن قـرص

الشمس الذي نسافر نحوه ، حيث إننا وقتها سنفقد الشـعور

، وربما كانت قطنة كبيرة مبتلة ببلسـم لـم نخبـره بالملل

.يستطيع تضميد جراحنا كلها ويسحرنا فنستكين

دما أموت سأترك كتابا واحدا لما يقرؤه مخلوق عن

أ لـي كمـا واحدا نهشته الحياة والنساء ليكون مهي ، ورجال

ينبغي ، وأختا واحدة سترتب ذكرياتي كما يجب في أدراجها

س طيفى على أريكة مريحة ، وأغنية واحدة ال أعرف ، وتجل

بأي وسأترك بالتأكيـد جسـدا واحـدا اللغات ستكون بعد ،

سيكون أحلى لوحاتي إذا كان متاحا لـي أن أرسـمه وهـذا

كم أريد . هذه الحالة مستحيل ، كم أريد أن أرى جسدي في

أريد ؟ " نجوى" يا " أحمد الدالى " لماذا ال يأتيني . ه اأن أر

، وقتها قد أدخل عليك رغـم إغالقـك " أحمد " أن أراك يا

Page 40: 539

النائمة فـي سـوادها " نجوى " جميع األبواب بإحكام ، أقبل

ائي بألفة ومائها ، وأفرح حينما ال تشعر بي ، ألمس كل أشي

اشة طويلـة كثيرة تجعلك تسبح في انده بالغة، واقترف ألعابا

نزع أوراق الجرائد الملتصقة على ن أ ال تفيق منها ، مثال كأ

مرآتي الكبيرة ، أو أن أقفز على ذقنك الطويلة وأختبئ فيهـا

، أخلع كل مـا علـى مـن وأتسلل إلى أذنيك ألضايقك قليال

المالبس فجأة فتنفض ، ما أحالك حـين تضـطرب هكـذا

تطاردني من الردهة لحجرة نومنا فأذوب في نقوش شرشف

وة نجم يقاوم االنطفاء ، أو أن السرير وأعربد فوق رأسك بق

أهز الهواء من حولك فتلتفت وتراني صغيرة كنحلـة تطـن

على إطار صورة كبيرة مكتوب عليها آية الكرسي ـ تلـك

حتى يغلق علـى " على البلتاجى " السورة التي سيهديها لك

إمكانية دخول البيت بعد موتى ، أصـفف شـعري الطويـل

د على صدرك العاري والباكى وستسقط منه شعرتان بالتحدي

، ولن أرحل قبل أن أقرأ عليك مخطوطي الذي سأنجزه هنـا

خـذك إذا مـا وسأسح دموعك وسأجعلك تسـتريح ثـم آ ،

.استطعت معي

Page 41: 539

أغلقوا أبوابهم الهشة جيدا خوفا من أن تأكل الكالب

، وتسللت أنيابها وذيولها ونباحهـا إلـى أحالمهـم ، أطفالهم

عبيده ، ظل الظالم يختلق كل ليلة حـيال يتقن تأديب وكسيد

تحـت الخرطـوم هم صباحا عديدة وال يمل فينفضون رءوس

" بعد أن اسـتغل " بطة " الوحيد المنطلقة مياهه من صنبور

ن الفرصة وترك بابها مفتوحـا ، ويتوضـئو "نصور أحمد م

ويرفعون وجوهم الندية بالماء لوجه السماء المنفرج ويرددون

.لبعضهم البعض بأسمائهم تحية الصباح

" .أحمد " ـ صباح الخير يا

واستندت بمرفقيها على سور الشرفة لتواجه صحوة

.الشارع

ـ كيف صحتك اآلن ، هل نمت جيدا ؟

أشارات مبتهجة إلى شجرة اللبالب التي كانت تشـق

:طريقها إليها ، صفقت بيديها الصغيرتين كطفلة وصاحت

ـ هل ستنمو أكثر من ذلك ؟

.ـ ستنمو ، إذا لم يعبث بها المارة

؟ـ وترتفع عاليا

Page 42: 539

ل فـي قـرص الشـمس ـ إذا ما استطعنا ربط حب

.فستزحف إليه

ـ وتتفرغ ؟

.ـ بمقدار ما في مصانع النسيج من خيوط

ـ وتورق ؟

.ـ وتزهر وستكون فرحة بك

Page 43: 539

سمكة الجيتار

لة الجيتار ، وألنها ال تسـتطيع جسمها يشبه كثيرا آ

ء ، فقد أخذت تتجه ببطء وإصرار نحو المياه الضـحلة الغنا

على الشاطئ ، لتدفن رأسها في القاع الرملي ، لـن تتطلـع

مرة أخرى إليه ، لن تستمع إلى أمواجه الهادرة الهائجة لـن

تستمتع بأقواس قزح التي يعكسها عند شروق الشمس وعنـد

غروب الشمس ، ستكتفي فقط بدفن رأسـها فـي الرمـل ،

لها بيضات على وشك أن تنهي فترة حضانتها ، ولديها فبداخ

ولديها عينان لم . جسد ستحاول أن تجعله يحكي حكايتها معه

.تخلقا إال للفرجة

Page 44: 539

حوض الجاموس

أين يذهب النور؟ من أين يحصلون علـى بـذوره ؟

وفي أي أرض يزرعونه ؟ ما لون األمطار الالزمـة لـه ؟

نوه ويعلبوه ويرشوه على وهل إذا ما جمعوه يجمعونه ليصح

أين نصيبنا من النور يا رب؟ !! مساءات بعيدة كل البعد عنا

قيهم من االنتظار عب الناس على عتبات غيبته وجفت مآ لقد ت

وبالت في عششهم كوابيس موحدة اللـون تنتهـي جميعهـا

ثمة قشعريرة كانت تنبعـث مـن أرجـاء . بصرخة مدوية

ع األيام تنمـو تـزداد م أخذت" بطة " الشارع بعد مصرع

إذا ما نادى طفـل علـى رائحتها حدة، فينتفض المرء مثال

صاحبه فجأة ، أو قرعت إحدى النسوة الجالسـات يغسـلن

" أحمد الدالى " بعنف ، أو إذا ما سعل " حلة " األواني غطاء

، بصوت عال ليزيح ثقل الهواء غير العادي الذي يحس بـه

هل ما اشتراه من ميدان . . . ينظر إلى يديه بدهشة ويتذكر

التحرير كان فعال وردا بلديا أحمر اللون ، يا اهللا بأي شيء

تمسك هذه الدوائر الترابية لتتعلق في الجو هكذا معبقة بعفونة

.تحتشد بمئات التفاصيل الصغيرة

.ـ ذبلت ورودي في الطريق فسامحينى

Page 45: 539

ن حزمة الورد المغلفـة بسـوليفا بعيدا " مها " رمت

أبيض وشريط حريري مترب ، وزفرت وهي تستكين بـين

.ذراعيه

.لن أسامحك . ـ أبدا

ها ليواجـه بدد لها يقينها بثقل الهواء ، نقل سـرير

:الهواء البحري قائال

ـ وماذا تنتظرين وأنت تنامين في اتجاه قبلي ؟

أليام طويلة بآهة واحدة فوق ذروات جبال حلقا معا

ها اآلخر ، دربها من جديد على القفـز متراصة ال يشبه أحد

، وفك مآتم جسدها من مشاجرة ألخرى بمهارة نمرة ملتاعة

، وراحت في قطرات شفافة تغيب وتغيب حتـى مأتما مأتما

انغرست مخالبها في لجة حليبية الطلوع ، ما اسم هذا ؟

ـ رسالتي الوحيدة الجتياز مدائنك ، منشار لتفتيـت

. مئزرى الذي استتر به أمام جبروتك بهائك بأبهة تليق بك ،

وتسبح ، كل الشواطئ ال تـروق لهـا ، مـا مـن

، تلك األمواج العاتيـة تغويها لتستريح عندها قليال .ة جزير

مـن أدران ال تـذكر أي تجيد ضربها وهذا الزبد يخلصـها

ه من تلك الحيتان التي تقترب وتقتـرب ، مـا علقت بها ، آ

Page 46: 539

، دفعة واحدة وينتهي هذا الحفل تبتلعها هكذا الذي يجعلها ال

ما اسم هذا ؟

حزن . ـ قرنفلة وحيدة ال شيء غير حماسك يكحلها

صغير أحمر مغلق على أسبابه ، عرى مفتوح أنت أهل له ،

فاستمع إلى صهيلة كي تروضه.

كان عليها وهي تسير على أطراف أصـابعها مـن

فـي ة ، أن تفكر جـديا بأعمالها المنزلي غرفة ألخرى لتقوم

سيصابان بالجنون إذا ر بينهما العتقادها أنهما حتما رمي حج

فتحـت .. ما ظال ملتصقين هكذا ، هذا إذا ما كان لم يجنـا

األخرى ، لكي تجد شيئا خاصا يدلها مـن حقائبه الواحدة تلو

" مهـا " ية جبلة خلق هذه الرجل ، وانتهزت فرصة مرور أ

كم كانت شاحبة تشف عما بداخل عريها ل... أمامها لتتأملها

ذا ما تعثرت قدماها بمقعـد مـثال ، وتمنـت ، وتكاد تطير إ

أن يحدث هذا لتشاهد كيف تخترق أختهـا سـقف " نجوى "

الردهة ، ولما لم يحدث ، قطعت عليهـا الطريـق بلمسـة

.مشفقة

، هاهي الجرائد ، هل سنلصـقها علـى " مها " ـ

.ية المرايا بدال من تلك البال

Page 47: 539

.فيما بعد . ـ آه سنفعل هذا يا نجوى

هذه المرة ألوراق الجرائد " أحمد الدالى " سمح غياب

، أخذت تتنـزع مرآتها الكبيرة بأن تذوب تماما التي تغطي

نفسها من بئر لزجة وهي متكئة بكوعها على كتفه ، وجـزء

.كبير من وجهها محجوب خلف خصالت شعرها

ـ ألن تقرئيها أو ال ؟

" .نجوى " بعد أن تلصقها ـ

ـ كيف ؟

، حاول أن واقفة هكذا ، إنه شيء ممتع جدا ـ وأنا

ن ف خبر مثال وتكمله بطريقتـك ، أو أ تجربه ، أن تقرأ نص

كبير في أول الشهر مع نقيضه فـي تصريح لمسؤول يختلط

تسهر مـع " ! نجوى " نظر ماذا فعلت آخر الشهر نفسه ، ا

.ا الشيشان تصل لآلالف ضحاي.... الفيلم األجنبي

.وصفقت بيديها ، وهي تنتزع ضحكة

اسـتمري ، " نجـوى " عليك يـا " برافو " ـ واهللا

.استمري

، لقد اشتريت شقة جديـدة " مها " ـ تعالى معي يا

.وجهزتها لك

Page 48: 539

.لن أتحرك من هنا قبل أن يأتي النور !! ـ والنور

نها أتـت ماذا ؟ أتريدهم أن يتندروا على ، ويقولوا إ

بالظالم للحي ولما رحلت جاء النور ؟

ـ أي نور ؟ هل جننت ، سيقومون ، بإصـالحه ،

ألم أشرح لك أن المنطقـة واقعـة تحـت . هذا يحدث عادة

ضغط كهربائي عال هو المسؤول عن انقطاع النور ؟ ، هل

ليفزيون ؟في الت أنهم يناقشون هذا األمر يوميا تعرفين

.ـ ال نشاهد التليفزيون

فتشا من جديد عن سر اخـتالف أعضـائهما بهـذا

الصارم ، قص لها جزءا كبيرا مـن شـعرها الـذي الشكل

وكان يعوقه ، يلتف علـى ذراعـه كحيـات استطال كثيرا

ويلسعه فوق جفنيه ، وحلقت شاربه جارحة شـفته العليـا ،

وحاولت الدخول من جميع نوافذه المفتوحة وبفشل رضيع في

انت تستسلم المتصـاص كبيرة من اللحم ك تعلم ازدراد قطعة

طرقات كثيـرة ثقيل ، عفرا معا كل قمة يحملها إليها بصمت

.قبل ان يلوذا بكهف فريد ، مدهونة حوائطه بصمغ لزج

أمـن المفتـرض أن أغـوص ، ! يا لهذا اليقين " ـ

وأغوص بال نهاية وال أصل لحدود هذا الجسد؟ نفذ ت كـل

Page 49: 539

روج والحصـار ، ولـم تـزد حيلي يا حبيبي للدخول والخ

معرفتي بك عن الولوج في متعة إلى متعة إلـى أخـرى ،

أسيرة أنا حتى الموت فيك فهل سأظل أعتلي هذه القطـرات

"من الشهد وأنا غائبة في غموض أبيض ؟

كائن حريرى صغير ، أسـكنه ! يا لهذا اليقين " ـ

ه وال أستطيع وأنا أعتصره بين ذراعي هكذا ، وأستمتع لغنائ

وألعق ببطء نثاره ألستريح ، نه ، أن أفتته تماما ، وآيات امتنا

" . نفذت كل حيلي يا حبيبتي للدخول والخروج والحصار

ظال أليام طويلة أخرى يحاوالن فصل جلدهما عـن

التي توقعت أن يصاحب هـذا " نجوى" بعضهما البعض ، و

معـه أو " مهـا " مشاجرات عنيفة تمنت أن تنتهي بأخذه لـ

كوثه معها هنا لألبد ، أخذت تراقـب غاضـبة ومندهشـة م

: صراخ أختها في وجهه

ـ لماذا أضعت ألبوم صورها ؟ أال تشفق على أنـا

التي لم أعش معها حية حتى تسرقها مني وهي ميتة؟ كنـت

تعرف أنها ماتت ولن أستطيع إخراجها من القبر لتصويرها ،

كانت ومـع هـذا وحتى لو استطعت فلن تكون صورها كما

.أضعت األلبوم

Page 50: 539

هذا الرجل أرسله اهللا لي ليعذبني، لقـد " نجوى " يا

.أستأمنته على صور أمنا وأنا مسافرة فأضاعها كلها

ما الذي جعلك تضعيها ؟ هه ؟ إنني إذا ما حاولـت

.حرام . حرام عليك . إمساك ملمح لها غام في وجهي

بنومها على وتروح في نوبات بكاء مرة ال تنتهي إال

.صدره جالسة ومغطاة بشعرها

:همست نجوى

قالوا إنها من شـدة . تكن ألمي صورة واحدة ـ لم

جمالها ، كانوا يجدونها بقعة بيضاء ال أكثر على كل األفالم

.التي صورتها

بصوت خفيض كى ال " نجوى " لـ " أحمد " يهمس

" .مها "يوقظ

ستظل تخترع ـ ال تجزعي هكذا ، لقد اعتدت هذا ،

.كل يوم أسبابا جديدة للبكاء ، حتى أرحل ألتركها تنام بعمق

عيناها اللتان تلونتا بشعيرات شفيقة ، كانتا تنظـران

إلى كل االتجاهات تتشممان رائحة غيابه القادم وتتسمران بال

ـ ة لتوهـا مناسبة على سقف الحجرة أو أكواب الشاي الفارغ

.متقطعةوتنتزع من نشيجها جمال

Page 51: 539

وسجائر تكفيني ؟ت لي أقالما ـ هل جلب

.ـ نعم

كيف عانيـت " نجوى " تكذب كعادتك ، قولي له يا

.في البحث عن قلم واحد بالبيت كله ولم أجد

ما الذي يجعلك تتركني كل مرة ألعاني من شيء ما

؟

أللوان حتى كففـت عـن ألم تحرمني من قبل من ا

؟ الرسم تماما

ل ال يريدني أن أفعـل سـوى هذا الرج " نجوى " يا

.طرقعة أصابعه في أوقات فراغه

يرفع وجهها ليقبلها فتعيده إلى صدره وهـي تتمـتم

: بصوت طفلة

.ـ أحبك وأريد أن أنام

متلكـه وتحلم بفضاء ت " نجوى " ـ سأتركها تنام يا

يرفرف ويلقى إليها بريشه الـذي وحدها أكون أنا فيه طائرا

.ال يغطيها

لما أحاطوه بكل تالء رجل بامرأة جميال يكن اخ لو لم

هذه السرية ، وكأن نوافذ بيتها المغلقة التـي طالمـا فتحهـا

Page 52: 539

لتدخل الشمس ، وأغلقها ليحجب ظالم الليـل قـد صـارت

يراقـب خيـاال " أحمد منصـور " ظل غريبة عليه اآلن ،

الشك أنـه يحملهـا اآلن بـين ذراعيـه ... استطال كثيرا

ة مهيأة رغم ذلك لطيران ما ، ربما ارتدت كعصفورة جريح

لهذه المناسبة حذاء ذا كعب عال حتى تسقط عنـدما ينزلهـا

على قدميه ، فتحفر حفرتين شديدتي العمق ، تليقـان بـاأللم

شـفتيها حتـى الذي سيعانيه في األيام القادمة ، وقد يعـض

ستظل أليام طويلة تلعقه بلسانها وأنا أشكو تتورما وتنزفا دما

.لها ضرورة بحثي عن عمل

التي " نجوى " بعد ساعتين وسلم " أحمد الدالى " عاد

بهـا الكثيـر مـن فتحت له الباب ، حقيبة بالستيكية كبيرة

كد مـن األوراق البيضاء واألقالم التي جربها كلها أمامها لتتأ

للرسم مختلفـة الحجـم وفاكهـة أنها تكتب ، وألوانا وفرشا

:اها طازجة وقال موشوشا إي

ـ هل نامت ؟

. ـ بمجرد أن خرجت

.ـ لن أتأخر عليكما

.ـ أين ستذهب

Page 53: 539

هذا رقم تليفوني .. ـ إلى شقتي الجديدة بالمهندسين

تركت زوجتي الجديدة في منتصف شهر العسل فـي أحـد

الفنادق ، سأروح ألنقلها إلى تلك الشقة التي رفضتها أختك ثم

..أعود

.نها عما رغ" نجوى " انفلت صوت

يا أرذل خلـق اهللا ، أتريـد " مها " ـ أتتزوج على

؟" دون"ا قتلها ي

يده على فمها ، وابتسم بمرارة وهـو " أحمد " وضع

:يهمس لها ويكاد يبكي

ال بالبحـث ذه التي سأقتلها ، أختك ال تهتم إ ـ من ه

والبحث عما ال ندرى ، هي ال يهمها أن أتزوج ، أو حتـى

.أذهب إلى الجحيم

ل بعنف كل ما جلبه من حقائب وقـال بعـد أن رك

:نفض عن صوته الدموع

.ـ ستفرح بكل هذا أكثر مني ، وسترين

النسوة الالتي : التي لن تتغير الشارع يمارس عاداته

يتركن كل شيء من أيديهن ليتطلعن إلى المـارين بوقاحـة

داعرة تودع زبونها بنظرة لزجة سـاخرة طويلـة وتسـتعد

Page 54: 539

ابيـة ، ع مثيالتها بضحكات ماجنة وكلمـات ن للكالم عنه م

ن حول حديث هامس سيقطعونه ، والشباب الذين يتحلقون اآل

ويسارعون برفع أيديهم من على أعضائهم التناسلية ، التـي

.يلعبون بها دائما وبطريقة عكسية يردون السالم

" :أحمد منصور " اقترب منه

، أو " أحمـد " اهللا على السالمة يا أسـتاذ ـ حمدا

.نقول مع السالمة

وما . سكينة ؟ ، بلغها سالمي " ـ كيف صحة الست

أخبارك هل تخرجت ؟

وعدتني أن " مها " والست . خر سنة إن شاء اهللا ـ آ

.تكلمك لتجد عمال لي

ثـم زرنـى فـي . تخرج أنت فقط . ه نعم نعم ـ آ

.مكتبي

" ، و " أحمـد العتـر " أنت تعرف الشباب ـ طبعا

" .انشراح " والست " حجازي " ابن عم " لقط أحمد ا

.ال وسهال ـ أه

الجو خانق رغم أن اهللا أطلق ربيعه ، يقـف علـى

الهواء دخان مصانع مغلقة ، وال تعمل منذ زمن بعيد ، كالب

Page 55: 539

يوصف المنتوفة الوبرة ، متقيحة القفا ، قبيحة العينين بشكل

ل مبعثرة ، خراء أطفال مجفف على الحوائط رائحة نوم رجا

، عطن مجهول الهوية يحـيط أركان الشارع بالتساوي على

بالناس فيخفيهم بعد أن يتجاوزهم المرء بأمتار معدودة ، وال

امل معهم على أنهم كانوا كابوسـا يجد مفرا أمامه إال أن يتع

نا أسير يروقك كل ذلك يا حبيبتي ، وأ" ـ ـ مجرد كابوس

نه أجساد من ماتوا من يمتلئ حذائي بتراب قطيفى أشك في أ

ـ ي أهل الحي ، وإال لماذا فشلت الحكومة طوال سـنوات ف

من جنة شائكة ، ونار فاتنة كنسه ؟ ، أسير عاشقا مطرودا

مـازال " مهـا " ن تخمشيه يا ، أسير والسر الذي تريدين أ

.سرا

في روحـى هكـذا " موسكو " ماذا فعلت أنا لتدخل

بشرايين دمي ، وتنحشر فتزدحم شوارعها الفسيحة وحدائقها

تماثيل . الكباري في تيجان القلب وتتفتت هناك إلى صانعيها

بعد أن اجتزوهـا مـن حجم الطبيعي تقف في حلقي تماما بال

ميادينها ، وتمنعني من الكالم ، أسالك شائكة كل وظيفتهـا

كانت تحديد خصري ، ومازالت حبات الصقيع تتلقف وجهي

يـا . ثلج هذه أم حبات رمل وتصر على فتح عيني ، حبات

Page 56: 539

أمـامي السـنترال " ! لينـين " اهللا رمل يهطل في شـارع

ـ " أحمد الدالى " المركزي ، وتليفون يفي مصر ال يرد وبين

بالهرم مسافة أبعد مما كانـت " فاطمة رشدي " وبين شارع

ثـالث سـاعات . بين روميو وجوليت إلنجاب طفل واحـد

وحقيبتي فارغة إال مـن " د أحم" وأنت ال ترفع السماعة يا

الرمل يتساقط في أذني ، ويمنعنـي .. المة واحدة لك ثمن مك

من تحديد طبيعة األصوات ، الصـحاري تزحـف إلـى ،

ى لكشك التليفون ، تزيحن صحراء من كل الجهات تهجم على

، يا إلهي صحراء لم حتمي به كي ال أتجمد الزجاجي ثانية ،أ

يلها حتى أنني أرى الرمل تـذروه لبتة من تفاص تسقط شيئا أ

... هالمي هاهو يتضـح شـيئا فشـيئا الرياح فيتهيأ لتكوين

ال يخدش بياضه الجميل الذي يعتلي حصانا مجنحا ياللعربي

شيء ، يفك الضباب طبقات طبقات ويقترب مني ، إنه يفرق

لي ويغيب في دوامة نور أصفر عرى الهواء بالعدل ويبتسم

سحب أنا نقودي ، وألغى حجز مكالمـة يبيض بعد قليل ، فأ

القاهرة وأعود بدون أن أسمع صوتك ، وبـدون أمـل فـي

وجـع . الحصول على نقود أعيش بها األيام الكثيرة القادمة

Page 57: 539

والثلج يدخل بال " نجوى " خفيف ظل يصهل في أصابعي يا

.رحمة من ثقب في حذائي

كانت تهش الذباب من غرفتها ، تغلق زجاج النافذة ،

لتسمح بدخول الضوء ، ثم تغلق الباب من الـداخل وتسـود

تقطعـه مـن آن " نجوى " أوراقها طيلة النهار حيث أخذت

:آلخر بطرقها المتكرر على الباب

وبسـخرية " . نشـراح السـبتاتى ا" ، " ـ يا مها

:تزعق

اح تصول وتجول في البيـت طيلـة رصاحبتك انش

.النهار بحجة الحمام ومقابلتك

، نتف البط الكبيـر كلـه ريـش بطـة " مها" ـ يا

سأرميها إلى .. صغيرة ونقر لحمها ولعق دمها ومازالت حية

.الشارع فقد يأكلها الغجر أوالد الغجر

ال تنسي سيجارتك مشتعلة بجوار السـرير ، أنـا ال

.أحب أن أموت محترقة

مخرجـا لنفسها " نجوى " بقنوط المحاصرين وجدت

ا التي ظلت تطفئ فيها غيظ سنوات تمر نهائيا على وسائده

لم يكـن ت تفرغ في وسائدها رونقا بكرا بال غفران ، أخذ

Page 58: 539

أهال له إال من يحتفظ بالسر وبالرطوبة دونما بوح ودونمـا

سؤال ، أعادت بصبر صياد عجوز مشاهد اجتماعها بالرجال

كلهم حتى األطفال منهم والمتسولين والعاجزين ، وكانت كل

بملقاط دقيق من تحوم حولـه الشـبهات أكثـر يوم تقتنص

ضياع دمها لتتقصى مدى اقترابه منها ، ومدى مسئوليته عن

.ما تجد الوسائد أقرب ، ولكنها كانت دائما

ما من نجمة في السماء ، ما من أغنية حزينة تنبعث

تناسب هذا الظالم الشجى ، ربمـا " أحمد العتر " من راديو

يا للظالم الذي تستقر تحت بلوراتـه نفذت بطارية سيارته ،

لـو أنـه . السوداء الحياة بأسرها ، بألقها ، وصخبها وتنام

لماذا ال يدافع عن وجوده ككل الكائنات ؟ فيقول مثال ! ينطق

ن جميل ومن يرى ـ هذا إذا اسـتطاع أ أنا ظالم. أنا جميل

.فليذهب إلى الجحيم المضىء دوما يرى ـ عكس ما أقول

كل أشكال الحياة ، ، لقد جربت معه " جوى ن" ـ يا

حالة ألخرى بخبرة حرباء ، يريد أن يبتلعنـي إنه ينتقل من

، وهذا ما لن أسمح له به ، فقط ، لكي أحتفظ به طوال تماما

لخرافية التي حياتي ،إنه يأتيني كل مرة ألذوب أمام قرابينه ا

أن تلتصق روحي بأهدابـه ، أو تـروح يذبحها لي منتظرا

Page 59: 539

ردة يعلقها على رابطة عنقه ، أو تضيع إلـى األبـد بـين و

: " ة أردد أصابعه ، وعندما يفشل ويراني لم أزل أمامه واقف

، ويخترع أسباب رحيله ، لينتقم مني يستشيط غضبا " أحبك

زوج ؟ قولي لي بطريقته ، ليعذبني ، ألم يخبرك أنه ذاهب ليت

...، وكأننا اتفقنا فأنا أعرفه جيدا

بكلتا يديها وصاحت مولولة وهي " نجوى " أشاحت

:تجري من الشرفة لغرفتها

على أي شـيء اتفقتمـا ؟ وأي ! اتفقتما ! ـ اتفقتما

شيطان جعلكما تتفقان على أن يتزوج غيرك كما يشاء ، وأن

تكتبي أنت هنا وحدك وتسامري كل من هب ودب من هؤالء

أريد أن أسـمع نا ال أ" مها " اسمعي يا ! الهمج كما تشائين ؟

.شيئا

، ترمي بوسائدها واحـدة وراء " مها " ها تجرى خلف

:األخرى على األرض ، وتمسد شعرها هامسة

ناه طيبتان ـ ونحن في طريقنا إلى مأذون عجوز عي

.وواصعتان رددنا معا

ـ وسأعيش معك في بيت فسيح ؟

.ـ ستعيشين معي في بيت فسيح

Page 60: 539

؟يـ ولن تضربن

.ـ ولن أضربك

ـ وتكسونى ؟

.ـ وأكسوك

ـ وسيكفيك تسعة وتسعون بابا من أبوابي ولن تفتح

الباب المائة ؟

.ـ لن أفتح بابك المائة

ولن تأكلنى ؟

.ـ ولن أكلك

منعين األطفال من العبث اال ت " انشراح " ـ ألجلي يا

؟ لماذا ال يتركونها تكبر ؟بلبالبتي

.قصف رقبتهم أل.ـ واهللا

تلفت حوله معلقاعينيه على زوايا ي" القط أحمد " أخذ

، والكراسي الواسعة البرتقاليـة واألريكـة الكبيـرة الحجرة

الوحيدة التي يغوص فيها مع أمه ،لون الحوائط المائل لصفرة

ما ، وهذا المنظر المتكون أمامه من ورق حائط لشجر بنـى

أوراقه خضراء ، تعدو خلفه غزاالت بعيون متسعة ، وكأنه

أن جبهة ضيقة يحتشد عليها بخجل وتحد كـل أشـكال قرر

Page 61: 539

أنف مفلطح كبير الفتحتـين . الخروج عما يتوقعه المرء له

يصلح أن يكون في وجه زعيم مجموعة من قطاع الطرق ،

يفهمه ـ عضو في أو فتى ال يفهم إال ما قدر له اآلخرون أن

ـ فم بشفتين رقيقتين متسع على حزم من حزب سياسي مثال

االنتقام من هذه الذبابة الواقفة عليه اآلن ، فيهشها ويقول يريد

:بصوت أجش ممطوط

كان يخلي لبالبتك دى " أبو إيد خضرا " ـ لو يرجع

.عمالق أخضر بين يوم وليلة

حسـن " ى هكذا ونسى الناس هنا اسمه الحقيقي سم "

أبو إيد " حتى كان إذا ما سأله أحد عن اسمه يقول هو نفسه

إلى اللون لمست يداه شيئا يتحول فورا ، كان إذا ما "خضرا

و خارج منـه بعـد األخضر ، فإذا ما استند على الجامع وه

ه بحشائش خضراء أو يطلـع طحلـب صالته تخضر حوائط

صغير ، اشتكت زوجتاه السمراء والبيضاء مـن اخضـرار

رع التي تنبعـث البيض المقلى في أطباقهما ومن رائحة الز

، ومن ملمس يديه الرطبتين اللتين كانتـا إذا ارا منه ليال ونه

ما وضعهما على فرج الواحدة منهما ، صار في الحال دغال

:وقالتا صغيرا

Page 62: 539

ـ كيف نستطيع حمل أثدائنا التي تهدلت كثيرا بثقـل

.؟ برتقالها

طلقهما وسافر إلـى ليبيـا يسـتعرض هنـاك فـي

ـ مواهبه ت الصحراء مـن ا لك ، بعد أن شاق الناس هنا أيض

.إلقاء اخضراره على خرساناتهم

مـا الـذي : " لديها يقين بأنه سيسأل امه فيما بعـد

يجعلها تخفي مرايا البيت بأوراق الجرائد ، هل تخاف إذا ما

ن تجن ؟ المرآة أن تتحول إلى مومس ؟ أو أرأت نفسها في

.يا ابن الدايخة ، وقوم صلح الحمام . رس ـ اخ

" .انشراح " واهللا عيب يا .ـ ليشرب الشاي أوال

ـ اسكتي يا مها ، ابن الخايبة ده مش نافع في حاجة

كان شاطر لحد الثانوية العامة وبعدين سقط " مها " ، واهللا يا

حياة زي التـور الهـايج ، فيها ، وفضل يشطح وينطح في ال

، طول الوقت أبص له واقرا فـي كلنا يا أختي مش عاجبينه

بـص لـه وارجع أ . ا كلنا بجاز وسخ نعينيه أنه عايز يحرق

.لطفك يا رب : وأقول

ـ وال يعمل ؟

Page 63: 539

شرة ، يشتغل شـوية فـي ـ بيشتغل يوم ويبطل ع

، وبعدين يسيبها فييجي وراه صاحب الورشة ورشة عربيات

عشان أديله حق العربيات اللي بوظها خايب الرجـاء ده وال

قطع الغيار اللي سـرقها واداهـا لصـحابه اللـي عنـدهم

يكروبسات ، ويوم يشتغل في محل كبابجي يـروح واكـل م

نص الكباب هو وأصحابه المقاطيع ، وأعمل أنا جمعية كبيرة

واضحكي " مها " طيب اسكتي يا . أسدد بيها صاحب المحل

مرة راح اشتغل في مزرعة الفراخ اللي في بهتـيم ، وقعـد

طول النهار يطير الفراخ من فوق السور عشان ياخدها بعـد

يخرج م الشغل ، ابن العبيطـة كـان فـاكر أن الفـراخ ما

هاتستناه ، وحياتك يا مها يومها طبخت بهتيم كلها فـراخ إال

أنا ، جاني بالليل موظف من المزرعة وقالي ادفعي يا سـت

دورت السويت طول النهـار فـي . بالحسنى خمسمية جنيه

وشه ، وقلتله خمسمية منين يا حبيبي خـدني بيعنـي كـده

أقولكش خليني اشتغل بيهم فـي . م قني ماسويش نصه تالها

.المزرعة

Page 64: 539

:تمتم الرجل بغل

إذا كان الولد خرب الدنيا في نهار واحد ، فما حـال

أمه ؟

اهللا الغنى يا ست ليس لـدينا : وصاح بصوت عال

.عمل

.لكن واهللا العظيم ألخرب بيتكم

:قلت له وأنا أزغرد

يا رب امال تالقي خرب اخرب يا خويا ا . ـ فرجت

.حاجة تخربها

ا رب في مساء قفر نتوسم فيه بركلة واحدة اسقطونا ي

نطل منه عليك وعلى فرح حتى من فاتونا ، كلما ثقبا واحدا

خدشنا هذا الجب بأظافرنا ، شممنا رائحة عطننـا ، وكلمـا

ـ أصواتكم : هيب بأصواتنا نهرونا قائلين خربشنا صمته الر

:را فنجأ. قبيحة

حبة فوق وحبة تحت"

يا أهل اهللا يا لي فوق

"ماتبصوا ع اللي تحت

ونجأر:

Page 65: 539

كوز المحبة اتخرم "

"من كتر ما جرالى

:ونستمر في الجئير

فهمنى. كلمنى

"فهمنى . طب كلمنى

والخوف يا رب . سوخ أصواتنا تونظل نجأر كى ال

. نهـار يفتح على ظالم دامس يهيأ لنا أنه ال ينتهي بطلوع ال

شارع طويل ملتو على نفسه كشحاذ ، ال طرقاته معبـدة وال

هواؤه بمتحرك ، ترابه ملكوت من ماتوا فيه قبلنا وأبـوا أن

يتركوا ثأرهم فأخذوا ينكلون بنا ، الخـوف عمـالق أسـود

ذاننا الرهيفة ومن فتحـات ستطيع النفاد من فتحة أنفنا ومن آ ي

ا إال وقد ينا وال يتركن استنا ومن ثقوب مالءتنا ويظل يجثم عل

.مخلوقات شوهاء أنجبنا منه سفاحا

أن يطفئ " أحمد العتر " قل لصاحبك " أحمد " ـ يا

.فلقد أصابني الصداع . أغنياته

.ـ أسمعينا أنت موسيقاك

Page 66: 539

ـ كل مالدى على أسطوانات ، وال تعمل إال علـى

، وهو ال يعمل بالبطارية ، ماذا هل " السنترميوزيك " جهاز

؟ في منخارك مثال أضع الفيشة

.ـ واهللا لو فعلتها ألنرت لكم الحي كله

المسـتميتة " مها " ضاع النهار كله ما بين محاوالت

" ، وبـين هرولـة " أحمد العتـر " خوار مسجلة أن تسكت

.التي دلفت لحجرة نومها صارخة " انشراح

ابـن الوسـخة . ابنى . خبيني " مها " ـ الحقيني يا

.ضرب فينا كلنا نازل

:مرة أخرى " أحمد منصور " نادت

ـ قل لهذا الثور أن يكف عن ضـرب أمـه ، وأن

يتركهم لحالهم ويذهب من هنا ، ما بالكم واقفون تتفرجـون

عليهم هكذا ؟

مـع مغنيـا " أحمد العتر " وكأنه يرد عليها ، جأر

مسجلته حتى غطى صراخه على صوت الطبـل وصـراخ

.انشراح

يبي يا بووش طويل يا حب"

مناخيرك زى البرمي

Page 67: 539

وسنانك قوالب طوب

كل ماشوفك أقع مرعوب

يتجيلى تحت

اطلعلك فوق

"من فوق لتحت ، لتحت لفوق

أحمـد "ويصفق بصوت يعلو على صوت ضـربات

" .إلخوته الصغار وصراخهم " القط

.ـ يا سالم على الجمال ، واهللا سلطنة : ويقول

اللـي عاجبـه . آه " . طويـل يا حبيبي يا بووش "

.الكحل يتكحل واللي مش عاجبه يترحل

وهو ال يخفي تشـفيه فيهـا " أحمد منصور " ابتسم

:وهمس

.أال يرجع هنا مطلقا " حمد القط أ" ـ لقد أقسم

.قالت وهي تصفع الحائط براحة يدها

.ـ في ستين داهية

.ـ ال تكوني قاسية حتى تعلمى

ضرب ثـور كهـذا أمـه ؟ أن ي أعلم ماذا . ـ أعلم

، اهللا وحده يعرف ماذا سيفعل بها ؟لتعطيه نقودا

Page 68: 539

اسمعى .هللا الولد مسكين ، وسيجن قريبا ـ وا

" أحمد القط " في ليلة من ليالينا السوداء هذه تشاجر

مع شاب بحينا ال أتذكر اآلن على ماذا ، ربما سـيجارة ، أو

يا ابن المـرأة : سبه قائال " أحمد " رغيف خبز ، المهم أن

كل هذا عادي بحينا فنحن نشتم أحدنا اآلخر هكـذا . العاهرة

ح صـال " كما نمضغ اللبان ولكن اهللا أراد أن يتـآمر عليـه

، واتفق صالح مع ثالثة أشـقياء تالحوا فورا . هذا " العايق

سرقوا بطة سمينة . يستأجروا امرأة في غرفته ليال آخرين أن

يرحمها ، ذبحوها ونتفوا ريشها ورموه اهللا " بطة " من حوش

في أبعد خرابة بالحي كي ال تتعرف عليه ، ثم وضعوها في

. كيس قماش ، خاطوه بسرعة من خرق قميص قديم لصالح

" أحمـد القـط "كانت هذه البطة هي أجرة المرأة ، ثم دعوا

أنـت األخيـر ال نريد أن نتشاجر ثانية ،ستكون : قائلين له

وافق وانتظر دوره لمـا قبـل . تدفع شيئا ولن ألنك مدعو

وإذا لم تعتـده ، ! أال تعتاد عين المرء الظالم ؟ . الفجر بقليل

! يتشمم رائحة األثداء التي أرضـعت؟ أكان من المستحيل أن

! لحيـاة ؟ لخريطة النافذة التي أخرجته ل كيف لم يكن حافظا

Page 69: 539

من كل شيء ، وإال لماذا أنهـى مـا أشك في أنه كان متيقنا

ـ : قبل أن يدخل الفجر وصاح بهم ه متعجالكتب علي

.ـ أنهكتم المرأة يادون ، إنها قتيلة كوسادة عفنة

والمرأة حقـا . وابتسم الشياطين وذهب كل إلى بيته

منهكة ، من أين يتأتى لها الوصول إلى قناعة قـد تقتلهـا ؟

لملمت تحت ثوبها الوسيع وجعا ال يطـاق وطعـم انكسـار

ية ، ولم تنس على الرغم من كل هـذا أن تأخـذ مألوف للغا

الحساء في الصباح تصاعدت رائحة . معها كيس القماش إياه

واستقرت فـوق رءوس " تاتى سبانشراح ال " الدسم من عشة

في شـكوكه " أحمد القط " الناس طيلة النهار كالمصيبة ، تاه

التي لم يكن يريد لها أن تتأكد قبل أن يأتي مع أخوته علـى

لبطة كلها ، خرج ممتلئ البطن إلى أصحابه ليتندورا علـى ا

بطة " التي تولول على ضياع بطتها ، وغنوا " بطة " الست

الـذي قـرر " صالح العايق " ولم ينس " بتدور على البطة

: ترك الحي في تلك الليلة أن يميل عليه بصوت هامس

ـ احتفظ بخرق قميصي األزرق ؛ فقد ترتكتها لـك

.لخالدة للذكرى ا

.ـ ال أصدق ، أنا ال أصدقك

Page 70: 539

، ظللت ـ أما أنا ففردوس بكر لم يمسسه دنس أبدا

ستطيع أن أشير إليه أ. فر في لحظات ما قبل نومي فضاء أح

.هذا لي : اآلن وأقول

:خوفا أن تنهمر دموعها " مها " صرخت

قط ؟ هل ستبقى طيلـة الوقـت قطـا ـ أال تذاكر

ح يـا ور. حكايات كاذبة كلهـا أجرب يدس أنفه في عجوزا

.أخي ذاكر

كم . وعلى أن أهرب من عينيها المليئتين بألم مروع

ألست أنا صانع هذا األلم والرعب فيهما اآلن ؟ ! هما بديعتان

فلماذا حرمت على إذن الفرجة عليهما وطردتني ؟ يا أم هذه

ا المرأة تجد متعة كبيرة في مراقبة تفاصيلنا ، بل تكتبها ، إنه

وأمامها ال تسـتطيعين . مرسلة من قوى عليا لتتجسس علينا

إال أن تعرى نفسك وتعرى لها اآلخرين لكي تشاهدي يـديها

. آه مـن يـديها . يا أم وهي تقبض الهواء وتدميه بأظافرها

تصلح لعزف البيانو . يدان صغيرتان بأصابح طويلة رشيقة

.كره عليهما ، يدان خلقهما اهللا كي أقبلهما أنا دائما وأش

Page 71: 539

مها " امتألت حبال الغسيل فوق السطح بقمصان نوم

تمشي خلفها بخرقة مبتلة تمسح " نجوى " ومالءاتها ، ظلت "

:بها قطرات دمها وتهدر

أال تستقرين في مكان ، أنا ال أسـتطيع " مها " ـ يا

.السيطرة على دمك

قمطتها كما األطفال الرضع بمالءة قديمة مزقتها إلى

عة أجزاء وأحزمة ، وراحت تتلـون أحالمهـا بخيـوط أرب

حمراء تسعى إليها من السقف والسماء وصنبور المياه وتلتف

حول رقبتها ، وال تتركها إال جثة هامدة ، طال نومها وكانت

قد علمت دموعها أال تنهمر في وقت انهمار دم أختها التـي

سارت مترنحة من غرفة لغرفة كفرخة مذبوحة ، أرادت أن

تشهد كل جدار على نزيفها القاني ، لم تكن هنـاك نصـائح

لتحتفظ بحملها فهي ال تتحرك " انشراح " أخرى تسديها إليها

حمل بين يديها أثقل مـن إال من على مكتبها للسرير ، وال ت

، فما الذي يجعل دمها يهـرب منهـا هكـذا وال وزن جريدة

.يخلف مطلقا مواقيت هروبه

على يفها ، كانت تقف شاحبة خر قطرات نز ممسكة بآ

" الغسـيل " انشراح " ، طبقت فراغ جسمها من رونقه تماما

Page 72: 539

مها " وكانت تداري عينيها من نظرات " نجوى " النظيف مع

أحمد " التي توصلت بمرارة على صدق كل ما سمعت من "

على عدم االقتراب من وكأنهما أبرمتا اتفاقا صامتا " منصور

بشفتيها ، وقالت بشفقة " انشراح " ت مصمص.. هذه المنطقة

.كان لنفسها نصيب وافر منها

.ـ ال مهرب من قضاء اهللا

وأزاحت لزوجة الدقائق بضحكة متعثرة سرعان مـا

.مألت الغرفة

، عليه سـهم راقدا " على البلتاجى " لرجل ـ لقينا ا

، ولما رمينا فـي وجهـه اهللا ، على أطراف أرض زوجك

اهللا يلعـنكم يـا أوالد :ا حوله وزعـق سطل ماء تلفت فيم

:سألناه أين كان ليلة البارحة بطولها فقال . الكلب

أبيض ناصـع البيـاض أخـذ ـ كنت أطارد حمارا

كاشفا لـي يكسر أعواد الذرة ، وإذا ما هششته ينهق مبتسما

ضافت هامسة بعد أن أعطت فرصـة كافيـة أ,. عن أسنانه

.لضحكتها أن تنصرف

الـرحمن ـ بسـم اهللا " بطة " عفريت ـ لن يتركنا

.الرحيم ـ في حالنا أبدا

Page 73: 539

تفوا حوله مقبلـين لوألنهم ما من طفل مريض إال وا

إياه أكثر من مائة قبلة العتقادهم الجماعي أنه العدد الـالزم

من القبالت لشفاء األطفال ، بعد أن هـرب األطبـاء مـن

عت النفـاذ المستشفى العام تاركينه لمواء القطط التي استطا

تعـرت أفخاذهـا " سيدة " من شقوق جدرانه ، وألنه ما من

وهي نائمة إال وأسدلوا عليها نظراتهم الحنون وستار عشتها

استطاعوا متيقنـين مـن ، فقد ظلوا يحاربون الصيف كيفما

ه ؛ الوحيد الذي يمتلكون ليغلسوه مـن األتربـة ، إطفاء لهيب

من عدم قدرتهم على وفرحوا على الرغم من شكواهم الدائمة

التنفس بسهولة فرحوا بطول النهار الذي سمح لهم بمشـاهدة

جزء كبير مما كان يخفيه الليل ، ثم ألقـوا علـى بعضـهم

البعض تحية المساء بأسمائهم وأمعنوا في االنكمـاش علـى

.أنفسهم داخل عششهم

" .مها " ـ تصبحين على خير يا ست

؟" أحمد " يا أنحن متخاصمان. ـ وأنت من أهله

.اهللا يبعدنا عن الخصام . ـ أبدا

" انشـراح " الست . ـ إذن تعال اشرب معنا الشاي

.هنا

Page 74: 539

.ـ يدوم

وهو يضع كوبـه وال يسـتطيع " أحمد العتر " قال

يرد عليها حتى التي لم " انشراح " إخفاء امتعاضه من وجود

.أمامها جميع أبواب تعليقاتها النابيةسالمها ، مغلقا

: ضاحكة " مها " قالت

تعال نعقد اتفاقية سالم مثـل " . أحمد " ـ شوف يا

أنا أعتقد أن لبالبتي لن تنمـو وهـي . أي دولتين كبيرتين

تستمع إلى خبط وجئير مسجلتك طيلة النهار ، هـذا عـالوة

" نجـوى " على صداعي الدائم ، فما رأيك ؟ لقد وجدت عند

؟ فأنا حتى نسمع نحن أيضا ذهابعض الشرائط فلماذا ال تأخ

.جهازي ال يعمل بالبطارية

يعني الزم نسمع " أحمد " ـ ما تسمع كالم الست يا

.الزعيق ده على طول

.ـ ما تسكتي إنت

ق كبريائه لكـي ال ينفجـر وقال بطريقة لوى بها عن

.عن موسيقاه مدافعا

.وأشوف . ـ هاتى ما عندك

Page 75: 539

يـل ه الشرائط وتتخ بهدوء وهي تناول " مها " ابتسمت

.عندما ينفجر فيه عليه غدا " أحمد منصور " رد

وواثقة مـن نفسـها . ال .ـ ست مهبوشة بصحيح

:وسيحاول أن يقلدها . قوي

طيب . ـ لبالبتي لن تنمو وهي تسمع هذه الموسيقى

.تتنيل

في طريقه كـل صوتها المبحوح ظل ينساب محطما

فة ، وقـدرة شيء ، أغصان األشـجار الصـغيرة الضـعي

" وجاال " كنت . الصنوبر على الصمود وااللتصاق باألرض

جارتي نعتلى أرجوحة تحت مسكننا وننظر ، ليس باألفق إال

تكسر حدته من آن آلخر بناية ضخمة تحتهـا اخضرار ممتد

ـ دون شك ـ أرجوحة مثل هذه ولعـب خشـبية أخـرى

ن للصغار ، حكيت لها أنهم لم يسمحوا لي وأنـا صـغيرة أ

ان ، تسأن يظهر لباسي األحمر من تحت الف من ح خوفا أتأرج

جوحة ، فلقد ظللت ال يعني لدي األر ولما كان العيد في بلدنا

" ان جديد معبق بصدأ الحديد كالذي ترتديـه تسأشم رائحة ف

تضحك وتهزنـي " جاال " أخذت . إال وتذكرت العيد " جاال

ـ ف حتـى بعنف حتى ال أرى إال السماء وتـؤرجحنى بعن

Page 76: 539

ابتللنـا . أغوص في انتصب الحشائش الصغيرة تحت قدمي

أصرت المغنية على أن تعيد تشكيله . معا برذاذ مطر خفيف

.مرات قبل أن يلتصق بأهدابنا

كم أتمنى أن أطير " مها " ـ أسمع أن بلدك جميل يا

سألقى بمالبسي كليها . إليه ألغرق تماما في شمس ال تغيب

. الحارق طيلة النهاروأنام تحت صهيليها

حـوح بتغنى ، يلتف صوتها الم *" أال بوجاتشوفا "

كنصل سكين حاد ، حول خاصرتي متألما وواضح البهجة ،

قصـير " بتى شيرت " ووقفت فستانها الجديد " جاال " خلعت

يها وهتفت ـ إنه الصيف يا أعلى فخذللغاية يغطي بالكاد ما

من أجسادنا ، دعينا نرقص ، وعلينا أال نحرم المطر " مها "

" . مها " ، هييه ،

أخذتنى من يدي وأخذنا ندور وندور مـارين علـى

صوتها العميق وارتطامه اآلسر بالنوافذ القريبة ، تحلق حولنا

التي حملتهم واحـدا واحـدا " جاال" خطوات األطفال مقلدين

، ظلـوا ولى بعد أن تسمرت في مكـاني تمامـا ولفت بهم ح

تصرخ فرحة ، زاد التفـافهم " جاال " رون و يدورون ويدو

.مغنية روسية *

Page 77: 539

حولي سرعة ومرونة ، وقوة ، فتيقنت أنني واقفة منذ زمـن

طويل كتمثال المرأة من قـرون سـحيقة ظلـوا يتبركـون

.بالدوران حولها إلى أن هطل عليها الظالم

أن تصحو في ليلة تزينها ذؤابة هزيلـة مشـتعلة ،

ائظ فهذا شيء عادي ، تطير مع هواء عليل يأتي بعد هجير ق

ولكن أن تقتنع بأنك قادر على إطفائها بيديك فهذا هو القـدر

كرة صغيرة اسفنجية تراها من بعيد وتظـل واقفـا . بعينه

ني أفتستطيع دهسي وحتى لو كبرت وهي تقترب م ... تخمن

وتدير لك أسطوانة أرجوانية تغريك أن تقف عليها ، ؟ زهرة

يقى ويستغرقك الرقص مع الموس ، وما إن تروح تحبها كثيرا

في ذلك الرحيق حتى تنغلق عليك وإلى األبـد وتذوب تماما

حاربت النار " صابحة المسكينة " الشك أن . أوراقها بهدوء

فعـل ر الذي تضاعف نوره في هذا اليـوم ب حتى طلوع النها

اسمها الـذي فاعل ، والمسكينة ليست صفة ، وإنما هذا هو

نفعها أو يضرها ـ على أية حال بعـد ولدت به والذي لن ي

كـل نها لن تخسر إال هـو بعـد أن تسـتنفد اآلن ـ حيث إ

محاوالت ترويض شعلة صغيرة انطلقت مـن لمبـة جـاز

تقبض عليها بيدها ؛ فترعى في منديل سهارية نحو فرشتها ،

Page 78: 539

رأسها النايلون ، ترمى بمنديلها النايلون فتئـز فـي أعـواد

تها الوحيدة على جدران العشـة خوص عشتها ، تلقى ببطاني

هب أزرق ، ويضاء الليـل فيلتف عليها رذاذ قطن مبتل ، بل

كانت قد ماتت بـأنهم ول مرة بروعة ، أيقظت فيهم آماال أل

: سيفتحون أعينهم عليه

ـ هل جاء النور ؟

قاموا من مراقدهم على رائحة شياط حاد ، أطفـأوا

" لوحيد ، وفتح وم ا عشة صابحة التي تفحمت تماما بالخرط

جلب الناس منهما الماء في بيتيهما لي " مها " و " أحمد منصور

والجرادل البالستيكية ، التي غطى علـى حركتهـا الطشوت

الهارب مـن نشـيج " حافظ المرسى " صوت الشيخ

بحرقـة الميت ، بكوا جميعا محترق وهو يؤم الناس لصالة

علـى ولكن أيضا "صابحة المسكينة " ليس فقط على موت

أشكال موتهم المفاجئ القادم ـ ال محالة ـ قرروا أن يقنعوا

لمبات الجاز الكبيرة ا بالظالم الدامس ، ويبيعوا فورا ويرضو

بسبب عادة ، ومع هذا احترقت عششهم كل ليلة ، والصغيرة

الظالم ، فشافوا كابوسا األكل والنوم مباشرة التي أكسبها لها

Page 79: 539

حريـق ، وينهضـون : ا بصرخة مدويـة ينتهي دائم واحدا

. وهم يتلون الشهادة ويحمدون اهللا على نجاتهمصباحا

بعد موتى سيفرق بائع طعميـة عجـوز ـ سـيفتح

ـ كتابى مـع أقـراص " أحمد العتر " مطعمه مكان ورشة

ـ ي الطعمية على التالميذ بالتساوي ، وسيقرؤوننى بعمـق ف

ما ال يروق لهم ، ممزقين الصباح وهم ذاهبون إلى مدارسهم

من مشاهد جنسية فاقعة السخونة ، وسب ماال يمكن سـبه ،

حتى ذلك يا يودعين. وكل الحقائق الثابتة التي ال تقبل الشك

" نجوى " وأكتب ، ولكن أبوح بوح ما قبل الموت " نجوى "

التي خاطت سراويل صغيرة صفراء وبيضاء بأربطة رفيعة

ي تستطيع الحصول علـى لتضعها على مؤخرة الدجاجات لك

:بيضها ، أخذت تخربش السكون بصياحها

، وإذا عرى بعضهم البعض من جديد ، " مها " ـ يا

ولم يتركوا لنا إال القشر ثانية ماذا أفعل ؟

ما الذي يعرفه الدجاج عن بيضه ؟ هل " مها " ـ يا

م يعرف أن به أطفاله ؟ وهل يعرف أننا يعرف أنه خراء ؟ ا

كله ؟أن

Page 80: 539

راويل أخرى ، بعد أن نجحت تمرت في حياكة س واس

. في التقاط بيض غارق في غاللة خضراء غامقـة أخيرا

عندما أصبح عليها أن تغسل عمال إضافيا " نجوى " ووجدت

.هذه السراويل فيما بعد استعمالها ونشرها

ضرب الصوت القوي الجميل ضيق األفـق بوقـار

الالمعـة فـازداد ى وتحد حنون وجنون ، انعطف إلى المآق

، حلق فوق الرؤوس المتعبة كربيع يطلع قبل بريقها وميضا

هـا عند أبواب العشش وطرق ميعاده بكثير ، ثم ترجل متمهال

فغنوا معها للحب واألمـل ،برقة لتفتح الروح مسالك نورها

والحياة وحتى لعيون الليل الـذي أذلهـم ولكـنهم سـامحوه

.جميعا

.دين يجب أن أؤديه دى ل" أحمد العتر " ـ لـ

؟" أم كلثوم " نه يفتح ـ أأل

ظللت مسجلته الصغيرة تطلق ملكـوت فـراديس ال

.فيها " أم كلثوم " نهائية تصدح

ـ هل أغلقت الباب ؟

.ـ وأطفأت كل الشموع

.تركى شمعة واحدةـ ا

Page 81: 539

" .مها " ـ وال واحدة ، نامي يا

ـ يا ربي ، لوال هذا الصوت الحترقت في مثل هذه

الليلة أحالمنا ، كيف تكون الحياة بدون صوتها ؟ فقط أغلقي

.كيف ؟ . عينيك وتخيلي

Page 82: 539

سمكة الجيتار

من يصدق أنها من فصيلة أسماك القرش المتوحشة ؟

خـر ، ومـن آن آل سها في الرمل ارتضت دفن رأ تلك التي

ما ، ال يبين ألنها تكتبه تنتفض وكأنها انتهت من كتابة شيء

فتمهل ، وأنت ذا ما كنت صيادا سحه بجسدها ، إ برأسها ثم تم

تغرز فيها حربتك وتأملها وال تخش هروبها ، إذ إنهـا لـن

تحاول الهرب ، فهي لم تصل إلى هـذا القـاع الرملـي إال

لتدريب جسدها كي يغني أغنيته ولكي تحفر بعض النقوش ثم

.تستسلم لك

Page 83: 539

حوض الجاموس

يامنـا انتخابـات ـ فليجعل اهللا كل أ : وقالوا . . .

بسـط المرشـحون . طالما أنها قادرة على إنارة الحي هكذا

الحـي الذين جلبوا معهم مئات الفوانيس الغازية وجعلوا من

بأكمله وحتى " مها " غطى شارع قطعة نار مضيئة ، سرادقا

منتصف طابور العشش ، وأطلقوا أغنيـاتهم الثوريـة مـن

حده يعرف كيف و" بطة " مكبرات صوت عالية ـ عفريت

ـ ثم قسموا السرداق فيما بينهم ، وفق برامجهم االنتخابيـة

فاصلين ما بين حزب وحزب بستائر من قماش يشبه إلى حد

كبير هذا المغلقة به أبواب العشش ، شمروا عن سـواعدهم

كاملين يقطعون أشواطا وأشواطا فـي وأخذوا طوال شهرين

" ح مـن شـتائم قذف كل من تسبب في الظالم ، بشتائم أقب

: قالوا . لنسوة الحي " انشراح السبتاتى

ـ إنهم يسرقون منكم أسالك الكهربـاء ويضـعون

:ثمنها في بنوك سويسرا ، وقالوا

ـ إنهم متعمدون ، ال يريدون للحي أن يضاء حتـى

: ال يرى األجانب بؤسه من طائراتهم ، وقالوا

Page 84: 539

ـ أي : نه اختبار من اهللا أفال تحتملون ؟ وقالوا إ ـ

.هيئ لكم ولهم ي ظالم إنماأحي و

فجأة اهتم الناس كلهم بالسياسة ، وألول مـرة منـذ

يعمل ، النسوة وضعن طشـوتهن سنوات صار الشارع كله

التي امتألت بجوارب المرشحين الذين قرروا اإلقامة بـالحي

حتى صبيحة يوم التصويت ، أخذت النسوة يخـتطفن مـن

جعـل المرشـح لنها ، ممـا بعضهن البعض الجوارب ليغس

على ارتداء جورب أحمر في اليمـين وآخـر مجبرا أحيانا

أبيض في اليسـار ، ورقصـن مترنحـات مـرددات وراء

المرشحين شعاراتهم بسيقان عارية غارقـة فـي رغـاوي

لمبة لكل مواطن ، ـ يسـقط الظـالم ـ : صابون رخيص

يقاع إ على" مها " وفكرت . اللي ينور جوه واللي يضلم بره

وهي تستمع من الشـرفة " اتى انشراح البست " فى رداهتزاز

أحد المرشحين ، الذي كان غاضبا بإخالص وثـائرا لخطبة

هل تكون له نفس التقطيبة يا ترى ... ما بين حاجبيه ومقطبا

لمسـاكن وهو بارك فوقها ، وهل وعدها حينذاك بشقة فـي ا

الحي ليمنع جر أحد شباب الشعبية ؟ واضطرت أخيرا أن تستأ

صبية المرشحين من استعمال حوائط بيتها لكتابة شـعارتهم

Page 85: 539

" االنتخابية ، وظلت تقرأ نصف مبتسمة على جدران بيـت

، وبالضبط في ظهيرة كـل يـوم " أحمد منصور " و " بطة

جملة جديدة من حكاية قديمة مكتوبة بخـط بطالـب ثـانوي

.راسب

، " بطـة " سرقت البطة من " انشراح السبتاتى " ـ

ثم إشارات توضيحية لطريقة التسلل من سور الجدار منتهية

واسـتولت " انشراح البستاتى " بهذه الجملة ـمن هنا دخلت

" ـ الدليل القاطع علـى سـرقة " بطة " على بطة األرملة

لبطة أرملة العربجي ، هو اعترافها هـي " انشراح السبتاتى

.نفسها بذلك

ماتوا في الدفاع عـن هاج المرشحون وزعقوا واست

عدم التأثير على أصوات الناخبين بطرق غيـر شـرعية ،

وشجبوا التعرض لحياة الناخبين الخاصة ودار الكـالم عـن

شرف المعركة االنتخابية ولف على رؤوس الخلق كنـاموس

" انشراح السبتاتى " الصيف ، فاتهم بعضهم البعض باستخدام

س مفكـوك ، قانيـة التي كانت بدأب شديد تدور بمنديل رأ

الوجه تشترى في أصوات الناس ثم تبيعها ، وظلت بصوتها

المبحوح تدافع عن نفسها بال هوادة طوال أيام مبللة بصخب

Page 86: 539

ظهر في أكثر من مكان مع أكثـر محروق ، ـ كيف أ شاي

من مرشح في وقت واحد ؟

ته وهو يمتطى سـور شـرف " أحمد منصور " قهقه

نـه سيسـقط فـوق أ" مهـا " كالحصان ، حتى تصـورت

:السرادق

، شوف كيف اختـار " أحمد القط " ـ هذا خط ابنها

اللحظة المناسبة ليؤكد لنا أن أمه سرقت البطة ولم يعطها لها

" !صالح العايق " يومذاك

أغلقى زجاج النافذة ، حتى يحجـب " يا نجوى " ـ

.افتحيه سنموت من الحر . عنا هذا الصوت ، ال

الحوائط سادا أذنيه دونمـا جـدوى سائرا إلى جوار

كان يعتلي جميع خياراته ،ويخشى أن يتوقف حتى ال تطول

وقفته أو ينكفئ على طريق طويل قادم هو منه إليها ، رائحة

ترى هل ستفارقه فورا إذا مـا ... كثيفة حمراء التصقت به

وأنـت " مها " القلب يسوخ في الركبتين يا عاد أدراجه ، إن

ن بأسمال أسرارك فأمزقها أحيانا وأخلع دة تلتقي كما أنت بعي

. وأذوب فيها ،ومطلقا ال أصل إليك بعضها أحيانا

Page 87: 539

عينيه ، كان يتنـاول ظل نائما طيلة يومين ومغمضا

" :نجوى " طعامه فتلكزه

.مضغ ما في فمك ـ أن أ

تنحني رأسه على رقبته ثانية وبفمه الطعام ويعـاود

.النوم

" . مها "ـ زوجك مريض يا

فتبتسم وهي تراقب بحلو نومـه وتحـرث أحالمـه

السوداء حتى إذا ما اخضرت جرت إلى النافذة لتتابع حديث

.المرشحين

وال يحزنون ،نفذت نساؤه علـى مـا ـ وال مريض

.عتقد ولم يبق له إال أنا أ

جميع ما في الفم من ضـحكات وآهـات فتحا معا

الفائتة ، وقفا طويال وغاصا في كل ما ضاع من محار األيام

أي جحـيم . مذهولين أمام جنات لم تطأها أقدامهما من قبل

على الكثير مـن الحصان الجامح سيمر بنا معربدا هذا !هذا

ماذا تريدين ؟.الورد قبل أن نصل أوراق

ـ ما تيسر من مناسك آبائنا ، سكنة الكهـوف فـي

.فض فرحهم ، قبضة ريح واحدة

Page 88: 539

بينهما على نور فوانيس السرادق أعاد تنسيق التشابه

التي أضاءت ليلهم بصفة دائمة فواجه عينيها المفتوحتين غير

لقة العينين ، مغرأة الوحيدة التي لم يرها أبدا مصدق أنها الم

.حتى من األلم الذي يسببه لها

ومتـرب فمـك ـ عيناك ذابلتان ، مرهق أنـت ،

الجـامح برائحة ليالي مدينة مضيئة ، ولكن هـذا الحصـان

. سيمر بنا معربدا على الكثير من أوراق الورد قبل أن نصل

ماذا تريد ؟

ـ بحرا يحط على يدي فألعق ملحـه كلـه ألزهـو

بنفسي ، حمامة واحدة أعلمها أال ترقص على موسيقى سوى

. دقات قلبي

هل بإمكان المرأة أن تحب ؟: قولي لي

ال ـ وأن تصير عندليبا ليس له خالص من خطايا إ

قـل . بالغناء ، وليس له خالص من الغناء إال بابتالعك إياه

له بإمكان الرجل أن يحب ؟.. لي

" نجـوى " شهدت كل الغرف المغلقـة محـاوالت

، وعلـى ب مالمح رجال لم تلتق بهم أبـدا المستميتة لترتي

وسائدها ، وبإلحاح رعاة اإلبل القدامى الذين يوجهون أسئلتهم

Page 89: 539

عن يقين ما ، كانت تزيح مشهدا ماء باحثين لنجوم السماء البك

بعد مشهد وتعتلي تفاصيل ال حصر لها ثم تستقر ثانية علـى

، يستحيل أن يكونـوا غير محدد المعالم ، أطفال صغار نتوء

مسئولين عن سرقة دمها ظلت تبتسم لهم وتطـاردهم وهـم

يجذبون شعرها القصير كشعر صبي حينذاك ، ثم تهز رأسها

الم لشيوخ كانوا يسيرون ونظراتهم موجهة إلى وهي ترد الس

ـ دونما : تهرب إلى الشرفة فتزفر متمتمة . خروم أثوابهم

هذا ، وسيذهب كل سكان الحي " أحمد منصور " شك سيجن

.إلى هوة أشد ظالما من ليالينا تلك

ن كقطين يواجـه أحـدهما دخلت عليهما ، وكانا اآل

:هما، وقالت ، جلست معطية ظهرها لعينى اآلخر

؟" وردة " هل تعرفين " مها " ـ

.ـ ال

هذه المرأة النحيفة ، واسـعة العينـين ، السـمراء

انشـراح " بجلبابها األزرق ، تسكن في ثالـث عشـة بعـد

" .السبتاتى

.ه عرفتها ـ آ

Page 90: 539

ـ قطعت زوجها أكثر من مائة قطعة ، وضعتها في

ـ اوية ثـم أكياس ووزعتها على حافة النيل على أبعـاد متس

أخبرت المرشحين ، فأتوا بالبوليس وذهبت مع رجاله لتجمع

.زوجها

معفرة الجبـين ، معهم صامتة تماما " وردة " رت سا

متحجرة العينين ، ضربهم ولكزهم يؤلمها فتحـت الخطـى

نحني بخشوع أمام كـل مرشدة إياهم إلى أعضاء زوجها ، ت

ـ ودونمـا القمامة البالستيكية السـوداء ساكيس ـ من أكي

اهتمام بالرائحة العفنة التي تنبعث منه ، كانت تحتضنه ، ثـم

، لم تتكلم كثيرا . فة لجمع الجثة تسلمه للرجل الذي يحمل ق

بهتهم أن جثـة زوجهـا فقط عندما تعبوا وأرادوا العودة ، ن

من الرأس وعليها أن تجده بعد خطوات ، ظـل ناقصة جزءا

بعض من بين أسنانهم عما رجال البوليس يهمسون لبعضهم ال

يمكن فعله مع هذه المرأة الوسخة التي لـم تكتـف بتقطيـع

زوجها ، بل سحلتهم على امتداد نيل لن يكفيهم الغـرق فيـه

دندن هي بعدودة كلما للتخلص من تلك الرائحة ،بينما كانت ت

من قوارب الصيد ـ على ما يبدو من تأليفها لمحت قاربا

ـ يا نيل

Page 91: 539

يا طولك

طولك يا ليليا

مركب صغير ماشى

وأنا مش فيه

أنا بالمك

يا رجلى

وهارجعك من وين ؟

هل هي نادمة على قتله ؟ : سألوها في سراى النيابة

:فأجابت بابتسامة ساخرة

على الحياة بعد أن لملمـت جثتـه ـ وإن كان قادرا

.لقطعته من جديد

أسود ، وجلست أمام على كتفيها وشاحا " مها " ألقت

سرادق الرابض تحتهم أصـبح هادئـا وجها في الشرفة ، ال ز

اآلن بأصوات رواده المبحوحة ، رمت رأسها إلـى الخلـف

:حتى طال شعرها األرض وسألته فقط لتتكلم

ـ تعتقد من سيفوز ؟

.الجميع خاسر . ـ في معركة كهذه

Page 92: 539

شارع ملتو على نفسه ، تبزغ منه بيـوت أبوابهـا

ة ،مما يجعله يضيق أحيانـا ويتسـع ثقيل حديدية مغلقة بأقفال

. أخرى أحيانا

كل هذه البيوت مغلقة على هـواء عطـن، .. ـ ياه

.والناس في الشارع

في انتظارك ال تنسى أن بيتي هذا كان مغلقا أيضا ـ

، ولقد ظلوا يسكنون العشش ،لماذا ال تريدين ترك هذا البيت

.؟ تعالى معي " مها " يا

:صارخة بيدها " مها " أشاحت

، هذا هو البيـت الوحيـد الـذي ال " نجوى " ـ يا

على هذا ألمه بيعه ألنه أقسم " أحمد الدالى " يستطيع

أنني طوال عمري لم أستقر تحت سـقف ، وهو يعرف جيدا

واحد لمدة طويلة ، ولهذا سأبقى هنا ألكـون لحظـة ثباتـه

.الوحيدة وأكون سكنه

وحملها إلى سرير أمه ، خلع عنها وشاحها األسود ،

وضعت يديها على عينه تخبئهما ، فجال على كل حشائشـها

هي الوحيـدة إذن ... من أقحوانها الصغيرة ، ورضع كثيرا

ولو أنها لم تبذل هذا المجهود الخرافى التي تقاوم الذوبان في

Page 93: 539

كي ال تدخلني لنهضت من فوقها فجأة وما أروع أن ال أجدها

.تحتي

سـكينة " شرفة بهدوء ، كي ال تنتبه ال " مها" فتحت

كأت على السور ، واسـتقرت لوجودها، وبعد أن ات " العمياء

ها متأملة استعداد السماء لتوديع قرصـها الـواهن ، في وقفت

:وكأنها تحدث نفسها " سكنية العمياء " قالت

أبـو الطيـة " ـ ال تعرف لماذا كانوا يطلقون عليه

زوج " نه ومحبين له ، ينادونـه بــ وإذا ماكانوا قريبين م "

جـزار ، واهللا كان رجال طيبا كجمل مربوط بجوار " وردة

إال وعمله ، عندما انفض الناس من بنية الذبح ،لم يترك شيئا

والتفوا حـول المسلسـالت العربيـة " ميمونة " حول قردته

وضعها في العشة لتموت بهدوء ورضا ، وقال أبـل أعـواد

للشفاء في الشوارع والحواري مصلصال سير العرقوسوس وأ

والخميرة ، وليلتف حولى أطفال الحي يتفرجون على ويغنون

معى وال يشترون فأبيع اإلبريق واشتري بثمنه كذا عرنـوس

ذرة ، يأكل الناس ذرة مشوية تاركين لي القوالح أشوى عليها

ذرة جديدة وهكذا العجلة تمشي ، ولما دخل الصيف اشـترى

جرها لشباب الحي بقـرش لنصـف السـاعة عجلة ظل يؤ

Page 94: 539

وقرشين للساعة إلى أن أخذها منه أحـد األشـيقاء وطالـت

ساعته لحد هذه اللحظة ، وهكذا أضاع رأس مالـه فجلـب

بالمؤسسـة لبشـتين فرشـهم أمـام باألجل من تاجر قصب

،فتآمر عليه الناس ولم يشتروا منه ولمـا نـام هـومأل عشته

م ظلوا رائحين عائدين ليفكـوا جفنيه ، لم يستطيعوا هم النو

.حصر بولهم الذي لم ينقطع حتى الصباح

" هـي نواثقة أن الواقفة أمامها اآل " ياءسكينة العم "

مسترشـدة كانـت " نجـوى " تها وليست أخ " مها السويفى

، أخذت تستنشق رائحة الهـواء المخمليـة بوصف ابنها لها

: افت وعبق زهرة مجهولة النوع رفعت رأسها بحدة وأض

تها في الظالم أيضا اـ األرقام يا ابنتي ال تتغير عاد

" للحـب ،و "ان ناث" واحد يخص اهللا تعالى ،ورقم " ، سيظل

.ام ال يولد إال الكوارث زحللخيانة وما زاد عنها" ثالثة

مـداراة " مها " التي ال ترى حاولت " سكنية " عن

ضحة لها قالت احمرار وجهها ، ومتجاهلة إشارات المرأة الوا

:بصوت خفيض

ـ ولماذا قتلته وردة ؟

Page 95: 539

خلق فـارغى ـ مكتوب ، اهللا أعلم يا بنتي ،ولكن ال

تلفيق األسباب ، اعتبريهـا مـثلهم إذا العقول يريدون دائما

شئت، شعرت بأنه سيتزوج امرأة أخرى عندما جرت في يده

. ابتالنا بها اهللا النقود التي كسبها من هذه االنتخابات ، التي

باب البلكون " مها " بسرعة من لدغها ثعبان صفقت

بأنها دخلت حجرتهـا ودون أن تبـرح " سكينة " لكي تعتقد

جامدة كاتمة أنفاسـها تراقـب نظـرات " مها " مكانها ظلت

العينين الخاويتين واالبتسامة الساخرة على وجه ـ دون شك

.ـ يراها

جلست على أرض البلكون بهدوء وأمسكت بحجـر

...ير نقشت به على الحائط كي ال تنسى صغ

على امتداد النيل

في قارب صغير

تجدف الزوجة

والزوج يرمى شباكه

وينامان في بطن القارب بالليل

سمكتين هانئتين

.. ..

Page 96: 539

على امتداد النيل

ألم أجزاءك

أن أكملها يا زوجي الحبيب وعلى .

وحده القرص الدامي اآلن يتوسط هذا الحد الفاصـل

ما كل . بين ملكوت يستعد لسواده وملكوت هائم في غموضه

هذا العدل ؟ برتقال موزع بالتساوي ما بين السماء واألرض

ذن فماذا عن الفقـر ؟ إ. ،ممدود على لون أرجواني خفيف

هذه المرأة العوراء التي نجبر أن نعيش معها ، هذا الرجـل

النجـوم ، هـذه نا دائما الغبي مفتول العضالت الذي يصرع

، هـذه ، ونلمسها فتتجيـر أيـدينا المتكلسة التي نقترب منها

الموائد العامرة بحساء ساخن شهي ، إذا ما أتينا عليـه كلـه

ع أطفالنا ، ماذا عن هذه الماسـة بوجدنا في قعر أطباقه أصا

تدور وتدور في الظالم ؟ فال تعكس إال قرونـا المحبة التي

لنواجه مؤخرات بعضـنا عديدة لشياطين يتفننون في سحلنا

ما من قنديل معلق في أأما من شمعة في السماء ؟ . البعض

سـاها صغيرة تن أي شيء يتدلى فوق رؤوسنا ؟ ندفة حمراء

الشمس من لحمها ولو ليوم واحد ، ريشة تقع في غفلة مـن

Page 97: 539

رم علينـا ا. ولـيكن . الذين يجوبون الفضاء أحد المالئكة

.هذا الليل أخيرا يمك يا رب فقد تنير قطعة من جح

بـه ، فـيقص الفقراء ظل الليل يخترع ألعا كأطفال

، " مها " كاملة من شجرة لبالب فروعا " بطة " عفريت

ويهمس في آذان البنات بأغنية حزينة تجعلهن يخرجن مـن

صناديق كرتونية ضخمة قمصانهن الحريريـة ، وأروابهـن

دنيـة الثقيلـة ، الشيفون ، ومالبسهن الداخلية بحلقاتهـا المع

، فيجربنهـا ال يـأتون أبـدا الالتي جهزنها ألزواج قادمين

، ة عروق صدورهن الزرقاء التي نفرت متأمالت بعيون دامع

أو أعشابها في إعادتها إلـى " الخالة كفاية " ولم تنفع مراهم

.مخابئها

.ـ ستطلع لك شامة سوداء عند التقاء العنق بالكتف

زوت بكاملها في صـدره خلصت عنقها من يديه وان

:وابتسمت بتعب وهي تهمس

بشواطئه الرملية كان يمتـد واسـعا ـ نهر الدينيبر

ته عـاريي األقـدام ؟ مامنا ، هل تذكر أننا جلسنا على حاف أ

ونحن نصد الماء عنا ونعيده إلى سـريانه عـن تكلمنا كثيرا

طمي نيلنا ، وعن إحساس ثقيل بالغربة ،رذاذ المـاء الـذي

Page 98: 539

على وجهينا ظل يحتد وسرعان مـا اتخـذ طريقـه يتطاير

للفضاء ، دار أكثر من دورة وبات يتشكل مرة أخرى لهـذا

الناصعة كالحمامـة وأنفـه العربي الجميل بعمامته البيضاء

الكبير الشامخ ، وعينيه الواسعتين المبتسـمتين ، كـم كـان

، وكيف وقف قدامى تمامـا ! يخطر في المدى بجمال فريد

صى التـي األطفال وعواماتهم ليستنطقني ، الع فوق رؤوس

سال كـل بيده اليستخدمها مطلقا فلماذا يحملها ؟ هل سأظل أ

ية ؟ لماذا ال أبادره بالحـديث ؟ تلك األسئلة فأضيعه مني ثان

نه يجمع قبضتيه ويرميني بنظرة متأملة طويلـة ، ويفـتح إ

.عباءته مشرعا يديه ومهيأ للكالم

ا أخت زوجتـي فقولي لي ي " ى نجو" ـ أنا تعبت يا

؟ هل أشقها بسكين ، أفتحها وأرى ما بـداخلها ثـم ماذا أفعل

ن لي عندئذ كاملـة ، وتكـون أموت في اللحظة نفسها فتكو

.خصيمتي في المحشر أيضا

.ـ سكين في عينك ، يا أخي صل على النبى

عنقها ملتهب ال ـ عليه الصالة والسالم ، اسمعى ،

.أن تنام ، ستجن إذا ما بقيت أنا هنا يد أعرف لماذا ، وتر

؟" مها " قل لي ماذا تكتب . ـ أهذا بسبب الكتابة

Page 99: 539

:ركل الحائط بقدمه

؟ هل تقرئني ما تكتبـه ؟ ـ من أين لي أن أعرف

.إنها تكتب بسرية من يخطط لحرب ما

:وهمس مكمال

ـ أتعرفين ماذا تريد ؟

: بسخرية هامسة أيضا " نجوى " قلدته

ـ ماذا تريد ؟

ـ طفل تنجبه وحـدها ، دونمـا الحاجـة لبـذور

.اآلخرين

.........ـ أخرس يا

:كتم فمها بيده واستمر هامسا

قالته لي ، يعني تريـد ـ نسيت أنك جاهلة ، هذا ما

.أبناء ... ، هكذا يسمون الكتب تأليف كتاب

:وأضاف متنهدا

كان الرسـم أفضـل ، كانـت " نجوى " ـ واهللا يا

تكلفني فقط مرايا وألوانا وورقا ، تنظر إلى نفسها في المرآة

ثم تنخرط في نثر البثور على بشرتها الناعمة ، أو تفقأ عينا

Page 100: 539

تجعل لنفسها حاجبين كثيفين كالشيطان ، ألـم من عينيها أو

.ترى بنفسك رسوماتها ؟

:وانفجر مقهقها عاليا

جـة ـ هل تعرفين ، أحيانا أتمنى لو كانت لـي زو

.كأحد صورها بأنف معقوف ورأس فارغ

بيدها وانهمكت من جديد في تقطيع " نجوى " أشاحت

:اللحم لقطع صغيرة وهي تتمتم

ـ أرجو أن يرزقك اهللا بكل األنوف المعقوفة التـي

.تشتهيها ، صحيح اثنان من المخبولين

قعت يلتئم على ستار شفيف من الوجد ، أ كان جسدها

قرأ في وريقاته أسـماء نخفضة ، وظلت تإلى جوار منضدة م

، بطاقات ملونة منقوش عليها مختلـف المهـن ال حصر لها

لرجال ترى هل اختبر زوجها تأثيره على زواجاتهم ؟ وكأنها

:تسأل نفسها صاحت بصوت عال

ـ هل كل رجال األعمال الناجحين كانوا مثلك فـي

؟" أحمد " األصل شيوعيين يا

من جميـع متجردة تماما . يرد لم تنتظر إجابة ولم

االنفعاالت أخذت ترتب أشياءه مـرة أخـرى فـي جيـوب

Page 101: 539

أن تزلف إلى مباهج قدر من التبتل سمح لها أخيرا . سترته

ألمها الممتع ، يداها ضارعتان لكل شالالته الرعناء بال تمييز

، كمن استيقظ في قبره فجأة ظل يخمش نهديها وتلـوذ يـداه

أكثر من مرة آبارها التي اجتهدت في بخصرها العنيد ، فض

ة وبالطحالب أخـرى ، اختراع طرق لحجبها بالحشائش تار

بالنار دون أن يحظـى بإطاللـة ولعها الخفيف وفتح مرارا

، ستهطل دموعه كيفما شاءت وسـيجيش صـدره بمـا نور

.المعترك ينطوي عليه من عبادة فليغلق هذا

إلـى تسـتمع وهـي " نجوى" شاط األرز بين يدي

:ختها صراخ أ

عن أهمية ما أكتب ؟ ال يوجـد ـ لماذا تسألني دائما

أهمية ما ولو سئل الجميع عن . شيء له أهمية على اإلطالق

.يفعلون لما فعلوا شيئا

إلى باب المطبخ ن تستند وجالت في البيت كله قبل أ

واهنة كنخلة فتية يهزونها عنوة ، مسدل شعرها على عـرى

تين أخذ صوتها ينحدر من تل عال ، فقالت ذراعيها المصقول

:دون أن يتسنى ألحمد أن يسمعها

Page 102: 539

ـ هذا الرجل يدرسنى كي يعرينى ، ثـم يغربلنـى

أبيض ، ثم يعجني لصنى من قشوري ، ثم يطحننى دقيقا ليخ

هو ال يريد التهـامي أللين ويضعني في ناره فاستسلم أنا ، و

عرضـت عليـه أن كم مرة " نجوى " سأليه يا إال ساخنة ، ا

.يتركني وحالي ، أو أترك له أنا الدنيا كلها

أختها تلك الجميلة الباكية بحرقـة ، والتـي بللـت

قميصها المفتوح كله ، والتي سيحملها زوجهـا بعـد قليـل

فلة ، ويجلسها على ركبتيه آمـال كعادته ليبدل لها ثيابها كالط

ن عديدة ن تنام بين ذراعيه ، هل ستترك لها صورة بعد سني أ

بهـا علـى وتكتشف فجأة أنها تزداد شبها لتمعن النظر فيها

الرغم من وجهها الميت الصبوح الذي يطل على تجاعيـدها

هي الكثيرة التي تزايدت تحت تكاثر شعرها األبيض ، ربما

زحف القليل من نثار تراب قبرها ، وانهال على اإلطـار ،

تبس األمر على وما تحت العينين وعلى انحناءات الشعر ،فيل

المعلقة علـى " نجوى" اآلخرين ، ويظنون أن صورتها هي

.الحائط

مازالوا يرددون شعاراتهم بأصـواتهم المبحوحـة ،

صار اآلن عرقهم المبذول في سبيل تحفيظها لألهـالي هـو

Page 103: 539

سيرة االنتخابية حتى آخـر يـوم ، مالمبرر الوحيد إلكمال ال

ائل من أفواههم يجعـل مالبسها الغالية المتسخة ولعابهم الس

حتى الكالب تشفق عليهم، حيث إن عملهم تضاعف عنـدما

بعـد ن بعيون ذئاب مدربة السرادق ليال ونهارا ظلوا يحرسو

أن سرق أهالي العشش فوانيسهم على الرغم من كل جهودهم

برأس "انشراح السبتاتى " في الحراسة وعلى الرغم من قسم

تخافوا يا رجـال ، فـإن أبيها ورحمة ميتي كل الحي ، بأل

سكان قماش السرادق الفاخر توزع بالعدل فيما بعد على كل

من اليافطات البافتـة المكتـوب العشش، الذين فصلوا أيضا

عليها اسم كل مرشح ورمزه سراويل ألبنائهم ، ثـم هشـوا

المرشحين أنفسهم بأعمدة السرادق الخشبية السميكة مخاطبين

:مرشحون إياهم بلهجة علمها لهم ال

ـ هيا يا أخواننا المرشحين ، هيا ، كل واحـد إلـى

.بيتك . بيته ، هيا ، بيتك

ش مـن يومهـا موحـدة وبهذا صارت أبواب العش

بحنق بعد أن ضـاعت منـه " أحمد منصور "وقال . اللون

فرصة التوصيلة اليومية للجامعة بسيارات المرشحين الرائحة

:والغادية من الحي وإليه

Page 104: 539

وهل صوت مـن التصويت مرة أخرى ، ـ سيعاد

الحي أحد ؟

كبا الجواد على حافة عينين أشد خضرة من الزمرد

من ليل هذا الحـي ، كثر زرقة من البحر، وأفدح سوادا ، وأ

لينة ، وسيعجبه أن يستريح ستسوخ حوافره في أرض غريبة

من جراء جموحه األخرق ، أمن الممكـن أن يتجاسـر قليال

! نزوات مزاجه الروحيـة ويأتيهـا ثانيـة ؟ فيقفز ثانية إلى

لماذا أعـيش ! ياالئتالف الفارين من دفء ما قرمزي اللون

معها وتحبني وتعيش معي وأحبها ، ويموت كالنا من الوحدة

ليهـا سـعيرك كـي ؟ اللهم عذبها حتى تلجأ لي ، اسكب ع

لـتجن وتـدخل بأشجاري ، وأطلق على أذنيها نمال تستظل

حيمي ، اللهم ال تجعلها ترتاح في مرقدها دون إرادتها في ج

حتى تتقلب عليه بلوعـة رغ مني ، انثر عليه شوكا مثال الفا

.المهجورات في المضاجع

" مها " معه آخر ما يمكنه من " أحمد الدالى " سحب

، مذاق شفتيها ، طريقة ثنى ركبتيها ، كـل الكلمـات التـي

تي لم تأخذ منه ال" مها. " ترددها باستمرار وبشكل غير ممل

غير نافذة واحدة تطل على مواعيد ال نهائية ال يأتي فيها كلها

Page 105: 539

، وألقت إليه بنظرة ممـدودة ، حقيبته ،لقد تثاءبت عندما حزم

أمره وينتهي ، فلقد أصبحت أخيـرا توحي إليه أن يسرع في

.تسير في حدائق غيابه

إطارات دخانية كانـت تحـيط بالنـاس والبيـوت

ي ، مجهـزة جعلهم محبوسين في إطار أبـد وت. والمصانع

" حوض الجـاموس " ، إن مساءات إياهم للعرض في عدم ما

ما يمت للعالم الخارجي بصلة حتـى طردت بشغف بالغ كل

أم مازالت في محبسها ، " وردة " نهم لم يتابعوا هل أعدموا إ

لوردة عرقوبان نادرا النحافة كـأبي فصـادة ، تـرى هـل

حبل المشنقة ؟سينقذانها فتطير من

على جزء من جلباب أختها همست وهي تنام أخيرا

:بصوت محتضر

، " بافلسـكى " كل من كان يمر على محطـة ... ..

ويتكئ على الوقت ساعة أو ساعتين في انتظار قطاره كـان

يعرفها فلقد كانت طويلة مثل سنة في الغربة ، وكانت مميزة

د منهما ثالثـة كفـوف بكفيها الكبيرتين اللتين يساوى الواح

رجالية وبوجهها األبيض كالثلج ، الدقيق القسمات المتناسـب

مع حجمها شعرها األشقر الجميل الذي يغطـي جسـد فتـاة

Page 106: 539

طبيعية ويتعدى كتفيها هي بقليل ، وبوقفتها الشامخة أمامهـا

" متوسطا ميـدان " لينين وأصدقاؤه " على مدى البصر تمثال

ضجة السكة الحديد التي كان ، وخلفها " أكتيابر سكايا تماما

كل من يمر عليها ، ويتطلع للفتاة من بعيد يفتش في ذاكرتـه

قليال عن الخلفية التاريخية لهذا التمثال ، حتى يقترب ويلمح

كانت إذن تزن الـدجاج ... بين يديها أكياس الدجاج المجمد

، تـنفض عـن في صمت وتلتقط السكارى من تحت الثلج

ثار الدماء في صمت ، وتسوى مسار الترام إذا ما وجوههم آ

وتنتظر في صمت ، وترد ضحكات العـابرين التـي تعطل

تلتصق بأعمدة النور العالية ، فيردون لها حفنة دموع وقعت

منها على األرض دونما قصد ، وتزيح السـحب بقـدر مـا

تستطيع لتشرق الشمس في عز الصقيع ، فيخرج الصبية من

ورون الثلج ويقذفونه في وجهها ، فتبتسـم فـي بيوتهم ، ويك

صمت ، وتنخرط معهم في أحاديث طويلة إذا ما أخطأ أحدهم

:في تصريف فعل ما ، وسمعتها مرة تخطب فيهم

" فلنسافر " ـ إن أكثر األفعال التي تستخدم خطأ هي

" .فلنمش " فجأة ، أصبح الجميع يقولنه

:فيقهقهون

Page 107: 539

وسية لتتزوجيها ؟ـ أما وجدت غير اللغة الر

:فتمتعض قائلة

كيف ؟.. ـ أنظروا كيف تمتهنون اللغة

وال يستهجنون صوتها الرقيق على تكوينها العمالق

، حيث إن جميع األصوات التي يمكـن تخيلهـا ال يمكنهـا

الخروج من الفتاة الصابرة بطيبة تماثيل المدن الكبيرة علـى

، وخمش بهائها تقبيلها تسلق الفتية لها ورهاناتهم الدائمة على

، للتأكد أنها من لحم ودم كالبشر ولها ثديان نابضان بالحيـاة

ويذكر كل من . ،رغم وقف الحمام عليهما في جميع األوقات

" وكل من عـاش فـي حـي " بافليسكى " مر على محطة

أنه كان يوما غير عادي ،فلقد تأخروا جميعا " مسكوروفسكى

بمتابعة المشهد مـن أولـه ، هم عن مواعيدهم بمقدار سمح ل

، فارع الطول من بـاب المحطـة ، عندما خرج فتى مثلها

منحنيا أمام جميع األبواب ، وسائرا بطريقة سير العمالقة في

أفالم الرسوم المتحركة ، ومنغصا انتظام حركة المرور في

أثناء عبوره أحد تقاطعات الميدان ، وهبت على الجميع فجأة

منت والخرسانات ، العتقادهم الجمـاعي غيـر رائحة األس

المشكوك فيه ، باستعداد العمارات والبيوت واألبراج للمشي

Page 108: 539

، بهتوا أمام ظله الالنهائي الذي ظل يقترب هادئا من أقفاص

، ال ألنها تعرفه الدجاج المجمد مباشرة ، وكانت هي تنتظره

ن ، ولكن ألنها وألول مرة ستتكلم ، ورأسها مرفـوع دون أ

على ضياع صوتها في المسافات ، مـآل وجهـه هـذا تقلق

الفراغ أخيرا ، وجه أدمي يقطع أسالك التـرام والباصـات

وأسطح األكشاك المغطاة بالثلج ، أخيرا تشم أنفاسا طيبـة

سألها بصوت رجولي حنون ال يتسق مـع . دون أن تنحني

يهم سرواله الذي إذا حل قماشه يفترش نصف الميدان ، وال

، حيث إن جميع األصوات التي يمكـن تخيلهـا ال يمكنهـا

.الخروج من الفتى

ـ ما اسمك ؟

نادرا ما يسمونها ، فهي الطويلة ، والفتاة !! اسمها

مع إشارة باليد ، وبائعة الدجاج ، وببساطة لم يكن أحد ، وال

هي نفسها في حاجة الستخدام اسمها ، فبحثت عنـه لتجـده

.يجارة بسرعة إشعال س

، وأنت ؟" تانيا " ـ

"سالف " ـ

Page 109: 539

وتفرج الناس على أسرع نشوء قصة حب بين أطول

فتاة وأطول فتى ،دون أن يسمعوها فلقد كانا بعيـدين عـن

برأسـها علـى صـدره ، " تانيا " األرض بما يكفي إللقاء

وبكائها ككل الفتيات المحبات دونما مبـرر علـى كتفيـه ،

يرهم الثقيلـة أسـطح األكشـاك وتسلق الشباب بآالت تصو

المتناثرة حولهما ، والتقطوا فرح عينيها ،وابتسامتها الجميلة

الخجلى ، وانسياب أنفها المتجمد ، ورقصـة قلبهـا تحـت

:معطفها الثقيل ، وظال يتناجيان كثيرا

، انظري كيف تشرئب أعناقهم " تانيا " ـ فلنسافر يا

بالقطار ثم نستقل ثالثـة فلنسافر ليلتين ! تحتنا ليرونا أوضح

مدينة طويلي القامة ، هنـاك كـل : باصات فنصل لمدينتي

شيء معد لنا ، صنابير الحمامات ، والمقاعد ، واألسـرة ،

ووسائل النقل، والمالبس ، والمنازل عالية األسقف فلنسـافر

" !تانيا " من هنا يا

ـ إنهم هنا طيبون ، طيبون جدا ، فقط يحتاجونإلى

.العتياد قامتنا الطويلة وقت

ـ سيسخر من جميع تفاصيلنا ، هؤالء الطيبـون ،

.دعينا نسافر

Page 110: 539

فقط حتـى أخيـر " موسكو " ـ أنا ال أحب شوارع

بالرحيل عنها ، ولكنني أنا دليلة هذه الشوارع ، أنا الوحيـدة

التي ترى من يضع يده في جيوب اآلخرين ، وأنا التي تـدل

اجات الفارغة ليجمعوها ويبيعوهـا العجائز على أماكن الزج

.ويأكلوا بثمنها خبزا

٩١صـ

وأنا التي تجد الطفل إذا ما ضاعت منه يد أمه فـي

الزحام ، لو أنني أعرف أنهم سـيدبرون أمـورهم بـدوني

. لسافرت معك

إنها بعـد " بافلسكي " وقال كل من مر على محطة

، تحمـل هذا اليوم كانت في أوقات فراغها من بيع الـدجاج

بيتا ، .. الصبية عاليا ليتفرجوا على حكايات بناء البيوت بيتا

من عهد القياصرة وحتى اآلن ، وأنها لم تغير اللون األسـود

قط لصعوبة تفصيل رداء يحتويها من ألوان أخرى ، وأنهـا

. كانت تزداد جماال وحزنا كلما ازداد حب أهالي الحي لهـا

ص من العدل االجتماعي ، بعد سنين طويلة مرت على التخل

قالت المرشدة السياحية األنيقة وهي تلقـى بـالورود تحـت

: قدميها

Page 111: 539

ـ لقد انتقلت من الحركة للسكون بتلـك االبتسـامة

ومجهوداتنـا .. المتألقة وهذا الجمال المتأهب دائما للطيران

تتلخص في حياكة فستانها العصري القصير ذلك ، وتعريـة

ضرورة فنية ، ونثر بعض النافورات نهديها بعض الشيء ، ل

سولين والباعـة المتجـولين والسـكارى حولها ، وطرد المت

والصبية العابثين وجامعي الزجاجـات الفارغـة العجـائز

. المشردين من أمام وجهها النبيل

: على شعرها وقالت دونما صوت " نجوى " مسحت

.ـ طيب ، نامي

يف احتملـت ك! ن الشذى ؟ من أين تأتي بهذا الشج

مغلقتين تمامـا ، " مها " عبء كل هذا الجمال ؟ لم تكن عينا

ماذا عساه يرى هذا النني الذي يجول في فضـاء رحـب ؟

ترى هل يعدو خلفها اآلن أبوها ليلقى على وجههـا بشـيرا

كبيرا وهو يصرخ في وجهها ، حتى ال يعرض نفسه لفتنتها

بأن أخاهـا غيـر نفسها التي حكت لها أم أمها " مها " ؟ هل

ليها لذي يصغرها بثالثة سنين ظل ينظر إ الشقيق من أبيها وا

صامتا حتى قرر أن يمتنع عن الطعام والشـراب و التـنفس

: والكالم على الرغم من ركل أبيه له في كل المناطق زاعقا

Page 112: 539

.. ـ حرام ، حبك حرام ، وحياتك حرام ، ثم يولول

ـ رب ، احرق يا رب خذه وارحمه وارحمنا يا رب ، يـا ا ه

بنارك ، يا رب فلن يحتملها أحد ، خذها يا رب ، لماذا هـي

.جميلة هكذا ؟ ارحمنا وخذها فهي ليست منا

ولما مات وواجهها أبوها بأنها سبب موت أخيهـا ،

. أجابت بثبات وهي تؤم جحافل حزنها

ـ إنه شهيد ، فإن من حب فعف فشق فمرض فمات

فهو شهيد ، وابنك من الشهداء

اعتصم هو بابتالئه فأرسلها إلى بيـت الطالبـات ،

واعتصمت هي بابتالئها فتكونت تلك الطبقة الالمعة الشـفافة

من الدمع على مقلتيها ، والتي لم تزدها إال جمـاال سـيؤدي

.للمزيد من الكوارث

ما لهذا الهواء يقف على رؤوس الخلق مثـل حجـر

اج زوجـاتهم بالل ؟ ويشتد قيظ الصيف إلى حد طرد األزو

ان الذرة في أوراقها الخضـراء ، من األسرة ، وطقطقة كيز

لت مصبات العرق الغزير في شجار دائم بأصوات زاعقة سا

، وركزت النساء جل اهتمامهن في إخفاء السكاكين في أماكن

لم يدرأ سهاد الرجال إال . بعيدة ال تصل إليها أيدي رجالهن

Page 113: 539

" بطـة " محاربة عفريت حكاياتهم عن بطوالتهم اليومية في

الذي حول أثداء نسائهم إلى أكياس ممتلئة بالزيت المغلـي ،

وابتكر وسائل أخرى إلغاظة الفتيان غير المتزوجين ، الذين

تركوا أعمالهم ، وظلوا يتلصصون علـى خرطـوم الميـاه

ية ، فيوخز كـل وال اليوم على أجساد الفتيات الفت المفتوح ط

وبة بأحالم مكدسـة بكـل أنـواع منهم اآلخر بوحدته المشب

. الموبقات

أيامهم بدعة ظل الظالم مشكاة تشرق وتغرب ميوعة

أسير حرب يجهل أسبابها ، وضن النهار علـيهم بالسـتر ،

ففضلوا ديمومة الليل ، فهو على أية حال صـديق يـداري

رجوع الشخص الوحيد الذي عمل في هيئة النقل العام سائقا

لحي في مؤسسة حكومية ، ثم داس ، فصار أول موظف من ا

بطة فأعـادوه إلـى " امرأة تصور أنها تشبه كثيرا عفريت

أو غيره ، الذي ذهب ليعمل أمينا لمعمل . حوض الجاموس

إنـه . أن يختلس ما في الخزانة " بطة " فأوعز إليه عفريت

يداري الكثير والكثير من البقع التي دنست سراويل الرجال ،

يصلوا قبل تنظيفها ، يداري الشعيرات التي وما كان يجب أن

Page 114: 539

تنبت بغزارة فوق شفاه النساء ، والبثور التي كانت تتكـور

! . من العرق الكثيف فوق الجباه ، كم كان الليل صديق

ل أخيرا ستائر النوافذ وتهيأت للدخو " نجوى " أسدلت

ـ في جولة من جوالتهـا العد ة لإلمسـاك بحقيقـة دمهـا دي

ستنام طويال وسيمتد صمتها كالقطيفة " مها " فـ . المسلوب

عليهـا أن ترتـب اآلن . البيضاء بعد أن تصحو أليام كثيرة

جلستها فوق السطح ، عليها أن تجلس من جديد جميع مـن

عرفت على مقاعدهم في الذاكرة ، وتبدل أدوارهم مـرارا ،

فينزح بائعو الخضار إلى الصدارة ويروح كل الذين أحبـت

ثيفة من الضباب ، الفتى الذي كان على دراجـة خلف ستر ك

وقابلها وهي عائدة من السوق وخمش نهدها وطـار ، هـل

ها بهذه القبضة المفاجئة كانت لديه قدرة فائقة على سحب دم

بعد أن تصحو من نومها ؟ هل صـحيح " مها " ل ستسأ! ؟

كما أخبرتها أنه ربما كان لديها كما لبعض الفتيـات غشـاء

" إن .. ال ! يتمزق وال ينزف دما عند اختراقه ؟ مطاط ، ال

تحاول بلبلتها ، تحاول أن تستل منها تسليتها الوحيـدة " مها

. ك دمها الحياة ، غايتها في اإلمساك بساففي

Page 115: 539

محنة للمحب ومحنة للمحبـوب ، " نجوى " الحب يا

إنه قد يقيم أود الجسد ، ولكن ماذا عن الروح التي ال ترتوي

ماذا عن الروح وهي ما هي عليه من عطـش ! قا ؟ منه مطل

لالستزادة ؟ ها أنا ذا أحلب ذرائع الخيبة كلهـا ، وأتحسـس

أحمـد " ذن ليفتقـد دي هل هو بديع ؟ مال الذي ينقصه إ جس

وذلك ١وكأنه منذ خلق يتمرس فقط للقائه ؟ . هكذا " الدالي

المهيب الرائع المحضر ، ذلك الذي يتكـون لـي اآلن مـن

إنـه ! ت الغبار في ذلك القيظ ويبدو أنه ال يأبـه بـه ؟ ذرا

كم هو بهـي ، وهـو .. يقترب مني وكأنما يريد أن يحدثني

: يهمس لي

ـ أو تعلمين إن اهللا سبحانه عندما خلق سـيدنا آدم

وسجدت له المالئكة والشياطين أجمعين ، كان اهللا يعلم وهو

معجزة اهللا بخلقـه العالم القدير بأن آدم عليه السالم لن يعي

إال إذا رأى نفسه ، وكان لم يرها بعد ، فخلق له حواء لكـي

يرى ، ولكي يعي ، فماذا يفعل سيدنا آدم وهو يجـد أمامـه

تجليا من تجليات اهللا سوى أن يحبها ، ويفتش فيها عن قدرة

.ته فيكون عنقاهما األبدي هذا إحدى العبادات ؟ ماهللا وحك

Page 116: 539

األول ، بوداعـة كـبش هكاد أن يكمل الظالم عام

مستسلم للذبح ، بينما يبدد ملله بإعادة أغنية طويلة عن انعدام

أمامهـا ، " أحمد منصـور " هذا الحي ، جلس السكاكين في

حكى لها في هدوء كيفية استقالته من أكبر األحزاب اليسارية

، حيث اكتشف أن أبرز أعضائه يأخذون تمويال مـن أفقـر

أغناها ، كما أنه مغتاظ من رؤية أكبر دولة في العالم وحتى

أحزاب اليمين ، التي ترى حل المشاكل كلها ، ولكن بعد أن

يرة قارون لينقبوا فيهـا عـن كنـزه حتترك لهم الحكومة ب

: المختبئ

! ـ واآلن ؟

ليس هناك إال اهللا ، وحـده •ـ واآلن واألشياء سيدة

.القادر على رفع هذا الظالم

! .ه بفعل فاعل ؟ ـ هل اكتشفوا أن

.ـ نعم

! ـ من ؟

" . بطة " ـ عفريت

" . محمود درويش " الشاعر •

Page 117: 539

عاليا ، حتى تطفر الدموع " أحمد منصور " ويضحك

من عينيه ، تلك الدموع التي لن تفارقه أبدا حتى وهو نائم ،

ثم تصلي الفجر ، وترفـع " سكينة العمياء " ستمسحها مرارا

بحملهـا " يفي مها السو " كفيها للسماء ، وتدعو اهللا أن تنقلب

هذه المرة ، وأن ينقذ ابنها الوحيد مـن الهـالك فـي هـذه

: يفزع من نومه قبل أن تتم دعواتها ويجهش بالبكاء . المرأة

ال تصبرين على ابتالء اهللا ؟ يا أم أ. ـ يا أم صبرا

ليس بيدي حيلة ، فأنا مجذوب إليها كمـا ينجـذب الهشـيم

أم ، إنها امتحـان صوب ساقيات الرياح ، اصبري عليها يا

مـن لي إليه ، يجب أن أحتمل رؤية ندفـة اهللا لي وهي سبي

أم ، فيم الهرب يـا ! فما بالك بما هو عليه من بهاء .. بهائه

، فيلقي إلـى وكل المسالك مسدودة علي ، أستغيث برحمته

بعينيها في هذا الظالم ، أستغيث برحمته ، فتتمثل لي بلحمها

شـد مس في يوم شتائي كظيم ، وأ نور الش ودمها أوضح من

فتكا من الظلم البين الموزع بالعدل بين الظـالم والمظلـوم ،

واضحة كشكواي إليه تأتي ألتأملها ، أقضـي معهـا ليـالي

طوال ، أستغيث برحمته ، فتدخل أحالمي وتمزق كل شـيء

سواها ، وترتع في دمي حتى تدركني حثيثا تلك اللذة النابعة

Page 118: 539

أنا المغاث يا أم بعبقهـا ووجودهـا وأنـا من األلم الفوار ،

المغاث بصوتها الذي أحتسيه رشفة رشفة حتـى الثمالـة ،

آزريني يا أم ، حتى أقابل مصيري ، قانعا بما قسمه لـي اهللا

، وال تحزني علي ، فلست أول السالكين هذا الـدرب ولـن

. أكون آخرهم

فلول الذباب من حجرة ابنها " سكينة العمياء " تطرد

وتتركه نائما غارقا في دموعه ورؤاه ، تخرج إلـى شـرفته

وتتسم حضورها خلف الستائر فتهمس دون رغبة حقيقية في

: الكالم

ـ هل حقا يقتسم الظلم الظالم والمظلوم ؟

تلتقط صوتها ، واضحا جليا فتجيبهـا " مها " ولكن

: بصوت كأنه نقع حديثا في دمع فتى وحيد

ذب المظلوم طعـم الظلـم مـا ـ نعم ، فلو لم يستع

.استطاع الظالم طهيه

!ـ إذن فأنا ممنوعة حتى من الدعاء على الظالم ؟

فيتـه ، أكلما وضعت هنـا قلمـا أخ " نجوى " ـ يا

كري على صفو يومي لتع" أحمدالدالي" متعمدة ، هل يدفع لك

Page 119: 539

تشفقين علي وأنا أدور طيلة اليوم باحثة عن ؟ أين قلمي ؟ أال

.قلم ؟

سرق قلمهـا " أحمد منصور " أن " نجوى " عرف ت

كما يفعل دائما في زياراته ، فتذهب إلى درج سـري فـي

، وتسحب قلما من علبة أقالم " أحمد الدالي " المبخ دلها عليه

:كبيرة تلقيه أمامها صارخة

ـ عندما يكون هذا الملتاث هنا خبئي أقالمك ولو في

، " أحمد الـدالي " صدرك ، فأنا ضقت منك ، ومنه ، ومن

. وأقالمك ، ولوحاتك والدنيا كلها

في نوبة جديـدة مـن " نجوى " وسرعان ما تدخل

من خلف الفرن المهمل فـي " مها " نوبات اكتئابها ، تجرها

زاوية ، بأعلى السطح كفأرة كبيرة ، فتغافلها ، وتقعي فـي

ركن بحجرة الكراكيب تحت مئات الكتب برائحتهـا العطنـة

منفضة إياها بفرشاة تنظيف األثاث " مها " اذة ، فتسحبها النف

، قبل أن تجلسها في الحمام ، وتطلق عليها الماء والصابون

ين ، دون شك على مشـهد تلتجبرها على إغالق عينيها الميت

. وحيد

Page 120: 539

تغفو اآلن تحتها العشش محاطة بغاللة رومانسـية ،

مكان األبـواب يداعب نسيم ما قبل الفجر الستائر التي حلت

انشـراح " بصوت عال على " نجوى " الصفيح ، هل تنادي

إنها تخشى أن تهبط علـى الشـارع ! لتوقظها ؟ " السبتاتي

خوفا من الكالب ، ولكنها لن تنادي فقد توقظ بصراخها الحي

كله وأوله الكالب ، ولكنها لن تنادي فقد تـوقظ بصـراخها

لذي ال تريد أن تـراه هذا ا " أحمد منصور " الحي كله وأوله

النائمة بسالم وكأنها فراشة علقت على إحدى " مها " قط ، و

بطاقات المعايدة ، غارقة في دمها تماما ، ال بد أن تطـرق

باب عشة انشراح ، البد أن توقظها علها تستطيع إيقاف هذا

.النزيف

بقماط " مها " ط وهي تقم " انشراح السبتاتي " أخذت

الذين بحثوا عنه ليالي " أبي الطية " س أعريض ، وتقسم بر

تفتح عليها باب عشتها " وردة " طويلة ، أنها رأت في المنام

، وتطلب منها أن تحمم أوالدها ، وتلبسـهم مالبـس العيـد

الفائت ، وتصر لهم بقية خرقاتهم في صرة وتحضرهم لكـي

يأخذهم عمهم للصعيد غدا ، وما إن أصبحت حتى فعلت كل

جرد أن انتهت حتى وجدت رجال جهما يقف أمامها هذا ، وبم

Page 121: 539

" لم يتكلم كثيرا حمل الصرة وخلفه سار الولدان يمسك أبوهم

. كل ولد من يد " أبو الطية

دي حتى وهـي بتقـولي " . نجوى " ـ حتى اسألو

" . أبو الطية " سألتني مش ده " انشراح " يا " مها " الحقي

آن وآخر كتلـة ضوء سيارات فارهة أخذ يقطع بين

ترتدي بنطلـون " سيدة " الظالم ، وغالبا ما كانت تهبط منها

استريتش على أرداف سمينة ، وجاكت كالسـيكي رجـالي

بأزرار كبيرة ، وكلهن يشبهن إلى حد كبير تلك المرأة التـي

فيلم شـاطئ " لعبت دور الشريرة اللعوب أمام ليلى مراد في

عندما تتحـدث إحـداهن ، وكان األمر يزداد سوءا " الغرام

" السـبتاتي انشراح " ية الفصحى مما كان يجعل باللغة العرب

ـ التي دائما تتصدر الحلقـة بحكـم طبيعتهـا ـ تقاطعهـا

: صارخة

. ـ نعم يا أختي ، ما تتكلمي عربي

ـ إن مركز المرأة مهتم بالوقوف على مشاكلكم في

د تقع عليها كـل فالمرأة بالتأكي . ظل انقطاع التيار الكهربائي

.األعباء

Page 122: 539

زاي يعني ؟ يعني عـاملين مرأة ا . ـ مركز المرأة

ال يا أختي دي مصيبتنا إحنا إن بناتنـا . مركز للستات بس

. مش القيين رجاله يقدروا يتجوزوهم

ـ هذه هي المشاكل التي أريد أن أسـمعها مـنكن ؟

مثال هل تعمل الغالبية العظمى من البنات ؟ وهـل يسـتولي

ن أكثر عمل المـرأة فـي جهن ؟ خاصة وإ على دخلهن أزوا

المنزل ، وهذا العمل منتج وهو بالطبع ال يحسب في الـدخل

. القومي

ـ منزل إيه يا أختي ، مـا انتـي شـايفة إن إحنـا

عايشين في عشش ، واقولك الرجالة مش القية تتجوز البنات

، واد تقوليلي يستولو ؟ وبعدين إيه حكاية الدخل القومي دي

اسمعي يا أختي هو مين اللي . ، هي دي سياسة " محمد " يا

دي جاسوسة زي بتوع تمثيلية " محمد " بعتك ، اسمع ياد يا

رأفت الهجان ـ ال يا مـدام إحنـا عايشـين فـي حالنـا ،

قولي ميتين في حالنا واللي فينا مكفينـا ، خـذي ! عايشين

جالـة وسـتات يـه ، ر اهللا ، قال إ عربيتك بقى واتكلي على

ودخل قومي ده كالم ما يطمنش أبدا ، يا أختي ربنا يوعـدك

. يزغزغ لك العربية من تحت ويقلبها لك " بطة " بعفريت

Page 123: 539

أحمـد " من الضحك ويخـرج " مها " ينقطع صوت

أن " ي انشراح السبتات " من حزنه قليال ويشرح لـ " ور منص

ل أجنبية هؤالء النسوة من مراكز بحوث ، كلها ممولة من دو

لجمع معلومات ودراستها وبحثها إليجاد حل مشـاكل العـام

الثالث ، وبالفعل أحيانـا يسـاعدن وليسـت لهـن عالقـة

. بالجاسوسية

قليال قبل أن تقول مقلـدة لهجـة " انشراح " سرحت

: السيدة التي زارت الحي أمس

أفهم اآلن ، يعني أنهم يجمعون معلومات عن . ـ آه

كهرباء ، ثم يبحثون عن أسباب عدم تعليم كيف نعيش بدون

بعد البحث والدراسـة ، البنات وإذا وجدوا أن هذا شيء سئ

ثـم . فإنهم يعملون على تعليم البنـات آه ، أنـا أفهـم اآلن

: تمتمت

ـ ده اللي ما يشوفشي من الغربال أعمى ، وارتفـع

صوتها من جديد ـ لكن ما هو كله معروف ولـو عـايزين

يحلوها ، حد منعهم ، هو الزم يسجلوها بصـوتنا يحلوها ما

أل وإيه الولية الخالق الناطق الرقاصة . األول وبعدين يحولها

التي بتقعد على كرسي عالي زي الخازوق في الكباريه فـي

Page 124: 539

" اهللا يخرب بيتك يـا . إيديها كأس وسيجارة في فيلم شادية

قـال . "منصور الميـت " و " سكينة العمياء " يا ابن " أحمد

.مراكز بحوث قال

" .انشراح " ـ وبعد يا

لو كان فهمني إمبارح الكالم ده " مها " ـ ما هو يا

، يعني إن الولية دي بتتسلى وتقبض فلوس كنـت ضـربتها

. بالجزمة

التي كان " نجوى " غرقوا جميعا في الضحك ومعهم

ختها يوما بعد يوم يستحيل لونهـا يلسعها الخوف وهي ترى أ

ى األصفر وتخلد رويدا رويدا إلى ما يشبه خطا مضيئا في لإ

" : انشراح " شرشف مالئكي أخذت تهمس لـ

ـ من أين تأتي بكل هذه الدماء ؟

ـ يومين كمان والدم يقف وترجع زي ما كانت زي

. الفل

ها هو الجسد يتخلص من آثاره كلها وينغلق شـفيفا

ي ، وسـأموت على وحدته وكأنه يذكرني بأنني ولدت وحد

لم تبق بي قطرة دم واحدة ملوثة بانجـذابي إليـه ، . وحدي

ومثولي بين يديه وفنائي فيه ، دمي هو الثمن المدفوع الندياح

Page 125: 539

وها هو الجسد يطرده وها أنا ذا أخـف . كل منا في اآلخر

وأكاد أطير وأستمرئ الطيران حتى إنني يهيأ لي إدراك السر

.، وأخشى إفشاءه عندما أفيق

هل كان يشتد سيل السيارات المتجهة للجنوب عليها

، وهجوم سيل السيارات المتجهة للشمال ، عليه في شـارع

أوتوستراد واسع بينما كان يضيق الرصيف الفاصـل ، وال

لحظتها نجيـا مـن . يزيد على شبرين بين القادم والذاهب

الموت بأعجوبة جعلتهما ال يلتفتان إلى أنفاسهما التي علـت

لى أبواق السيارات ، وال للحقائب واللفافات التـي وقـت ع

. منهما على األرض عند اصطدامهما

هكذا ؟ ـ لماذا تسرعين

ـ أكان من المعقول تخيل مصرعك تحت عجـالت

سيارة ما ؟

ناولها حقائبها يوارتطم بصدرها الممتلئ حين انحنى ل

، ويختلس نظرة بداخلها ، ليرى كيف قضت جميـع ليـالي

فائتة بدونه ، وانحنت تناوله لفافاته ، وهي تتحسـس لشتاء ا ال

رائحة صباحاته بدونها ، وعندما صرح كل منهمـا لآلخـر

باسمه ، وعندما انتبها لتوقف عدو السيارات من االتجاهين ،

Page 126: 539

نظرت هي لليمين ونظر هو لليسـار ، ومضـيا مسـرعين

.بأقصى ما تسعفهما أجنحة الصعود ، كل في اتجاه اآلخر

ستكون هذه آخر هالوسـها ، وسـتنجو مـن هـذا

. اإلجهاض أيضا

باكيا يا " الدالي أحمد" ـ كلما أغمضت عيني أرى

راني داخلة عليه أكاد أحمل جسـدي حمـال ، وأ" انشراح "

وأفكر طويال وأنا واقفة عاجزة أمامه ، ماذا أفعل له ليكـف

اهللا ما ظنك بـاثنين ... عن البكاء وأصحو وأنا أردد همسا

! ثالثهما ؟

خيـر ، زوجـك " مهـا " ا ـ خير إن شاء اهللا ، ي

" نتي وسيفرج اهللا قريبا كربه ، أختك نامت يا سمكروب يا اب

.إديها الدوا " نجوى

دونما الحاجة لبذور " نجوى " ـ لدي الذي أنجبه يا

اآلخرين ، عندما أموت سيتفرق كتابي على الخلـق دونمـا

لمـأل ، وسـيدعي ئكة جمالي علـى ا تمييز ، وسيعلن المال

نه كان صديقا لي ، وأنني ما كنت أستطيع وحـدي الشيطان أ

إنجازه لوال هذا البيض الذي وضعه خلسة بين طيات أوراقه

. ، ففقس كل هذا الهراء

Page 127: 539

.ـ طيب ، نامي اآلن

كيـف أصـبحت : لـك ـ إذا ما صحوت سأحكي

. ار بالتدريج سمكة جيت

Page 128: 539

ار سمكة الجد

سمكة الجيتار

ن ، كل الصيادين يعرفون ذلك ، حتـى إ لحمها لذيذ

رائحة النوشادر الكثيفة التي تفرزها وتميزها ، لـن تمثـل

عقبة لهم ، سيبرعون في التعامل معها ، سيتخلصون منها

لـى إ بمذاق نادر ، ولن يلتفتـوا كثيـرا تماما ، ليستمتعوا

شكلها الذي يشبه آلة موسيقية ، أو ساللتها المتوحشة التي

تستطيع الفتك بهم وبكل ساللتهم ، سيتندرون على دفنهـا

لرأسها في الرمل ، هكذا ، ولن يـوجعهم تهيؤهـا الكامـل

.للغناء

Page 129: 539

حوض الجاموس

٤

أنت يا من يفتح بأنامله الرقيقة ، مصـراعي الليـل

ب ، كيف أصبحت حدا فاصال بين ما على هذا الوهج الصاخ

للعيون وبيني ؟ أنا التي أسير على خيط واهن ، علموني أن

أنتبه كلما صدمتني مصيبة أو أطلنطي صغير ، وكـل مـن

يعرفني ينبري لدفعي إلى حافة رهان أخرج منه عادة خاسرة

!! ، فال تكون مداراة ولعي بالموت إال تأكيدا على طلبي لـه

خلف من يتبع خطوة خطوة ، تنفرط المواعيد ها أنا ذا أسير

بين يدي ويديه ، فسيشكو هو أنه وضعفه ، وأشكو هـواني

وال ة لي في استبقائه على متن أيـامي وضعفي ، وال حاج

حاجة له في حملي على ظهر مجنح ألرى ما تعجز البشرية

عن تحمل رؤيته ، ها أنت تأتيني بما وعدتني به ، وأنأ اراه

. أكاد أن ألمسه وأتشممه و

Page 130: 539

كان محقا عندما أكد أنـه " أحمد منصور " يبدو أن

في إحدى الساحات القريبة ، واندهش " أبو إيد خضرا " رأى

" مها السويفي " قامت . عندما لم يرد هذا األخير على ندائه

من سريرها أخيرا وظلت تطارد أغصان اللبالب من حجرة

:الشرفة ، صفقت بيديها صارخة بفرح

في يـوم " أبو إيد خضرا " ـ إذا كانت هذه تجليات

واحد ، فإنه لقادر في األيام القادمة على إخفاء البيـت كلـه

. خلف أوراق اللبالب

" ووجها يفيض بالفرح لسـالمة " انشراح " ضحكت

" . مها

ـ الحمد هللا ، صوتنا طلع أهه ، وما صرختيش كدة

؟ " زعة على الق" ليه بالليل لما دخل أوضتك

: وزفرت " مها " تجهمت

هل سيأتي اليوم ؟ هل بحثت عنه ؟. ـ آه

محمد فـي كـل األوكـار اللـي " ـ بعت له الواد

بيستخبى فيها ، ما تخفيش هايروح فين فاكراها سايبة وال إيه

.، ده أنا آكله بسناني أكل لحد ما يرجع اللي خده

ـ هل يسرق البيوت دائما ؟

Page 131: 539

مي غريب شوية ، سـاعات يالقـي ـ واهللا هو حرا

حاجات غالية في الحتة الراقية دي اللـي اسـمها الزمالـك

ويردها ألصحابها ، وساعات يصمم يسرق حاجات كدة مـا

.تستهلش

. ـ ربنا يستر ويرده

ـ اهللا ينيله ، مش هاتقولي لي سرق منك إيه إمبارح

. ـ ال ، أنا أنتظره

سيارات تتلف إيديـه ـ ابن الحافية ، كان ميكانيكي

.في حرير

منذ ذلك اليوم األغبر ، وهو ال يطيق رؤية سيارات

الشرطة أو رجالها ، أو الشيوخ ، ليلتها كان القمـر بـدرا ،

على أن يذهبا في " حافظ المرسي " وكان قد اتفق مع الشيخ

أمور سيارته مستخدما إياها الفجر للخرابة التي يضع فيها الم

" افظ أن يصـطحب ح" د مرارا على الشيخ ، وقد أك كجراج

يسـافر بهـا ويطمئن أنه صلح السيارة ألنه س " عة على القز

حـافظ "صباحا لبلدة في المنوفية ، وجـاء صـوت الشـيخ

من " علي " ، قفز " علي يا قزعة " مناديا عليه يا " المرسي

Page 132: 539

" فراشه ، وبدون أن يغسل وجهه أخذ عدته وتبـع الشـيخ

ـ " حافظ " ابة ، وفي طريقهما سأله الشيخ إلى الخر " حافظ

بعد أن تعثر في حجر كبير أن ينظفا الطريق من الحجـارة

وقال كالما كثيرا ـ عن ثواب رفع األذى عن الطريق العام

المهم لـم وحتى ال يتعثرا هما مرة أخرى أو يتعثر الناس ،

من الموافقة ، وهل يستطيع رد طلب بدا" على القزعة " يجد

رة عن الطريق ، جا، ظل لساعات يحمل الح " حافظ " يخ للش

الكبير منها والصغير ، ويكومها على جانبين في أهرامـات

صغيرة حتى تورمت يداه ، فرفع رأسه للسماء وهو يصـر

على أسنانه ، ورأى أن القمر في منتصف السماء بـدرا لـم

: يتزحزح عن مكانه مقدار بوصة ، فصاح في وجه الشيخ

يخ حافظ ، باهللا عليك يا رجل كفانـا هـذا ، ـ يا ش

.سيطلع النهار وسيطلع المأمور روحنا إذا لم أصلح السيارة

رأسه موافقـا وعنـدما وضـع " حافظ " هز الشيخ

كلـه " علي القزعة " طرف جلبابه بين أسنانه ، اقشعر جسد

ه دفعة واحدة ، وزادت قامته قصرا، على وابيض شعر رأس

ت األرض جزءا منه ، فلقد كانـت سـاقا نما ابتلع أقصر وك

الشيخ رفيعتين متفحمتين تماما ، وممتلئتين بالشعر األسـود

Page 133: 539

علـي " الطويل ، وبالضبط تشبه ساقي عنزة سوداء ، رفع

ال رتعد لينظر في عين الشيخ فلـم يـر إ وجهه الم " القزعة

أسنانا بيضاء المعة تتألأل وحدها في الظلمة ، وألنه كان منذ

رة فقد وضع جلبابه بـين جا عبد الطريق كله من الح قليل قد

أسنانه ، وأقسم ـ فيما بعد أنه لم يستغرق تكملة نطق اسـم

حتى كان في فراشه مـرة أخـرى " يا بت يا سيدة " زوجته

والغريب أنه غرق في النوم بسرعة وأنه لم يحك لسيدة شيئا

مـرة أخـرى ، ـ " سيدة " ، وما هي إال ثوان حتى لكزته

بينادي " المرسي حافظ " ويا الشيخ ، يا أخ " علي " حى يا أص

. عليك

فرك عينيه ، وفزع من نومه وتوقف قلـيال عنـدما

: تذكر ما حدث وردد

ال إيه ـ أعوذ باهللا من الشيطان الرجيم ، ده حلم ده و

له من سحبك الغطاء عـن ؟ ك ؟ لكن مالي جسمي مكسر كدة

. صل البالوي مؤخرتي يا أ

مالك ؟ هو شعرك أبيض كله كدة . ا أخويا ـ خير ي

ليه ؟

. ـ نامي ، نامي وكلي رز بلبن اهللا يلعن جنسك كله

Page 134: 539

حافظ " ودون أن يغسل وجهه حمل عدته وتبع الشيخ

، ودون أن يحول نظره عـن الطريـق النظيـف " المرسي

.المعبد رد على سؤال الشيخ

وكأنك لـم تـنم الليـل " علي " ـ مالك يا ولدي يا

بطوله ؟

.. رأيت .. ـ آه يا موالنا

ـ خير يا ولدي خير ، قل حسبتك بالليل نهار ، خير

. وقل .. اللهم اجعله خيرا رأيت

ـ حسبتك يا ليل نهار خير اللهم اجعله خير رأيت يا

..موالنا كأنك نادتني

ـ علي يا ولدي ، تعال ننقل أكوام مخلفات مصـنع

نحرقهـا بـاكر ، أصـحاب حتـى . البالستيك بعد الخرابة

يكسبون الكثير وال يرفعون . المصانع ال ضمير لهم يا ولدي

. األذى عن طريق الناس

. ـ أمرك يا موالنا

يحمل أكواما من البالستيك لعدة " علي القزعة " ظل

يسـاعده " حافظ " أمتار حتى غرق تماما في عرقه والشيخ

في جلبابه قلـده يديه وفركهما " علي القزعة " وعدما نفض

Page 135: 539

علي ساقي " ووضع جلبابه بين أسنانه فرأى " حافظ " الشيخ

ال كن محتاجا ألن يتأكد أنه لن يجـد إ العنزة السوداوين ولم ي

صفين من األسنان الالمعة البيضاء التي تتألأل وحـدها فـي

الظالم ، كان القمر في مكانه بدرا ، لـم يتزحـزح بوصـة

بيض شـعر ذقنـه ه كله وا دة ، ومرة أخرى اقشعر بدن واح

، وأخذت منـه األرض شـبرا أو شـبرين وشاربه وحاجبيه

آخرين فازدادت قامته قصرا ، وألن الطريق كان نظيفا تماما

يا بـت يـا " هذه المرة ، فإنه يقسم أنه لم يكمل اسم زوجته

على " سيدة " حتى كان في فراشه مرة أخرى ، رمى " سيدة

ا كاد يستشعر دفء الفراش األرض ولف نفسه باللحاف ، وم

: يزعق بصوت عال " حافظ المرسي " حتى سمع الشيخ

!، إيه ناموسيتك كحلي ؟ " قزعة " يا " علي " ـ يا

من نومه ، وداس في بطن زوجته التـي " علي " فر

ألقاها أرضا ، وتركها تصوصو مغلقا عليها الباب ودون أن

وظل هـذه " حافظ" وجهه ، حمل عدته ، وتبع الشيخ يغسل

المرة ينظر إليه بريبة وال يحول عينيه عنه حتى هـب فيـه

ـ : الشيخ صارخا

Page 136: 539

ـ قطع خبرك وخبر أهلك ، ما بالـك تبحلـق فـي

وال عليـك آثـار الوضـوء . وجهي غير مغتسل من النوم

وكأنك شيطان ؟

: "لنفسه " علي القزعة " وهمس

" حافظ المرسـي " ـ طالما يشتمني هكذا فهو الشيخ

.الحقيقي

...ـ آه ، على ذكر الشيطان يا موالنا أنا

كثر ما ـ شيطان يأكل ربعك ويخسف بك األرض أ

. يا ولد ؟ تفو عليك أنت عليه ، لماذا ال تتوضأ

. ـ ما زال على الفجر الكثير ، سأتوضأ يا موالنا

. ـ طيب ، أعوذ باهللا من البالء والفجور

سره أن الليلة السـوداء اهللا في " علي القزعة " حمد

انتهت عند هذا الحد ، فليس هناك شك في أن هذا الذي أمامه

وشـحمه ، بلحمـه " حافظ المرسـي " هذه المرة هو الشيخ

فها هما أخيـرا ! اء التي مرت أخيرا على خير يالليلة السود

.يصالن إلى الخرابة

.ـ ولد يا علي قزعة

. ـ نعم يا موالنا

Page 137: 539

ر ، هل ستصلح السيارة في هـذه ـ باكر على الفج

" الوساخة ، مثلما ال تتوضأ قبل خروجك من فراش الملعونة

! ؟ " سيدة

ـ أمرك يا موالنا ، ماذا أفعل ؟

ـ ننظف يا ولد هذه الخرابة ، فتعجب المأمور فـي

الصباح وقد يأمر ويفتحها لك ورشة بدال من لفـك طـوال

.األيام على الورش البعيدة ليستأجروك

ـ ربنا يطول عمرك يا موالنا ، يا رب يخلف عليك

. بالحالل

ـ هيا هيا ضيع بقية الليـل فـي الكـالم ، ويـداك

! .مرفوعتان للسماء ، هيا هيا يا عرة األمم هيا

. ـ ال ، أبدا حاال يا موالنا حاال ، في طرفة عين

ألقوا بالخارج الكثير " حافظ المرسي " يده بيد الشيخ

ت السمن الهولندي الفارغة ، والكثير مـن الخـرق من معلبا

الملوثة بحائض النساء ، وبقايا أجولـة أسـمنت ، وجـبس

ومخلفات حديد من المصانع القريبة التي كانت تعمـل قبـل

" شـعر . خصخصتها وتحويلها على ما ال يدري عبـاد اهللا

أن ساعديه تورما قليال وأيضا شـعر بريبـة " علي القزعة

Page 138: 539

نينة ال تقف على قدمين ، رفع رأسـه ونظـر مخلوطة بطمأ

يرشـها بالمـاء " حافظ " على الخرابة التي أخذ اآلن الشيخ

حتى تهدأ زوابع التراب التي أطلقاها من آثـار التنظيـف ،

الذي كان وجهه يشع هدوءا ونورا " حافظ " ونظر إلى الشيخ

: وعندما أحس بنظراته صرخ فيه

هكذا ، هات لي دلـو ـ يا ولد ، ما بالك تبحلق في

ء آخر ما

إلى الخارج وناول الشـيخ ط " علي القزعة " أسرع

دلو الماء ثم خرج ليستريح على حجر ويحلـم بـأن " حافظ

تصير هذه الخرابة التي أصبحت تبرق من نور البدر علـى

ال البدر مكتمال وكأنـه يا اهللا ما ز .. قطرات الماء ورشة له

" جلس إلى جـواره الشـيخ . نه يد أنملة عن مكا لم يتحرك ق

كالمه وهو ما زال " علي القزعة " فواصل " حافظ المرسي

. داخل حلمه بالورشة

من كان يصدق أن ليلة سوداء . ـ يا سالم يا موالنا

وشوف ! يا سالم ! مثل هذه ستنتهي بأن تكون لي ورشة ؟

يا موالنا ربنا مبارك في الوقت إزاي ، يا هللا أقـوم أتوضـأ

.ى بق

Page 139: 539

" .يا علي " ـ احكي لي عن ليلتك

.. ـ سمعت يا موالنا صوت زي صوتك

" حافظ المرسي " يحكي والشيخ " علي القزعة " ظل

إلـى وصـف " علي " يقهقه بصوت عال ، على أن وصل

ساقي الشيطان السوداوين اللتين تشبهان ساقي عنزة سـوداء

ع وهتف به جلبابه األبيض الناص " حافظ " وهنا أزاح الشيخ

. في هدوء

! .ـ زي دول يا علي ؟

علي القزعة يعرف جيدا مـا " وعلى الرغم من أن

سوف يواجهه إذا نظر إلى وجه الشيخ ، إال أنه نظـر مـرة

أخيرة إلى صفي أسنان المعة تقهقه بصوت عـال ، جعـل

وابتلعت منـه األرض شعر ساقيه وبقية شعر جسده يبيض ،

اضطر إلى أن يوقظ الحـي كلـه ، حتى إنه شبرا أو شبرين

بطرقه على الباب في الثلث األخير من تلك الليلة ، بعـد أن

ومما زاد . حاول مرارا أن يفتح المزالج ولكن يده لم تصله

التي فتحت الباب لـم تنظـر " سيدة " الطين بلة أن زوجته

، اأسفل قدميها وإنما تلفتت يمينا ويسارا ، وبالطبع لم تر أحد

لباب ، ولم تفتحه مرة أخرى إال بعـد أن سـمعت فصفقت ا

Page 140: 539

ــ علـي الطـالق : ن تحت البـاب صوته داخال عليها م

!!نت نايمة فيها بالثاللثة ما أ

من الباب ودخل هو وأغلقه عليـه " سيدة " خرجت

يـدعونها " سيدة " ونام نوما عميقا بينما التف الجيران حول

د قصـد أي للمبيت عندهم ، وهي تخشى أن يكون زوجها ق

بيت بشكل عام حين ألقى عليها يمينه وأرادها أن تنـام فـي

العراء ، فقررت أن تجلس على عتبة البيت حتى الصـباح ،

أذن الفجر ، والناس جالسون حولها ، وفي السابعة صـباحا

يجري متعثرا في جلبابه وهـو " حافظ المرسي " رأوا الشيخ

العظيم ، أول مـرة يحوقل ـ ال حول وال قوة إال باهللا العلي

طوال عمري أضيع صالة الفجـر ، أول مـرة يضـربني

يا ابنتي ؟ " سيدة " الشيطان على قفاي ، خير يا

.ـ طلقني يا موالنا ، طلقني ، وطردني

ـ والعياذ باهللا ، وإلى أيه داهية ذهب ؟ ، سيسـافر

.المأمور بعد ساعة ، وعلينا أن نصلح سيارته

: يناديه " لمرسي حافظ ا" الشيخ " وهب

. ـ يا علي يا قزعة

. ـ اهللا يخليك يا موالنا ، تردني عليه األول

Page 141: 539

. ، يا علي يا قزعة " سيدة " ـ طيب يا

بقامته الجديدة القصـيرة علـى "علي القزعة " وقف

حافة النافذة ، فشهق الناس وأولهم زوجته التـي اسـترجعت

غرت قامته كثيرا أحداث الليلة ففهمت اآلن فقط أن زوجها ص

وشاب بقدرة قادر بين ليلة وضحاها وأصبح مسخا حقيقيـا ،

خاصة اآلن وهو يضع يديه في خصره قابضا على جلبابـه

.الذي اتسع عليه كثيرا

.ـ نعم يا حفظ يا مرسي

: تمتم الناس مستنكرين

. ـ لعنة اهللا عليك

. ـ اختشي يا فرجة خلق اهللا

. الرجل جن . ـ ال مؤاخذة يا موالنا

يا علي يا قزعة ؟ تـ هل جنن

.ـ اسألوا كبيركم هذا

وهـو " حـافظ المرسـي " وكان يشير إلى الشيخ

يتراقص يمينا وشماال ، حتى ضرب الناس يمينهم بشـمالهم

حافظ المرسي " ى الوقوف إال إصرار الشيخ ولم يجبرهم عل

. ي ثمن أن ينزله بأ

Page 142: 539

.يهديك ـ يا علي يا ابني ، انزل اهللا

، هه ، اتوكل علـى اهللا يـا " علي " ـ زي دول يا

. خويا وسيبني في حالي

ـ يا علي يا ابني المأمور سوف يخرب بيتي وبيتك

. ، هات عدتك وهيا بنا

واصل علي تراقصه يمينا وشماال ، ويداه ال تزاالن

:في خصره وقلده قائال

ـ عدتي ما هي في الخرابة ، خرابة إيـه ؟ اللـي

المأمور يديها لـي ، ملهتبقى ورشة ، ورشة إيه ؟ اللي هاتك

! يديها لي ، وبعدين زي دول يا علي ؟

، واتجه ناحية " حافظ المرسي " وأسقط في يد الشيخ

علي القزعة " القسم ليبلغ المأمور أن يستقل تاكسيا ، فقد جن

. ، وال حول وال قوة إال باهللا "

األرض تمامـا مـن علـى " مها السويفي " وقعت

" انشراح البساتي " الضحك ، وانقطعت أنفاسها حتى أجبرت

أخيرا على السكوت ، أخذتهم وفرشوا حصيرا وجلسوا على

األرض فوق السطح لتغرق وجوههم في عدد ال نهاية لـه ،

من النجوم التي أخذت بتواضع تنير الليل الذي بصلف الذين

Page 143: 539

أنهم رفون جل المعرفة وهم يع مدى التاريخ أعدموا ثوارا على

كل يوم نوافذ مبتكرة لكوارث ال تنتهي ، أخـذ على حق أخذ

" الفتيان على ضوئها يبحثون عن األنوثة الخاصة في صوت

، وأخذت الفتيـات يبحـثن عـن الرجولـة "نجاة الصغيرة

، وباءت كـل " عبد الحليم حافظ " المنكسرة قليال في صوت

ة في إخفاء التـرهالت التـي الداي" الخالة كفاية " محاوالت

بدأت تتكاثر تحت أعينهن قبل األربعين ، ولم تجد حال لعدم

فـالم التـي وقوف أسباب الفتيان قبل األربعين حتى أمام األ

فيـدعوهم " مـن الخـارج " القط أحمـد " كانت تهرب إلى

. لمشاهدتها في المدينة

! ؟ " أحمد القط " أو ظهر

" سـا كـي ال تسـمعه هام" أحمد منصور " أجابها

" . انشراح السبتاتي

إنه عقبال عندك صار أكبر تاجر مخدرات في وسط

البلد ، ال يتعامل إال مع كبار السياسـيين والفنـانين وأوالد

.الذوات

: وبنفس نبرته الهامسة سألته

ـ وأنت هل تترك امتحاناتك وتذهب له ؟

Page 144: 539

كان يمسد الشعر على ساعديه بقطرات دموعه التي

هطل بغزارة ، وها هي تخلد إلى سالم أبيض ، هـا هـي ت

تدخل مأواها ، وتردع جميع الشياطين والمتطفلـين الـذين

يريدون الوقوف على بابها ، وها هو المكروب يجلس أمامها

، أما كان عليها التنفيس عنه بشتى الطرق ، علـى وجههـا

رق سالم كهذا الذي ال يلون إال وجوه المكفوفين ، وها أنا أغ

، م ، لديك خوف يكفينـا نحـن االثنـين في لججها تماما يا أ

وحبها يقذفني إلى دالية ال أستطيع النزول عنها ، أرى علـى

الطرقات ، تياهة هي يا مدى الشوف ظلها األهيف يسد على

أم بحزنها ومصابها وبلواها ، جواد حرون هي يعتصم بظل

زة علـى لوعته ، وشامته ، ورجرجة جسده الهائج ، وغمـا

. ذقنه تضن باإلشراق

تصعد وحدها علـى " نجوى " من عثرة لعثرة كانت

سعف نخلة ذكرياتها ، اشتكت كثيرا من تساقط شعرها بطوله

من اإليشارب الذي تعصب به رأسها لـيال " مها " فحررتها

جزءا منها ، تخطفـه منهـا فتسـحبه ونهارا ، وكأنه أصبح

دد عصبه مـرة أخـرى في غفلة من أختها ، وتش " نجوى "

وكأنها تربط فيه كل شبح مر على حياتها ، ولو مرورا عابرا

Page 145: 539

" لتحقق في جميع تفاصيل يومه علها تكتشف جديدا ، تقـاوم

" نجـوى " رغبتها الشديدة في النـوم حتـى تراقـب " مها

وتقول ، فقط لكي تزيح النـوم وطابور العشش من نافذتها

" .ى نجو" عن عينيها وتسكبه في عيون

هناك أدلة قاطعة على أنه كان يوم أحـد ، تمـددت

الفارغة في كسل وتمطـت " الفودكا " على عتباته زجاجات

عربات الترام في شوارعه الفسيحة ، وما كنا بسكارى حـين

قررنا أن تمتلئ قلوبنا بشمسه المرتجفة ومطره الثقيـل فـي

ة صباح كان ككل صباحات اآلحاد الصيفي .. السادسة صباحا

موسكو فيه من مالبسها ووقفت عارية ، تخـرج " ، خرجت

لسانها للثلج الذي نجحت في إزاحته عن نهديها دفعة واحدة ،

لتحتضن " جيرسنا " دونما وساطة الربيع ، وصلنا إلى شارع

الغارقة في ذكريات " كراسنا برسيسكايا " أعيننا محطة مترو

نتصر أخيرا على المشيدين القدامى ، واللون األخضر الذي ا

البياض ونفد من بالط األرصفة ومن الجدران الصماء حامال

أعالم علقت على قصـور قديمـة ، .. لشتى أنواع الورود

ووزعت ألوان الطيف فيما بينها بالعدل مكونة سفارات بـالد

. اهللا لخلق اهللا في الخارج

Page 146: 539

وما لنا نحن ١ما الذي شدنا نحن إلى آخر الشارع ؟

اقتربنا إلـى ابعة صباحا ؟ ومتى ؟ أفي الس ! ت ؟ والمظاهرا

، " فرفبيا " من يفترشون األرض الواقعة ما بين مبنى سفارة

يبدو أنهـم أمضـوا الليـل هنـا " .. فرفبيا " ومنزل سفير

مقرفصين حول دائرة واسعة ، يقبلون بين أيـديهم أحـداث

األمس ، ويحيكون ما يجب عمله اليوم بأصوات مبحوحـة ،

ه شاحبة ، على سوادها منهكة مالمحهـا الصـغيرة ، وووج

ومعبأ كان المكان برائحة إثارة نفاذة قـذفت بنـا لمنتصـف

الحلقة تماما ، لنروح مع مراسلي الصحف ووكاالت األنبـاء

يومهم الخامس هو إذن .. نقشر السؤال حول جدوى التظاهر

، الذي حاولوا تفادي الوصول إليه معتصمين بشتى الطرق ،

األيـام شارحين له صعوبة يوم األول اجتمعوا بالسفير في ال ف

بعد ارتفـاع األسـعار وتضـخم ومرارة العيش في الغربة

الحاجة ، وانهيار االتحاد السوفيتي ، مثل عمارة عالية فـي

الزلزال، وأنه ليس لنا من مخرج هنا ، ونحن نطالب بشراء

معاش لنا بطاقات عودة لبالدنا ، وترحيلنا فورا ، أو بصرف

أكل شطائر الشـطة إلكمال دراستنا حيث إننا لن نقوي على

ن سواد لوننا يمثل صعوبة في إيجاد عمل ، لعام آخر ، كما إ

Page 147: 539

ولسنا بقادرين على ممارسة هذا النوع من التجـارة ، التـي

. يقوم بها األجانب هنا باالشتراك مع المافيا الروسية الجديدة

: قال طالب الطب

تهجم أسعار الدوالر علـى حصـص ـ نحشى أن

.تشريح اإلنسان وتستقر في إحدى شرايينه التاجية

: وقال طالب الفلسفة

فـي " إنجلز " و " أفالطون " ـ نعم ولربما يضيع

. الداخلية يفيونكات المالبس الحريم

: وقالت طالبة العلوم السياسية

ـ نعم وال نريد أن تزكم العطور الباريسية المقلـدة

أنوفنا فتفقد القدرة على التمييز بين رائحة النـور ورائحـة

. الظالم

تجهم وجه السفير العتقاده أنهم يقصدونه هو شخصيا

، فعلى الرغم من حصوله على أربعة آالف دوالر شهريا إال

أنه لم يكن إال تاجر عملة ومورد مالبس داخلية حريمـي ،

اعات عملـه ، وعطور مقلدة ، ولما أزاحهم بحجة انتهاء س

وانشغاله بأعمال أخرى أهم ، أغلقوا عليـه السـفارة مـن

الخارج وحبسوه ، وموظفيه ، وأقسموا أن يموتوا جوعا أمام

Page 148: 539

العالم أجمع ، ما دامت ميتتهم في جميع األحـوال سـتكون

: صاحوا في يومهم األول . جوعا

ـ إنما خلقت السفارات لمسـاعدة المـواطنين فـي

" . موسكو " في ا تمثل بناالخارج ، وسفارتن

نحلوا وأصبحوا بعد يوم واحد مجرد مجموعة عظام

: ذات أكف مرفوعة تهدد طوال الوقت وحتى لحظة وصولنا

. فلنجع في بالدنا .. ـ نرفض الجوع في الغربة

. ـ رحلونا عن هنا

ـ يجب تغيير هذا السفير فظ القلب ، الذي يتهته إذا

وال يستطيع النظر لألمام لضـخامة ما تحدث بقضايا بلدنا ،

جلبنا لهم طعاما رفضوه بحسم وجلسنا عند مـدخل . كرشه

. الظهيرة نهش عنهم عبارات الروس العابرين

ـ لم يكن يكفينا ما بنا ، ليبعـث اهللا لنـا قـرفبيين

!!يتظاهرون

ـ لم يعد لنا نحن دخل بالمشاكل السوداء والصفراء

. الم الثالث وبقية األلوان التي في الع

وازدادوا نحافة حتى اختلط األمـر علـى النـاس ،

فكانوا يظنونهم للوهلة األولى أعمدة لتلك الهياكل التي تنصب

Page 149: 539

، لسـلع لـم في كل مكان بموسكو ، لتشييد إعالنات ضوئية

م الشيوعية ، وكانوا إذا ما اقتربـوا تعرفها من قبل روسيا أ

: منهم يهزون رءوسهم قائلين

. مستحيل أن يولد اإلنسان من بطن أمه هكذا .ـ ال

كارثة أخرست الهمهمات والصياح عندما سمع داخل

مبنى السفارة انفجار عجيب الجرس ، فشل جميع المـراقبين

الصحفيين في تحديد هويته ، لقد كان مكتومـا وعاليـا فـي

. الوقت نفسه ومصحوبا برائحة كوابيس ما بعد عشاء دسم

، وخرج رجال األمن ، وبعـض دخل رجال األمن

. موظفي السفارة ، وطارت الجملة مع حمام الصيف

لقد انفجر كرش السفير -

تابعنا سيارة اإلسعاف وهي تنقله ، والتقط الصحفيين

: شكل أمعائه بكاميراتهم وتمتم أحد المتظاهرين

ـ يا نهار أسود ، لقد نسينا تماما أن السـفير كـان

. بالتهام كل ما يقابله من طعام يحل مشاكله الكبيرة

: وأعلن سكرتير السفير األول

ـ أن انفضوا من هنا حتى نستدعيكم ، فلقد استشهد

. سفير البالد كمدا ، ولسوف تدفعون الثمن غاليا

Page 150: 539

اختل توازن المتظاهرين ، وفـروا فـي اتجاهـات

ثة ، فلقد التصـق بطرق عشوائية إال المتحدثين الثال مختلفة

ة في المنتصف وظلوا بالبعض ، واضعين الفتاة الفاتن بعضهم

ل منظم عن مكان التجمهر ، وكأنهم يـؤدون يتباعدون بتمه

تعليمات مخرج مسرحي ، وانقطعت أنفاسهم فجأة ، وازدادت

نحافتهم اآلن حتى تخلصوا من بعـدهم الثالـث ، وصـاروا

مسطحين كرسم على ورق ، ثم تراجعوا بخطـوات رشـيقة

كبت منهم ـ بال شك ـ الحياة قطرة قطرة على للخلف وانس

األسفلت ، ساحبة ظلهم المنير من الساحة وإلى األبـد ، وإال

لماذا كانوا أقوياء هكذا ؟ وبلفتة واحدة حددوا أماكنهم وقفزوا

" رفبيـا ق" لمنتصف الجدار المقابل لسـفارة في الهواء عاليا

ـ ن والتصقوا عليه ، محتفظين بطزاجة خـروج الـروح م

. الجسد

" سرنا وراءهم وشفنا باعيننا هذه كيف تغير شـارع

: في نصف ظهيرة ، فقال نصف العابرين " جيرسنا

ـ إن هذا الحائط بزنوجه الثالثة موجود مذ عرفـت

. روسيا الدفاع عن حريات شعوب العالم الثالث

: وقال نصفهم اآلخر

Page 151: 539

ـ " قرفبيا " ـ هذا الحائط مهدي إلينا من حكومة ي ف

. سنوات تحريرها

وعندما فشل رجال البلدية في محاولة إزالة الجثـث

الثالث دون اإلساءة للحائط وإعادته لبياضه ، استعانوا بفنان

الشهير ليرسم رموشا طويلة " أربات " تشكيلي يجلس بشارع

لمن حرمت منها ، ويسوي مسار األنف المنحرف ، نظر إلى

: ح الحائط وتحسس الجثث الثالث وصا

ـ كيف فكرتم أن تطمسوا هذا اإلعجاز الذي ليس به

خطأ واحد ، التكوين أكثر من رائع ، واللون سيعيش أكثـر

ولم يختـر الفنـان ! من سبعة آالف عام كألوان الفراعين ؟

الشاب كثيرا وهو يعالج اللوحة من مأسـاوية التـواء الفـم

ـ ة المنهك المفتوح ، واألسنان الناصـعة البيـاض المزموم

الحانقة ، كل ما رسمه هو أنبوبة معجـون أسـنان طويلـة

حمراء قطعت الحائط بشكل أفقي ، والتوت إلى أسفل قلـيال

. لتداري سخرية انقباض يد طالب الطلب

كانوا منذ نصف يوم صامدين ، أفواههم تتحـرك ،

وأعينهم الالمعة تعكس غابات غنية وقلـوبهم تـدق بعنـف

بالدهم البعيدة ، وارتجاج األرض اهتزاز أشجار المانجو في

Page 152: 539

تحت طبول طهي غزالن برية ، لم يكن إيمانهم ليفتر لحظة

، ونحن ما كنا بسكارى عندما نظرنا إلى بعضنا البعض في

" قرقبيـا " صباح االثنين ، في أثناء قراءتنا لنبأ موت سفير

بأزمة قلبية تحت تهديد ثالثة أشقياء قرفبيين خـارجين عـن

دخلنـا مـدرج . وا في الفرار بضواحي موسكو القانون نجح

الدرس ، وصعدنا إلى أعلى منصة فيه وقلنا في صوت واحد

. ـ أجانب وروس ـ دونما اتفاق مسبق فيما بيننا

ما انفجر كرش السفير ، وما فر الطلبة الثالثة دنـ ع

" وإنما صلبوا تحت أنبوبة معجون أسنان على حائط سـفارة

حدث في نصف ظهيرة أحـد بصـيف ، وهذا كله " قرفبيا

. وموسكو نائمة ١٩٩٢

الممكـن أن أخذوا يجوبون جميع األركان التي مـن

، تتبعوا المنحدرات التي تـؤدي " عة علي القز " يختفي فيها

إلى أوكار الحشاشين وشمامي الكولة ، بحثـوا فـي نسـيج

العنكبوت الذي تراكم في األحواش الممتلئة بمخلفات غـزل

. نسيج التي أغلقت أبوابها على أسئلة الخلق مصانع ال

ـ هل يرتدي الناس المالبس ؟ ـ يرتـدي النـاس

المالبس ، وهل يتكاثر الناس يوما بعد آخر ؟ يتكاثر النـاس

Page 153: 539

فلمـاذا . يوما بعد آخر ، وهل يبلي النسيج ؟ ـ يبلي النسيج

تعلن كل شركات النسيج فجأة إفالسـها وتسـرح عمالهـا ؟

ن عنه في عشش الدجاج المبنية فـوق عشـش راحوا يبحثو

الناس ، وما كانوا يستطيعون النوم قبل أن ينظـروا تحـت

مفتشـين " سـيدة " أسرتهم أكثر من مرة ويوقظوا زوجتـه

جلبابها الذي ترتديه ، ينفضون الصناديق التي يضعون فيهـا

مالبسهم ، والمواعين الكبيرة التي يسخنون فيها الماء شـتاء

، ووضعوا على كل سـطح عشـة صـبيا مـن لالستحمام

صبيانهم الستطالع ظهوره ، وأني شاءت مخيلتهم ذهبت إلى

" . مها السويفي " من " على القزعة " تصور ما سرقه

وهـو علـى سـور بلكونـه " أحمد منصور " كأ ات

على القزعة من " ليعرف منها ماذا سرق " نجوي " يستجوب

بهت إلى ساعده الذي كان أختها ، وعندما ضاقت بإلحاحه انت

يحركه في جميع االتجاهات ليتسلى لحشرة تقف عليه المشي

، فصاحت به أن يلقيها بعيدا ولكنه ضحك وقال ممصمصـا

: شفتيه

، إنهـا ! كم هي بديعة . انظري ! ـ ألقيها بعيد ؟

تشبه الجرادة ، ولكن توجد سلسلة بروزات تشـبه المسـبحة

Page 154: 539

الخلفيين ، وسلسلة البـروزات على السطح الداخلي للفخذين

هذه تقوم بدور قوس الكمان على السطح الخارجي لكل مـن

الجناحين األماميين مساحة غشائية تعمل كلوحـة التصـويت

الرنانة التي تستخدم لتفخيم الصوت الموسيقي ، فإنها تجعـل

، وتحـك ع أفقي ، وترفع رجليها الخلفيتـين جسمها في وض

لخلفيين ضـد السـطح الخـارجي السطح الداخلي للفخذين ا

للجناح األماميين ، تماما كما يعزف قوس الكمان على أوتاره

. في يد عازف بشري

: مها من الشرفة وضحكت متهكمة " أطلت

ـ وأنت هل تركت الحقوق وصرت جامع حشـرات

! ؟

. علي القزعة " ماذا سرق منك " . مها " ـ نعم يا

وتجده ؟ ـ وهل إذا أخبرتك ، ستبحث عنه

.ـ ولماذا أبحث عنه وأنا أعرف مكانه

: إلى أختها غير مصدقة " مها " نظرت

ـ تعرف ، وتسـكت كـل هـذا الوقـت والنـاس

. بحثا عنه " حوض الجاموس " متطوعون يقلبون

Page 155: 539

؟ هل أجمع أنا معهم ؟ " مها " ـ مالي أنا والناس يا

ا ؟ ثم إنني كنت أبحث بطريقتي اال يعتبر التفكير بحث

ـ وعرفت مكانه وأنت على سور بلكونتك ؟

عنـدما . اآلن فقط ـ آه واهللا ، ولم تأتني الفكرة إال

. رأيتك

ـ وماذا تنتظر حتى تخبرنا أين هو ؟

. ـ بل سأنزل ألسلمه بنفسي

البـاب ، " والنشراح السبتاتي " له " نجوى " فتحت

ا في أرجاء يزهو يمنينا ويسارا باحث " أحمد منصور " والتفت

يعرف أن هـذا آخـر " علي القزعة " ـ : البيت وهو يقول

. مكان سيبحث عنه فيه ، وسنجده في إحدى هذه الغرف

كن بغرفة نائما كهر ضخم في ر لعندما وجدوه بالفع

، وأخذت من تحـت " مها السويفي "الكراكيب ، قفزت عليه

وهـو " علـي " سده ، وواجه رأسه مخطوطها الذي كان يتو

سه الذي ارتطم باألرض عددا ال بأس بـه مـن يتحسس رأ

" انشـراح " العيون الغاضبة المتطلعة إليه ، وهجمت عليـه

رافعة إياه من على األرض كطفـل قابضـة علـى منحـر

. جلبابه

Page 156: 539

إزاي تدخل على ست نايمـة ! ـ يا نسل العفاريت

عيانة وتسرقها ؟

. ا ما بصيت عليها أبد" انشراح " ـ واهللا يا ست

" .انشراح " ـ خالص ، يا

يسرق آه ، يسرق زي ما هو عايز ، " مها " ـ ال يا

. ولكن بعيد عن الحي ، أنت فاهم

ـ أنا ماسرقتهاش ، هو أنا مشيت يعني ؟ أنا كنـت

عايز أشوف كتبت عنى إيه ؟

مـن الضـحك " أحمـد منصـور " انقطعت أنفاس

:وصاح

ستقرأ مـا ـ حتى أنت يا على قزعة ، وكيف كنت

كتبته عنك ، وأنت ال تستطيع القراءة ، هـل كنـت ستشـم

رائحة الكالم مثال ؟

حرجا ولكنه قال بثبـات " علي القزعة " اكفهر وجه

" . حافظ المرسي " وعداء وهو يقلد صوت الشيخ

يا ميت يا أعمي القلب أنني " أحمد " ـ وهل قلت يا

. سأقرأ ، قلت إنني سأرى

Page 157: 539

أضـعافا في حـرج يزيـد " سويفي مها ال " غرقت

وقالـت متغلبـة علـى " القزعة علي " مضاعفة علىحرج

ارتعاشة صوتها ، وهي تضغط مخطوطها إلـى صـدرها ،

:وكأنها تخالف أن يسلبوه منها ثانية

كتب شيئا هم لماذا تعتقدون جميعا أنني ال أ ـ أنا ال أف

" جـوى ن" إال عنكم ؟ ثم ما الذي يجعلنا نقف هكذا ؟ إيه يا

ألن نشرب شايا ؟

نهضته ، فسار على القزعة ، أ " كت بيدها اليمني أمس

" معها كطفل ، وقبل أن يبرد الشاي انضمت إليهم زوجتـه

المجلجـل الضـاحك " انشـراح " ، وعاد صـوت " سيدة

. لالنطالق مرة أخرى

أمال مـا عـرفتش ! ـ واهللا يا منيل دوختنا عليك

يه ؟ تهرب من المأمور قبل كدة ل

علي ؟ " ـ وهل كان المأمور يطاردك يا عم

وهو يحاول ما زال تقليد الشيخ " علي القزعة " تنهد

" . حافظ المرسي "

ـ آه يا ابنتي ، منه هللا ، منـذ أن صـارت يـداي

ترتجفان هكذا ، وال تقيان على فتح كبوت سـيارة ، وهـو

Page 158: 539

إلى جميع األقسام مـن شـمال الـبالد " يرسلني كعب داير

أال أصلح له سـيارته حرقه. لشرقها لجنوبها ، ومن غربها

وأجبره على أن يستقل تاكسيا يومها ، وعلى الرغم من أنني

أقسمت على المصحف حاكيا له ما حدث لي ليلتها ، وعلـى

كـن أن يتغيـر الرغم من أنه رأي بأم رأسه أن شكلي ال يم

أن يرانـي ال بفعل شيطان ، فإنه بمجرد هكذا بين يوم وليلة إ

يرسل خلفي مـن " الجاموس حوض " ى في أظهر مرة أخر

يحتجزني أياما في التخشيبة ، ولما لم أكن مجرما وال اقترفت

سابقة واحدة في حياتي ، سوى أنني هربت من الجيش قبـل

انتهاء مدة خدمتي بشهر واحد فقـط ، وبعـدها ، ولكـي ال

ومـن يقبضوا علي ويعيدوني إلى الجيش مزقت بطـاقتي ،

" القزعة علي " دون بطاقة واشتهرت بأنني يومها وأنا أسير ب

، وعلى العموم أنا لم أحتج بطاقة طوال عشرين عاما بقـدر

ما احتجتها في أيامي السوداء تلك ، وأنا يا ابنتي لـم أتـرك

ألنني جبان ، ال واهللا كنت قـد حاربـت ١٩٧٥الجيش سنة

كمراسل إاليئا ، ولم أكن أفعل ش ١٩٧٣م في وانتصرت معه

: لضابط من أوالد الذوات ، كلما رآني بقهقه عاليا ويقول لي

Page 159: 539

ـ رائحتك كرائحة الجاموس ، أال تستحم يا رجـل

! ؟ أال تغسل بذلتك الميري أبدا! ؟

غسل البدلة الميري أذهب وأستحم في اليوم مرتين وأ ف

وألنها واحدة كنت طوال الوقت ألبسها مبلولة ، وكان اآليش

" عريض المبلول ، يجعلني أرتجف حتى عيرتنـي البنـت ال

أنا ال . بأن ارتدائي له مبلوال هو سبب انقطاع خلفتي " سيدة

. فقط " سيدة " إال أكلي وأكل البت " مها " أسرق يا ست

تحاول زحزحة قدر من هـذا الهـواء " مها " ظلت

الثقيل الذي أحاط بها ، وجثم على صـدرها متـذكرة وجـه

البولشوي تياتر "نت تطير فوق خشبة رينا الجميلة التي كا البالي

في رقصة من رقصات بحيرة البجع ، وهي تشيح بيديها ، "

وكأنها ترفع ماال يمكن أن يتحمله البشر من فضاء المسرح ،

وكأنها كانت تساعدها على رفع ذرات هذا الهـواء الثقيـل

. اآلن

أن مهما اشتد سوادك أيها الليل فـنحن مضـطرون

هل كان من . نرعى بذور تفاؤلنا ، لتنمو على ريشك القبيح

علـي "عا سرا أن يموت المأمور ليرتـاح حقنا أن ندعو جمي

من لف البالد على كعبيه ؟ " القزعة

Page 160: 539

في الصباح تسرب الخبر من عشة لعشة ، ومن بيت

" لبيت ، كفأر يبحث عن حبة طماطم وال يجدها إال في بيت

ستقر على انفراجة أفـواه النـاس هنـاك ، في" مها السويفي

الذي أخذ يردد الخبر مرارا ثم يمثله " علي القزعة " وأولهم

ويؤديه ، ثم يعود ليحكيه إذا ما وصل ضيف جديـد ، أو إذا

..قاطعه أحدهم فيقول مصححا

. ـ ال

لقد أوقفه الفتي وهو خارج من القسم وقال له بثقـة

: ووقار

؟ " هيثم صفوان " ـ أنت سيادة المأمور

..ـ نعم يا ابني

.ـ وأنا من حوض الجاموس

ـ واضح يا ابني ولست مسئوال عن انقطاع التيـار

.. الكهربائي ، ولست

.ـ طيب ، خذ

مقلدا الفتى الذي طعن المأمور " عة علي القز " ويقفز

.. في قلبه ، ويضيف

Page 161: 539

ـ واستمر الفتى في طعنه حتى خر المـأمور أمـام

ه ، وخرت معه نجومه ونسره ، وصرخة تشبه كثيـرا سيارت

. صرخات البشر الذين عذبهم في حياته

" لم يكتمل اليوم إال وسيارات الشرطة مألت شـارع

مـن " علي القزعـة " عن آخره ، أخرجوا " طه حسين . د

أحمـد " واصطحبوا " مها السويفي " تحت كرسي في مطبخ

، ولم يتحرك " مياء سكينة الع " على صوت عواء " منصور

انشراح " ال بعد أن شجعتها إ" مها " مالزم الشاب من أمام ال

أن تذهب معه ما دام التحقيق لن يستغرق غـال " نجوى " و

. ساعتين كما يقول

ارتدت مالبسها بسرعة ، وغارقة في رغبة عارمـة

عباءة سوداء طويلة وهي تهمس " انشراح " للنوم ألقت عليها

: لها

. اك لصوص ومتشردون سيأكلونك أكال ـ هن

ربطت لها شعرها بإيشارب طويل على شكل ذيـل

وأثنـاء . حصان مما سبب لها صداعا حادا أليـام طويلـة

، " نجـوى " استقاللهم العربة المشحونين فيهـا صـرخت

Page 162: 539

وأخرجت من صدرها كرتا من الكروت الكثيرة التي يحـتفظ

" :مها " وقالت لـ " أحمد الدالي " بها معه

، زوجك " عبد القادر الدالي " ـ اتصلي به ، اللواء

وكأنهـا منومـة . قال لي إذا حدثت أية مشكلة اتصلوا بـه

في حضنها ملقيـة الكـرت علـى " مها " مغناطيسيا أخذتها

. األرض

. معك ، لن أتأخر " انشراح " ـ ادخلي أنت ،

تخلصت من يديها ، والتقطت الكرت " نجوى " ولكن

مـن قميصـه ، " أحمد منصور " ن على األرض وجذبت م

: ودست الكرت في يده وعادت تهمس

ادر عبد الق " ـ رأسها زي الجزمة القديمة ، كلم أنت

فـي " أحمد " ، قل له عن زوجة "أحمد الدالي " ، عم " باشا

. القسم

مها " الكرت وجلس قبالة " أحمد منصور " أخذا منها

" : البوكس " في "

أول مرة أراها خـارج بيتهـا ، يـا اهللا .. ـ يا اهللا

سبحانك ، إن غروبك مختلف ، وزوابـع تـراب حـوض

الجاموس مختلفة ، ورائحة العربة البوكس مختلفـة ، دوران

Page 163: 539

الهواء حول وجهها آية من آياتك ، ارتباك جسدها في عباءة

ظل من ظالل جناتك ، وطريقة هشـها " انشراح السبتاتي "

الناموس بيدها إعجاز ال يقوي على صنعة إالك ، يا للذباب و

رب كيف صنعتها هكذا ؟ يا أيها القادر وكيف أغلقت عليهـا

ندفة من سرك وجبروتك بهذا األحكام ؟

؟" هيثم صفوان " ـ هل تعرفين سيادة المأمور

ما يزيد على " ي القزعة بعل" ـ ال ، أعرف أنه نكل

. ستة أشهر دونما وجه حق

رة كان مختفيا في حج " على القزعة " ذا قتله ـ وله

نه كان عندي عنـدما قتـل في بيتي لمدة خمسة أيام ، أي إ

.المأمور

ـ لماذا ؟

يظهـر فـي الحـي ، فيحتجـزه ـ كان يخشى أن

. سبب كما عرفت مأمورك بال

ـ هل أخفيته أنت ؟

ـ لم أكن أعرف أنه مختف ، البيت كبير ، وأنـا ال

. بق الثاني أتحرك من الطا

ـ وماذا تفعلين هنا ؟

Page 164: 539

. ـ أجيب على أسئلتك

. ـ أقصد في حوض الجاموس

حـوض " ـ أعيش ، وماذا تفعل أنـت هنـا فـي

؟ " الجاموس

ـ أعمل ، ولكنني ال أعيش في هذا المستنقع ، ولكن

أنت زوجة واحد من عائلة باشوات ، نعم مكتوب عندي فـي

علشان يقلد اإلقطـاعيين فـي الملف أنه كان شيوعيا لكن ده

يه هو إ. يساعدون البالشفة أيام الثورة موسكو ، الذين كانوا

، ثم إن عملي أن أسأل وأنت تردي ، ! رماكي هنا وطفش ؟

!يعني ما ترديش على السؤال بسؤال ! مفهوم ؟

؟ ١٩٩٤هل سافرت إلى موسكو بعد عودتك في

ت رـ أوال تستطيع وأنت ضابط أن تعرف هل سـاف

. م ال ؟ ال لم أسافر مذ أنهيت تعليمي أ

ـ وهل بطلت شيوعية ؟

نفسها وطالـت ضـحكتها " مها السويفي " تمالك لم ت

حتى احمر وجه المالزم الصغير ، وأصبح يشبه مـؤخرات

. المنتوفة " نجوى " ديوك

Page 165: 539

ـ أنا عمري ما كنت شيوعية ، لكن تعلمت هنـاك

ده متأخر عشر سـنين ، سؤالك . وسأظل مدينة لهم بتعليمي

روسيا نفسها بطلت شيوعية هو إيه ، هم الضباط حتـى مـا

. بيقروش جرايد

ثم تغير صوتها وامتأل بالحزن فجأة ، واختفت منـه

: اللهجة التهكمية

ـ والحقيقة من ساعة ما وقعت وبطلـت شـيوعية

. ودول العالم الثالث كلها بتضرب رأسها في الحائط

. غير برأسه معترفا أطرق المالزم الص

ـ نعم ، في الحقيقة كانت روسيا عاملة توازن فـي

المهم ، وأنت ما بتزوريش أصـحابك الشـيوعيين . القوى

القدام ؟

أنـا مـا ! والشيوعيين كمان ! ـ أصحابي القدامى

ليش ال أصحاب قدامى وال جداد ، قصدك أصحاب زوجي ،

مجلـس اطمئن كلهم عندكم في الحكومة ، توزعـوا علـى

الشعب ، ومجلس الشورى ، والمراكز البحثيـة ، ورئاسـة

تحرير الجرائد ، والجامعات األهلية ، في خدمتكم يعني ، إيه

؟ أنت مش عارف تسأل سؤال واحد صـح ؟ وبعـدين أنـا

Page 166: 539

سمعت إنكم قبضتم على الشاب الذي قتل المأمور ، ما دخـل

، الشيوعية في قتل مأمورك ؟ الشيوعيون بتوع كـالم بـس

. وأنت عارف ده

ـ يجب أن نكمل التحقيق ، خاصة وأن الباشـا اهللا

يرحمه كان قبل أن يصبح مأمورا رئيسـا لجهـاز مكافحـة

. الشيوعية

ـ لكن قتله شاب من الجماعات اإلسالمية ، واضح

أن الباشا بتاع حضرتك كان بيكافح كل حاجة ، شـيوعيين ،

" . علي القزعة " ومسلمين وحتى

مـأجر الـواد ده ، " علي القزعـة " يمكن ـ مش

حوض الجاموس " ويمكن إنتي وال جوزك ، الزم نحقق مع

، مش بس يع رقابي كثيرة قصاد رقبة الباشا ، الزم تض " كله

ابن . أل وإيه ما بيتكلمشي !! رقبة حتة واد بدقن بيريل لسه

! اتخرس ، يعني الزم نعرف بيحمي مين بالضبط ؟ ! الكلب

. الحجز يا بني ، وهايتعرضوا على النيابة الصبح بينهم في

. ـ لن أبيت في هذا المستنقع وسترى

عن اإلجابـة عـن بقيـة " مها السويفي " وامتنعت

أسئلته ، وثورته ، وسبابه أحيانا ، وهي مسلطة عليه عينيها

Page 167: 539

خذ يتحدث مع زميله لم يقو المالزم على مواجهتهما فأ اللتين

اسـتجاوبه نظر في عينيها مواصال حتى يستجمع شجاعته و

ولكنه فجأة وقـف " . علي القزعة " و " منصور أحمد "لـ

: وهو يرد على التليفون ، ويجيب مرتعدا

ـ نعم يا افندم موجودة ، ال يا اقنـدم فـي الحفـظ

. والصون ، أمرك ، أمرك يا باشا ، حـاال يـا باشـا ، ال

يا باشا ، فـي توصلها لبيتها معززة مكرمة يا باشا ، أمرك

.انتظارك يا فندم ، طبعا ، طبعا يا فندم

: والتقط أنفاسه وجلس بعد فترة طويلة وقال بانكسار

هانم ؟" مها " ـ تشربي حاجة يا

. حدد موقفك . هانم ، وال شيوعية " مها " ـ

ـ حضرتك يمكن توديني في داهية ، ولكـن أنـت

" جوزك واسـم مالك ، أنا اللي غبي ، ما ربطتش بين اسم

، لكن أنا هاعرف منين ؟ ما هم مش " عبد القادر باشا الدالي

.كاتبينه في الملف ، وأنت ما قولتليش ليه إنك قريبة الباشا ؟

الذي " أحمد " عم " عبد القادر الدالي " دخل المكتب

طفيفا ، لم يحي المالزم الواقف خلف مكتبة ، " مها " تتذكره

: مشجعا وهو يأخذ يدها بين يديه " ا مه" وإنما ابتسم لـ

Page 168: 539

ـ واهللا زمان ،هيا يا ابنتي سأوصلك ، قدماي لم تطأ

.هذا البيت منذ عشرين عاما مثال

الخلفي لسيارته المكيفة دجلس إلى جوارها في المقع

. ، وقال لسائقه

سأحاول أن " مها " ـ إلى اليمين يا ابني ، اسمعي يا

" مهـا " ساعديني ، هه ، مالك يا أتذكر البيت وحدي ، فال ت

هل أخافك هذا المالزم ؟

ـ أبدا ، وإنما أحاول أن أصدق أن دولـة عظمـى

بكاملها ، قد وقعت مثل طائرة ، وطار مـن متنهـا علمـاء

بحقائبهم الدبلوماسية الرخيصة ، التي تحتـوي علـى آخـر

أبحاثهم عن الفضاء والذرة والعلوم اإلنسـانية والميكانيكـا ،

قصات باليه تعلمن الرقص الشرقي وانتشرن في قصـور ورا

العالم العربي وباراته ، أحاول أن أصدق أن دولـة عظمـى

كهذه ، تقع إذا ما وقعت فكرة قيامها ، وال أتذكر جيدا أهـذه

التنورات القصيرة ، هي التي وجهت الدبابات على غير هدى

تـداء ؟ أم أن الدبابات هي التي وجهت السيقان الجميلـة الر

هذه التنورات والتجول بها أنى شاءت ؟ ها أنـا ذي أتـرك

موسكو ترتعد تحت وقـع هـذا وذاك ، وتختفـي عجـالت

Page 169: 539

طائرتي ، وال يتبقى من الحلم إال غابة من المصابيح التـي

: تصفع وجهي المسافر وتردد

والبرلمان الروسي محبوس في . ـ سيسقط البرلمان

" ضاء سيهبط بي إلى حـي بيته األبيض ، أنا محبوسة في ق

، ألصحو من إغفائتي على صوت عبـد " حوض الجاموس

:القادر الدالي

مسألة النور هـذه لـن . يا ابنتي " نجوى " ـ ال يا

فسيخرجون غـدا " مها " تستغرق سوى أيام ، أما جيرانك يا

. إن شاء اهللا

" إخراج " عبد القادر الدالي " وجاء الغد ولم يستطع

مع من خرجهم ، فلقد أخذ يسعل ويسعل وهو " عة علي القز

إلى بيتهم الذي طردوا منـه " سيدة " يردد أمنيته في أن يعيد

للعشش ، بعد عجزه عن دفع إيجار ، ثم انقطع نفسه فجـأة ،

في عشتها تقلـب أسـباب " سيدة " ومات في محبسه تاركا

عيشها يمينا وشماال ، وتقنع نفسها مرارا ، وهي ترد علـى

. زاء الناس بأنه حقا قد ارتاح ع

بشكل الفـت للنظـر " أحمد منصور " غارت عينا

من بلكونته عن عصفورة الجنـة التـي " مها " وراح يحدث

Page 170: 539

تظل ترقص وترقص له في الجانب الخلفي من بيته ، وتنظر

: إليه في عجب وتخايل وهي تقول

ـ ها هي محاسني ومفاتني ، كثرت حركات يديـه

من حجـرة لشـرفة " سكينة العمياء " ، وتتبعته أثناء كالمه

ومن السطح لمدخل البيت ، لم تهدأ أصواتهم طيلة النهـار ،

صراخ ، ونحيب يرج أنحاء الحي ، وكجميع سكان حـوض

الجاموس أخذوا يرشون آهاتهم بصخب على وجه الليل الذي

على غرة كان يأخذ زائر الحي ، كل من يده إلـى مصـير

" ة خفيفة في البكاء ، كتلك التي انتابـت أبيض معطر برغب

وهو يدلف إلى الشارع الذي يحتضنها ، ولكي " أحمد الدالي

يزيح قليال وعورة ألم أذنيه من جراء عواء الكالب ، وثقـل

وأنت " خطواته كان يتمتم وهو يحث قدميه على المسير قدما

يا من تعدين ألوانك المستباحة على هدهدات حبـات خـوخ

ال العابرين ، ناقشة حزنهم علـى مهجـة أنسـامك تغوي ك

الدافئة ، جمالك أكثر من معتد ، وفي القلـب مـن أغنياتـك

عنقود مقروط على وحشته ، هذي الشموس التي لن توصلني

إليك ، سأطويها جميعا بجيبي ، حتى أجرب فيك الصـهيل ،

حتى أرتب اسمك أكثر من مرة ، سحابا على خنجر موسمي

Page 171: 539

التراجع في ، نسرا يحط على فتق روحـي ، ، رغيفا يحك

خريفا موزعا ما بين صوتي وسرك المستحيل ، أنت يا مـن

" .تخطين مسار الرياح بزعقة طفل عنيد

ويدخل على أطراف أصابعه حتى يستطيع اإلمسـاك

بأحد أحالمها ، أو حتى يستطيع أن يراها ولو لمرة واحـدة

ة تجعله يجفـل ، وهي نائمة ؟ فتقفز بين ذراعيه كقطة شرس

ولكي يتفادى السقوط على األرض ، ال يجد مفرا من الضغط

. على ضلوعها التي أخذت تصر ، وبصوت عال تغني

Page 172: 539

سمكة الجيتار

إلى جوارها توجد محارة مفتوحـة المصـراعين ،

فوقها تماما قطرة ماء تسقط من سحابة ممطرة في طريقها

نفسها في وسـط إلى البحر ، تخجل قطرة الماء وهي تجد

ماذا : " ذلك االتساع غير المحدود من المياه فتقول لنفسها

أساوي أنا وسط هذا المحيط الهائل ؟ إنني ال شيء في هذه

وبينما هي تخاطب نفسها •! " المياه ذات األعماق السحيقة

، تلتقطها المحارة المفتوحة وتضمها وتنغلق ، ويتصـادف

ة ثمينة ، تعلق على تيجـان أن تتحول تلك القطرة إلى لؤلؤ

نهاية حكايـة قطـرة " سمكة الجيتار " قد تحول . الملوك

. الماء هذه في أغنيتها الطويلة

. من آتاب فلسفي شرقي قديم •

Page 173: 539

حوض الجاموس

٥

ض ، بشـعره األبـي " علي القزعـة " عذب ظهور

خذت تهـاجمهم كـوابيس وقامته القصيرة ، سكان العشش فأ

، أخذت تنط متشابهة ، تبدأ كلها بساقي عنزة سوداء مشعرة

من سطح عشة ألخرى خلف قط ضخم ، أو جرو صـغير ،

مما سبب سقوط ندف القش على رموشهم ، وربما كان وهو

في حالته الجديدة تلك يتعب أيضا مثل الناس ، أو يمـل ، أو

" بطـة " يشبع من لعبته تلك ، فينسحب إلى صـحن بيـت

را ويتعارك معها هناك طويال ، ويسبان بعضهما البعص كثي

. ال عند أذان الفجر وجئيره إ، وال يخمد صراخها

علي " من عاد الناس إلى االستيقاظ طوال الليل هربا

وكل من راحوا ، أشـعلوا " أبو الطية ", " بطة " و " القزعة

في وسط حلقة كبيرة صنعوها بأجسـادهم أكـوام القمامـة

ه كان منذ زمن بعيد امرأة وأخذوا يحكون لبعضهم البعض، أن

كانت تعيش في إحدى القرى البعيدة ، وقد ماتت "بطة"تسمى

Page 174: 539

علـي " كما أنها لها جار اسـمه .. والعياذ باهللا ميتة غريبة

، ولكنهما ماتا منـذ .. شاب بدنه في ليلة واحدة و " القزعة

امهما وأنهما ليسا في عقود سحيقة ، والحمد هللا أننا لسنا في أي

ا أمواتا وأحياء ، وشووا أكـواز سينكالن بن اال كان أيامنا ، وإ

الذرة ومصوا أكبر كمية ممكنة من أعواد القصب ، وعلـى

، في صحن بيتهـا " علي القزعة " بـ " بطة " صوت اشتباك

وجدوا طريقة أخرى للخالص أسهل من الحكايات ، فظلـوا

يصرخون بال سبب في وجـوه بعضـهم الـبعض ، ولـم

، فكانت إحداهن تبدأ يستطيعوا التخلص من هذه العادة نهارا

بصوت عال بسباب األخرى ، وبمجرد أن يلتقط أزواجهـن

سكاكينهم ، ويهرعون لمنتصف الشارع ، حتى يعود الجميع

. إلى وعيه ، ويتساءلون عن سبب الصـراخ فـال يجـدون

، مضحيا بالنقود التـي " أحمد العتر " وارتفع صوت مسجلة

ادت أعواد العشش وع. كان ينفقها على بطارات تنفذ سريعا

ر مطربين ال يعرف من أيـن وجدران البيوت تهتز على جنب

أحمد "على شرائطهم ، وعندما حدثه " أحمد العتر "يتحصل

: قال له . ه أن يخفض صوت مسجل" الدالي

Page 175: 539

، ودينك يـا راجـل هـم " أحمد " ـ يعني يا أستاذ

! ؟ " بطة " األحسن ، وال عراك العفاريت من صحن بيت

" ، هل تأخذ شريط لـ " أحمد " غل أي حاجة يا ـ ش

.مثال ؟ " أم كلثوم

أم كلثوم ال تستطيع إسكاتهم ، ال " أحمد " ـ يا أستاذ

يني هيعجبوك ، العفاريت إال هؤالء ، طيب اسمع ور يسكت

: رأسه مبتسما وقال " أحمد منصور " هز

، أمرنـا هللا ، " أحمـد " ـ ال تتعب نفسك يا أستاذ

أغلق هذه النافذة وإال سيغني لك هو نفسه ,أمامه اآلن ، ادخل

. أغنيات من تأليفه وألحانه

لقد ثقل لسانه بعـض الشـيء ، وأصـبح يحركـه

فـي " أحمد الدالي " بصعوبة ، ويقول في بطء وهو يساعد

. غلق النافذة

أريد أن أعمل في الصحافة " أحمد " ـ نعم يا أستاذ

جائب ، فلـدي الكثيـر عـن ، ربما في صفحة طرائف وع

والبشر هنا ، فمن غيري علـيم بهـم ؟ طرائف الحشرات ،

حيـا بكاملـه ، سأستغل الفرصة ألكتب كيف أن بلدا هشت

، ويمتهن أهله كل المهن التي انقرضـت لينزوي بعيدا عنها

Page 176: 539

سأكتب أن بلدا سـرح حيـا بعيـدا . من قاموس العالم كله

سـأكتب . ه األرواح لتختلط أصوات ناسه األحياء مع أموات

ألعمـل " احمد " كل هذا وأكثر ، لماذا ال تساعدني يا أستاذ

في الصحافة ولو حتى في جريدة معارضة ؟

، مادام هـذا سـيجعلك تكمـل " أحمد " ـ طيب يا

دراستك ، سنتفق قبل سفري أن نقابل صـديقا هـو رئـيس

تحرير مجلة ، سترحب بك دون شك ، آه وبمناسبة الصحافة

كان حوض الجـاموس أظـن عالم ، هل تعرفون أحد س واإل

؟"أبو خطوة أحمد"اسمه

ماذا حدث له ؟ وأين هو ؟ . ـ نعم

، هل تعرفه ؟ " أحمد " ـ خير يا

ـ نعم ومن في حوض الجـاموس ال يعـرف أبـو

خطوة ؟

ـ أنا

:مها " وضاحكة أضافت

ـ الوحيد الذي ال أعرفه بعد في حوض الجـاموس

. ث عنه الصحافة ووسائل اإلعالم هو الذي تتحد

، ألن تقول لنا ماذا حدث له ؟" أحمد " ـ يا

Page 177: 539

ـ فاز يا سيدي ، فاز في إحدى مسابقات رمضـان

التي تمولها شركة مسحوق غسيل كبيرة ، آه دعوني أتـذكر

ربما كانت جائزته سيارة ، الجائزة األولى ، نعم ، كـل مـا

قبل أن يكمل قطعت و.. أنا من حوض : لفت نظري أنه قال

. المذيعة كالمه ففهمت أنه من هنا

ـ معنى هذا أنه ظهر في التليفزيون واستلم أيضـا

جائزته ؟

ـ نعم ، وهل كان مختفيا ؟

ـ آه ، منذ شهور ، ولكن كيف فاز ؟ أقصـد مـاذا

فعل ليفوز ؟

من تلـك األسـئلة التافهـة ، " أحمد " ـ سؤال يا

رين شخصـا يبـدأون كلهـم اذكر اسم خمسة وعش .. أعتقد

.. آه أنا ال أذكر ، بحرف .. بحرف ... بحرف

..ـ الشين ، حرف الشين

في الضحك وهو يضع يده " أحمد منصور " وغرق

حرف الشين ، .. على بطنه ويمسح دموعه ويطرقع أصابعه

حرف الشين ، وبصعوبة أشد حـاول أن يـتكلم وضـحكته

. تقاطعه

Page 178: 539

آسف ، أصل الموضـوع ، ـ واهللا يا جماعة ، أنا

تب له أسـماء كأن أ " أحمد أبو خطوة " منذ شهور طلب من

أوالده البنات والبنين في ورقة بيضاء بخط جميل ، استدعاهم

وصفهم في طابور كما المدرسة ، وأمرهم أن يملـوا علـي

. أسماءهم واحدا واحدا فكتبتها

؟ .. ـ وما عالقة هذا بالمسابقة ؟ هل

أحمـد " في الضحك ومعه " منصور أحمد " وغرق

":التي رددت غير مصدقة " مها " الدالي و

.. ـ لديه خمسة وعشرون ابن يبدأ اسمهم جميعـا

" أحمـد منصـور " وعندما لم تستطع إكمال جملتها أكملها

.. وأكملت هي ضحكتها

ـ بحرف الشين ، الشين ، وستة وعشرون ابن وابنة

. بالشين .. م ستة وعشرين وليس خمسة وعشرون لقد كتبته

رقين فـي غا" مها السويفي " و " أحمد الدالي " ظل

بصـوته الخافـت " منصـور أحمد " الضحك حتى أسكتهم

. وكأنه آت من بئر عميق

Page 179: 539

جميعهم كانوا يسكنون في العشة المجاورة لوردة هو

وأوالده الستة والعشرون ، بعد أن تركوا لها بيتهـا العـامر

.ف بيتي أي في الشارع الموازي لشارعنا الذي يقع خل

هذا كان وهـو " أحمد أبو خطوة " حكت لي أمي أن

شاب فارع الطول ، واسع العينين ، على محيا جذاب أوجـع

" قلوب كل بنات الحي ، وباختصار كان أجمل كثيـرا مـن

وكـان " يوسف شاهين " ي أول أفالمه مع ف" عمر الشريف

ى أية فتاة وكان يحب جدا ما يفعله صلفا مغرورا ال يلتفت إل

بهم ، يمر من أمامهم ثم يدخل إلى غرفته المؤجرة في شـقة

مشتركة ، وينظر على وجوههن الملتاعة من خلـف شـيش

النافذة ويضحك ، استمرت حياته هكذا حتـى سـدت عليـه

الطريق في يوم من األيام امرأة فاتنة ، عكس شعرها الطويل

ا األحمـر السـاتان المطـرز لون الشمس ، ولون قميصـه

بحمالتيه الرفيعتين غرفته طوال النهار والليل ، وعندما مـد

وجذعت منهـا يده ليلمسها لم يلمس إال الهواء فاقشعر بدنه ،

: لها مرارا نفسه ، خاصة وهو يسأ

؟ـ من أنت

Page 180: 539

يهرب مـن حجرتـه . فال تجيبه إال بابتسامة فاتنة

ليه جنودها وجواريهـا ، ويجوب الحواري القريبة ، فتسلط ع

ينكلون به على الساللم المظلمة ، وفـي أركـان الخرابـات

البعيدة ، وكثر تعثره في الحجارة وحتى في شهادات التالميذ

التي كانوا يلقونها في الشوارع خوفا من اطالع آبائهم عليها

، وأصبحت نظرات الفتيات توقعه اآلن على وجهـه وعلـى

، وصار ال يحلق ذقنه إال لماما ، قفاه ، فيضحكون هن عليه

وال يستحم وكرس كل طاقته ووقته إليجاد طريقة للهـروب

منها ، يلف نصفه ليال بالمالءة من شـعره علـى أطـراف

أصابعه ، فيجدها فوقه تعبث بشعر صدره وال تنتهـي مـن

أنى ولي وجهه كانت تقابله ابتسامتها . عبثها به صباح مساء

يمتان به ، على الجدران وفوق شراشف الواسعة وعيناها المت

الشرير ، وعلى أعواد عشش الناس ، وأصبح نادرا ما يدخل

دورة المياه وإذا دخل مجبرا كان يغطي أعضـاءه ، وتغيـر

هيكله وصار حطاما على حسن باق ، وعندما انهـار يومـا

:تحت قدميها باكيا قررت أن تنطق أخيرا

لحياة هكذا وأنـت ـ باهللا عليك ، أنا ال أقوى على ا

. معي ، سأفعل كل ما تقولين ولكن فقط ارحلي عني

Page 181: 539

ـ هذا بالضبط ما أريده أال أرحل أبدا عنـك ، أنـا

. وأريد أن أتزوجك " أحمد " أحبك يا

لقد أصـبحت فرجـة ! ؟ .. ـ كيف ، أأتزوج من

للناس ، وأنا أكلم نفسي أنا أراك وهم ال يرونك ، ثـم إننـي

ارحميني باهللا عليك واتركيني في حالي ، أخاف منك كثيرا ،

. وسأنفذ كل ما تبغين

ـ زواج ، ـ ال أبغي سواك ، وإذا ما اتفقنا علـى ال

سأنفذ أنا لك كل ما تشاء

: أحمد أبو خطوة أمامه إال أن يقول " لم يجد

ـ طيب ، ستتوقفين قبل أي شيء عـن كـل فعـل

سية تمامـا خارق من هذه األفعال التي تخيفني وستكونين إن

. أمام الناس وأمامي

ـ سمعا وطاعة ، اتفقنا ويتم الزواج بعـد أن أبنـي

. بيتا نعيش فيه معا نحن وأوالدنا

. ال ، كله إال هذا ! ـ وهل سننجب أوالدا ؟

أنا . لقد تعبت ويبدو أننا لن نتفق أبدا .اسمع .ـ أل

أيها أقصد زواج ، يعني زواج ، أنا في النهاية ال أمرح معك

.الفتي

Page 182: 539

ـ طيب ، طيب ، اهدئي ، ولكن ماذا إذا قمت بأحد

. أفعالك هذه التي تخيفني ؟

ـ سيكون هذا فراق بيننا إلى األبد ، سـيكون هـذا

. بمثابة كلمة الطالق عندكم

ابـة وفي التو واللحظة أخذ عمال البناء ينظفون الخر

وا ، وضـع " أحمد أبـو خطـوة "التي خلفنا بعد أن اشتراها

أساسا لبيت جميل من ستجلسه فيه معززا مكرما وترحمـه

من االنتقال من عمل لعمل دون أن يتقن في حياتـه عمـال

أنهـا يبـدو . واحدا ، وباختصار عاشا مدة طويلة في سالم

نهـا حافظت على عهودها كاملة معه، أو هكذا خيل له ، إذ إ

غرفتهـا نظرا لغيرتها الشديدة عليه ، كانت تتابعه من نافذة

وهو يخرج لشأن ما ، وتلقي علـى عيـون نسـوان الحـي

مسحوقا لعدم الرية فال تراه إحداهن رغم مروره أمامهـا ،

" كما أنها أتمت إنجاب ستة وعشرين طفال دون اللجوء لــ

ودون مساعدة من أحد ، كنا فقط نراها حاملة " الحاجة كفاية

مع أخوته لطفل رضيع ، ال تمر سوى أيام حتى نجده يجري

في ساحة البيت ، نسمع أصواتهم وضحكاتهم وكأنها آتية من

خلف سطح ماء كثيف ، ال يذكر أحد تفاصيل حياتهم ، ربما

Page 183: 539

خزانة جديـدة " أحمد أبو خطوة " مرة واحدة عندما اشترى

خذ األوالد ينظرون في أ,طاة بالمرايا في كل جزء منها ، مغ

حظ وهو يحتضـنهم المرايا باحثين عن صورهم ، وعندما ال

ــ " سليمة " أن المرآة ال تعكس إال صورته صرخ فأجابته

.وكان هذا هو االسم الذي اختاره لها ـ بهدوء

.ـ وماذا كنت تظن ؟ أليسوا أوالدي

وأحضرت مدق الهاون ، وكسرت المرايا عن آخرها

وعاد الهدوء مرة أخرى إلى منزلهم حتى شب من األطفـال

حد منهم مدرسة ، وكانوا ال يخرجون من شب ، ولم يدخل أ

، وحتى آخر عهـدنا بهـا " سليمة " إلى الشارع أبدا وبقيت

فتية وكأنهـا لـم " الذي وافق حلول الظالم على الحي شابة

" أحمد أبو خطـوة " تضع أطفال واحدا ،و حكى لنا فيما بعد

نفسه أنها كانت امرأة ممتعة وجميلـة وحسـنة المعشـر ،

ـ ولكـن : " ه آت مـن تحـت األرض وأضاف بصوت كأن

. المصائب تأتي دائما على أهون األسباب، ففي ليلة شـتائية

كانت تنام كما عادتها على ذراعي ، رفضت أال أترك دفء

الفراش ألي سبب، ويبدو أنها صممت أيضا على ذلك ؟

: قلت لها

Page 184: 539

. ـ انهضي واطفئي هذا النور

: فقاللي

. ـ بل انهض أنت

: من تحت رأسها وقلت سحبت ذراعي

.ـ لن أقوم من هذا الفراش ولو اندكت األرض دكا

: فقال مستسلمة

. ـ طيب نم ، وسأطفئة أنا

وبعد لحظة ، ولظنها أنني نمت ، رأيـت أن يـدها

تستطيل لتبلغ ما يقارب أربعة أمتار هي طول الحجرة مـن

سريرنا وحتى زر النور ، ففزعت وقرفسـت فـي سـوط

وصرت أرتعد وأتابع على ضوء القمـر الشـحيح السرير ،

كيف عاد ذرعها إلى حجمه الطبيعي ، ثـم رأيتهـا تـداري

وجهها الذي صار بشعا بتجاعيده المرعبة وشعرها األبـيض

.. المنفوض حوله ، وصدرها المتهدل الفارغ وكأنها شيطانة

؟.. ولماذا كأنها

وكمن يهجى كلماته في حصة مطالعة وجدتني أكرر

: نوح وأ

ـ ماذا فعلت بنا ؟ ماذا فعلت بنا ؟

Page 185: 539

سحبت المالءة ، لفت جسدها العاري الذي لم يثر في

الغثيان ، بقدر ما أثار في رعبا محدقا وقالت بصوت عجوز

:متهدج

.ـ أال تعرف ؟ لقد خربت بيتي بيدي هذه

ابتلعتها األرض التي خرجت منها على مـا يبـدو ،

البيت وجدتني أسير هذه الليلـة وكان هذا آخر عهدي بها وب

بكاملها والنهار التالي كله ، أتسكع فـي شـوارع القـاهرة

الصاخبة البعيدة ، وأتعرف بالكاد على وجهي الذي أخـذت

ذيـة ، لقـد حتعكسه واجهات محالت الكتب والمالبس واأل

بيض شعري تماما ، وأخذت وقتا طويالحتى هرمت فجأة ، ا

عندما كنـت شـابا قبـل أن أستعيد قدرا من مالمح وجهي

أعرفها ، لم أترك تلك الشوارع الصاحبة المضيئة غال بعـد

أن حفظت مالمح وجهي الجديد ، عدت للبيت نفسـه ألجـد

الحي كله مظلما وإلى يومنا هذا ، وبيتي غارق في الظالم ،

والمياه طفحت فيه من كل فج ، وجدت أطفالي مكومين على

وقتها هذا البيت ، انسحبت إلى بابه ، فأخذتهم ولم أدخل من

العشة الوحيدة الخالية ، التي حصل سكانها السـابقون علـى

هذا الكم شقة في المساكن الشعبية ، وكنت مندهشا من وجود

Page 186: 539

ال يمكن أن ينجبه إال العفاريـت ، من األطفال معي ، فعال

ولكن ترى كيف تركت أطفالها ورحلت ؟ وهل كـان مـن

وضعتهم علـى أين ؟ .. ؟ و .. ها المفترض أن تأخذهم مع

ض كيفما اتفق ، نمت إلى جوارهم وأنا أفكر كيف كـانوا األ

.. سون ويأكلون وينامون ؟ كيف كانت تقوم بهذا كله ؟ آه بيل

أليام كثيرة عشنا معا على إعالـة أهـل ! أليست شيطانة ؟

العشش ، وتعلم األوالد كيف ينطلقون منـذ طلعـة الشـمس

لوا على لقمة ، وظللت أنا أبحـث عـن وحتى مغيبها ليحص

عمل يسد رمق هذا الجيش ، ولم تطل حيرتي ، فلقد بـدأت

تظهر لي من جديد في صور شتى ، إال صـورتها اإلنسـية

التي أحببتها ، كانت تقف على باب العشة ككلب من الكالب

الضالة ، يقف على قدميه الخلفيتين ويهـز ذيلـه الطويـل

: ويقول

طريقة تبرر فيهـا للنـاس اختفـاء ـ يجب أن تجد

. األطفال ، فأنا سآخذهم معي

ا أقول ؟ أخبرتهم أنك مت بالفعل ـ وماذ

. ـ قل إنك سترسلهم إلى أقاربك

. ـ يعرف الناس أنني مقطوع من شجرة

Page 187: 539

ـ قل إنك سترسلهم إلى جدهم ، فهم يعرفون أننـي

ـ الي ثرية وبالتالي أبي ثري ، ومن الطبيعي أن يطالب بأطف

. حتى ال تربيهم أنت مع الكالب

مين حتى أشـبع وـ طيب ، ولكن اتركيهم يوما أو ي

منهم ، اكتشفت أنني سأودع حياتي كلها فامتد اليوم أيامـا ،

وبت أهرب منها ومن جديد تطاردني ، أزيحها قطة من على

صدري في الليل ، فتخرج على هيئة عرسة مـن سـروالي

:وتقول ا صباح

. تستعد بعد ـ ها ، ألم

أحالت حياتي إلى جحيم ، وهـزل األطفـال وعندما

صبحوا يجرون عراة جائعين في الشارع ، وكأن علـى أ,،

لكي ألمهم في العشة مساء كل يـوم ، أن أفحصـهم جيـدا

وأنفض التراب من على وجوههم ، وأرشهم بالماء حتى تعود

ئي إليهم مالمحهم ألتأكد أنني لم أسحب بدال مـن أحـد أبنـا

صار . جروا صغيرا تاركا ابني بدال منه في العراء للكالب

خرجها من جسـمي وأنفـي ليلى كنهاري ، ال أنام مطلقا أل

وأجيب على أسئلتها ، فأغلقت علـى العشـة وأذني وشعري

ورصصت ستة وعشرين طفال وطفلة في طابور وأحصيتهم

Page 188: 539

وجـوههم وجلسـت من مرة وقبلتهم كثيرا ، وتأملت أكثر

أنتظر قدومها ، ولكنها لم تظهر لي مطلقا منذ لحظـة طويال

قررت إعطاء األطفال لها وال على أية صورة من الصور ،

. وهم ظلوا يبتسمون لي حتى غارت بهم األرض في هدوء

: وقال بصوت متعب " أحمد منصور " تنهد

ـ قبل اختفائهم هذا بأيام كنت أنـا قـد كتبـت لـه

أرسلها إلـى مبنـى " د أبو خطوة أحم" أسماءهم ، ويبدو أن

. اإلذاعة والتليفزيون بماسبيرو فيما بعد

اعتاد أن يجلس أياما في العشة بدون طعام أو شراب

أو حتى قضاء حاجة ، وظل الناس يرددون أنهم رأوه هنا أو

هناك بينما هو في العشة ، وأنه كان لديهم بينما هـو يقعـي

أ حدود الحي منه ، وكـرر هادئا على حافة المستنقع التي تبد

المدرسون الذين يعملون في السعودية ، ويأتون في اإلجازات

لـرخص " الجاموس حوض " ليبنوا بيوتا وأبراجا في

فـي " أحمد أبو خطوة " نهم كانوا يرون أسعار األراضي ، إ

الحرم الشريف يطوف معهم ، ويطمئن كل واحد منهم علـى

نه ، وهل مـا زال عليـه القفـل بيته المغلق على أشباحه م

الحديدي الكبير ؟ ، هل ال يقترب أحد منه ؟ ثم يسافرون وهم

Page 189: 539

" أبو خطـوة " يقسمون أنه كل عام ال تفوته حجة ، رغم أنه

. لم يغادر مصر مطلقا

إنه انضـم إلـى الطريقـة : ازدادت خلواته وقالوا

األحمدية ، وكانوا يتساءلون كثيرا كيف يقضي شهورا بدون

طعام أو شراب ، فيحدثهم عن تدريبات شاقة وطويلة تمكـن

روحه في النهاية من التخلص جزئيا من الجسد ، وشيئا فشيئا

تصل إلى التخلص كليا من الجسد وأعبائه ، حتى إنها ترفض

ال بعد أن تشبعها ضـربا الرجوع إليه رفضا باتا وال ترجع إ

، ويختفي من كائنات نورانية ال يستطيع البوح بكنهها فتعود

دون التساؤل عن كيفيـة وجديد فينساه أهل الحي ويظهر فيعا

ظهوره في أكثر من مكان في الوقت نفسه ، حتـى طالـت

.غيبته شهورا هذه المرة

يزيح أغصـان لـبالب كاملـة " أحمد الدالي " أخذ

وينظر تحتها ، باحثا عن زوجته من غرفة لغرفة فيتعثر في

" بلغ أربعة أمتـار أو شـيبة يد سليمة الطويلة التي ت

التي ألقت أضواء بيضاء خافتة ظلت تخايلـه " علي القزعة

هنا وهناك ، وامتألت أحالمه لليـال طويلـة بكـل أنـواع

إليقاظـه " نجوى " أو " مها " الشياطين ، وكان إذا ما هزته

Page 190: 539

ا جذع آدمـي ، ميشيح بيديه ليبعد ساقي عنزة سوداء يعلوه

أن " مهـا " عوبة شديدة حتى عرضت عليه وأصبح ينام بص

: يسافر ولكنه أجابها ساخرا

! ـ وهل بقيت لدي قدرة على التحرك ؟

أن تبذال جهدا خارقا لكـي " ونجوى " اضطرت هي

توفرا له هدوءا ال يخدشه وقوع غطا حلة حتى ال يهب مـن

نومه صارخا ، وكانتا في معظم الليالي تجلسان في بلكـون

. حتى تكونا قريبتين منه غرفة نومه

جيدا وأغلقت عليـه البلكـون " مها " بعد أن غطته

: هامسة "نجوى" سألتها

ـ نام ؟

. ـ نعم ، وأنت اذهبي لتنامي

ـ من أين يأتون بالنوم ، قولي لي ؟

. من أين يأتون به ؟ . ـ فعال

: وأضافت بصوتها المحتضر

" ستطاع تكذيب من ا " ديما األقرع " ـ لم يخلق بعد

قط ، فكل شيء فيه كان يدعو لتصديقه ، " فاديم إيفانوفتشي

لحيته الصفراء المهذبة ، عويناته الذهبية ذات اليـد موديـل

Page 191: 539

، حركة يديه وهو يحكي والتي تشبه إلى حـد كبيـر ١٩١٥

يدي مايسترو بارع ، قامته المتوسطة الطول المرتبطة بشكل

قل أن يتخيل المرء كاهنا الكهنة على مر العصور ـ فهل يع

فارع القامة عريض المنكبين ؟ القبعة الخريفية التـي كـان

تحـت ٤٠يرتديها صيفا وشتاء ولو كانت درجة الحـرارة

الصفر ، كل شيء فيه ، هدوؤه العظيم وهـو يلقـي علينـا

أساطير وأهواال تختصر تاريخ روسيا بهزة صـغيرة مـن

.رأسه وإيماءة بعينيه

قد تصدر كعادته " فاديم أيفانوفتشي " في يوم ما كان

المائدة ورفع كأس فودكا ممتلئة وانتظر بوقار حتى صـمت

فاديم " الجميع ، فدعاهم إلى شرب نخب وهكذا تبدأ حكايات

: قال . كلها " إيفانوفتشي

كنت أمر واثنان من الرفاق معي أثنـاء الحـرب ..

يسـده حـائط العالمية الثانية ، وحاصرنا األعداء في شارع

ممتد أملس وليس لنا من مخرج ، فالحائط أمامنا ، والعـدو

خلفنا ونحن هالكون ال محالة ، إال أنني على سبيل المـزاح

: قلت

Page 192: 539

نهد الحائط ، وعندما نظـر الرفيقـان بدهشـة لـ ف

: صرخت

خيانة زوجتي دـ فليسقط من هذا الجدار حجارة بعد

.لي

منه حجر واحـد ، فتزلزل الحائط واهتز بقوة وسقط

: وصرخ رفيقي األول مقلدا إياي

ـ فليسقط من هذا الجدار حجارة بعدد خيانة زوجتي

لي ، فتزلزل الحائط واهتز بقوة وسقطت منه بضعة أحجار ،

: عند هذا صرخ رفيقي الثاني

ـ فليسقط من هذا الجدار حجارة بعدد خيانة زوجتي

. لي

، وازداد اقتـراب فارتج الجدار وكأن البركان تحته

العدو منا ، أكثر ، وهنا انهارت جميع األحجار وسط زوبعة

من األتربة اختفينا فيها وعبرنا بسرعة عبر الجدار المهـدم

. وارتبك العدو فنجونا

بهدوء ورفع كأسه عاليا " فاديم ايفانوفتشي " وابتسم

: وقال

Page 193: 539

ـ أصدقائي ، دعونا نشرب نخب النسـاء اللـواتي

.الهن وقت الشدة ينقذن رج

قهقه الحاضرون معجبين بالنخب ومصـدقين مائـة

الشـاب " ديمـا " بالمائة أن هذا هو ما حدث بالضـبط إال

: األقرع فلقد انتفض كمن صدمه كأس الفودكا وقال

قد سـمعت هـذا " فاديم إيفانوفتشي " ـ ولكنني يا

روسيا وبخـار الهو نخب قديم يقال في أوكرانيا وب النخب و

مرقند والدفيا ، والنخب ، يحكي عن ثالثة رجال نكـرة وس

! فكيف كنت واحدا منهم ؟

: وبهدوئه نفسه قال " فانوفتشي فاديم إي" فوقف

تعرف أنـه يوجـد مـا أال.. ـ يا للشاب المسكين

يسمى قطار وطائرة ؟ وأنني عندما أسافر فـي هـذا أو ذاك

وأنهـم !أشرب الفودكا وأجلس مع أناس أذكيـاء مثلـك ؟

يتناقلون نوادري كما تناقلوا في الماضي أسفار التوراة ؟ وأن

المسـافات ؟ فالعامـل فـي االتحاد السوفيتي قد قصر علي

" من " الطبيبة "و "موسكو" له مهندس من " ند قسمر

، ولكن أني لـك أن " ننجراد يل" لها ممرضة من " أذربيجان

" بين من نقط التفتيش الدولية تفهم يا فتاي وأنت تعاني اآلن

Page 194: 539

يا فتـي أن أكـون أتستبعد علي " !! بال روسيا " و " روسيا

واحدا من هؤالء الثالثة ؟ أال تستحي وأنت تكذبني ؟ وقـال

بعظمة ملك مجروح ، كان فارسا شجاعا "وأنت تكذبني "جملة

ديمـا " ودافع عن شعب بأكمله فواله الشعب عليه ، ارتبـك

حى فعال حتى الحظنا أن األرض تميـد مـن واست" األقرع

عيـاد مطلقـا ألتحت قدميه وتبتلعه فال يظهر في احتفاالتنا با

، يرفع كأسه " فاديم إيفانوفتشي " التي ظل يتصدرها كالعادة

: ، فنرفع كؤوسنا ، ويدعو كل مرة لنخب وراءه حكاية قال

ـ وأنا يا أصدقائي في فترة من الزمان ، كنت شابا

، فارع القامة ، قوي العضالت ، عندما ضاقت بـي وسيما

سي ، وأعيـاني ت كل السقوف من فوق رأ سبل الحياة وطار

البحث عن عمل ، فيما قبل الثورة قررت أن أختبئ في دير

على حدود ، موسكو حتى تنفرج األزمة ، ولكي أجـد مـا

أتقوت به ، وخرقات أحتمي بها ، مرت حياتي فـي الـدير

عباءة جميلة واسعة وقبعة لم ألقها من على هادئة ، سلموني

رأسي أبدا ، وأهم من هذا وذاك أنني كنت أحصل على ثالث

وجبات يوميا وكنت راضيا مرضيا متمنيا أن يسـتمر هـذا

الدهر كله ، فماذا خارج الدير سوى النساء ، والنسـاء هـن

Page 195: 539

األجمل نعم ، ولكنهن مكلفات جدا ، وال أنال منهن إال وجع

بالحرمان منهن أنا الفارغ اليدين والجبين والمفقـود خصيتي

الهوية ، تعودت تدريجيا البعد عن المعاصي ، فمن ذاق مثلنا

الجوع فيما قبل المساواة ، يستطيع أن يتذكر يوما واحدا من

كثيـرا ، واجتـزت جميـع أيامه ليستقيم في دير ، تعبـدت

من أيام اختبارات الروح على الجلد ، وفي يوم مشمس جميل

الصيف صرت قسيسا صغيرا ، ودعيت لمساعدة األب فـي

الصالة على ميت ، قمنا بتالوة الصالة وإقامـة الطقـوس ،

وسرحني األب ألعود إلى الدير وحدي ألنه سيتأخر قليال في

تلك القرية ، بالكاد أمسكت نفسي عن الصراخ فرحا ، فأنـا

حـبس لبما أفعى ، تمطيت كك كاآلن حر ، قفزت ، التويت

فخلعتها وخلعـت القبعـة ينطويال ، شعرت أن العباءة تعوق

أيضا وما إن عدوت أمتارا قليلة حتى وجدتني وجها لوجـه

: أمام بحيرة مهجورة من البشر ، آية في الروعة ، صرخت

أجمل بقعة في العالم أطراف موسكو ، واروع صيف صيفها

ا معا ، شجعتني الشمس فخلعت ما تبقى من مالبسي وضعته

على الشاطئ تحت حجر ، ونزلت ألستحم عاريـا تمامـا ،

ساعة مرت أو ساعتان ال أدري ، ولكنني خرجت من الماء

Page 196: 539

ر اهللا طوال الوقت ألنني فوالشمس حمراء قانية ، وكنت أستغ

وأنا أسبح لعنت الدير سرا ولعنت لقمة العيش التي أدخلتنـي

بسـي ، مال.. الدير ، ونظرت إلى الحجر ساهما وصـارخا

أين المالبس ، عار أنا تماما ولم يتركوا لي إال القبعة التـي

وضعتها على عورتي ، أسترها ، وأبحث في كل مكان على

الشاطئ ، ظللت أعوي طوال الوقت كما تعلمت فـي الـدير

لماذا هكذا تركتني ؟ ال تعاقبني على ما قلـت . إلهي . إلهي

لي كوكبة مـن بهذه القسوة ، وركعت يأسا ، وفجأة ظهرت

الفتيات الالئي يأخذن باأللباب ، على ما يبدو كن من بنـات

العائالت اإلقطاعية فيما قبل الثورة ، يمـرحن ويضـحكن ،

ويعبثن بمالبسي بأظافرهن ، ظللت راكعا ، عيناي منكسرتان

على ركبتي العاريتين ، أنا الذي لـم ألمـس امـرأة بعـد ،

ت ، ولولـت ، تـذكرت استجديت منهن مالبسي كثيرا ، بكي

. الشارع والجوع وثلج موسكو القاتل وألم عظامي المزمن

إحداهن صرخت في :

. ـ قف

عا القبعة بكلتـا يـدي علـى عـورتي فوقفت واض

. ومحافظا على أن يكون ظهري للبحر

Page 197: 539

مرة أخرى قائلة عادت الفتاة تصرخ في :

ـ إذا نفذت جميع أوامري بالحرف الواحد سنرد لك

.مالبسك

: قلت ومخاطي يسيل كجرو

. ـ نعم ، نعم سأنفذ بالطبع

. ارفع يدك اليمنى وأرني ما بها : قالت

ـ دي اليسـرى فرفعت يدي اليمنى وأمسكت القبعة بي

وكأنني قابض على روحي،

: فإذا بفتاة أخرى تعبث بي ضاحكة

. ـ ارفع يدك اليسرى وأرني ما بها

نني قـابض علـى نى ، وكأفأمسكت القبعة بيدي اليم

روحي ، ورفعت اليسرى،

عند ذلك عادت الفتاة الجميلة القاسية إلى الصـراخ

: قائلة

ني يدك اليمنى ويدك اليسـرى ـ واآلن يا هذا ، أر

. "هيا.."معا

.اطأت ، وقع قلبي في بطني العاري تب

: فصرخت في قائلة

Page 198: 539

. رجل .. هه .. هيا يا . هيا . ـ هيا

قبعة مكانها وكـأنني تا يدي ببطء وتركت ال رفعت كل

عليها بروحي ، وظللت هكذا مصلوبا دقائق ال أعرف قابض

لها عددا ، صمتت الفتيات ، وارتبكن وهن خجالت وفاتنات

قاسية مالبسي لتقع أمامي بخطـوات ، ، قذفت لي الجميلة ال

وأنا أبحلق فيها كأنها كنز من المجوهرات النادرة ، ولكننـي

أحملق فيهن هكذا خائفا أن آتي بحركة واحـدة تنهـي بقيت

حتى انصرفن على خيولهن وفي لمح البصر . أمامهن أمري

. هويت على مالبسي أرتديها وأنا ال أصدق أنني نجوت

تقطعت أنفاسنا والتقطناها مع نجاته ، بينما أومأ هـو

وبهدوء أكثر ، وبصوت يفيض حنانا وإخالصا وصدقا رفـع

:كأسه وقال

ـ هييه ، يا رفاق ، يا أصدقائي األعزاء هيـا بنـا

نرفع كؤوسنا ، ونشرب نخب هذه القوة التي أبقت القبعة في

مرفوعتينمكانها ، ويدي .

بددا خوفه وحزنها بألعاب أخرى لم يألفها جسـداهما

من قبل ، دلف إلى لحاء شجرة الرنج وتاه هنـاك كثيـرا ،

هيدة طويلة تدلـه علـى سابحا في عصيرها حتى مدت له تن

Page 199: 539

ى سرها وبالكاد يقدر بلـواه ، يديها عل لريق الخروج ، يغ ط

ى لفتح شغاف دهشتها متصيدا نظرات عينيهـا الـوجل يعود

ريق ماء أقراطهـا علـى وولع شعرها لحرائق بال دخان ، ي

قميصها ، ويعيد ترتيب جحيمها ، يزداد عداء كل منهما إلى

. ما مرتويين اآلخر بعد رجوعهما من ملكوته

: همس وهو يجذبها من شعرها ليؤلمها

ـ يا لي من درويش يحط على جسد متـأنق لمـاذا

أعدتني ؟

استندت بمرفقها على صدره حتـى كـادت تثقبـه

: وهمست

ـ عندما يتسنى لي ، وأصير أخف من الدم وأسرع

من النور سأجوب كل شرايينك تلك وأوردتك وألعب كثيـرا

محجر عينيك ، ستصير لـي قـدرة علـى فيها ، سأنام في

القبض على سرك ألرى ما الذي يجعلـك رائعـا هكـذا ؟

لماذا أعدتني ؟ . سيمكنني اهللا من ذلك ولسوف ترى

بحدود أجسادهم وهي تنتقـل " نجوى " بالكاد تمسك

من غرفة إلى أخرى ، تنظف البيت وتضحك وحدها بصوت

. عال

Page 200: 539

: ال لمها صوته جرا قائ" أحمد الدالي " جر

تضحك وحدها "نجوى" ماذا ؟ ألن نأكل ؟ ما بال -

. طوال الوقت

الذي ال يكـذب " فاديم إيفانوفتيشي " ـ حدثتها عن

. أبدا

: ونظرت إلى أختها بحنان

ـ شعرها ال يكف عن السقوط ، وال أستطيع نـزع

منديل رأسها ، ألن تذهب لتجد لنا ما يمنع سـقوط شـعرها

. هذا

مواعيد " أحمد " لاليام التي وقعنا بين رحاها يا يا"

ومواعيد تعيش فيها ، كالنا خل لأللم ، واأللم هذا الفخـارة

التي في أناة ال تنكسر وال تنثني أقول له قد تعبت فيحفر على

" . نجـوى " قشرتي جروحا أخرى يصب فيها رائحته ، يا

واال أكـون ن واحد ، تفاقنا أن يكون الذئب والشاه في آ كان ا

ال نظري إليه كيف ينام مثل طفـل وأنـا من القرنفل ، ا حدا

هل هذا غسق أم إكليل موتى ؟ انظـري وكأنـه لـم . أنام

يضاجع نصف نساء األرض ، وكأنه لم ينجب أطفاال في كل

وكأنه لـم يظـل بطـال " نجوى " عاصمة ، انظري إليه يا

Page 201: 539

ـ الم ، ألغنية وحيدة أرددها ، أغنية واضحة كمـا ملـك ظ

فقـد " نجوى " وغامضة كما حلم ، لم أعد أستطيع البكاء يا

ضاقت حواصلي بما يحرق مدائن ، لم أعد أستطيع البكاء يا

فلقد تعلمت أن الغيم يسقط بعد حين ولكنه فـوقي " نجوى "

مشيئتي ، باق من ظلي " نجوى " أسير ، باق على النهاية يا

" . وتر وحيد

لقـد راحـت مـرة " نجوى " ماذا أفعل ألختك يا "

ال وفتحته كائها ، وأنا لم يوجد طريق فيها إ أخرى في نوبات ب

، لم يوجد بحر فيها إال ومألته سباحة وغرقا ، لم أترك سماء

وأنا لـم " نجوى " ا أفعل لها يا لديها إال وصدحت فيها ، ماذ

نحرف عن شروقها لحظة ، فتلقى بي كل لحظة إلى غروبي أ

وهي تلفظني " نجوى " ظلما على الترحال يا ، تدعى أن بي

من فمها كقصيدة رديئة ، تبكي رحيلي وأنا بين يديها ، تغلق

على مسالكها جمعاء إلى أن تموت بين يدي أغنية من برتقال

ي أن أجهز عليها بقبلة طويلة لكي تحمـر األرض ن، ال تريد

" . بزورق ربما فيه خالصنا

أو عليهـا ، تختفـي أن ترد عليه " نجوى " ترفض

منزوية في ركن من أركان البلكـون كدجاجـة مريضـة ،

Page 202: 539

ويظالن طويال أثناء محاوراتهما التي لم تفهـم منهـا شـيئا

يبحثان عنها ، يرجحان معا أنها عادت من جديد لنوبة مـن

نوبات اكتئابها وأنها تفتش في ذكرياتها عن جديد ، فجرا معا

جديدة شربا ماءها كلـه، أنهارا ،، حتى يسمحا لها بالظهور

ة ، كان يحملها ووقفا مأخوذين أمام فراديس يريانها ألول مر

نهما جنينان ملتصقان ، وكما لو كـان من حجرة لحجرة وكأ

هذا يحدث بينهما ألول مرة استغربا كثيرا صعوبة انفصـال

. جلدهما بعضه عن بعض

وجدتها في البلكون الذي لم يفكرا في فتحـه أبـدا ،

هنا ، وكأنه يقول لها بعينيه وهو يحزم " نجوى " ـ فصاحت

: أشياءه في حقيبة صغيرة ال تليق بمسافر

ـ لماذا لم نكن رجال وامرأة عاديين ، يقتل الرجـل

امرأته برفق ، بينما ترعى هي في عينيه ذئابا فاتنة ، وترسم

على شفتيه مالمح غابات محترقة ، تفتدي قلبها بنصله الدامي

ا يطير جميع عصافيرها من صدرها تحتضن بعينيها ، وعندم

: فضاء حجرة وردية وتقول

. لقد قتلت .. ـ يا اهللا

: وكأنها تقول له بعينيها وهي تتثائب

Page 203: 539

فها أنا أقـدر وحـدي أن . ـ لكم أنت عديم المنفعة

أحبك لألبد رغما عنك ، وكأنني ال يهمني وجودك مطلقـا ،

لمدى بدونك أنقـى ، بـدونك وال عادت تشغلني يداك ، إن ا

أستطيع أن أفعل بك ما شئت ، أنطق شفتيك بما أريد سماعه

، أجعل عينيك تريان كما أحم أن ترياني ، فأفتح لهما جنات

. لن تستطيع مفاتيحك فتحها ، ولن تستطيع قدماك دهسها أبدا

بالديمومة الظالم ، كأن هذا كله لم يكـن ، يبتلـع "

منه ، فإذا ما التفت خلفي بعد خطوات الظالم كل جزء أخرج

، يا للظالم " مها السويفي " ، سيختفي هذا الحي بكامله وفيه

ة الكباشل لهذا الفحل الذي يترك على مدى الشوف صلص يا،

لفضـاح للعشـق والصـبر التي أخذت تؤم العابرين ، هذا ا

ألن تنفذ تلك األالعيب التي في . والحكايات الغريبة ، يا رب

؟ " ته جعب

بحت أصواتهم في الخارج حتـى خمـدت تمامـا ،

وهشهم الشتاء إلى عششهم التـي ابتلـت تمامـا وامـتألت

وانثال المطر على . أحالمهم بسالل مليئة بفاكهة بعيدة المنال

الذي ظل وحده في العراء محتضنا إفريـز " أحمد منصور "

فـي بلكون ، ومجابها بيتها المغلق على أسراره ، أخذ يحفر

Page 204: 539

" الظالم مالمحها ، وعندما تمثلت أمامـه عكرتهـا هيئـة

. وهي تستعطفه بصوت لحوح " انشراح السبتاتي

" .انشراح " لى عشتك يا ـ عودي إ

تقول لـي هـو فـين " سكينة العمياء " ـ وشرف

وبيعمل ليه ؟

أنـا ال أريـد . ـ إذا عدت سأخبرك في الصـباح

. شبهة

فن فـي لحد ما أد " أحمد " ها أفضل واقفة يا ـ أنا

. الوحل وتشيل ذنبي في رقبتك

ابنك في مصـر ، " احمد " . " انشراح " ـ طيب يا

، " حـوض الجـاموس "ري وماذا يفعل؟ لديه اآلن نقود تشت

. ه وجاموسه وناسه بمنازله وعشش

. ـ مخدرات

أنت تعرفين إذن ؟ . ـ نعم

ـ ي فـي ـ واهللا خمنت بس ، ابن العاهرة ، وإيه الل

. مخه ، هايرجع

.الصباح رباح " . انشراح " ـ نامي يا

Page 205: 539

ـ طيب يا أخي يعني حاتصـلي التـراويح ، أكيـد

هاتفكر أنت كمان في أي شيء حرام تعمله ، يا رب ، هـم

. حرام كده دليه كلهم وال

ـ كلما أقسمت أال أكلمك أرجع عن قسـمي ، واآلن

هل ستذهبين في ألف داهية أم ال ؟

ع صوته واختفت من أمامه ، وظل مـن جديـد ارتف

، وفجأة أحجم عن رصـدها ، " مها السويفي " يرصد وجه

وغارقا في عرقه البارد وماء المطر أخـذ يطردهـا كلمـا

خلصيني منها لو استطعت فقـد يا أم: هجمت عليه ويصرخ

باءت كل محاوالتي بالفشل ، إنها تسربلني بمصير أبـيض ،

جد ، تخليني على سن سيف مصـقول خيمة و تسدل علي .

يا أم خلصيني منها ، أو تأهبي مـن ألج وحدة مميتة يا أم ،

اآلن لنيراني فلن يطفـئ نارهـا إال أوار ملتهـب ، يـا أم

. ساعديني

تساعدها في الدخول على مواقيـت " نجوى " أخذت

هروب الدم منها مرة أخرى ، وعندما سمعا معـا صـوت

لرياح بالخارج ، كانتا متأكدتين أنه ليس سيارة تقطع وجيب ا

" نجوى " امتأل البيت بمجرد أن فتحت بابه " . أحمد الدالي "

Page 206: 539

لحلـوى ، برائحة وكأنها تسربت من مصنع صغير لصناعة ا

في بادئ األمر أنهـا " نجوى " نت امرأة في عقدها الثالث ظ

لم تهبط من سيارة وإنما من كبسولة تجوب الفضاء ، كـالتي

لها عنها أختها ، فشعرها مرسوم رسما على أذنيهـا ، حكت

ا من البالستيك ، وعيناها المنحرفتان إلى أعلى قليال ، وكأنهم

فراء لـم أنها وضعته توا ، حتى معطفها ال وأحمر شفتيها وك

أنن تتأكد مـن ابـتالل " نجوى" يكن مبتال ، وعندما أرادت

ا بعينيها لتحتوي حذائها العالي ، كانت الزائرة قد أنهت جولته

: ثم دمدمت له ،الطابق السفلي ك

؟ " مها السويفي " عال ، هل أنت . ـ واهللا

فتح لك الباب فتدخلين ، وتغلقين أ! ـ هل تسألينني ؟

يا ست ؟ من أنت .. الباب خلفك ثم

" . مها السويفي " ـ أريد أن أرى

تنزل السلم بصعوبة ، تشعر أنها مـع كـل خطـوة

قع أسفل ظهرها علىاألرض ، يعتليها شحوب يجعل سوف ي

تنسى أمر المرأة وتهرع إليها ، في منتصف السلم " نجوى "

منعتها من مواصلة الهبوط ، وأمرتها أن تلـزم سـريرها ،

Page 207: 539

: ا أن تحــدث المــرأة بصــوت عــالهــولكنهــا لــم تمنع

. تفضلي هنا معي " مها السويفي " ـ، أنا

ن جلست علـى كرسـي صعدت خلفهما المرأة وما إ

: بجوار السرير حتى قالت

ا، خير " أحمد الدالي " أرسلني .. ـ جئت لزيارتك

، هل أنت مريضة ؟

ليس بالضبط ، األطفال علـى مـا يبـدو ال . ـ ال

. يطيقون البقاء في بطني أكثر من شهرين أو ثالثة

: متشككة " مها " وأضافت

يرسـل لـي ال" أحمد ! " غريبة ! ؟ .. هل قلت -

. أحدا مطلقا

كيف لم أفهم هذا منـذ . لكم أنت جميلة . ـ كذاب

. البداية

وهـي تحـاول أن يسـتقيم صـوتها " مها " قالت

: المذبوح

لسـنا فـي " . نجوى " ـ أطفئي بعض الشموع يا

حاجة إلى أنوار عرس أم أنك تخططـين أن نعـيش أيامنـا

Page 208: 539

" أحمـد الـدالي "أنـت زوجـة ! القادمة في ظالم ؟ يا هللا

. الجديدة

تخافين زوجته الجديدة ، وأنت هل " منى " ـ نعم أنا

نجلس في الظالم ؟ الحسد ، لماذا تريدين أن

س متبرمة وهي تقـف علـى رأ " نجوى " ت صاح

:المرأة

ـ اتركيها في حالها ، لو سمحت ، أال تـرين أنهـا

. تتكلم بصعوبة ؟ هذا واهللا ما كان ينقصنا

. ، ثم ألن نشرب شايا " نجوى " يا ـ عيب

: ثم بلعت ريقها الجاف وقالت

هانم ، أنا ال أعرف ماذا تعرفين " منى " ـ شوفي يا

صحيح ، وكما " أحمد الدالي " عني ، ولكن كل ما قاله

ترين أنا غارقة في هذا الظالم وبعيدة تماما وال أمثل لك أي

. عائق

دموعها وقالت " مها " لكي ال ترى " منى " نهضت

" بصوت أجش مرتجف ، وهي تحاول أن تتأمل بورتريهات

. المستندة على الحائط " مها

Page 209: 539

ـ وهل النذل ، هو الذي رسمك مشوهة هكذا ؟ يـا

ل في عينيها ، لهـا وح. ن يصفك لي بالضبط كما كا ! إلهي

عين مفقوءة ، أنفها معقوف ألسفل بقوة شيطان ، فم معـوج

ية اليمنى ، شفتان محروقتان يعلوهما ذقن كبيـر ال من الناح

يا إلهي كيف لم أستطع كشف كذبه ، إن ..يصلح حتى لرجل

. هذه الصفات ال يمكن أن تجتمع في بورتريه واحد

ال يرسم ، أنا التي كنت أحـاول رسـم " أحمد " ـ

. بورتريه لنفسي ، وكما ترين فشلت

كثيرات قبلي ، نه تزوج ال ـ عندما تزوجني قال لي إ

وطلقهن جميعهن حتى أمهات أطفاله ، ما عدا واحدة ، قـال

إنها قريبته ، وأنه لن يستطيع تسريحها أبدا ، فهي كسـيحة

، وهو ال يراها إال من آن آلخـر ، فقـط د مؤلم حوقبيحة ل

وأنا الغبية لـم ئن أنها تأكل وتشرب ولم تمت بعد ، لكي يطم

" هذا الشاب من طرفك بـ أشك أبدا في كالمه ، حتى اتصل

وكنت أزوره ، ولما فهمت أنك مقبـوض " عبد القادر باشا

عليك ، وجدت نفسي أقول ببساطة ، وربما ال تكون كسيحة

. ، وال قبيحة كما يصفها

Page 210: 539

األخيـر ، وبنشـيج " منى " كالم " نجوى " سمعت

مكتوم قدمت أكواب الشاي وجلست علـى حافـة السـرير

:حضنها قائلة بصوت مرح مها في " فأخذتها

فأنـا " أحمد الدالي " هانم ما كذب " منى " ـ واهللا يا

كسيحة بالفعل ، ال أخرج مطلقا من هذا البيت ، وربما كنت

نا بالطعام دقبيحة في عينيه ، وهو فعال يأتي من آن آلخر ليم

. والشموع التي نسى أن يحدثك عنها

كيف ؟ .. كيف تحتملينه : ـ

معنى قوله كسيحة ، فأنا ال أحتمله أبدا ، ـ هذا هو

ال أقدر على احتمال وجوده في حياتي ، وهنـا هـو قبحـي

أنا فقط ، وهذا هـو المهـم ، ال أمثـل أي عـائق . أيضا

. الستمرار زواجكما

نصف مبتسمة ، وظلت تتفرس فـي " منى " نهضت

لونها مثـل التي كانت قد شحبت تماما وأصبح " مها " وجه

زداد شعرها كثافة ، ات التي تحيط بوجوه القديسين ، و الهاال

أن تفزع من حضن أختهـا ، وتطفـئ " نجوى " واضطرت

آخر شمعة كانت على منضدة بعيـدة ، واكتمـل الظـالم ،

مضطرة من جديد ، ولفترة طويلة لم يجدوا " منى " فجلست

Page 211: 539

"مهـا " كالما ، حتى تسلل نور القمر إلى الغرفة ، أخذت

بشدة حتى يهدأ نشيجها وغليانهـا ، ولـم " نجوى " تحتضن

مهـا " لم تفكر . حتى نفس واحد " منى" ـ ل يسمع

بحاجـة للنـوم اآلن " نجـوى " إال في شيء واحد ، هو أن

. وأخذت تدعو أن تنام هكذا بين ذراعيها

: مرة أخرى وهي تقول " منى " نهضت

. ف ـ طيب يا جماعة ، أنا مضطرة أن أنصر

ـ إلى أين ؟ إن الكالب تزداد شراسة لـيال ، مـن

فضلك ابقى معنا حتى الصباح وسأرسل معك من يخرجـك

من هنا ، أنا حتى لم أسألك كيف وصلت ؟

ـ بالسيارة ، سأغلق النوافـذ جيـدا وأنـا أعـرف

. الطريق

ـ أرجوك ، ال تجعليني أشعر بذنب آخر ، ال تنامي

. س ثالثتنا حتى الصباح ، نحن أيضا ال ننام ، سنجل

مرة أخرى ، وأفكارها تتحرك فـي " منى " جلست

التي راحت تقلـب انطبـاع ورد " نجوى " نفس اتجاه أفكار

فعل هذه المرأة عندما ترى أختها صباحا وهي تنثـر أشـعة

" منـى " شمس أخرى من جميع خاليا جسـدها ، وأخـذت

Page 212: 539

يرة ، التي تتخيل كيف سيعكس النهار جمال هذه المرأة الصغ

ظنت وهي تكاد تقع في منتصف سلم بيت زوجها أنها تمثال

اشترك في نحته العديد من النحاتين ، نحـاتين مـن الجـن

: أفكارهما قالت مازحة " مها " والمالئكة ولكي تقطع عليهما

. ـ اسمعا ، هل تحبان أن أقول لكما نكتة

: أجابتا دون ترحاب كبير

. ـ قولي

" جسد الظالم وكما لـم تـتمن "مها" داعب صوت

.أسدلت خيمة من السحر على المرأة " نجوى

ـ تعرفان أنه كان هناك سور برلين ، يفصل بـين

كـان هنـاك . ألمانيا الشرقية الشيوعية ، وألمانيا الغربيـة

طفالن يلعبان على سور برلين ، قال الطفـل مـن ألمانيـا

: الغربية

.ـ نحن لدينا موز وأنتم ال

: قال الطفل من ألمانيا الشرقية

. ـ ونحن لدينا شيوعية وأنتم ال

: قال الطفل من ألمانيا الغربية

. ـ ليس مهما ، غدا ستأتي لنا الشيوعية

Page 213: 539

قال الطفل من ألمانيا الشرقية ـ إذن ، لـن يكـون

. لديكم غدا موز

مرت الليلة ثقيلة ولم تبتسم إحداهن طوالهـا ، ولـم

فن ، ظللن يحاولن على نباح الكالب العـالي يغمض لهن ج

لى مـا ال تنطلق وتسبح دون أعنة إ لجم عوالمهن التي كانت

نهاية ، وعندما قطع صياح الديكة رتابة هذا النباح ، نهضت

ـ " نجوى " مرار توأسدلت الستائر الثقيلة حتـى تضـمن اس

: الظالم في الغرفة ، وبصوت حانق قالت

.واريخ من هذه النوافذ ـ الرياح تدخل كما الص

. وهي تزيح جزءا من ليلة ثقيلة " مها " وهمست

فيمـا كيف كانت هذه النكتة تضـحكني ! ـ يا اهللا

:ثم أحاطت خصرها كله بيدها متألمة وصاحت ! . مضى

. هذا ال يجوز ـ ال ،

وهي تقف بعينيها المنحـرفتين قلـيال " منى " قالت

: ل صامت ألعلى وأنف منتفخ من بكاء طوي

. ـ صدقيني ، عادة ، أنا ال أفطر

واستدارت بعدما فتحت بـاب غرفـة النـوم مـرة

: أخرى

Page 214: 539

ـ ولكن هل تحبينه إلى هذا الحد ؟ أنا أعـرف اآلن

؟ .. أنه يحبك ، ولكن أنت

:ثم أشاحت سريعا بيدها صارخة

. أنا ال أريد أن أعرف شيئا . ـ ال

كـل شـيء ليـزداد متدفقا كان ينثال منها ، ويلوث

شحوبها ، حتى كادت أن تصير مجرد خيط نور ، كانـت ال

تستقر في مكان ، جابت كل األركان التي كان يزحف عليها

عن افتقادها ألزهاره التي ال يشـم " نجوى " اللبالب وحدثت

رائحتها أحد سواها ، كانت تحط على كـل جـدار قلـيال ،

ي شراشـف وتترك شيئا من ظلها عليه ثم تنسـحب لتـرو

سريرها ، وتواصل الكتابة وهي نائمة على بطنهـا أحيانـا

وعلىظهرها أحيانا أخرى ، ولم تشر من قريـب أو بعيـد

حتى وهي ترى دموع أختهـا " أحمد الدالي " لزيارة زوجة

الممتزجة بغضب ، سألت كثيرا عن كيف يقاوم الناس المطر

" ف شهرزاد كورساكو " في العشش ، وتمنت لو تستمع إلى

ثم تموت ، كانت تلتحف ببطانية غليظة وتقف في البلكـون

" و . لحظات ثم ال تقوي على المزيد فتسارع إلى السـرير

Page 215: 539

التي لم تستطع تحمل هسيس دماء أختها صـرخت " نجوى

: بكل ما لديها من قوة

، إنه لعنة ، دعينـا " مها " ـ إنه الشيطان بعينه يا

. ة ، أرض اهللا واسعة نتخلص منه ، نهرب ، هكذا ببساط

ثم قطعت ساعات طويلة وهي تتفرج علـى نفسـها

، " أحمد الدالي " و " مها " سائرة في هذه الغرف بعد موت

ماذا يا ترى سينقصها لتستحضرهم وقتها ، هل سيسـحبون

معهم عندما يختفون كل ما قد يساعدها على رؤيتهم ، كانت

عرق والحبر علـى الملوث بال " مها " متعمدة ترك آثار كف

بعض الحوائط ، وعندما الحظت أن أكثر من شعرة بطولها

التصقت بخشب الموبيليا أخذت بحرص شديد تنظـف هـذه

المواضع حتى تجد الشعرات طريقها وتلـتحم بـين طيـات

ظاتها القادمة عـن حللخشب مع الزمن ، وفتشت كثيرا في ا

من حب مكان تضع فيه دمها المسلوب منها وفرحتها بنجاتها

الرجال ، عطر الجو نهارا رائحة طين رائب نفاذ ، غطـى

على تميز رائحة كل فرد من أفراد الحي ، وحمدوا اهللا يـوم

الشتاء قصير حتى يستطيعوا صـوم رمضـان ، وأنـارت

" فوانيس األطفال حتى البالوعات المهجورة والتي كان يحلو

Page 216: 539

ير رمضان االختباء فيها ، وغنوا مقدمات فواز " لعلي القزعة

وابتلت مؤخراتهم بلون الطين األسود ، الذي كانت " لنيللي "

ى يجف ثم تفركه ، وانتشـرت أمهاتهم تضطر أن تنتظر حت

ة ألطعمة يعلم اهللا كيف مع كل أذان مغرب رائحة شهية حريف

كـان مـا مائدة أمام البيت قل " مها " ومدت كانوا يوفرونها ،

كانت تتسـاءل ،ما غرباء وإن أهل العشش يأكلون منها شيئا

دائما كيف انقطع بهم الطريق هنا ، وحنت إلـى أن تصـوم

أنهـا ستشـفى " انشـراح " معهم ولو يوما واحدا وطمأنتها

ق من رمضان أيامـا ولـيس يومـا حلوسينقطع نزيفها وست

تغمض عينيها وتقبض على روحها قبـل أن تنسـل . واحدا

من الوجد ية تعان منها خلف يديه ، ما الذي يعادل أرق امرأ

؟ أصابعه التي علمت جسدي العزف ، ترعى " انشراح " يا

" اآلن بسالم في أجساد أخرى ، يريد أن يعرف حقيقتي يـا

لى هذا أوعـر ، يريد أن يقف على سري ، سبيله إ "انشراح

من سبيلي ، كيف يتسنى للبشر أجمعين أال يقفوا مثلنا طويال

أمام هذه المعجزة ؟

للعربي الجميل الذي يتكون من لفائف الدخان يا

تناثر في الجو ، إنه يخب بهدوء في فجـر يتـيم ، يقـف مال

Page 217: 539

مبتسما ومهيأ للكالم ، أتشجع في هذه المرة وأنطق بحروف

: متعثرة قائلة له

ـ إن الخلق تعبوا ، ليس هناك مخرج لهم وال لي ،

. الضوء والدفء الظالم يعم ، والسماء ليال شحيحة

تنير ابتسامته أكثر وينظر إلى طريقه الذي يشقه في

الفضاء ويمضي ، ها هو يسلمني اآلن الطريق ، شرخا فـي

السماء ، وعريا في األرض ، وأجراسا تدق في فمي وتحلق

في الهواء بكل أنواع العتاب ، ها هو يسلمني اآلن الثمر ، أنا

وال حارسة جذع هذا األلم ولكن ال الفجر مال عـن السـواد

نجم أعتذر ، لماذا يشير ويشير لي دائما وال يحـدثني أبـدا

.. سأكتب ،حسنا

" ال فابني لـم يحـب إ " مها " قي هذا يا ـ ال تصد

كان يضع يده على جنبه األيسر كله إذا ما مـرت " ماريان

بعينيها المعبأتين ببنفسج يشبه هذا الذي تطرحه لبالبتك وأراه

بقدميه من على األرض قليال ، وهي هاتين وهو يرتفع بعيني

من لحم غير الذي صنعنا نحن منـه ، دكانت وكأن لحمها ق

وإنما كانـت الشـياطين . ليس مثلك . مثلك أنت تماما ، ال

تتلبس روحها ، هل تعرفين هذا الجمال الذين ترين صـلف

Page 218: 539

فألنه ابن " أحمد القط " صاحبه فتغلقين قلبك أمامه فورا ، إال

، ومن حظي أنا األسود لم يحب سواها ، هي بنـت شياطين

الشاب الفقيـر والـذي لـم " ماجد " األكابر التي هربت مع

يستطع أن يؤجر لها شقة إال في هذا الحي ، تبرأ منها أهلها

طبعا ، وعاشت شهورا مع زوجها عازفة عن كل شـيء ،

" أحمد القـط " هروبها، وتحول حب كما لو كانت تسدد ثمن

. ء لها على المأل لى عداإ

لم يستسلم أبدا لفكرة أنه لن ينالها ، والمصيبة أنهـا

مع الوقت أخذت تحتقر نظرات إعجابه وهيامه بها كما كانت

م ، اسه ، وجدرانهم ، كالمهـم وأفعـاله ن.. تحتقر كل الحي

ضحكهم وبكاءهم ورائحة طعامهم ومالبسهم ، كل هذا كانت

الحادة ، والتي تشبه مالمح غيرةتعكسه مالمحها الجميلة الص

سعة ابية التي كنا نتفرج عليها في الت بطالت المسلسالت األجن

أحمـد " موقف عربـة خطاها إلى في الصباح تحث . مساء

أن تطير أو تبتلعها األرض لتصل ، وما ، وبها رغبة " العتر

تكاد تركب البوكس الخلفي محشورة بين من تكرههم ، وهي

وكس من الخيش حتى يصيبها الغثيان ، ال تنظر إلى غطاء الب

تبتدر أحدا بالتحية وإذا ابتدرها أحدهم بها تهز رأسها لتحتمل

Page 219: 539

ل فـي ربما مصيبة قد هبطت عليها وال ترد ، وعلى أية حا

" منعها من الكالم ، تسرب غل فمها دائما فص لبان تلوكه وي

م فصاروا عالنية يعاكسونها إلى شباب الحي كله " أحمد القط

ا مع ذلك محتشمة ، كل ما فـي ، تلبس غير ما نلبس ولكنه

األمر أنها كما يقال شيك وبنت ناس ، حتى بنات الحي بـدال

من أن يقلدنها ، ويتعلمن منها كيف تنسـق ألوانهـا هكـذا

.. ببساطة مثل نجمات السينما ، أخذن يقذفنها أيضا بكلماتهن

ا تكاد تجلس وصارت يوما بعد يوم تسير وكأنها قدر يغلي فم

صباحا لتذهب إلى مدرستها في مصر ـ إذ أنهـا في العربة

ـ جميعا في النظر بإمعان حتى يبدأواكانت مدرسة إنجليزي

إليها بغرض إحراجها ، وتعريتها بعيونهم من أعلى ألسفل ،

في البداية كانت تهرب بنظراتها هنا وهناك ، ولما لم تجـد

إلى طريقة في الرد زادت مفرا من المواجهة أهدتها صالفتها

ليهـا حتـى ينيه ع لة ، فما يكاد الرجل منهم يسلط ع الطين ب

ينيها عن رقعة فـي سـرواله ، أو تحملق فيه ، وال تنزل ع

ينيهـا أو بقعة زيت على قميصه ثم تركز ع قطع في صندله

لحظات على ما بين فخذيه ، وهي تبتسم ابتسامة متهكمـة ،

ئـذ دقاذفا جاره ألي سبب وعن حتى يختل عقله ويشوح بيديه

Page 220: 539

ه ، وعندما ظنت أنها انتصرت ونجحت أخيرا في رتنتقل لغي

ي قد وصلوا وعلى رأسـهم إسكات عيونهم ، كان شباب الح

كانت عائدة فـي . ء ابني إلى محطتهم األخيرة خائب الرجا

يوم من األيام هي وزوجها متأخرين من مصـر ، وبالكـاد

وعندما هبطا على أول " العتر أحمد " لحقوا آخر نقلة لعربة

هكذا بدون اتفاق مسبق ، " ماجد " الشارع ، أمسك الشياطين

وضربوه حتى غاب عن الوعي ، ثم جروها إلى فدانك هذا ،

وكان ساعتها مزروعا بالذرة ، لم يتركوها إال عنـد طلـوع

: الفجر ، قالوا

إنها لم تصرخ ، ولم تستغث وإنهم كانوا يزدادون -

وسفالة كلما وضعت يدها على أنفها وعينيها هربا من شراسة

رائحتهم ومالمحهن ، وعندما استلقوا إلى جوارهـا وكـأنهم

هزموا في معركة لم يدعهم أحد للدخول فيها ، نهضت هـي

وبثقل جروحها مشت في اتجاه بيتها وهي ال تحـاول حتـى

ستر نفسها ، لم تنظر إليهم كما تمنوا ، فقـط مشـت إلـى

بعريها المهتوك ، كما لو كانت تسير إلـى جـوار جوارهم

بهائم ، لم نعرف كيف عرف أهلها ، في مساء ما وصـلت

سيارة فارهة ، وأخذت أشياءها ، وركبت وحدها في الخلف

Page 221: 539

، وحاولوا التلصص كثيرا على تعبير وجهها ، فوجـدوا أن

لى السماء لم ينكسر إصلفها لم ينقص خردلة ، وأنفها المتجه

لت ناظرة إلى الطريق أمامهـا ، وابتسـمت وهـي بعد ، ظ

تحدث سائقها ربما عن مشهد ما في حديقة الحيـوان التـي

" ماجـد " غادرتها لألبد توا ، بعدها بأيـام سـافر زوجهـا

الصامت إلى بلد عربي ، وظلت شقتهم مقفلة حتى اليوم ، أما

ذكر فقط الذين اغتصبوها أ أنا فكنت إذا ما تعمدت إيذاء أحد

مها فيتأفف على الفور من رائحته ، ويظل كالخنزير يفرك اس

. في مكانه حتى يحل عني

وجدوا صعوبة شديدة في التخلص من آثار دمها على

الشراشف وكل ما في الخزانة من مالبس ، وعلى الجـدران

أن تضع ملحـا وعـرق " انشراح " وفي البانيو ، وقالت لها

أرض البيت ، فقطعـا حالوة ، في الماء الذي سيمسحون به

. وال بد من كل بد أن أختك هذه معمول لها عمل

، هل تعرفين أنهما عنـدما "انشراح " ـ آه واهللا يا

فأخذ منه كل شيء ، ولم يترك " أحمد " م يوافق والد تزوجا ل

. له وال جدار واحد فسافرا إلى روسيا

Page 222: 539

كنا قد تأبطنا تلـك المسـافة المغطـاة بالرخـام ،

صلة بين إجراءات وزن حقائبنا وصالة انتظار الطائرة ، والفا

صداع شديد انتابنا ولكننا ظللنا نوزع ابتسامات بلهاء علـى

على العابرين هنـا في الجمارك وتأشيرات جواز السفر موظ

. ما من مودعين لنا .. وهناك

. سنسافر للدراسة

. ـ وهل في روسيا ما تدرسه إال الشيوعية

ضنا البعض ، فكرنـا فـي أن أغلـب نظرنا إلى بع

رؤساء الجامعات المصرية من خريجي روسيا فـي جميـع

المجاالت ، خفنا أن نرد عليه فقد يكون في يده منعنـا مـن

السفر ، وكنا سعداء ونحن نتخطاه في اتجاه الطائرة ، ربمـا

. كان عدم ردنا عليه هو آخر التنازالت التي نقدمها في بلدنا

: كنا نطمئن .. دع ما يكون ذكر وأنثى من أب

هل أخذنا ما يكفينا من رائحة شوارع شبرا ؟ ومن -

: جروح األصدقاء ؟ آخر عناوين الجرائد ، وددت لو سألته

ـ من صمم المطار هكذا ؟

: وكأنه كان يجاوب على سؤال

. ـ لو كان لدينا أربعة جدران ما تركناها أبدا

Page 223: 539

ال شك أن " . راح انش" هارب بي ومني هو دائما يا

ضوضاء المطار مصنوعة عمدا حتى تغطي على إحسـاس

ليـه ، جرسـونات بالسفر ، سوق لبيع ما ال يحتاج إ المسافر

صوتهم عال ، صوت رقيق يذيع ما يعرفه الجميع جيدا عن

جنبـي الـذي يشـاركنا مواعيد طيران الطائرات ، وهذا األ

عـاد ن يستطيع إب لم يك " أحمد الدالي " ثاره أن االنتظار هل أ

. ى مطلقا يديه عن

؟ـ متزوجان حديثا

. منذ عام . ـ ال

؟ـ تغادران مصر ألول مرة

. ـ نعم

لى هنـا انتهـت ـ ألم تستوف تجربة السفر بعد ؟ إ

عندي التجربة ، كفى ولنعد أمتعتنا رخيصـة ال تسـاوي ،

. فلنتركها تسافر وحدها

نعـود إليـه ، ليس لنا مكان ! ونة ؟ مجنـ هل أنت

. نحن خارجها منذ قررنا السفر . نحن فعال خارج البلد

. ـ نعم ، نحخن ذاهبان إلى بلد دوستويفسكي

" .لينين " نحن ذاهبان إلى بلد . ـ يا سالم

Page 224: 539

كنا نحلق من قبل أن نصعد الطائرة ، نتكـئ علـى

ذاكرة فوالذية حتى إنني لم أجد جديدا في شكل القاهرة مـن

هرة التي كانت كلما أوغلنا في االرتفاع ، تسـتدير عل ، القا

معطية إيانا ظهرها ، وتنكفئ على همومها السوداء كـامرأة

. صغيرة قد طلقت حديثا

Page 225: 539

سمكة الجيتار

سيتخلصون من جلدها السـميك دفعـة واحـدة ،

فقد شـكلها ، ا منه ، يلقون بالهيكل بعيدا ، فت يستلون لحمه

من يتجولـون علـى شـواطئ ولكنك ستستطيع إذا كنت م

من اإلسكندرية أو البحر األحمر أن تستمع إلى غناء خافت

على الرغم من صـياحهم الشرائح التي يعدها الصيادون ،

: العالي

. المحرات . أو المحرات . الحلواني . ـ الحلواني

" . سمكة الجيتار . " ولكنهم أبدا لن يسموها باسمها

Page 226: 539

حوض الجاموس

٦

ن الوقت يلزم لتعليم الذباب الرقص ؟ قـرفص كم م

على إفريز البلكون طويال ، وسمحت له األمسيات الشـتوية

التي خلت من ناسها أن يشير كمايسترو يمينا وشماال وطلوعا

ونزوال مراقبا جماعات الذباب التي ظلت تطيـر بحركـات

فوق جذوع اللبالب الجرداء ، وفوق بقايا برك المياه ة راقص

نة المتخلفة عن األمطار ، كـان كـل ذكـر مـن هـذه العف

المجموعات يجد بسهولة أنثاه ، يضع جناحه على خصـرها

ال وقـد ها ، يطير حولها ويحوم وال يعود إ قليال ثم يبتعد عن

ـ أسر لها ذبابة ، أو يغـزل حولهـا حقيبـة متقنـة محك ة م

ـ ومزخرفة بالح د الزهـور رير ، ثم يلتقط بتلة ملونة من أح

ا هديته ويعود كل منهم إلى أنثاه ، مقـدما هديتـه هبليغلف

مهرا يخطب به ودها ويبرهن بها على حبه لها وبعد انتهـاء

ينـزل " أحمد منصور " حفل الفالس الراقص هذا كما أسماه

Page 227: 539

يده مشيرا لألرض فينزل الذكور واإلنـاث حيـث أشـار ،

. وهناك يتزوجون بالفعل

ا تخـش علـي وحدها يا أم ال تستلم بريدي ، وحده

قلبي لن يلمه من حولها أحد سواي ، جار علي بفرح متشظ

وها أنا أدب على عرف ديك يجاوز الفضاء ، لن تكون يا أم

لها ذرية إال عدة قناطير رزايا ، وأنا ملهوف ال أغاث يـا أم

.عيناك من بلواي وأنت ابيضت

فرحة وهي تصفق بيـديها ، تفـتح " مها " صاحت

. ربيع مشمس هبط عليهم أخيرا البلكون ل

. أبين زين " . نجوى " ـ أبين زين يا

مباشرة ، كانت " مها " سكينة العمياء تحية " لم ترد

قد أنهت منذ قليل تالوة سورة يس وأخذت تكمل بيت الشعر

ه لها ظفالوحيد الذي تحفظه ال تذكر متى وال من ح :

ولرب نازلة يضيق بها الفتى

ــا ــا ذرع ــد اهللا منه وعن

المخرج

: أكملته ثم قالت

Page 228: 539

هللا على السالمة ، إن حمد " مها " ـ يا أهال يا ست

. شاء اهللا في المرة القادمة يرزقـك اهللا بالذريـة الصـالحة

. ي الباب حيا ابنتي ال تفت" نجوى " انتظري يا

ثم صاحت بصوت عال تسمعه العرافة التي كانـت

، بقفـة " نجـوى " ما دعتهـا ك" مها " تستعد لدخول بيت

ت حاد ال يكف عن ترديـد أبـين وصغيرة على رأسها وص

. زين ، أبين زين

ـ من أي ريح أنت يا حاجة ؟

ـ أنا من الفيوم هل أدخل ؟

:بحدة " سكينة العمياء " قالت

، تكفيك غلة اليوم ، " أمينة " يا بنت " هانم " ـ ال يا

ربعون جنيها ، احرصـي خمسة وأ أو ليس في جيبك األيمن

إلى صدرك واتكلي علـى اهللا ، فـاألعور ذو عليها وانقليها

السروال األزرق ينتظر رزقه هو أيضـا وسيشـق جيبـك

وسيجده فارغا ، وسيحدث هذا بالضبط في منتصف كوبري

. إمبابة

واصفر وجههـا " هانم " من على رأس فةقوقعت ال

: وهي تتمتم

Page 229: 539

. هللا ـ ما شاء اهللا ، ما شاء ا

: وهي تصيح مرة أخرى " سكينة العمياء " ضحكت

لمي ما وقـع منـك ، ـ يا اهللا ، يا اختي ، قومي و

. ونحن يكفينا ما نحن فيه من مصائب وظالم

" مهـا " وعادت تكرر بيت الشعر وهي تتأمل دهشة

: بعينيها البيضاوين المفتوحتين على آخرهما ، وأخيرا قالت

له اطلعت على الغيب ستستطيعين ـ يا ابنتي هل إذا

؟ ردا ؟ لماذا تتعبين نفسك إذن

تركل األرض بقدميها ، وهي تتمـتم " مها " أخذت

، وسرعان مـا نسـيتها " سكينة العمياء " طيلة الوقت باسم

لى ورقها ، حتى نفـد ونسيت العرافة ، وانكفأت من جديد ع

مـن جـدران غرفتهـا تكتب على جدار واحد تماما فأخذت

البعض ، حتى صارت وكأنها رسـوم ال لمات فوق بعضها ك

الذي ظل " أحمد منصور " لم يستطع ،تعبر عن شيء محدد

لها خلسة على كل عتبة يتلصص عليها قراءتها أبدا ، فرش

أعدتها له أمه عندما أخبرها من عتبات غرفها المساحيق التي

: ش الحوائط الذي لم يستطع فك رموزه فصرخت عن نق

Page 230: 539

. .الساحرة حفيدة الفراعين لن يجدي معها علمي ـ

واستحم كما قالت له بمياه كانت تختلف رائحتها مـن مـرة

ألخرى ، وعادت له نضارته من جديد حتى إنه ظل طيلـة

النهار يتجول في الحي ليسلك شعر النساء من أيدي بعضهن

مهـا " رأسـها تحـت صـنبور " انشراح " البعض ، تضع

ا بمشط نجوى على األرض ، تمشط شعره وتجلس " السويفي

ا تساقط منه كرة كبيرة صفراء تتأملهـا وتصـيح ، تكور م

: كمدا

.. ـ مرة بغل صحيح

قطنـة " نجوى " وتعطيها . لق وال تع " مها " تبتسم

. كروم صائحة بدورها ومبتلة بالميكر

؟ " انشـراح " ـ لماذا تكلمين أزواجهن فعـال يـا

.ابتعدي عن الرجال

: غضبا " انشراح " تستشيط ف

عي يا أختي المـرة اسم" . نجوى " ـ حتى انتي يا

منشي على جوزها وهو في الشارع تربطه في منهم اللي ما تآ

رجل السرير ، واهللا مصايب ، هو مـا فـيش فـي الحتـة

الزفت ؟ وتعود إلـى القـذف " انشراح " المخروبة دي إال

Page 231: 539

" ، " انشـراح : " ا والتمتمة بصوت واطئ يعلو دائما بقوله

، ربنـا " انشـراح " افعة تقول ، كل مرة مش ن " انشراح

. كل نسوان المخروبة ايمكن يرتاحو" انشراح " خد يا

وفي خاتمة المطاف تهدأ فتلتقط أذناها بيـت الشـعر

، فتضـج " سكينة العمياء " الوحيد الذي تحفظه وتردده

تجـف ، وأنفهـا بالضحك وعيناها حمراوان ، ودموعها لم

: تفخ وتقول هي تتغلب على ضحكها بالكلمات نم

" شر البلية ما يضـحك ، الوليـة " مها " ـ واهللا يا

كل ما أسمعها بتقول السخام الشعر ده أفضل " سكينة العمياء

اللي مننـا " سكينة العمياء " احترمها أيام طويلة وانسى أنها

" أو يا ختي الدكتور " سكينة" وعلينا افتكر مثال أنها الحاجة

. اللي شارعنا باسمه " سينطه ح

: يقطع الضحك كالمها فتضيف بعد فترة

أحمد " أن ابني المنحوس " مها " ـ أصل الحكاية يا

خرج بعد سنين طويلة في التعليم بحاجة صـغيرة زي " القط

عن أي حاجة يجاوب دي أيام ما بدأ يحب البت ماريام تسأليه

عـارف " أحمد منصور " استني الواد ..ي دي كده بحاجة ز

.هو كان بيقول إيه

Page 232: 539

ضرب وتضرب منذ قليل ، وكأنهـا لـم وكأنها لم ت

تسب وتسب ، وكأنها لم تبك بكاء متواصال وتصيح صـياحا

متواصال ألكثر من ثالث ساعات حتى بح صوتها نهضـت

وهـي مـا " أحمد منصور " إلى البلكون تفتحه وتنادي على

ن تقطـع أ" سكينة العمياء " في الداخل حتى اضطرت زالت

: قراءتها وتتنهد زاجرة

. ؟ اتركي ابني وحاله " انشراح " ـ ألن تهمدي يا

، ما " سكينة " ـ اللهم ما أخزيك يا شيطان ، خير يا

انتي شايفاني مضروبة ومتنكدة طول النهار ، إيه أنت حرام

سكينة " نبي يا حاجة عليكي لو شفتيني باضحك من نفسي وال

. هاقوله حاجة ويدخل على طول "

مها " ، و " أحمد " واد يا " أحمد " يا : وظلت تنادي

تضحك وتضحك وتكتم صوتها بيدها ، ولـم تكـف عـن "

:الضحك إال بعد أن جاءها صوته العميق الحزين وهو يقول

، ولكن احفظيه هـذه المـرة " انشراح " ـ طيب يا

وأنشد يقول بصـوته المنهـك . نوم مستقبال حتى أستطيع ال

: الرخيم

Page 233: 539

غ تحيتنا أيا نسيم الصبا بل

من لو على البعد حيا كان يحيينا

آالف النجمات تناثرت من قبة سمائك جثثا آفلة ، يا

رب ، تشهد أن هذا السواد مكتمل ، وليس منه فكاك ، نطؤه

الحـديث نابأقدامنا فيصبغها بنيلته ، نتحدث عنـه فيشـارك

ونحن ساهرون نسـبح بملكوتـك ، مفاخرا بأمجاده ، نلوكه

ديد ، نفـتح فيهبط خلسة على أرحامنا وظهورنا فننجبه من ج

، هـذا شبابه فيزداد حكمة ا ، ننزع منه عليه الماء فيزداد ألق

ن يؤثر السواد يا رب مثل ديكتاتور دولة في العالم الثالث ، ل

يغير دمه كله عند مغيب كل نه س فيه حتى سرطان الدم ، إذ إ

شمس ، إننا حتى لو عبأنا شمسك في زجاجات ورششـناها

عليه ليال الزداد إمعانا في إخافتنا ، من لنا سـواك يـا رب

فتدكه دكة واحدة ونعدك أن أعيننا سـتعتاد النـور القـوي

.المباشر ولن تشكو منه أبدا

جعل الثلج الليل أكثر بياضا لدرجة أنه كـان ينيـر

فلح الستائر الثقيلة في التخلص من خفة تات النوم ، وال غرف

. هذا الضوء الغريب

" .ناتاشا " ـ

Page 234: 539

يع نوافـذ سم ، وامتد ألفه متلمسا زجاج جم التوى اال

نزل الطلبة الجامعي ، ومؤرقا نوم الشباب كما لحـن غيـر

مكتمل ينتشر في العظام فيلون أحالم اليقظة بظالل فجريـة

. غامضة

" . اشا نات" ـ

. .ال شـك نائمـة " ناتاشـا " الليل كالعادة مأزق و

نبطشية " الريسا إيفانوفنا " ينيها نصف فتحة فتحت ع

المدخل الرئيسي للسـكن ، ورفضـت أن تصـدق حراسة

. عقارب الساعة أو أن تصدق أذنها

" . ناتاشا "ـ

تكور اإللحاح أخيرا آخذا في قذف كل ما يقابله مـن

بما فيها النوافذ ، ومرضت األسرة بـداء الـزالزل ، أهداف

وانتابت الهواء في الخارج قشعريرة ما قبل الربيع ، رغم أننا

فنحن لسنا في " ناتاشا " ا في قلب الشتاء ، والشتاء له حرمة ي

ةفريقيا لتتركيها تتغنى باسمك تحت البيت في الواحد جنوب أ

الريسـا " تيقظي يا صباحا على هذا البياض، حفظك اهللا ، اس

وال تقرري وضع رأسك تحت ألف سيف عربـي " إيفانوفنا

هكذا دون تحريك مزالج حديدي صدئ ، فنصـف الطلبـة

Page 235: 539

ر والنصف اآلخر يخمن عطش عشـرة أظـاف يعرف الحقيقة

مطلية باألحمر ، إلى عشرة أظافر مطلية بالقرمزي ، ومـا

ـ بالي نـدق ستخربشان خد حيلة يا عزيزتي ـ شئت أم أبيت

وستخمشان سر تشابهما علـى . العزلة ببرتقال شفاه صارخ

آهة واحدة منكسرة وضائعة في ثقـوب دانتـيال بيضـاء ،

وثقوب دانتيال سوداء ، وستنثران الشعر الطويل الجائع على

قميصين مضمخين بعرق أنثوي فادح الخطورة ، أنت عملت

سـية وتشـهد الكتـب المدر " الريسا إيفانوفنا " ما عليك يا

دور الحضانة أنك شرحت أكثر من مرة وحصص الرسم في

بر يبين ذراعي نهر الـدين رقة " كييف " سبب ذوبان مدينة

وأنك أعلنت بجرأة نادرة حقيقة انتصاب الجبال على ربـوع

أوكرانيا الجميلة ، ومغزى البراكين ، وما فاتت حصة علوم

ـ ة ، إال وكررت عالقة االنجـذاب بـين األقطـاب الموجب

واألقطاب السالبة والشهب الناتجة عن اجتماعها التي تتأرجح

فحركـي .. في الحدائق العامة بقطع صغيرة مـن الحلـوى

وارحمينـا ، " فانوفنا الريسا إي " جك الحديدي الصدئ يا مزال

ـ أنقذي آ ص الف السجائر من االشتعال ووفري في ظـل نق

ـ الدواء األقراص المنومة التي سـي رة ، بتلعها ثلثمائـة حج

Page 236: 539

واشفقي على محاوالت أشجار الصنوبر إذابة الـثلج الجـاثم

فوقها في هدوء ، اتركيها تمر على حافة الـدفء ، وتغيـب

الريسـا " ثـم نـامي يـا . ث منحرفة إلى األبد في تاء تأني

، وافتحي مزالجك في الصـباح ليخـرج حشـود " يفانوفنا إ

الطلبة ، يغسلون وجوههم فـي األنفـاق والشـوارع ودور

السينما والغابات القريبة ، كي يتخلصوا من رائحـة السـبت

. واألحد الملوثة بأنوثة شائكة

في فراش بارد ، أخذت تأكـل " نجوى " غامت أيام

ي وتحمـر وتـزرق نتثنفسها كل ليلة كالنار ، تنتشر وت فيه

تماما مـن قشـوره ، ألأل وتنير قتامة القلب الذي تعرى وتت

وفك أربطتها واحـدة واحـدة ، وسفك جميع أشكال التحدي

" منـى " ن أغرقتها بهـا لوى التي ما إ ظلت تتبع رائحة الح

" زوجة " عدالت " حتى تذكرت وجه " أحمد الدالي " زوجة

، الذي كان يعمل على ماكينة في مصنع حلوى ، وفي " سيد

الضخم الذي توضع به عجينة الحلوى ، " اآلزان " يوم تعطل

" ه وساح جلده مع عظامه فـي هـذا صعد ليصلحه فسقط في

وعندما أوقف العمال الماكينـة ، دخـل صـاحب " اآلزان

: بحزم لصنع سائال عما حدث فأخبروه ، فقامال

Page 237: 539

ـ وهل معنى هذا أن يقف اإلنتاج ؟ يـا لكـم مـن

أن أروح في سين وجـيم مـع أغبياء ، تنتظرون مني اآلن

جثة يا أغبياء وسيد هذا إذا ما أخرجناه لن نجد له البوليس ،

نه حتى غير مـؤمن إ هيا ، أال تدرون أنه ذاب مع العجينة ،

عليه ، أحدكم يحضر لي زوجته والبـاقون يـديرون هـذه

س فراولة ينة ، اخلطوا عليها نصف صندوق سان الماكينة اللع

. ، حتى تغطي على دمائه لونا ورائحة

عطى زوجته ما تمنته من نقود ، وأخـذها لتعمـل أ

لف قطع الحلوى باألوراق المفضضـة ، وكانـت عنده في

الذي ابتلع " اآلزان " كثيرا ما تهبط إلى بدروم المصنع تتأمل

،طريقهـا للجنـون " عدالت " زوجها ويوما بعد يوم أخذت

" : نجوى " كانت تهمس لـ

صـنع مـ هل كانت الحلوى التي أرسلها صاحب ال

ناهـا ، ثم تبرق عي ي ملوثة بدم أبيهم ولحمه وعظامه ألوالد

: أكثر " نجوى " كشيطان ويزداد همسها وتقترب من

" . نجوى " ـ

هل أكل أوالدي عظام أبيهم ؟

Page 238: 539

صرف صاحب المصنع لجميع العمال مكافأة شـهرا

كامال حتى يعالجوا ذاكرتهم ، وينسوا ما حدث تمامـا فـال

" يعودون إلى ترديده ولو على سبيل المسامرة ، أمـا

مذكرة إيـاه " سيد "فكانت كلما حكت ألحدهم عن " ت عدال

هرين كاملين ، فقـد ه في قطع الحلوى خالل ش أن الناس أكلو

:كف ويقول كان يضرب كفا ب

. ـ إن المسكينة جنت تماما

" نجـوى " قط وال حتـى " عدالت " لم يصدق أحد

ورق ولكنها ظلت إذا شمت رائحة هذه الحلوى الملفوفة فـي

، واكتأبت وصارت األيام أكثر ت عليها معدتها مفضض هاج

رتبت كل عضو من أعضاء جسدها علـى حـدة ، . ا سواد

" واختارت هذه الفترة التي شاهدت فيهـا مراحـل جنـون

جارتها ، وقفت طويال أمام المشاهد التـي كانـت " عدالت

تسير فيها عارية تجبر الناس على الوقوف سـاردة علـيهم

مصنع الحلوى ، ومسحوق الفراولـة و" سيد " قصة زوجها

وضعت في كل ركن على السرير مشـهدا . الذي يشبه الدم

لى بيتها ملقية لتعيدها إ " عدالت " المتكررة خلف من وقفاتها

. عليها شالها

Page 239: 539

رتبت وجوه الرجال الذين كانوا يتحلقـون حولهـا ،

ينهشون جسدها بأعينهم وفي الوقت نفسـه يـدعون علـى

تفـتش " نجوى " الموت والخراب ، ظلت صاحب المصنع ب

عن دم عذريتها ، هل ذهبت مثال في هذه األيام مـع أحـد

هؤالء الرجال إلى الخرابة المقابلة ، وهل لكي يأخذها معـه

جعلها تشم مثال حبة حلوى من تلك المفضضة ، فذهبت معه

كله " سيد" كما نسي عمال المصنع حادث ثم نسيت ما حدث

وسادة وسادة كيف تم ذلك ؟ هل فض لهـا ، سألت وسائدها

ذا نتهك جسدها هكذا مرة بعد مـرة ؟ وإ غشاءها فقط أم أنه ا

" ؟ لماذا ال تسـأل قد حدث فهل ستبدو عليها آثار ما كان هذا

ال تصمد . ؟ ؟ ولماذا لم تالحظ وقتها عليها شيئا أمها " مها

ر المشاهد أمامها كثيرا ، تنسحب كما لو كانت تمر أمام قطا

مسرع ، ليحل محلها مشهد صامت كأحد اإلعالنات الكبيـرة

حيث تسحبها أمها من يدها صياح ليلة دخلتهـا ، .. المعلقة

: وتهبط السلم رافعة رأسها وقائلة في ثقة

الشـرف ـ أيها الخسيس النذل ، ابنتي أشرف مـن

.نفسه

Page 240: 539

هل كانت تصدق نفسها حقا ؟ كيف كانت متأكدة

ا ، وابنتها لم تكن تثق في شيء سوى فـي أن من ابنتها هكذ

سبب موت " مها " أمها لم تمت كمدا إال بسببها ؟ هل خمنت

أمها ؟

نجوى حكاية زواجها لليلة واحـدة ، " ت لها ددلكم ر

دون أن تخبرها بتأثير تلك الحكاية على أمها التـي أخـذ دم

م وجنتيها يغور يوما بعد يوم ، وكأنه يضيع منها كما ضاع د

عذرية ابنتها ، حتى شحبت تماما ، ولم يمر شهر واحـد إال

وصارت كالمالءة البيضاء التي تنام عليها ، وماتـت وهـي

:وكأنها تقنع نفسها " نجوى " تمسك بيد

، وحاولت وحاولت يعرف بابنتي أنك لم تخطئ ـ أ

فارقتني ألكثر من خمس دقائق فلم أجد ، إننـا ن أتذكر متى أ

ـ حتى نذهب إلى ا ن هـذا لسوق معا ، وأنت تعرفين اآلن م

ك يحتاج أكثر مـن خمـس النذل الذي طلقك أن فض غشائ

دقائق ، فقولي كل يوم حسبي اهللا ونعـم الوكيـل ، وانسـى

. الموضوع برمته ، وابدئي حياتك من جديد

أوشكت على إنهاء كتابة مخطوطها للمرة األولـى ،

ر لتحفظها ، واضطرت أن تزن بعض المقاطع وتقفيها كالشع

Page 241: 539

النتهاء جدران البيت جدارا جدارا ووجدت أنها طريقة ممتعة

الـذي زاد علـى " نجوى " تقضي بها الوقت في ظل اختفاء

أخذت تجرها من تحت السرير جرا لتغسل . حده هذه المرة

التي كانت تزيح بتؤدة " نجوى " وجهها وتمشط شعرها بينما

ها ، ظلت تعـاني ت، مشهدا بعد مشهد يتأرجح على وجه أخ

ها الممتلئ برائحة الحلوى وتسـارع لفـتح من احتقان في أنف

أحمد " نفسها لـ " مها " جهزت . النوافذ التي أغلقتها أختها

تشم رائحته بشدة ، فكانـت تنـام وهـي فقد أخذت " الدالي

غارقة في تلك الرائحـة سـاعات طويلـة ال تقطعهـا ، إال

. ض من سريرها بأن تنه" نجوى " لتصرخ في وجه

تنغزه "ىنجو" متشابهة كبطيخ الصيف ، أخذت أيام

فيسيل دمه ، وتزعق في وجه أختها ، وهي تقـف أمامهـا

: مباشرة بكل ما أوتيت من قوة

بلغني أن الناس في الحي يقولون إنـك " مها " ـ يا

وتزرعينها تحـت " انشراح السبتاتي " تجمعين أسرارهم من

. فكرون ماذا ستفعلين بها سريرك وما زالوا ي

Page 242: 539

إن زوجك هذا الوغد لم يعد لديـه أيـة " مها " ـ يا

مالبس صالحة ، حتى الداخلية منها أكلتهـا الفئـران التـي

، قولي لي ماذا سيلبس إذا " سكينة العمياء " يطلقها علينا ابن

. جاء

في هذا البيت مصنع حلوى ال أستطيع " مها " ـ يا

روسول ، أو معطر الجور أو الصابون أو إزالة رائحته بالبي

. الليمون المحروق أو دخان البخور

ج من جانبـه األيمـن وإن البيت معو " مها " ـ يا

.وسيقع علينا قريبا

ال يحلو له االسـتخباء " علي القزعة "إن "مها "يا -

.إال في األواني التي أطهو فيها الطعام

ائنات ال أعرف تفرز الجدران كل يوم ك " مها " ـ يا

. ولت معي تسميتها الها اسما ، أال ح

إذا ما أردت الخروج من البيت ، أجـد " مها " ـ يا

وأظل طوال اليوم أدور فـي البيـت ماردا يسد الباب علي

. باحثة عن مخرج

تحت السـرير مخبئه من مخطوطها من " مها " تنقل

ـ ن أحدا لن يعرف مكانه ، وتدفن الم حيث ظنت أ ذي قص ال

Page 243: 539

فـوق تربـة " أحمد الدالي " كل مالبس " نجوى " قطعت به

ال تصل إليه يدها ، وتبحث لها عـن فـردة السطح ، بحيث

نها ظلت طيلة أيام تسير بفردة حـذاء خفها العالي اليمنى إذ إ

واحدة ، وتدخل كل يوم المطبخ وتجعل أواني الطهي مفتوحة

ل مجهـودا الغطاء في ناحية ، والوعاء في األخرى ، وتبـذ

" نجـوى " خرافيا حتى تحرك الكنبة الضخمة التي سدت بها

اح انشـر " و " أحمد الدالي " باب البيت ، ربما لتمنع دخول

أحمد الدالي " وما إن وصل ،" أحمد منصور " و " السبتاتي

تشكو من رائحة مصـنع الحلـوى " نجوى " حتى أخذت "

، ووضـعت قطعـة النفاذة ، مما جعلها تتقيأ ما تأكله فورا

شاش على أنفها وامتنعت امتناعا مطلقا عن االقتـراب مـن

األماكن والحجرات التي يجلس فيها وكانت ال تكلمه أبـدا ،

تض تف" مها " ي سريرها ، بينما أخذت تعنكبت مع وسائدها ف

أن فيهـا تكمـن رقة ورقة ، علمته من جديد غيابه الباذخ و

كانـت تجـس وجيـب ،اهالموانئ التي ظل يبحث كثيرا عن

الرياح في عينيه ، وتجرب إزهاق روحه بأكثر من طريقة ،

شالت من طريقها كل األيام التي قضاها بعيدا عنها ، وأخذت

ها تجد تفسيرا لبقـاء عن في طريقة قبض يديه عليها ، عل تتم

Page 244: 539

أثر هاتين اليدين على جسدها ، ظل يحاول أن يغافلها حتـى

نتهي أمرها وأمـره وتخلـص تغمض عينيها ، فتفنى فيه وي

قصتهما ، وزع على أعضائها تبتله بالعدل ، وفـتح ألوانهـا

كلها على أبيض ناصع يستحيل أال تضـيع فيـه ، ولكنهـا

. خرجت أكثر من مرة شاحبة وأكثر صالبة وتحديا

أكثر من مرة ، ووقفت عليه جرت إلى سرير أختها

من حالتها إال " نجوى " إياها عالمة أال سبيل لخروج مناجية

: دخولها في حالة أشد وطأة

استطعت أن أتذوق فقده ، وهو إذا ما " نجوى " ـ يا

انهضي فأنا " نجوى " كلتانا ، يا نجوالى جواري فست هنا إ

مسحورة ومجذوبة ليديه ، وصوته ، وعبقه ، لتلك الصحاري

وسـيان " نجـوى " التي يسحلني إليها ، مربوطة أنا إليه يا

بي وابتعادي ، سيان فرحي وحزنـي ، سـيان تقبيلـه اقترا

وصفعه ، والكارثة أنه يعرف هذا وأنا أعرفه ، لو أننا بقينـا

معا بشكل دائم ربما التصقنا ولن يستطيع علـم الـدنيا كلـه

فشكله مذر " نجوى " فصلنا عن بعضنا البعض ، انهضي يا

له ، وهو يبكي كثيرا بين يـدي ، إنـه يريـد كمن خصام

Page 245: 539

" نجـوى " امك أن األمر خارج بالمرة عن يديه ، وأنا يا إفه

. أصدقه

وتعود إليه مرة أخرى ، منحازة إلى حـزن أختهـا

ميـال فيستغفر على صدرها عن كل ذنوبه ، تحصد آالف األ

! يا لها من رحلة . التي تسيرها وحيدة في وهاده

ـ من قال لك إن بياض اليوم أحلى من سواده ؟ من

تجربي الدخول في طريق الغول ؟ هل اختـرت قال لك أن

الصعب ؟ وهل تحتملين ؟

ـ من قال لك أن سواد الليل أحلى من بياضه ؟ من

قال لك أن تترك إصبعك في فم أمنا الغولة حتى تأمن شرها

؟ هل اخترت الصعب ؟ وهل تحتمل ؟

لم تفـتح هـذا م تمأل هذه الكأس أكثر من مرة ؟ أ أل

هذا الذي يشع فيه إذن وكأنه ألول مـرة ؟ القمقم مرارا ؟ ما

من سريرها ؟ لن " نجوى " وما هذا المذاق ؟ لماذا ال تنهض

أحمـد " ويعلو صوت " نشراح ا" يجبرها على النهوض إال

.من البلكون " انشراح " مناديا على " الدالي

" تدخل عليها ، تنزع عن وجهها الكوفرتة فتضـعها

تضـحك وتبكـي " انشراح " من جديد ، وتسحبها " نجوى

Page 246: 539

ليهـا ال تنهض إال لتستمع إ " نجوى " كن وتحكي لها كثيرا ول

: باهتمام وهي تقول

هو نفسه " أحمد الدالي " ـ الذي يجعل أختك تحتمل

هما االثنان علـى ، يحتملني " حجازي القط " ما يجعل عمك

الحقيقة قد . أحببنا سواهما " أحمد الدالي " حق ، فال أنا وال

ضرورة من أجل أال أقف طابور الصـباح يكون األمر لدي

في الطابونة ، أو أن أحصل على فرخة مجانية لألوالد ، أو

من وكالـة " حسنين أبو كامل " مالبس العيد التي يجلبها لي

حجازي القط وال أشعر أنني امـرأة البلح ولكنني ال أحب إال

بخسارتي إذا مـا ال معه ، مع اآلخرين أقوم بعمل قد ينتهي إ

حجازي القط " ول أحدهم أن أعطيه جزءا مما أعطيه لـ اح

ال يحتاج لرغيف وال مالبس عيد ، ولكنه " أحمد الدالي " ، "

" لديه أسبابه أيضا التي قد تكون أكثر أهمية من أسبابي يـا

ح للبهيم ، كيف ال تفهمينه ؟ اضوشرفي هذا و" نجوى

: وهي تردد " نجوى " تضحك

. هه . وشرفك ـ

تبخرت من أنفها رائحة مصنع الحلـوى ، وأخـذت

تلتهم كميات كبيرة من المحشي والملوخية وطواجن الباميـة

Page 247: 539

أن يساعدها في إعداد المزيد "أحمد" والمكرونة حتى اضطر

من الطعام فكانت تجبره على تقشير كميات كبيرة من البصل

، " مهـا " حتى ترى دموعه فيبكيان معا ، وتضحك عليهما

إلحـدى " انشراح السبتاتي " يأكل ثالثتهم على صوت سباب

: "مها " نسوة الحي ، فتقول

إحـدى للعمل في " أحمد منصور " ـ لماذا لم تأخذ

هل تعلم أنه يكاد يجن هنا ؟ . صحف كما وعدته ال

. ـ لقد ركل بقصد كل المواعيد التي ضربتها لـه

. يبد أنه يريد أن يجن

ـ لة اليوم يدرب الفنان على ا ـ إنه طي رقص ، فـي ل

. دوائر حتى باتت تجري أمامنا في حلقات وهي تتبختر

هـل . الن عنـك ـ بشير وبشاير في القاهرة ويسأ

سيمكثان حتـى ابتـداء مهرجـان . تحبين أن يزوراك هنا ؟

. المسرح التجريبي

أما زالت لديهما القدرة ! ، يا لها من أيام .. ـ واهللا

. فر والتجوال واالشتراك في مهرجانات على الس

بابتسامات رائقة طيبة كانت " مها " امتألت صباحات

أحمد " نجوى " تكبر أحيانا لتصير ضحكة صافية ، وطاردت

Page 248: 539

ديقان لها ؟ ما بأمثلتها عن بشير وبشاير هل هما ص " الدالي

تذكرتهما ؟ لماذا ال تأتي بهما إلـى هنـا الذي يضحكها كلما

ما ؟ أمكتوب على هذا البيت اال يدخله إال زوجاتك حتى أراه

األخريات ؟

ـ زوجة واحدة فقط زارتكم ، صارت قبيلـة مـن

. الزوجات ، يا شيخة ، ارحميني

ـ يرحمـك اهللا ويأخـذك ، ربمـا تسـتريح هـذه

. المسكينة

، لو أعـرف أن فـي هـذا " نجوى " ـ وحياتك يا

. يريحها شيء أبدا راحتها لمت فورا ، ولكن أختك هذه لن

من شعرها ، وضع رأسها في صـدره " مها " جذب

وضغط عليه حتى كادت تثقبه ، استمعت إلـى دقـات قلبـه

: الصاخبة وهو يقول

ـ بشير مخرج مسرحي ، كان يدرس المسرح فـي

ليننجراد ، وبشاير زوجته وتمثل في كل عروضه المسرحية

ا الليـل ، دعـي ، وهما االثنان فاتنان على سواد يشبه هـذ

مهرجان المسرح العاشر بدمشق ، فرقة النـادي المسـرحي

التي يرأسها بشير لعرض مسرحية تجريبية ، ولحظهم السيئ

Page 249: 539

أن سفيرهم في موسكو كان قد شاهد هذا العرض المتـرجم

عن الروسية بمحض الصدفة ، فسعى بكل نفوذه وجبروته أال

رات السـفر هم ستة أفراد على تأشي يحصل أعضاء الفرقة و

سوريا ، فاتفقوا مع بعضهم الـبعض أن يـذهب بشـير ى لإ

. وبشاير لمقابلته ، وكان لهم هذا

. ـ تروحوا وين ما تروحوا إال سوريا

. ـ وليش ، يا سيادة السفير

ـ ما أريد يا زلمة أن تعرضوا شتيمة رؤسائكم على

. األجانب

ـ ـ ما بالعرض إية شتيمة ل يا سيادة السـفير ، ه

. شاهدته

العرض كله شتيمة ، ما احنا جمهوريـة ؟ .. ـ ولو

ما بالعرض شتيمة على رئيس جمهورية ؟ . إحنا جمهورية

ماذا لو أن المتفرجين هناك بيفهموا شـوية .. مليان يا زول

ما وعرفوا إن هذا رمز لشتيمة رئيسنا نحن ، وحتى إذا كانوا

. ن عرضه هناك تى نمنعكم مبيفهموا ، كفاية نحن بنفهم ح

.ـ ولكن العرض ليس به كل هذا

ـ طيب يا بشير ويا بشاير ما انو سفير ؟

Page 250: 539

. ـ طبعا سيادتك سفير

. يعني أنا بافهم ـ

. ـ طبعا سيادتك تفهم كل شيء

ـ أنا شاهدت العرض ، وأنا فهمـت أن بـالعرض

شتيمة على رئيس الجمهورية

ـ العرض ليس بـه أيـة شـتيمة علـى رئـيس

. لجمهورية ا

ـ طيب مرة ثانية ، يا بشير ويا بشـاير ، إذا مـا

بالعرض شتيمة على رئيس الجمهورية يعني أنا ما بفهم يعني

. أنا ما سفير

. ـ سيادتك تفهم كل شيء سيادتك سفير

أنـا أقـول لكمـا . تمـام . ـ إذن ، حاجة بسيطة

العرض فيه شتيمة على رئيس الجمهورية ، وأنتما تقـوالن

.عم ، ونبقى حبايب ، وتنحل المشكلة ن

نهاود هذا الحمار حتـى : فرح بشير وبشاير وقالوا

. نسافر

أنا شاهدت العرض وفهمت أنه بـه شـتيمة . ـ ها

. تمام . على رئيس الجمهورية

Page 251: 539

: فقال بشير وبشاير في نفس واحد

نعم سيادتك ، العرض فيه شـتيمة علـى رئـيس -

. الجمهورية

: صرا نتخبط على مكتبه بيده مفصاح وهو ي

. لى سوريا ذن يا بشير ويا بشاير ما في سفر إـ إ

عادا إلى بقية أفراد الفرقة حزينين ، أخذا أكثر مـن

ورقة توصية وترشيح من معهد الفنون المسرحية بليننجـراد

ا يفكران في مجعلهرد السفير كان حاسما وواضحا مما ولكن

ى دمشق ، ولكـن السـفير كـان السفر إلى القاهرة ومنها إل

منعا من السفر في القاهرة ألي أنصح منهما كثيرا وسعى أن ي

مكان ، إال العودة إال وسعى أن يمنعا من السفر في القـاهرة

م يتبـق علـى إال العودة إلى موسكو ، وألنه ل ألي مكان ،

بعـد افتتاح مهرجان دمشق إال ستة أيام فقد تركـا القـاهرة

. في موسكو ادا إلى مكتبهيومين فقط ، وع

. هل اقتنعتم أنني سفير وأنني بافهم . ـ ها

. ـ سيادتك تفهم كل شيء

ـ ونحن لدينا ديمقراطية ، والدليل على هذا أنكمـا

. تشتمان في العرض رئيس الجمهورية

Page 252: 539

ـ كنا نتمنى أن نحقق لسيادتك جزءا مـن الحلـم ،

ت به شتيمة على بتحقيق الديمقراطية ولكن العرض فعال ليس

.رئيس الجمهورية

ـ يا أبنائي يا بشير ويا بشاير ، نحن نريد تحقيـق

الديمقراطية ، اسمعا كالمي ، إذا أنا قلت لكما العـرض بـه

شتيمة على رئيس الجمهورية ، تقوالن نعم ، تمام ، ويا دار

. شر كما دخل

نه ربما كانت الديمقراطيـة اآلن خمن بشير وبشاير أ

: يا ، يجب أن يشاركا في صنعه فقاال مطلبا قوم

ـ نعم ألن بلدنا ديمقراطي فالعرض به شتيمة علـى

. رئيس الجمهورية

: قفز السفير من على كرسيه كالقرد وصاح

يمقراطية أن ـ إذن يا بشير ويا بشاير ، اطلبا من الد

. لى سوريا تعطيكما تأشيرة سفر إ

التي قطعـت لى بقية أفراد الفرقة عادا مرة أخرى إ

لى األردن ومـن األردن سـيكون وقررا السفر إ بروفاتها ،

األمر سهال لدمشق ، ولكن السفير أرسل مليشياته خلفهما ولم

ال إلى موسكو ولم يبق على االفتتـاح إ يجدا سبيال إال العودة

Page 253: 539

جلسا أمامه متعبين ، منهكين ، يكادان يقعان أمام . يوم واحد

: ل فتثاءب وقال لهما قدميه من قلة النوم واألك

يا أبنائي ، تبغيـان السـفر إلـى ـ لماذا ال تثقان في

. سوريا ، طيب لماذا ال تسمعانني ما أحب أن أسمع

ـ لقد قلنا كل ما تحب أن تسمع ، وهذه هي النتيجة

. ، غدا المهرجان ونحن هنا

: أشاح بيده حتى يبعد النوم

أقول لكما نحن أنتم شباب متعبون جدا ، . ال . ـ ال

بلد ديمقراطي ، تقـوالن ال توجـد شـتيمة علـى رئـيس

الجمهورية ، أقول لكما أنا فاهم العرض ، تقوالن ال توجـد

شتيمة على رئيس الجمهورية ، شوفوا يا أبنائي أنـا زلمـة

كبرت خالص ، األيام القادمة لكم ، أنتم المسـتقبل ، وهـذا

ا ، أنا أريد أن يكون درس أنا أعطيته لكما فهل استفدتما شيئ

حملة لواء المستقبل في بلدي أحرارا ال يخشون شيئا ويقولون

طيب يا بشير وبشاير ، هـل . تمام . ما يؤمنون به هم فعال

تحبان االشتراك في بلد أجنبي يعرض فيه شتيمة على رئيس

؟ الجمهورية

Page 254: 539

دشية بإصرار وكأنهما تالميذ يسمعون ن قاال هذه المر

: مطالعة

ـ العرض ليست بـه أيـة شـتيمة علـى رئـيس

. الجمهورية

قفز السفير قالبا كرسيه ، والشرر يتطاير من عينيه ،

: ووجه إصبعه في وجه بشير صارخا

ـ يعني أنا سفيركم في الخارج يا زلمـة لـم أفهـم

.!؟العرض ، يعني أنا ما بفهم

ـ سيادتك تفهم كل شيء ولكن هذا العرض بالـذات

. يمة على رئيس جمهوريتنا ليست به شت

: تماما صرخ السفير وقد ازرق سواد وجهه

اطلب من رئيس جمهوريتكم تأشيرة لدخول . ـ إذن

. سوريا

اسـتدانوا ،لم يعد هناك إال ساعات ويفتتح المهرجان

من زمالئهم المغتربين من جميع دول العالم وسـافروا إلـى

وحضـروا آخـر بغداد ومن بغداد لتركيا ومن تركيا لدمشق

فـي " مسرة ستانسالفسـكي " يومين من المهرجان ، قدموا

اليوم قبل األخير بحزن صفق له كثيرا كل المشاركين ولـم

Page 255: 539

يلتقطوا أنفاسهم إال في الطائرة التي سـتنقلهم لبلـدهم شـبه

، وهـم بقية إجازة الصيف هناك منتصرين ، قرروا تمضية

ديـونهم التـي أجل تسديد من يفكرون كم سنة سيعملون

راحت في التسكع من بلد عربي آلخر ، من أجـل عـرض

انتظروا عودة السفير من موسكو في . مسرحية في مهرجان

ـ ادي المسـرحي ، وعنـد إجازته السنوية ، عسكروا في الن

شوارع العاصمة أوقفه أكثر من خمسة عشر مروره في أحد

، شابا وفتاة مهتمين بالمسرح ، مزقوا مـن عليـه مالبسـه

وبأسواط طويلة وتحت شمس قاسية ظلوا يجلدونه ألكثر من

:ساعة ، كان يقفز مثل السعدون ، وبشير يصرخ

. ـ العرض

: يقفز السفير كميمونة الحاوي

.. ـ ما فيه شتيمة

:وتنتشي بشاير وهي ترقص

.ـ العرض

: فيولول السفير

. ـ في رئيس الجمهورية

Page 256: 539

العـرض ، وعنـدما اتسعت الحلقة التي رأت هـذا

انفض ، أخذ األوالد الحفاة كلما لسعتهم الشمس قفزوا مقلدين

: بشير

. ـ العرض

ويضعون أقدامهم ، فتلسعها األرض مـن جديـد ،

: فيقفزون مقلدين السفير

.ـ ما فيه شتيمة

أحمـد " عن الضحك أثناء حكى " نجوى " لم تتوقف

. حتى عندما قال بصوت خافت حزين" الدالي

ـ وبالطبع سجن هؤالء الشباب ألكثر من سنة ، ثم

هربوا بعد خروجهم جميعا موزعين أنفسهم على دول أوربا

لـى ا ، وأغلق هناك النـادي المسـرحي وإ وروسيا وأمريك

. األبد

أخذت كثافة الظالم تزداد ، كان يتقدم إلـى عامـه

الثالث عريض المنكبين تنمو قرونه معه ، وصارت له رائحة

خاصة به وحده ال شك أن الذين يمرون في طائرات علـى

ون إذا ما دققوا النظـر هذا الحي يشمونها ، وال شك أنهم ير

وتختفي سريعا ، فيصعد إليهم في الجو نهيـق أشباحا تضيء

Page 257: 539

فسفوري لحمار خرافي التكوين ، أو رأس أشـيب صـغير

: يوزع أشعته في الفضاء بالتساوي ، سيقولون

وكأننا رأينـا : غاث مسافر ، ويقولون إنها أض

أطياف ضوء متخلفة عن سكان كواكب أخرى كـانوا هنـا

ربما ارتطم جناح الطائرة بقطعة سـحاب : زائرين ويقولون

فتولد هذا الشرر ، ولكن الحقيقة أن الثقل الذي حل بـالظالم

جعل أهالي الحي يشتكون كثيرا من عدم راحة موتاهم فـي

ن جديد يصيحون بأصوات عالية في وجوه قبورهم ، وبدأوا م

بعضهم البعض ، ويتلون طوال الوقت القرآن على األسرة ،

وهم سائرون ، وأثناء إصالحهم أثاثهم البسيط ، ولكنهم لـم

يرتاحوا أبدا من وقوع أحدهم فجأة على األرض ، ودونمـا

مبرر يفقد صفي أسنانه دفعة واحدة ، أو أن يجذب الجلبـاب

طائرا في الهواء حتى يلتصق بالسماء ، فيظـل الوحيد آلخر

بالسروال الداخلي أليام عديدة يسب هؤالء الذين ال يكنون في

مقابرهم أبدا ، أو أن تجري إحدى البنات من هؤالء الكثيرات

الالتي لم يتزوجن ، عارية في الشارع وطالبة مـن الخلـق

ق يتفرج من فو " أحمد منصور " راح . إطفاء نيران جسدها

أحمـد " إفريز بلكونه على كل هذا ، ويهرب مـن زيـارة

Page 258: 539

أحمد الدالي " الذي دعاه أكثر من مرة ، وعندما فتح " الدالي

: شباكه بالصدفة زجره "

ـ ما بالك يا فتى ؟ هل سأستجديك لكي تأتي ، انزل

. ولف وتعال

: كثيرا وقالت مازحة " مها " فرحت به

عت العالقات الدبلوماسية ، هل قط " أحمد " ـ ماذا يا

؟ التي بيننا

: همس وهو يتحاشى النظر إليها

!وهل أستطيع ؟ . أبدا . ـ ال

امرأة صغيرة تكبره بعشر سـنوات كاملـة ، كـان

نهداها يشقان طريقهما في صدرها وهو لم يزل يسـبح فـي

ما هذه الدار التي تدفعه إذن دفعـا " . سكينة العمياء " رحم

. ي رحمها على الدخول ف

أحمـد " ، كلما اتفقت مـع " أحمد " ـ واهللا يا أستاذ

أن يوصلني لك ، حتى يأتيني حجر ، ويجـثم علـى " العتر

" صدري ، فال أنهض في مواعيدك أبدا ، ثـم أخـذ

فكر في يزورني ويطاردني وال يترك لي فرصة أل " عويضة

لى مكان أجلـس فيـه مثـل شيء آخر ، يجرني من مكان إ

Page 259: 539

الخروف ساعات أفكر وأفكر وال أستطيع فعل أي شيء آخر

، يطلع لي في الحمام ، فأبقى فيه حتـى تخرجنـي أمـي ،

. ألكتشف أنها واقفة على بابه منذ وقت طويل تبكي

: وكأنه يقول لها " مها " إلى " أحمد الدالي " نظر

: ثم تنحنح وقال . لقد جن فعال -

؟" أحمد " يا " عويضة " ـ وماذا يريد منك

: بيديه وهو يقول يائسا " احمد منصور " أشاح

ـ لم يقل بعد ، سأرتاح ويرتاح إذا قال لـي مـاذا

:كنه لم يقل بعد ، ثم أضاف هامسا يريده ول

لم يتغير فلقـد كـان " عويضة " ـ يا جماعة ، إن

هكذا دائما يدور ويلف وال يقول ما يريده إال بعد أن يـدوخنا

.. كان جميعا ،

حتى يقاطعه أحدهم ولكنهم " أحمد منصور " وصمت

: ظلوا محملقين فيه فأكمل على مضض

ـ كان سباحا ماهرا ، يقفز في ترعة اإلسـماعيلية

عند كوبري المظالت القديم فيخرج في وسـط النيـل أمـام

كانت متعته الوحيدة مشاهدة بطـوالت . كازينو الهابي الند

ولـم يكـن مقهى ومصمصة الشفتين السباحة في تليفزيون ال

Page 260: 539

هم جميعا ، فكلنا يعرف ذلك ، كنا بحاجة ألن يقول إنه أفضل

إذا ما اقترحنا عليه التقدم ألحد النوادي الكبيرة حتى يصـير

عندما أجد حذاء أذهب .طيب . ـ طيب : بطال يقول هازئا

كان فسحتنا الوحيدة يسـحبنا وراءه " عويضة " ..به سأذهب

طئ النيل ونتراهن فيما بيننا ـ عندما يقفـز ـ فنقف على شا

؟ أي نقطة في سطح النيل سيخترقها " عويضة " أين سيطلع

؟ في آخر أيام صيف له أخذنا سيرا علـى األقـدام حتـى

وقفنا نتفـرج .. كوبري قصر النيل ، لم تكن هذه أول مرة

نا نتراهن على النقطـة عليه وهو يقفز وتبتلعه المياه وكعادت

عندها ، انقبضت قلوبنا جميعا عندما لم تتعد كل سيطفو التي

من المـاء شـغله عبـور صـندل انقاطنا المقترحة مسطح

يا اهللا هل كانت عيناه مفتوحتين وهو يصعد فيرتطم .. ضخم

رأسه بقاع الصندل ، فيحبس ما تبقى فيه من أنفاس ويغطس

يه ليصعد فترتطم رأسه ثانية بقاع الصندل ، فيحبس ما تبقى ف

من أنفاس ويغطس ليصعد فترتطم رأسه ثالثة ، وأخيرا بقاع

الصندل الذي يشجه ليهوي إلى قاع جسد النيل الذي أحبه كل

ندل بطيئا وكأنه مدينـة تمشـي ، هذا الحب ، مر أخيرا الص

نا كثيرا ألسالف من صنعوه ومسحنا دموع أصغرنا الذي سبب

Page 261: 539

قعت ال محالة ، لم يتجاوز الخامسة ، وعرفنا أن الكارثة قد و

سيرا على األقدام كما ذهبنا " حوض الجاموس " فرجعنا إلى

حتى نتخلص من دموعنا كلها ، وكنا قد أخبرنا رجل المرور

هناك بأننا لمحنا شابا يغرق تحت الصندل الذي عبـر تـوا

: ولكنه مط شفتيه وقال

فأحببناه وأردنا . ـ غور يا ولد أنت وهو في داهية

نا ليلتنا بعد أن هدنا البكاء وصحونا ، وبدون نم. أن نصدق

" وسـألناها عـن " الخالة كفايـة " اتفاق مسبق طرقنا عشة

الخالة كفاية " لم تجب . وكأنه لم يغرق أمام أعيننا " عويضة

، قرأت على الهواء الفاصل بيننا وبينها كل مـا حـدث ، "

، فاسود وجهها ونتشت أصغرنا هذا ذا العينين الحمـراوين

وأغلقت عليه العشة وظلت تضربه ونحن نسـمع صـراخه

ي ، وقائلة لباكحاملة الطفل ا ونبكي ، حتى خرجت بعد قليل

: بصوت جاد

حـافظ " ـ هيا يا أوالدي ، بعضكم ينادي الشـيخ

. ويخبر الرجال ، والباقون يأتون معي " المرسي

ظلت حاملة للطفل المرتعب وكأنها تعتذر لـه عـن

ناها إلى منتصـف كـوبري قصـر النيـل ، أخذ. ضربها

Page 262: 539

وفجأة وبعـد صـمتها . وافترشنا الرصيف في وسطه تماما

: الذي طال جلجل اسمه

فغطى على أبواق السيارات ، وتجعير " عويضة " يا

تنادي عليه حتى جفت شـفتاها " الخالة كفاية " الخلق وظلت

ها ، وظللنـا نحـن ، وعشش هاموش النيل في شقوق اوتشققت

دث حتى صدقونا أخيرا وبدأوا في البحـث كي للناس ما ح نح

عنه ، واسودت مياه النيل وابيضت وازرقـت واخضـرت

ال تمل وال " الخالة كفاية " واحمرت ونحن واقفون أمامها و

تتعب من ترديد اسمه ، وعيناها مفتوحتان تـارة ومغلقتـان

ممرغة إياه فـي رى ، رافعة وجهها للسماء تارة أو تارة أخ

سمه إال بعـد ألرض تارة أخرى ولكنها لم تكف عن ترديد ا ا

. ه عند الساحل ، كان قد ذهب بعيـدا أن أخبروها أنهم وجد

هرولنا ، كل فـي . بعيدا عن كل نقاطنا المقترحة هذه المرة

سيارة من السيارات العابرة التي تطوعت لنقلنا وهي تـدعو

ـ " الخالة كفايـة " رفضت . لها بالصبر بالجثـة رف أن تعت

ا على قبضتين من الطين تحجرتا تين مات الزرقاء ، باليدين اللت

. ، ال شك وروحه تصطدم بهما أثناء خروجها

: ببساطة قالت

Page 263: 539

الماء عليه ، افعلـوا ـ هذا ليس ابني ، ابني ال يقدر

.به ما شئتم

والرجـال خلـف " حافظ المرسـي " جرى الشيخ

، ولم يعد إلى بيتـه لمشرحةالسيارة اإلسعاف من مستشفى ا

" الخالة كفايـة " شاركة دون م " عويضة " إال بعد أن دفنوا

ي كلهم وحرم أهالي الح . ت من يومها عشتها عليها التي أغلق

يوم غرقه قائال " عويضة " ي طلبها طبخ وأكل الفتة بالثوم الت

: ألمه

ـ واهللا حرام ، من سنة لم نأكل فتة ، وأنا نفسي فيها

. رجل حمار على تى اعمليها ح

األهالي أنها ربما نسيت أمر وبمرور الوقت ، ولظن

، كانـت تطـبخ " عويضـة " كما نسوا هم أم ألفتة

حتى تخبط علـى " الخالة كفاية " إحداهن الفتة وما إن تشمها

: صدرها صارخة

. ـ يا قلب أمك

فيتفتت جزء من جسدها ويغادره ، في البداية سقطت

بين يـديها ، وتتأملهـا اليمنى فأخذت تقلبها يوما كامال أذنها

أنت أنها سقطت هكذا ببساطة بدون ألم أو دمـاء مطوعندما ا

Page 264: 539

في حقيبة سفر صـغيرة ، " عويضة " وضعتها على خرقات

وقديمة من تلك الحقائب التي كانوا يجلبونها معهـم محملـة

رن خذ نسوة الحـي يتـذك وأ. بالهدايا من حاربوا في اليمن

بأذن واحـدة قبـل " الخالة كفاية " عندما يشاهدنها هل كانت

؟ ثم سقطت أذنها اليسرى ، وأرنبة أنفهـا " عويضة " غرق

أصابعها وكانت الحاجة أم حسن ـجزءا بعد جزء ـ توتفتت

قد استولت على مهنتها كداية للحي منذ غرق ابنهـا فنسـيها

غر حتـى الناس ، وكانوا إذا ما شاهدوها وهي تصغر وتص

صارت في حجم طفل في الرابعة من عمره يحاولون تـذكر

بحجم قطة قبـل غـرق ابنهـا ؟ " الخالة كفاية " هل كانت

" الخالة كفايـة " امتألت حقيبة السفر المهترئة الجلد بأعضاء

حتى صار من الصعب غلقها ، كما صار من الصعب أيضا

راد أحدهم إلقاء نفسها في العشة إذا ما أ " الخالة كفاية " إيجاد

ولكن لم يجرؤ أحدنا أن يعبـث بمحتويـات . السالم عليها

ترى كيف سنعرف بموتها إذا ما ماتت ؟ خاصـة . .عشتها

تسـتطيع ها وأسنانها قد سقطت منذ زمن فال أن لسانها وشفتي

وهي هائمة تمـتص دموعهـا " مها " قالت . حتى الهمهمة

: بشفتيها

Page 265: 539

أحـدكم حتـى " ضة عوي" ـ تعرفون عندما يطارد

" . الخالة كفاية " ينتبه فيدفن

ليها وهو يخبط جبهته وينظر إ " د منصور أحم" قفز

:بفرح ويصرخ

له ، لم يكن في حاجة لمن يخبره بما يفع . ـ هو ذلك

ثم أخذوا يقلبون . فلم يصدقوه " الخالة كفاية " أخبرهم بموت

عن عدة العشة باحثين عنها تحت السرير الوحيد وهو عبارة

صناديق بيبسي خشبية مرصوصة بجوار بعضها الـبعض ،

وتحت السجادة المهترئة المصنوعة من قصـاقيص القمـاش

القديم ، وبحثوا تحت وخلف المنضدة الحديد التي كان يضـع

التليفزيون ، يشتريه عندما يجد عمال ، أي " عويضة " عليها

قمامة عمل نقل طوب من أجل بناء بيت ، رفع أسمنت ، نقل

وبين للبالستيك ، من مكان إلى مكان ، ثم يبيعـه مصنع نار

عندما يفقد عمله ويعود عاطال ، ظلوا يبحثون عنهـا نهـارا

وهو مستند بظهره " أحمد منصور " بطوله ، إلى أن أخبرهم

: إلى باب العشة المفتوح

ع بقية أعضائها أيضا في ـ ما تبقى منها ستجدونه م

.الحقيبة

Page 266: 539

الخـرق كل جزء على حدة ، وكفنوها في غسلوا

" ودفنوها في الصـباح لينـام " عويضة" المتبقية من مالبس

. أخيرا نوما هادئا " أحمد منصور

تقفز بمهارة نمرة " مها السويفي " من جديد استمرت

مدربة من جحيم زوجها لجنته ، وهو واقف على هذا البـاب

ل أن يفهم إشاراتها ، الفاصل بينهما يحاول أن يوقفها ، يحاو

يحاول أن تقول له بأي طريقة كانت ، أيهما كـان الجحـيم

وأيهما كان الجنة ، ولكنها كانـت دائمـا تـذهب بسـرها ،

. بعطاياها ، بسرقاتها

، تختفي دائما في " نجوى " ـ ال تريد أن تخبرني يا

أضواء جسدها فال أراها كمـا يجـب ، الظالم وتسلط على

ي أختك يا نجوى ؟ لماذا تعذبن

نجوى " يا ـ لقد قلت له أال يفتح الغرفة األخيرة في

، سمحت له بفتح تسعة وتسعين غرفة فلماذا يصر على فتح "

الغرفة المائة أيضا ؟

: يلعق دموعها دمعة دمعة يأكل كلماتها كلمة كلمة

Page 267: 539

ـ دعنا نحاصر هذا الطعم في تلك الزاوية ، جبـل

مراوغ يجرنا إلى نعده وحدنا ، لو على ابتسامة قصوى نص

. فتح جديد ، شمس محبوسة في فم تواق للبكاء

ـ دعينا نحاصر هذا الطعم في تلك الزاوية ، ألـف

ة تعكس زهوا زائال ، قليل من لوثة التائبين المضـمخين مرأ

. بعطر خاص هو مزيج من السهد والوجوم

، ها ـ أختك المكتظة بأحالمها لفتها الحواديت تماما

، وأنـا " نجـوى " هي تدخل في ستائر وحدتها من جديد يا

رجل تعب من نزع قشرة بعد قشرة عـن سـمكة صـغيرة

بش روحي على مهل ، وال تنام إال علـى وجعـي وال رتخ

تحافظ على جمالها إال باستنشاق دمائي ، فدمي موصوف لها

" . نجوى "يا

هـل : ـ إن شامة على عنقه سرها عندي ، اسأليه

من ماذا تكونت إال : كانت موجودة قبل أن يعرفني ؟ اسأليه

من تعاستي ودموعي التي سكبتها على صـدره كـل ليلـة

فعله له ؟ هـل يريـد أن يجعلنـي ي أن أ ماذا يريدن : اسأليه

ضلعا من ضلوعه ثم يذهب لينكح نساء األرض أجمعـين ؟

لقد تعبت يا نجوى ، فكلما فتحت فيه غرفة ومرحـت فيهـا

Page 268: 539

وتنسمت هواءها أبذل مقابل هذا جزءا مـن روحـي ، قليال

. وأريد أن أنام " نجوى " تعبت يا

اشتري لها أوراقا بيضاء كثيرة قادرة على إنارة هذا

الظالم ، ونزع طبقاته طبقة بعد طبقة ، ولكنها لم تكتب ، بل

المتطـايرة " الخالة كفاية " وقفت طيلة ليال تصطاد أعضاء

وتها وهي تنادي من فوق كوبري قصـر في الجو وتسمع ص

هل كـان " أحمد منصور " ، وتسأل " عويضة " النيل على

صوتها يشبه كثيرا حد السكين ويميل قليال إلى أن يكون مثل

: فيقول . صفعة مظلوم على وجه ظالم

. ـ نعم

: فتقول

ها أنا أرى أنفها ، رأسها األصلع الالمـع ، كيـف

لم ؟ لماذا هو قادر هكذا علـى والدة يحمل الظالم كل هذا األ

حكايات حزينة ال تنتهي ؟ من يستطيع إيقافه ؟ أال يقدر أحد

من هؤالء الموتى الذين يجوبون الفضاء على كسر شـوكته

عندما أموت سأفتح النور على هذا الحي على آخره

، سأنساب في كل ركن قليال ، سأقرأ كل ما كتبـت وأبكـي

Page 269: 539

رؤوس جميع من أحبوني ، وقد أفـتح وحدي ، سأقفز على

ألمشط لها شعرها األبيض " نجوى " في الصباح الباب على

قبل وأمسح لها دموعها ، أسرد عليها حكايات لم تسمعها من

هل تعرفين من قابلت هنـاك ؟ : ، حكايات تبدأ كلها بسؤال

فتقول لي من ؟ فأقول لها أمك وأحكي لها كل ما لم تعرفـه

وعن زوجها الـذي تزوجهـا " الخالة كفاية " عن أمنا وعن

لليلة واحدة ، سأقابله هناك أيضا وسأعرف منه أنه طار منذ

سنتين من على دراجة بخارية ليستقر في قاع البحر المتوسط

أمام أحد شواطئ الساحل الشمالي ، عندما أخرجوه من القاع

نظر بعينيه المفتوحتين إلى الحفرة التي حفرها ثقـل جسـمه

" فتذكر على الفور ليلـة عـرس .فوجد قطرات من الدماء

وكان آخر سؤال يطرحه على نفسه ، وهـو يشـق " نجوى

طريقه للصعود إلى حالته الجديدة تلك ، ـ هل كان يبحـث

فيها طوال ليلة العرس عن قطرات عـددها مشـابه لهـذه

القطرات ؟ سأحكي لها كثيرا وسألعب معها منـذ الصـباح

سأنكل بكل الرجال الـذين سـمحوا لهـا أن وحتى المساء و

تستمتع بوحدتها هكذا ، سأجعلها شيئا فشيئا تشبه هي نفسـها

الحواديت ، سأجرها جرا ألريها البحر الذي لم تره في حياتنا

Page 270: 539

أبدا ، وسأجعلها تجرب ، ولو لمرة واحدة كيف أن اهللا يتجلى

ـ ام عند اجتماع رجل وامرأة صنعهما بكلتا يديه ، سأجعلها تن

يومين كاملين ثم تحكي لي مشاعرها عن هذه المعجزة التـي

أخيرا عين وسأفقأ. عيشها أهالي الحي كل يوم يعيشها ، وال ي

ثر شهبا تكون قادرة على إنارة كل األحيـاء ناهذا الظالم فتت

المظلمة ، سأفعل كل هذا وأكثر أما ما سأعجز دائمـا عـن

ار ، هـذه الكومـة فهمه ، فهو ما أعيشه اآلن ، هذا االنتظ

الكبيرة من القمح التي يجب أن يلتقطها كلها ويأكلهـا ديـك

مسموم مريض ، ها أنا أفتح كوة فيها وكلما سويتها انغلقـت

كل هذا وأكثر أراه ، . دمن جديد وغارت ، واختفت إلى األب

كثر أسكنه ، ورويدا رويدا يلتاث العنـاد أجنحـة كل هذا وأ

تعبت وأتعبت من حـولي وال مالك ال يعرف وجهته جيدا ،

أظن أنني سأتوب عن كسر رحيقي على أعناق تلـك األيـام

. السوداء

سمح الشتاء القارص في هذا العام أن تدرب األشباح

نفسها على القفز عاليا ، فوق األحجار الموضوعة وسط مياه

البرك المتجمعة من األمطـار أو المجـاري ، وكانـت قـد

بسالم ، بـين أكـوام القمامـة استطاعت منذ زمن المرور

Page 271: 539

والتمييز بينها وبين عشش مخلوقات اهللا ، مارسوا أعمـالهم

أغلقـوا . في هدوء ودأب ، جعل الناس تسلم أمرها لخالقها

الوحيدة بعدما عبثوا بها ليال ، وأخذوا يختبئون " بطة " حنفية

تحت هذه الحجارة التي يمر عليها من يريد الوصول لعشته ،

تلوث مالبسه بمياه المجاري ، فإذا ما وضع أحدهم دون أن ت

قدمه عليها طار في الهواء ولف عدة لفات قبل أن يستقر في

مياه المجاري ويطرطش على أبواب العشش أوساخها ، بينما

هم واقفون يضحكون وهم يستمعون إلى تبادل الشتائم بـين

المصاب وأصحاب العشش الذين هم واثقون أنه ليس على أية

ال بأعمى ، ثم يرفعون أوراق الكرتون التـي يسـتخدمها ح

الناس أبوابا لهم ويلقونها في اتجاه الريح لتذهب إلـى غيـر

عودة ، يتلصصون على لعب المراهقين والمراهقات الذين لم

تعد لديهم أحالم في الزواج ، يركبون على رؤوس الشـيوخ

دامهم المرضى الجالسين أمام العشش ، ليتشمسوا ويهشون بأق

الشيطانية من على وجوههم الذباب ، يصـفعون شـابا مـن

الشباب الذي يقف ويتحدث ويسير ، ويشرب الشاي الثقيـل

اء خدمته العسـكرية ، والسجائر الكليوباترا الفرط ، بعد إنه

على قفاه فيستدير ليضرب بقية الشباب الواقفين وكأنه نائم ،

Page 272: 539

آخر المعركة ، وعندما يطمئنون إلى أن الدم سيكون . حوله

يذهبون في أثر النساء الالتي يذهبن إلحضار الماء فـي دالء

، " مها السويفي " من الحنفيات العمومية البعيدة أو من بيت

فيركلونهن ليقعن وليتفرجن على أفخاذهن المنـداة بـالطين

" الخالة كفايـة " والماء ، ثم يعودون ليناموا هادئين في عشة

ل ثقوب فيهـا تطـل علـى العشـتين ، ويسلون أنفسهم بعم

ـ يما يسمعون ضحكاتهم الغر المجاورتين اللتين كان سكانه ة ب

عندما يهشون أبناءهم إلى الشارع ، فتمـوت علـى الفـور

. رغبتهم في الجماع ويغرقون في سبات عميق

الرياح كانت قادرة على تفتيـت بعـض الفواصـل

وأقفـاص الخشبية أو المصنوعة من الصاج وألواح األبلكاش

الفاكهة الفارغة أو الكرتون بعدما عمل العفاريـت عملهـم

وثقبوها في كل مكان ، أخذ بعض نثارها يطير في الليـالي

كانـت " مها " التي هبطت عليهم مبكرة ومظلمة ، ووحدها

في أنـه : تقف هناك في األعلى متدثرة ببطانية ثقيلة وتفكر

ـ د أن طـارت من الصعب أن ينجو أحدهم من هذا الشتاء بع

: ذا ماتوا اب العشش نفسها ، وإأبو

Page 273: 539

. من سيجازي هؤالء على صمودهم العبثـي هـذا

أخذت تجد صعوبة بالغة في فتح رموشها التي تغلقها الرياح

ها هو يتكون من النثار المتطـاير .. الشديدة فتعاود التحديق

هذا العربي الجميل الذي تتضح مالمحه مـرة بعـد مـرة ،

قادرتين في الخالء فيرمي ببقية نثار األبـواب يحرك يديه ال

ويسـارع . والقمامة دفعة واحدة في كومة على أول الشارع

المتناثرة هنـا " الخالة كفاية " بتأن وهوادة ليجمع لها أعضاء

تبتسم في وجهه " . الخالة كفاية " يا هللا كانت جميلة . وهناك

: المضيء وتتمتم لنفسها

تسم وكأنه اقترب منها كثيرا ، فيب. ـ لو أنك تنطق

:فجأة ، وبصوت يشبه صوت النور إذا تكلم

. وان أيتها الجميلة ـ كل شيء بأ

في ليلة مثل تلك الليالي يا رب أنقذت نوح في سفينة

، أوحيت له يصنعها ، وخسفت األرض بقوم ثمود وعـاد ،

وفتحت آفاقا في قلوب بعض خلقك وأخذت بيدهم حتى فتحوا

. على األرض أندلسا

موسومة بخال أسود كبير على كتفها األيسر كانـت

أمها ، وال تدري اآلن لماذا يصغر هذا الليل أمام عينيها فجأة

Page 274: 539

فيروح في هذا الحال الذي ينير لها مالمح وجه امرأة صغيرة

ظلت تعشق رجال واحدا من كثرة لهفتها عليه ، من كثرة ما

ال سواه لم يصدقها أبدا ، أكدت له أنها ال ترى في العالم رج

ظل يضربها ويعذبها بهجره لها ، حتى فارقت الحياة بريشها

. المنتوف وأجنحتها الكسيرة

، صارت " الخالة كفاية " عمل " أم حسن " واصلت

عشتها ال تخلو من الزيارات السرية للبنات الالتي لم يتزوجن

وهي تهز بعد ، والتي كانت تبررها هي إذا ما تم اكتشافها ،

: رأسها فتهتز شراشيب شالها األسود

.طمئنهن على غشاء بكارتهن ـ أ

وبحماس من يترأس عمال جديـدا لتـوه ، وكشـدة

غربال تهتز عليه حبات الدقيق ألول مرة ، أخذت تقفز مـن

عشة لعشة ومن ركن لركن ، وازدادت همهمة شباب الحـي

ولـوج على النواصي ونصائحهم لبعضهم البعض عن كيفية

فتاة دون التورط في فضيحة زواجهـا وازدادت مـؤامرات

البنات حبكة ومهارة ، عن كيفية إيقاع واحد منهم في حبائلهم

التـي " أم حسـن " رغم حذرهم ، استمعن إلـى نصـائح

استطاعت أن تكتب لكل واحدة منهن عمال ، يجعل الواحـد

Page 275: 539

وعلـى . منهم يأتيها بشاربه القذر حتى باب عشتها راكعـا

الرغم من أن الشباب واصلوا فرارهم الناجح من الـزواج ،

وعلى الرغم من أن األفراح قلت في الحي حتى أنهم تساءلوا

و فرحا واحدا في الصيف الماضي بشك هل شهد هذا الحي ول

بالنصب حتى ال " أم حسن " ال أن البنات خشين أن يتهمن ، إ

ن مـن تفشي أسرارهن التي جمعتها وهي تحاول أن تمكـنه

الزواج من فالن ابن فالنة ، وغرقن جمـيعهن فـي بكـاء

متواصل بررنه لذويهن بأن األمطار التي تخترق جلـودهن

وال تكف عن النزول ـ هذا الشتاء ـ تمنعهن من النـوم ،

وأن األكياس البالستيكية التي يضعونها فوق أسطح العشـش

ظات لمنع تسرب المياه ال تصمد كثيرا ، وأنهن يبقين مسـتيق

طيلة الليل حتى ينثرن الحلل واألطباق في كل أرجاء العشة ،

وبمجرد امتالئها بماء المطر يسارعن إلى نزحها في الشارع

، وأنهن مريضات ال بقلوبهن ولكن بااللتهاب الرئوي وحكة

جلودهن والتهاب أنوفهن من الرائحة العطنـة ، وإنهـن إذا

فلـن يسـتطعن تغلبن على طقطقة خشب العشة طوال الليل

.التغلب على صفير الرياح الذي يدوي في آذانهن

Page 276: 539

من ياقة كنزته الممزقة بيد " انشراح السبتاتي " شدته

واحدة وكانت باليد األخرى تدفع النساء والرجال الذين تحلقوا

:حولهما يستفسرون عما حدث

. ؟ هه " انشراح " ـ ماذا فعل مصطفى الرمرام يا

ا نى واليسرى في دفعهـم بعيـد استخدمت رجلها اليم

مها " لى أن وصلت لبيت وهي ال تتركه بحال من األحوال إ

" نجوى " ، قرعت كعادتها الباب بشدة منادية على " السويفي

قفزت به إلى الداخل كالريح ثم أحكمـت غلـق . لتفتح لها

: الباب وقالت لنجوى الهثة

قتين هتقف هنا ورا الباب دقي .يا اختي " نجوى " ـ

بعـد " مصـطفى " وانتبهت إلى أنها لم تترك ياقـة .بس

: فطوحته حتى التصق بالحائط وأضافت متوعدة

ـ فيه مشكلة وكالم سر ، وعايزة أحلها مع الحيوان

. ده بعيد عن الغجر اللي في الشارع

التـي أكلهـا " مهـا " وأخبرت " نجوى " تركتهما

. السمع فضولها فهبطت بعض درجات السلم لتسترق

آدي إحنا بقينا لوحدنا ، قولي بقى مش عايز . ـ هه

تتجوزها ليه يا ابن الدايخة ؟

Page 277: 539

أنت هاتجوزيهالي بالعافية ، " . انشراح " ـ إيه يا

. بطول لسانك ، واهللا ده بعدك

. ـ واهللا العظيم ، وحياة ده ، وأمسكت شعرها بيدها

فضـح في بحر أسـبوع أل " راوية " لو ما تجوزتش

أهلك كلهم ، وأحرم عليهم النوم بالليل والنهار وأنت عارفني

. كويس

. ـ يا ست وأنت مالك هي كانت من بقية أهلك

البـت . يعني إيـه مـالي دي يـا ولـه . ـ مالي

، مـش شوف يا رمرام أنا قتيلتك النهـارده . استجارت بيه

. هاتخرج من هنا إال لما تقولي موافق

: دادت بحته وانخفض صوتها واز

قل لي مالها هه ؟ هـو بعـد " . راوية " ـ ثم مالها

. كخة " راوية " الخرابة واللي جرى في الخرابة بقت

بنت بنوت زي " راوية " ـ واهللا ما حصل حاجة و

. ما هي

ي ، وحياة أمك ، ال راجل يا ولـه ، بـ يا صالة الن

ت قلت راجل ومحافظ على شرف الواليا ، يا منيل طب ده ان

.. لكل نطع في الحتة خدت منها كام حضن وكام بوسة

Page 278: 539

. اهللا بقى . ـ يا انشراح كفاية

يا وله . ـ اهللا عليك يا خويا ، كفاية يا انشراح بقى

. خليك راجل قدامها وقدامنا كلنا

ـ طيب هاتي لي راجل يرضى يتجوز واحدة سلمت

. له نفسها

نفسها وأنت ما يعني سلمت لك . ـ واهللا نفسها حلوة

براءة الديب من دم ابن يعقوب ، ما أنت كنت اء اهللا بريء ش

بتنطلها زي القرد في كل حتة يا أخي حرام عليـك ، البـت

. بتحبك ، يعني ده جزاءها

بتجري وراي في كل مكـان ، دي " انشراح " ـ يا

. ف كل وقت ، يعني هايجة أروح له و

. حب يا غبي ـ هايجة في عينك ، وعين أمك ، ده

طب فيه واحدة ترضى تتجوز واحد خلقته غلط زيـك ، يـا

ترضـى اخي كفاية إن اسمك الرمرام ، طب فيـه واحـد ة

تتجوز رمرام طب تعالى وقابلني لو لقيتها ، وال أقولك أبقى

توهة دي عشـان تف على قبري ، يا واد ده ربنا بعتلك المع

.يسترك ويخليك راجل

Page 279: 539

التي كتمـت طـوال " مها " وفجأة وعلى غير توقع

" مصـطفى الرمـرام " الوقت ضحكها انفجـر

على صدره بود ، " انشراح " فضربته الضاحكا بصوت ع

: وقالت بصوت ضاحك ومنتصر لحل المشكلة

ـ جنس نمرود صحيح ، بلوى تأخـذكم كلكـم وال

ال النسوان ، يا أخي نفسـنا نفـرح ، ده إ يبقى على األرض

. باب ده ما عرفشي طريق الفرح من شهور الحي اله

" مهـا " وخوفا أن ينتهي األمر عند هذا الحد نادت

انشراح " فهمست . بصوت عال أن تتفضل " انشراح " على

" : مصطفى " لـ "

ـ طيب حالوة موافقتك هاخليك تشرب شاي وجاتوه

والنبي يا مقشف لما كنـت " مها السويفي " كمان مع الست

. كنت تنولها تموت ما

" : مها " ثم صاحت تحدث

أنا فـي الصـالون ومعايـا "مها" ـ طيب يا ست

. ضيوف رجالة

وجهه فـي األرض " مصطفى الرمرام " فورا وضع

" مها السويفي " ، خوفا من الحكايات التي سمعها ممن رأوا

Page 280: 539

" قريب " ، ظل قلبه يدق بسرعة وهو يتساءل عن شكلها من

الذي تشعه حولها ، وعلى الرغم من أنـه ، عن هذا السحر

المستطير إال أنه دائمـا مـا " أحمد منصور " رآه في جنون

كان درءا للوقوع فيه يتطلع إليها ، وهي واقفة في البلكـون

: ويردد بينه وبين نفسه

ـ إنها عادية مثل كل البنات ، كل ما في األمر أنها

تـوت تترك شعرها منسابا خلف ظهرها كغصـون شـجرة

. فاجرة

إلى دقات قلبه قـال " انشراح " وخوفا من أن تستمع

: بصوت عال

أنـا مـا إزاي هـاتجوز دا " انشـراح " لكن يا ـ

.. طب هانتجوز فين . احتكمشي على مليم

: بصوت عال " انشراح " قهقهت

أنـا . يا وله أنـت مالـك . ـ في الخرابة يا حمار

. اكتم بقه دلوقتي . هاتصرف

البيض يمكنه ببساطة أن ينضـج فـوق هـاتين نإ

لماذا نظرت النظـرة " أحمد منصور " لك اهللا يا . الوجنتين

Page 281: 539

وكـان .الثانية على هذا الوجه ؟ علي أن أسارع بالهروب

. " روحي يا شيخة كفانا اهللا شرك "يردد لنفسه مستعيذا باهللا

فتصلبت يده حتى ال تقبض على " مها " سلمت عليه

" انشـراح " ولكي تبدد . حدث ما ال يستطيع له ردا كفها في

" . مها " غربته قالت لـ

. مها هيفرح الحي المنكـوب ده " ـ أخيرا يا ست

. بنت عنايات " راوية " الزفت ده هيتجوز

ـ مبروك يا مصطفى ، ويا ترى أين ستسكنون ؟

من سؤالها ووجهـت " انشراح السبتاتي " امتعضت

: نظرة الئمة ثم قالت بسرعة لها بطرف عينها

" ـ يا ستي ، أرض اهللا واسـعة ، يسـكنوا مكـان

هم يعني العفاريت اللي ساكنين عشتها أحسـن " الخالة كفاية

. منهم

قالتها بحماس كبير حتى تصلح مـا . ـ واهللا فكرة

. أفسدته بتعليقها

. وضحك مصطفى ضحكة مكتومة

: انشراح " فقالت

. اخويا ـ النبي تبسم يا

Page 282: 539

وفجأة زغردت واسترسلت في زغرودتها ولم تقطعها

"ينجو" عا متواصال على الباب ، جرت إال عندما سمعوا قر

" : انشراح " لتفتح فأوقفتها

دول الهمج اللي فـي . تعالي " نجوى " ـ تعالى يا

يفضـلوا يـا اختـي . وا حصل إيه رفعايزين يع . الشارع

ة ساكتين ولما تنحل يـدوروا قاعدين يتفرجوا على كل مصيب

يه ؟ جتهم البلى فـي تنـاحتهم ان يسألوا هو فيه إ الجري عش

. اقعدي ، خليهم على نارهم شوية " نجوى " اقعدي يا

.. وعندما خفتت طرقاتهم على الباب

منذ سنوات كثيـرة لـم أعـد . يا لبرد هذا الشتاء "

. الحي نفس . أتذكر . لم نشعر ببرد كهذا ،أعرف لها عددا

نـة بيـوت ا بحدائق وحف نفس البيت الذي كان قصرا محاط

صوت الـذي كـان اآلن أعرف أن هذا ال . طينية للفالحين

م يكن إال خليطا مـن احتكـاك أوراق يخيفني وأنا صغيرة ل

القمامة والزجاجات الفارغة واألتربة التي تحملهـا الريـاح

لـه فـي كنا ال نجد ما نفع . وتطيرها في سمائنا في دوامات

مواجهة هذا البرد ، إال احتضان بعضنا البعض تحت بطانية

ة ، طفـل جيش رمادية مقلمة دون أن نفرق بين رجل وامرأ

Page 283: 539

وكان ال يمر . ار أن يمر الشتاء وشاب ، نظل هكذا في انتظ

وحكايتــه مــع " لي الكبيــر الــدا" إال بمتابعتنــا ألخبــار

" . عزيزة"

أن " مصطفى " حالم ، تمنى وت بص" مها " قاطعتها

. ليه مرة أخرى يستمع إ

" . أحمد " جد " محمود الدالي " ـ

. ـ آه

أخذت كوب الشاي بين كفيها لتدفئهما، وتحركت على

أكثر ثم ردت بصوت آت مـن " نجوى " الكنبة لتلتصق بـ

.بعيد ، وهي تنظر حولها

سبة لنا ـ آه ، البيت نفسه الذي تعيشين فيه اآلن بالن

كان قصر الباشا ، حوله حديقة كبيرة تمتد لما خلـف هـذه

ـ " محمود الدالي "و. بكثير العشش ينما،لم كان كما نجـوم الس

فتاة من الفالحين على أنه حقيقة أبدا ، كلهن كـن تتطلع إليه

واحدة تضعه في ركن من يتعاملن معه على أنه صورة ، كل

. " ين إال هـي واصل البحث عنه في رجال آخر خيالها ثم ت

أجمل من كانت في زمرة الفالحين ، وحيدة أبويها ، " عزيزة

نافذتها تشرف بعيد على تراسه الضخم هذا الـذي بالـدور

Page 284: 539

الثاني ، ورغم المسافة الشاسعة التي تشـغلها اآلن العشـش

ومبنى المستشفى ، وحفنة البيوت الخالية من سكانها الواقعة

إال أنها كانت تـراه واضـحا ، " سكينة العمياء " خلف بيت

وجههـا ويراها وكأنها واقفة على سحابة في الخالء ، حول

ارنج والبرتقال ، سـأل عنهـا كل زهور حديقته وأشجار الن

، وباح للمربية النوبية التي عاشت وماتت هنا قبل أن دمهخ

تشهد تدهور وفقر أسرة الدالي على يديه ، بأنه يريـد تلـك

كانت من أسرة مستورة ، فقد كان أبوها الفتاة بالذات ، وكما

خرج خلفها يتابعها في الصـباح . يرسلها لتتعلم في المدرسة

وأثناء عودتها ، وظل طويال يحاول التقرب إليهـا وعنـدما

تبادال الحديث واألغاني وروايات الغرام ، أخذها إلى أمـاكن

كثيرة وفرجها على العاصمة ، وقلبه يقفز فرحا عند لقائهـا

مربيته النوبيـة داعها وتذكرها وعند قيامه ونومه ، باح ل وو

ية قبل موتها أنه قرر أن يتزوجها ، وأنه اكالتي حكت لنا الح

بعـد شـهور ليخطبهـا ، سينتظر حتى تتخرج من المدرسة

من الفرحة ، طارت وكانت ـ ألنها بـدون " عزيزة"طارت

وب أجنحة ـ تمسك دائما بيديه وإذا ما أمسكت يده كانت تـذ

، هذا مذهوال ومأخوذا طعة حلوى ، ظل يقف أمام ذوبانها كق

Page 285: 539

وعنـدما . مجذوبا ومبتعدا ثم فجأة انقطع تماما عن رؤيتهـا

كانت تسأله المربية النوبية كان ال يجد جوابا سوى أنه مـل

لـم تصـدقه المربيـة . تماما منها وأنه ال يريد الزواج أبدا

وفهمـت العجـوز المريضة وانفردت بها " عزيزة " فزارت

:الطيبة كيف يفكر ربيبها

ـ يا ابنتي لماذا لم تصبري ، لقد ضـيعت علـى

نفسك فرصة كبيرة ، هل كان ال بد وأن توافقيـه علـى أن

يحتضنك ويمسك بيدك ؟

من سريرها ، هـزت " عزيزة " نهضت وفي الحال

ثم وبصـوت مشـروخ . ميل ، فتوقفت دموعها جشعرها ال

: سألت ساخرة

.و تعتقدين يا حاجة أن هذه هي أسبابه ـ أ

ـ بالتأكيد يا ابنتي فالرجل يعتقد أن المرأة التي لـن

. تستطيع مقاومته لن تستطيع مقاومة أي رجل آخر

:ضحكت عزيزة بعصبية صارخة

على اعتبار أنهم قطيع حيوانـات ال . نعم . ـ نعم

اهم أو أنها تلك المرأة ال تـر . يميز أحدهم عن اآلخر شيء

Page 286: 539

لقد وعيـت الـدرس . شكرا لك يا سيدتي . إال رجال واحدا

.جيدا

بعد هذا اليوم ، قالوا إنهـا " عزيزة " لم ير أحد منا

عاشت في أول شبرا عند خالتها لتكون قريبة من المدرسة ،

قالوا إنها حكت بالفرنسية ألستاذها الفرنسي عن سبب حزنها

لى بـاريس ، وظلـت عندما سألها فأحبها وتزوجها وأخذها إ

محمود " ولكننا كنا نسمع أن . هناك لم نسمع عنها أية أخبار

ظل يجرب كل الفتيات الالتـي كـن يـرتمين فـي " الدالي

بين كفيه " عزيزة"ه بسرعة ، باحثا عن ارتعاشة كف أحضان

، وفي نهاية المطاف تعرف على فتاة جميلة كانـت وكأنهـا

كان يلقيها في القمامـة خارجة من أحد أغلفة المجالت التي

بعد قراءتها ، فنأخذها نحن لنتفرج على الصور ، طاردها ،

حاول جذبها بكل الطرق ولكنها كانت تعامله كما لـو كـان

ها هي الزوجة المناسـبة ـ أقـام : ذبابة ، فطار عقله وقال

" لم يستطع " سوسن هانم " األفراح أياما وليالي حتى شرفت

: من ذلك فقال مندفعا اإلنصات أكثر" مصطفى

. مع كل الرجالة ـ ما مصيبة تكون خانته

: بطرف عينيها هازئة وقالت " انشراح " رمقته

Page 287: 539

. ـ ما كانش ليها في الرجالة خالص يا ابن الدايخة

" أنه ظل كل يوم يحلـم بارتعاشـة كـف : يقولون

بين كفيه ، وأنه عاش سنوات طويلة مع لوح مـن " عزيزة

ان يطلق على زوجته سوسن ، وأنه أنجب ثالثـة الثلج كما ك

فاض به الشـوق علـى كبـر ، : من األوالد كآلة يقولون

وكبرت عزيزة في أحالمه وكبر حلمه بها حتى رمى بظلـه

كان يبيع أرضه قطعة قطعة ويسـافر : يقولون أيامه ، على

إلى باريس ليجدها صدفة ، ولم يجدها أبدا ، ولكنـه مـات

. هـذا البيـت لـى ي صندوق خشـبي إ فأرسلوه ف . هناك

، وكانـت سوسن هانم دفنته ببرودهـا المعتـاد إن : يقولون

متأنفة في فستان أسود بثقوب على الصدر ، وحريصة كـل

..الحرص أال تدمع عيناها حتى ال يفسد مكياجها

:مرة أخرى اندفع مصطفى

رجعت ؟ عرفت إنه كـان بيـدور " عزيزة " ـ و

عليها ؟

:في وجهه " اح السبتاتي انشر" خت صر

Page 288: 539

ـ أنت مزروع في وسط النسوان بتعمل إليه هنا يـا

. الحدوته خلصت يا أخويـا . وله ؟ أما فحل حمار صحيح

: غور في داهية واطلع من نافوخي بقى

" متعثرا في قدميه تمتم بشـكر و" مصطفى " نهض

: وأختها قائال " مها

.ـ شكرا يا جماعة على الشاي

: ها معاتبة م" قالت

اتفضل يـا . أنت قاسية جدا " . انشراح " ـ واهللا يا

" .مصطفى " أستاذ

" : انشراح " ضحكت

.أستاذ إيه وزفت إيه. يليه بنيلة ـ أستاذ يا شيخة ن

" الباب خارجا همسـت " مصطفى " عندما كان يفتح

من " . انشراح " يا ـ آه من لسانك الطويل : مها في أذنيها

.تزوجها اآلن إال يالممكن

: همسها وصوتها الرقيق " انشراح " قلدت

ـ يعني سمعتي كل حاجة ، ال يا ستي بعد الزغرودة

، وبعد ما سمعته الحكاية دي ، هايتجوزها ، وابقى شوفي ،

ما " بطة " وبعيدن أن ما تجوزهاش يبقى ما حصلش حمار

Page 289: 539

" راويـة " يستحقهاش وساعتها والنبي ألوصـي أم البـت

. عايزاه : تحرقها أحسن لو قالت ثاني

تناهت إلى أسماعهن جوقة من أصـوات الزغاريـد

النشراح التي استلقت بظهرهـا " مها " المتواصلة فابتسمت

على الكنبة صارخة بصوتها المبحوح العالي الفـرح وهـي

: تمسك بشعرها

" ح السـبتاتي انشرا" ده أنا " مها " ـ عيب يا ست

. أونطة اسي كدهوده مش على ر

إن القلب يهبط إلى قواعده سالما ، والروح تصـعد

شهب صغيرة تكوي يومنـا . من جديد نحو أبجديات البكارة

معا وتزيح من رؤوسنا معارك كاملة ناضـجة الثمـار فـال

نستطيع تحديد من منا كان يحرق األرز عند طهيه ومن لـم

ألقـاه فـي يشتر الخبز أو من منا صانع الحلم ، ومن الذي

: البحر ؟ ونقول

متستر على قاتـل ، وإن عقـد إن كالنا قاتل وكالنا

الذي كان بيننا انفرط ، ووقعت حباته في يـد أمنـا المرجان

وعلى من يريد استعادته أكل قملها واالعتراف بـأن . الغولة

لها شعرا كما خيوط الشمس الذاهبة أنا فيها ، أحاول هشـك

Page 290: 539

ار ، وتحاول نفيي مـن ذاكـرة عن عيون جف فيها االنتص

جميع النهارات ، والليل يصدق نصف ما أحكيه عنك ويغمز

لي بخالعة إذا ما تذكرت أين كنت تضع نظرات دهشـتك ؟

وفي أي األدراج كنت تخبئ أقمـار ابتسـامتك ؟ والشـمس

شديدة الوضوح بما ال يسمح بتزييف األطالل الواقفة تحـت

عا ، فليفرح كـل منـا بمـا أهدابنا ،والتي ال يمكن خلطها م

يحيطه من اتساع ، ليفرح كل منا بلعبه التي لن يمسها بعـد

اآلن اآلخر فنحن ال نستحق ضيق الفردوس ، نحـن الـذين

طمعنا في مساحات شاسعة ، فكانت لنا الصحاري ، ألحاول

نزعك مني وإلقاء غنائك من فوق السطوح فـال يمـوت إال

مملكة بكاملها ، تطرد صراخك وأصدافك المنحرفة ، أصير

كل سويعات اليقظة وتنام في غموض قمري طويل ، أنا التي

حاصرت من قبل جميع أنواع السالسل والخواتم وهزمت من

قبل جيوشا مجهزة بأظافري الحمراء وفتحـت لـك وحـدك

خمائل ألواني جمعاء تحاول أنت اآلن ـ دون شك ـ هشـي

دك من عظامك ، من مالءات سحرك ، مـن خضـم حـدا

الطويل ومن ماليين النجوم التي تحط علـى جفونـك كلمـا

ال تلين ألقـدامنا قـط . حاولت مسح مالمحي عن صباحك

Page 291: 539

األرصفة ، ولن تعزف الجدران لنا ، لن تشفق علينا الليـالي

التي أسكرناها ، ولسوف يأخذ الموج أثر صوتنا من رمال ما

. ألندلس ما دونما رجعة

ده سالما ، ويستقر في مكانه إن القلب يهبط إلى قواع

بالصدر بعدما قفز وحلق واختفى أكثر ممـا ينبغـي ، وإن

الروح تصعد من جديد نحو أبجديات البكـارة ، فتعـرف أن

بشـارع " السـالم " الحياة واسعة لدرجة أن خشبة مسـرح

القصر العيني لن تنتفض ، ولن يلتفت مجمـع الـوزارات ،

عة في كال االتجاهين ولو ولن تقف السيارات الفارهة المسر

لدقيقة واحدة ، ولن يخمن أحد العابرين الذاهبين لبهجة ما أو

. أنك زوجي : عند عبورك أمامهم .. العائدين من بهجة ما

Page 292: 539

سمكة الجيتار

ال : " ستردد وكأنها قرأت بردية فرعونيـة قديمـة

تجعل الشمس تغرب وفي عينيك وقلبـك دمعـة ، حتـى ال

ستظل من أجل ذلك ، عيناهـا " . هة في منامك تحاسبك اآلل

مفتـوحتين ، وشـفتاها مضـمومتين ، متلئتان بالدموع الم

وسيكون خالصها الوحيد أن يعزف جسدها أغنيتـه ، وأن

. سمع على الرغم من صخب ارتطام األمواج ت

Page 293: 539

سوالجام حوض

٧

أحمـد " إن حبتي المشمش اللتين حطتا على أذنـي

كبرتا إلى حد أنه أخذ يداريهما سـرا ويتوسـل ، " منصور

إليهما ، لتسمحا له بسماع أسطول محاضـرات فخـم عـن

نظرية التعايش السلمي للطبقات االجتماعية ، فـي البدايـة

عرف من نظرات زمالئه أنهما صارتا بحجم الكرة القمـاش

التي كان يلعب بها وهو صغير ، فكان يضع يديه على أذنيه

سة الحتوائهما ثم أخذ يتجنب بعد ذلك سيارات في محاولة يائ

الطلبة الفارهة المحاصرة لقاعة المحاضـرات ، خوفـا أن

ثناء طريقـه تصدمهم حبتا مشمشه ، كان يصرخ في المارة أ

ن يتجنبا أذنيه وأنه غير مسـئول أ" حوض الجاموس " إلى

عما سيحدث لهم من جراء تضخمهما الالإرادي ، وظل يقيس

عا منه فيجد أن أذنيه أصبتحا مسـاويتين تمامـا فرارهم جمي

ذي الطابقين ، ومع ارتباكه فـي " سكينة العمياء " لبيت أمه

دخول حجرته بأذنيه هاتين الجديدتين ، استغرق أياما كثيـرة

Page 294: 539

في الخالء ، أخرج فيها سحابات من الصراصير والبق مـن

ـ " مها السويفي " جحورها البعيدة ووجهها إلى بيت ا ، دربه

الهـواء على المسير في خطوط رأسية وأفقية ثم دائرية في

ها مقاطع من أحاديـث مضـت كلهـا طنين وكان يسمع على

.. بصوته هو

ـ هل تقصدين أن المرء يكون إما شاعرا أو فارسا

ملكـوت فيـة ، وإذا كنت أنا ال أستطيع وزن حزني ، وال تق

؟ " مها " أيامي ، ولست بفارس يحمل سيفا يا

نت لم تخسري شيئا بحلول الظالم الدامس يا أم ، ـ أ

. بل تساوينا معا في إتقان عدم الرؤية

اب ما وراء البحـار ناطحـات سـح " أحمد " ـ يا

. نها إسفنجية ، ال تنهار أبدا بسكا

تفصدت خمائل األلوان أمام عينيه ، فرأى ضمن ما

رأى على الجدران كتائب من العيـون اآلدميـة المجنحـة

ينة ، وكأن فتاة في أقصى صعيد مصر ، قد مات حبيبها الحز

فجأة ولما كان محرما عليها إعالن حبها قبل موته ، فقد حرم

عليها إعالن حزنها بعد موته ، فصرت نشـيجها كلـه فـي

لعيـون منديل أسود خبأته تحت رماد الفرن واستطاعت تلك ا

Page 295: 539

ـ ـ " مها السويفي " عيني المجنحة والشبيهة تماما ب رق أن تس

" : وقال يا أم . الصرة في غفلة من الفتاة لتزين بها عتمتها

إن جيوش القمل غطتني تماما فكانت تكشط له جلده كل يوم

بسكين لتطلع في مكان كـل قملـة ، سـبعة آالف واحـدة

تتضاعف على مدار الليالي ، وقال يا أم إنني أحـب شـكل

نـاء في الفراغ فأولج فيـه سـببي أث " مها السويفي " جسد

أحالمي ، فقط ألفصل أوراق النعناع عن خصالت شعرها ،

وأهداب الفلفل عن سرها السفلي وأشد عودها علـى نغمتـه

ستموت مثـل : يا أم دثريني فقد قالت لي : الصحيحة وقال

. من ماتوا وستبقى سيرتك لبضع دقائق ال غيـر ووافقـت

د سابق الشمس من مشرقها إلى مغربها مختفيا تارة في أعوا

الذرة وتارة في شجرة اللبالب متلصصا عليها وهـي تقـرأ

قلد . وتكتب نهارا ، وتواصل سرد الحكايات على أختها ليال

لها دون أن تدري صوت الغراب والساقية التي ال تدور منذ

زمن ، وكروان ما قبل الفجر ، وتمرن على مناسك قفز سور

ى مخطوطهـا بلكونها العالي وعندما قرر أخيرا االستيالء عل

" مها " الرافضة إعطاءه إياه ليقرأه بحجة أنه لم يتم ، فاجأته

Page 296: 539

جفلت للحظة فقال ليـنفض ،واقفا رابط الجأش بجوار مكتبها

. عنها دهشتها

. ـ وجدت أن الطريق من خالل البلكون أقصر

، كل نوافذ البيت " أحمد " ـ أنا ال أخاف جنونك يا

. مفتوحة لك

تماما ، وتأمل سريان الدم فـي نسى أمر المخطوط

شرايين عينيها وما تطلقه من أقواس قزح مزينة ، وحـدود

شك ، ولكنها تـتقن جيـدا الأنفها مؤكدا لنفسه أنها إنسية ب

أصدافها ونجومها وعسلها الفجري ، بكى واضعا يديه علـى

: وقال " نجوى " مكان نومها وهي تنادي على

هو الـدخول فـي ـ لماذا كان مخرج الحب الوحيد

اآلخر ؟

. ماذا بك ؟ . ـ والدخول كاإليمان درجات

؟ .. ـ أتريدين حقا أن تعرفي ماذا بي

.ـ ال

هزت رأسها بعنف ويأس ، يومها أعادا معا ترتيـب

حجرة نومها ليواجه المكتب هواء البلكون البحري ، تنـاول

كثيـرا عـن اسـتحالة " نجوى " ثالثتهم العشاء ، وثرثرت

Page 297: 539

قطاع التيار الكهربائي أكثر من هذا ، وكـان يخمـن هـو ان

حتى الباب " مها " أوصلته . مصير المهاجرين إلى العاصمة

وأعطته بعضا من سجائرها عندما أشار إلى شراسة تدخينها

: وقالت

وأنـا أنتظـره إلـي في طريقـه " أحمد الدالي " ـ

بطريقتي ، وطلبت منه أن يزورهما كلمـا احتـاج لشـيء

فوعدها على الرغم من قراره بأال يذبح نفسه بطلوعها عليـه

يا أم سأنثرها إلى أمواج هادرة تحتـي إذا : وقال . كل مرة

ما وقعت تحت يدي فال يعرف أبوابها ونوافذها وأسـرارها

. أحد غيري

مـع " انشـراح " صـراخ " مها " لطالما قطع نهار

امـرأة مـا إحدى نسوة الحي ، كالعادة يبدأ الشجار يضـبط

في أحد األركـان ، فتقـذفها " انشراح " لزوجها منحنيا على

مشرعا سـيوفه فـي " انشراح " المرأة بالعهر ، فيقف شعر

لسـانها دون أن ينقطع ساعات النهار كلها ، مطلقة سباب ال

تتعطل يداها عن تحمير البطاطس والباذنجان أو رش المـاء

تـاح إال بعـد أن على تربة الشارع أمـام عشـتها ، وال تر

تضرب المرأة ضربا مبرحا وعلى الرغم من وجود الرجال

Page 298: 539

دائما لفض االشتباك ، إال أنها كانت تقتنص الدقيقة الصـائبة

لرفع جلباب المرأة وخلع سروالها الداخلي وفضح عضـوها

المذعور لثوان ، ثم تتركها طريحة األرض ، وتجري فـي

خصيصا لهذه ابهالشارع معلقة السروال على عصا احتفظت

المناسبة ، وتتذكر وهي وحدها كم امرأة في الحي لم تجردها

في المساء يجتمـع النـاس أمـام عشـة . بعد من سروالها

من .. على فرشته ليحققوا " حجازي القط " الضحية ساحبين

وغالبا ما كان زوج الضحية ينكـر ! بدأ في قذف الشتائم ؟

، السيدة الشريفة " انشراح " بـ أنه على عالقة آثمة

" العفيفة وغالبا ما كانوا ينتهون إلى صلح الطرفين مسـلمة

" حجازي القـط " السروال لزوج الضحية وساحبة " انشراح

وهي تقضـي " انشراح " وتضحك . إلى عشتهما مرة أخرى

: ة قائل"مها" حاجتها في دورة مياه

ايا ما بجيش اللي تحترم نفسها مع " مها " ـ شوفي يا

. ناحيتها خالص

طبعت األيام نفسها بكربون متقن الصنع ، لم يرتكب

أبدا إسقاط تفصيلة واحدة من تفاصيل أهـل الحـي ، فمـع

سـكينة " الصباح يصطف طابوران من النساء أمـام بيـت

Page 299: 539

لقضاء حـاجتهن بينمـا يلتـف " مها السويفي " و " العمياء

ن وعابثين في أصابع الرجال حول مبنى المستشفى ، مقرفصي

أقدامهم وداعين أن يأتي الفرج ، ثم تنصـب بهمـة بالغـة

طسوت الغسيل في الشارع والتي ال ينتهي ضـجيجها قبـل

" الذي كـان يجعـل " عفرت بطة " حلول الظالم وفيما عدا

يرعى في الحقل طوال الليل جامعا أرانـب " علي البلتاجي

أن يطلـع النهـار برية بيضاء كبيرة في حجر جلبابه ، إلى

فتستحيل في حجره لصفائح معلبات فارغة وأحجار وخـرق

بعيـدا حتـى ال قديمة مغمسة بدماء متجمدة ألقتها النسـاء

انشراح " ا ، وتصفق تذكرن عادات شهرية محملة بإثم سرم ي

ـ يا راجل يـا عبـيط : شامتة بيديها وهي تقول " السبتاتي

" حوض الجـاموس " قول كل يوم قبل ما تنام أنه مفيش في

يأخذها هـي نفسـها فـي " بطة " ولكن عفريت . إال الزبالة

الليالي القمرية لتمشي إلى آخر األرض كما تقول ثـم تتـوه

لممكنة هناك يوما أو يومين ، وتعود مستقلة كل وسائل النقل ا

سائلة عن كيفية الرجوع إلى الحي ، ويصب وغير الممكنة

ويفتح الليـل مبكـرا ، ويـأمر . الماء المغلي علىاألطفال

تسبب نوبات اكتئـاب فادع أن تغني أغنية طويلة رتيبة الض

Page 300: 539

" عـدا فيمـا . توجع قلوب الفتيات الالتي يحلمن بـالزواج

في مخ كل رجل بطريقة مـا ، الذي أخذ يزن " عفريت بطة

كان المساء هادئ المرور في أحشاء الجميع وفارغـا مـن

المثيرة ، وما كـان علـى المودعين والمستقبلين والقصص

" إال مزاولة حلم ظل يراودها بـأن تـرى " مها السويفي "

عن قرب وتتحدث معه ، ولما كان هو الوحيد " حجازي القط

الذي ال يستطيع زيارتها فقد دخلت عليه العشة في صباح يوم

واجهها وجه رجولي جميل وجسد فارع شاهد ال محالة . ما

أمام سـيل مـن قالت عندما عرفت أنها على أمجاد قديمة ،

:االتهامات الساخرة

إنك " انشراح " قالت . ـ جئت ألطمئن على صحتك

. مريض

:ابتسم محاوال التخلص من سوء نواياه

ـ أهال وسهال بك ، إذا كان الجميع وعلى رأسـهم

. زوجتي يعشقونك كل هذا العشق

ـ ز جالت ببصرها في أنحاء العشة واسـتطاعت تميي

تلك الرائحة الخاصة الحريفة التي ال تأتي إال من نوم أربعة

ن ق غالبا ثالثة أمتـار طـوال ، ومتـري أفراد في مكان ضي

Page 301: 539

سرير للنوم من أخشاب رصت إلى جـوار . ونصف عرضا

بعضها البعض كيفما اتفق ، كنبة أسـيوطي عليهـا حشـية

يصعب تحديد لونها ، بوتاجاز بعين واحدة ، بعـض الحلـل

طباق البالستيكية الملونة على كرتونة ضخمة ، لم ينسوا واأل

، أرض هـي ا ناصع ا دانتيال مخرم اأن يضعوا عليها مفرش

خليط من طين مجفف وندف مـن الحصـر البالسـتيكية ،

عنـدما شـاهدت " مهـا " وشرائط بطاطين قديمة ، ابتسمت

عبد الحليم حافظ " و " جمال عبد الناصر " صورا معلقة لـ

جمال عبد الناصر كـان بمالبـس الحـج " . م كلثوم أ" و "

مبتسما وورعا ووسيما إلى درجة الشك في أن وسامته كانت

عبد الحليم حافظ " سببا من أسباب زعامته لألمة العربية ، و

بقميص شبابي وضحكة من الروح في مواجهـة شـاطئ "

، وكانـت أم كلثـوم " أبي فوق الشـجرة " صور عليه فيلم

واثقة وغامضة ونظارة سوداء صـارمة ، وثـالث بابتسامة

مرايا من مرايا سيارة نقل معلقة كل على جدار من جـدران

العشة الثالثة ، وكان أسفل أكبرها رف خشـبي مرصـوص

.. عليه ماكينة حالقة وعلبة كريم وبودرة وأحمر شفاه و

Page 302: 539

كان ملكا متوجا على فرشته وواثقا أن كل شيء في

، وأن زوجته ال تلهو مع الرجـال فـي مملكته على ما يرام

الخارج لثقته بأنه الرجل الوحيد ، كان ملتفا ببطانية رماديـة

تعلن أنه خدم في الجيش أثنـاء حـروب االسـتنزاف فـي

" حـدث . بشكل يرثى له " انشراح " الستينات ، وأنه يحب

ثمارهـا علـى العنب التي كانت ال تنفـد عن عناقيد " ها م

عن الكنز الذي وجده أبوه ذات يـوم تحـت تكعيبات أبيه ،

شجرة توت ونصحه الجميع أن يفتحه ولكنه خاف أن يكـون

داخله قتيل ، أو قنبلة من أيام تجريب القنابل ، فسلمه في قسم

الشرطة حاصال على لقب األمين وثمن قيراط باعه فيما بعد

، وخرج من الحياة خاسرا الجلد والسقط " الكوليرا " في زمن

" تـدمع عـين . لما بمشهد تل النقود وسـبائك الـذهب وحا

: من الضحك وهو يلعن جبن وفقر أبيه قائال " حجازي القط

سيلعنني أوالدي أيضا بعد أن . ـ فليتولنا اهللا جميعا

. أموت

" حجازي القـط " تجاهلت كثيرا أمام باب العشة ندم

مـه على استقبالها حين اكتشف فجأة أنها لم تعتمد علـى كال

Page 303: 539

إطالقا لتعرفه ، بل سلطت عليه وابل عينيها وروحها ولكنها

: لم تستطع تجاهل سؤاله الحانق

ـ ماذا تكتبين عنا ؟

" قالت وهي تغلق الباب على خجله الغاضب وصمت

.:وغصة جعلتها تمسك جنبها " انشراح

. كل كتابتي عنكم ال تعني شيئا . ـ ال شيء

مخطوطهـا كلـه ، كانت صادقة بقدر جعلها تمزق

وتستعد لكتابته للمرة الثانية ، ولم يرحم إحساسها بتورم ذنبها

إال تحية الصباح التي كان يرسلها لها " حجازي القط " إزاء

. كل يوم مع زوجته

في هذه األيام تحديدا الثعـابين " أحمد منصور " كلم

الملتفة حول رقبة أمه وشجيرات السيسبان التي طلـع لهـا

ذع بإمارات ذكورة وأنوثة ، وكلم العمالقة السـادين رأس وج

عليه كل الشوارع ، والطرق ، والزائرين له وحده والسامعين

هذيانه المستمر على مضض ، إال أنه كان ينتظر بشـجاعة

ويأس برتقالي لحظة أن تأتيه اإلشارة فترد عليه قوافل الحور

ـ ي دورة التي يخبئها تحت إبطيه أو الكورس الذي يغني له ف

يا أم إذا مـا سـمعت : المياه بإحدى اللغات القديمة ، وقال

Page 304: 539

تقول " مها السويفي " الصراصير التي أحشدها في اتجاه بيت

لي سمعا وطاعة ، فاعرفي أن ساعتي قد حانت ولسـت أول

" مها " ولم ينم باأليام مسليا نفسه بعد لقاءاته مع . الطائرين

حياته بعد ، وال هو امرأة في وإعادة تأكيده على أنه لم يلمس

، التي استوقفته عند " نصرة الدمنهوري " جسد بذاكر فاكهة

منزلق ممطر ذات ليلة شتائية ، شاكية لـه وحشـة نهـديها

لعضالت كفيه وتخشب صمتها البني في أكفانه ، كابد يومئذ

مغلق العينين وهو متأكد أنها متقنة الصنع من شعر رأسـها

ا ، من وجعه هو اآلخر ومن مالمح فتاته وحتى أظافر قدميه

التي يحلم بها وتجيد الهرب ، ولما فـتح عينيـه وجـدها ،

عارية تماما ترتعد ، احتوى المنظر حافظا إلى يـوم مماتـه

وعورة التواء فمها وتدلي ثدييها إلى ما تحت سرتها ، كانت

مدخلة إبهامها بقسوة جمود رجولته أمامها إلى آخر مـداه ،

ة للدخول في غيبوبة سكر لم تخرجها عنها صفعته على ومهيأ

خر الفاتحين ، وهـي ترتـدي فصدغها وصمتها المشحون ب

خرقاتها على مهل ، وتتوه مع بائعي عقود الفل في إشارات

. المرور ، ببكارة مفقوءة في لحظة تخل

Page 305: 539

طائرات معدنية بالحجم الطبيعي كانت تئز فوق رأسه

يزيح عجالتها وركابها مـن وجهـه ، و فيهش أجنحتها بيديه

: يسألها " مها " ويطير إلى

أحمـد " أعني . هل يحبك " . مها " ـ هل يحبك يا

" . الدالي

سـتطيع كل المناطق المنسية التي لـن ي ـ يرتاد في

دهسها رجل غيره ، ويذبح على شفتي قرابين ال نهائية ويفك

، وال يتعـب أوثان روحي وثنا وثنا كل لحظة بطريقة جديدة

. يحبني نعم " . أحمد " مطلقا من نصل غيابي ، يحبني يا

" عمن يساعدها إلنقاذ ما يمكن مـن " مها " وتبحث

الذي هيأ نفسه مرات عديـدة للتحليـق فـي " أحمد منصور

هاوية قصوى ال يقدر أحد على سـبر منتهاهـا ، وزعـت

نهارها على كتابة كل ما مزقت دون حـذف كلمـة منـه ،

، أخذته إلى حلبة يتمها " أحمد منصور " إلجابة على أسئلة وا

ها فقد اعفرجته على أسرار أبيها وأمها دونما شوق منه ، لسم

" أحمد الميـت " رق متدلها في تخيل ظالم جبانة جده أخذ يغ

:ذي الستة أشهر وظل يردد دون مناسبة

Page 306: 539

وسـأختتم هـذه " مهـا " ـ أنا من جذر ميت يـا

. المهزلة

أمام عينيه الغائرتين في جلده بشكل " مها " جيب ال ت

يحسم عمق موته ، وصدق دهشتهم حينـذاك أيـام أنـارت

الكهرباء حتى قرون الذرة في الحقل ، من موت امرأة حملت

على كبر وماتت وهي في شهرها التاسـع فعجلـوا بـدفنها

وضعت في القبر جنينا استطاع أن يحبـو : قالوا .. ولكنها

عهـا ااأليمن فأحياه اهللا فخر لبنا دافئا ، وتوسد ذر إلى ثديها

األيمن فأحياه اهللا ، لينهر الطفل عن مص الجماجم وعظـام

الميتين ، ظل الرضيع يلهو مع دود وثعابين القبـر ويتأمـل

انتفاخ جسد أمه وانفجاراته المتتالية ويتجـول كثيـرا فـي

ةصغيرال ركبتيها إلى المحجرين ومالئا كفه ال اقضلوعها ، ن

بترابها القطيفي ، وقد يكون بقاؤه في القبر قد دام سـاعة أو

، وقد يكون يوما أو يزيد ولكـنهم أصـروا اساعتين أو ثالث

جميعا على خروجه بعد ستة أشهر كاملة من تاريخ موتها ،

بسنتين في الفك العلوي ، وصراخ حاد مستمر ميزوه عـن

اهللا ، بشـاله مةصراخ أرواح الموتى ، لفه مقرئ مؤمن بحك

سوداء وأعاده إلى الحياة مـع تخفيـف وربط عينيه بطرحة

Page 307: 539

طبقة من طبقات سواد الطرحة كل يوم حتى اعتاد البحلقة في

الميـت ـ ولقماتـه " أحمد " قرص الشمس واعتاد اسمه ـ

القليلة التي حصل عليها مـن صـدقات المقـابر وهدهـدة

صـدق مـن الطرقات ، إلى أن كبر وأحبته فتاة ثرية لـم ت

تين ، وطريقة إلقائـه رئاحكايته إال غموض وبهجة عينيه الغ

السالم على العابرين ، تزوجته وطهت له كل أصناف اللحوم

يـاه التي حرم منها طويال ، وأرته ما بين فخذيها ، معلمـة إ

نه ردد طيلة حياتـه بأنـه طقوس خروجه من مثل هذا ، إذ إ

الظالم ، إذ بنت له ابن الجبانة ، نتشت من عينيه الخوف من

بيتا من طابقين كله نوافذ تجبر نور الشمس على أن يدوسها

منصـور " في كل وقت ولم يحط فيها إال ولدا واحـدا هـو

. أبي " / الميت

؟ " أحمد الميت " ـ أال تعرف كيف مات جدك

مهـا " ـ كما يموت الناس ، فجأة وبدون أسباب يا

. ه فماتت في نفـس السـنة لم تحتمل جدتي فراق : قالوا " .

إنها طارت من العيون الحجرية المخصصة للنسـاء : قالوا

إلى مقبرة جدي بأكفان ممزقة وشعر محلـق ، حتـى قـرر

Page 308: 539

رجال الحي الذي نكلت بهم في الطرقات ليال ، نقل عظامها

. إلى جوار عظامه

الثاني ، وانزوت ربائي عامه دخل انقطاع التيار الكه

في صفحات جرائد الدرجـة " الجاموس حوض " أخبار حي

الثالثة التي أرسلت محرريها من صحفيات شابات جمـيعهن

صبغن شعورهن باللون األصفر ، علـى بشـرات سـمراء

وادعين أنهن من أصل غير عربي ، كن يصورن كل شيء

حتى القصارى التي يتبول فيها الناس ويسجلن كالم األهالي ،

مجهولة ، بل ويقضين يلتقطن من األرض عينات ألغراض

اليوم كله في الشارع شاربات الشاي المعبق بالجاز والتراب

ما خرجن بسياراتهن من الحي مساء الطائر في الجو ، ثم إذا

فينشرن كل شيء عن الحي إال " بطة " ، يعترضهن عفريت

" مهـا " السلبيات التي يجتثها من ذاكرتهن العفريت ، تقـرأ

: فتهتف بيأس الجرائد بعد فترة هذه

ـ واهللا ، لن يصدقني أحد حتى لو كتبت على لحمي

. ما يحدث هنا

صمتها وعاداتها في اختبار صالبة " نجوى " تواصل

أحمـد " إلى هلبكاء طويل حار أهدته كل " مها " األيام تاركة

Page 309: 539

الداخل في كثافة من البياض غير المعهود جعلتـه " منصور

ة مضحكة كالسكارى ويقول يقيتكئ على حروف كلماته بطر

:بتحد

" اسأليني عن " مها " ـ لماذا ال تسألينني عن أبي يا

" .مها " هه اسألي واكتبي وال تخجلي يا " . منصور الميت

. ـ أنا أعرفه

. أجابت بحسم وتحد حتى ال يصله شعورها بالشفقة

.ـ أقسم أنك ال تعرفين أي شيء

هربا مـن لسـان في المطبخ " نجوى " ويذهب إلى

أن الحكومة ظلت " مها " التي أقسمت لـ " انشراح السبتاتي "

ألكثر من خمس سنوات " حوض الجاموس " ترصف شوارع

ـ أيام اإلثارة ـ وأن الناس كسروا األسـفلت لخـوفهم أن

يتعثروا في خطواته الملساء ، وربما لحنيـنهم إلـى اللـون

كهربائية الليلية ، الطيني لألرض ، سرقوا مصابيح األعمدة ال

وأطلقوها في كفوف صغارهم لعجزهم عن شـراء فـوانيس

رمضان ، كما أنهم قصوا األعمـدة نفسـها واسـتخدموها

عكاكيز تحميهم من النقر والمطبات في الظالم ، أكثـر مـن

Page 310: 539

مرة زرعت الحكومة الحدائق الخضـراء ونثـرت ماليـين

ن الورود التي قضمها الشباب في العصاري وهـم يتفرجـو

على أفالم البورنو بالفيديو في الخالء ، في هذه األيام كـان

وجـوه حـت يحفظ أناشيد رفاعية ويدرس ن " ميت منصور ال

ذا ما أتقن المالمح ثم أحرق هذا البشر على الشمع الخام ، فإ

النحت مات صاحب المالمح في التو واللحظة ، والحـق أن

األحيـاء الرجل لم يجرب شمعه على أهالي الحي أبـدا وال

بشكل عام ، فقط أعلن مسئوليته عن مقتل زعيم فجأة ، ظـل

مقتل قطة أعجبته فنحت وجههـا يشك كثيرا في وطنيته ، و

، فلقيت مصرعها بشكل كوميدي أثناء قفزها لسـور وحرقه

بيته القصير ، ماتت تحت هذا السور في الصباح ، وطلعـت

خدش صغير له في المساء ناصعة كما كانت ، وال يشينها إال

ببطنها من أثر القفزة ، وأظافر مقروضة بيد رجولية غليظة

القصـور العثمانيـة كد أنها كانت خادمة حسناء في أحـد تؤ

ائل إلى الحمرة يؤكد أن درزينـة تحديدا ، جسدها العاري الم

انتزعوا عنها للتو شعر القطة التي كانتهـا ، أزاحـت راوج

فخذيها ، وثبتت عينيها شعرها الغسقي المسترسل إلى ما بعد

Page 311: 539

القططية في عينيه المرعوبتين ، ورفعت حاجبـا وخفضـت

: اآلخر بحنق وقالت

يا ميت ؟ " منصور " ـ لماذا قتلتني يا

رقد الرجل فيها أكثر من سنة ثم خرج ليقوم بعملـه

ويفتش على الحيات في جحور الناس ، يصفر لها ويحـدثها

ام أمرها وسـط صـراخ فتنساب زاحفة إليه مسلمة إياه زم

النسوان وحولقة الرجال ، وإحصاء األطفال لعـدد الثعـابين

: حتى اآلن ، قالوا " صور الميت من" والحيات التي أخرجها

نه تزوج من قطته تلك التي قتلها وكان يهـبط لهـا تحـت إ

األرض ويختفي باأليام ، ولطالما سمعوا فيما بعـد شـجار

ة لتوها من الفرن المحمي أطفالهم على فطيرة طازجة مدفوع

إنهم كانوا إذا مـا : بدون وقود وبدون مخلوق أمامه ، قالوا

اقتربوا من البيت ليتأكدوا من شكوكهم تنطفئ نيران الفرن ،

ار بتنهيدة غاضـبة وتختفي طسوت العجين وأصوات الصغ

" سـكينة العميـاء " اقترحوا عليه أن يتـزوج . صبر ونفاد

" أحمـد " وافق هو فرحا ، أنجبت له المقطوعة الجذر مثله و

هذا وعلمته في المدارس ، ومع ذلك لم تنطفئ من بيتهم أبدا

منصـور " نيران الفرن المهجور في حوش البيت وال غياب

Page 312: 539

أليام طويلة وطلوعه الفجائي في إحـدى الغـرف ، " الميت

حتى جاء اليوم الذي أخرج فيه ثعبانا يمأل صحارة الكنبة في

، كالعادة لف الثعبان حـول رقبتـه " لبلتاجي علي ا " عشة

وابتسم سائال إياه عن وجهته ، ما هو يا ترى الطقس الـذي

أسقطه أو العهد الذي خانه لكي يضيق الثعبان عليه الخنـاق

هكذا ، ويلدغه في منتصف الحنجرة تماما ، وال نحـن كنـا

بعارفين لماذا مات ، وسحنته شاكرة وكأن الثعبان قد سامحه

. ال على الجريمة التي اقترفها في حقه فع

بالكاد حلة المحشـي مـن الشـياط " نجوى " أنقذت

أحمد منصـور " وضيقت عينيها الواسعتين وهي تستمع إلى

: "

ـ أختك سفيهة بما يكفي إلضـجار أمـه بحالهـا ،

ستظل تجمع الحكايات الساذجة إلى أن تتعفن تماما في حجر

" . انشراح السبتاتي "

: ضحكتها " نجوى " مت كظ

؟ألهذا يخر قلبك في قدميك كلما رأيتها . ـ آه

نها رفست عن عمد آخر حائط له فوقـف عـن وكأ

ازدراد أصابع المحشي من الحلة مباشرة ، ومسح يديه فـي

Page 313: 539

قميصه وقال وهو يخرج من المطبخ كطفل يخشى أن تصفعه

: أمه فجأة

ن عاداتـك أنك تمارسي " نجوى " ـ أسوأ ما فيك يا

ليال بمالبسك كاملة ، جربي مرة أن تتجردي منها ، واحكي

. لي فيما بعد عن الفرق بين هذا وذاك

علـى اإلطـالق مـن معرفتـه " نجوى " لم تخجل

لطقوسها السرية ، بقدر ما حقدت على وجوده في الحياة ككل

نـارا أشـد " أحمد منصور " ، ودعت على المأل أن يتوسط

دون أن يسـلم منهـا ، بـل " سيدنا إبراهيم " اتقادا من نار

بأنها ستحرق نفسها إذا ما دخل هذا األحمـد " مها " وهددت

البيت مرة أخرى ، ولكنها بعد نصف نهار فتحت له البـاب

دونما إشارة لما حدث " لقمة القاضي " نصف حانقة وأطعمته

. ال منه وال منها

" ر أحمد منصـو " مرت جمعتان على بداية تدريب

مها " لحشراته ثم تهادت حشود الصراصير الطائرة إلى بيت

، أجفلت وهي تخرج أحدها من حمالة ثدييها ، ثم " السويفي

تبينت بيأس أنها محاصرة عندما شاهدت جدارا كامال مغطى

بها في عز الظهيرة ، ولكنها اعتادت مع األيـام أن تمضـغ

Page 314: 539

ضـربات طعامها وهي تتجول على السفرة أو تتفتت تحـت

.باآلالف " نجوى " شبشب

" أيام بلون القهوة فاتت آخذة معها آخر حافلة عبأها

بشاكوشه وأخشابه ثم نـادى علـى النـاس أن " أحمد العتر

يرتبوا أمورهم على ضوء غياب سيارته إلى األبـد ، ودون

أن يسلم على أحد منهم باليد ، ركب الحافلـة سـاحبا علـى

كريات ال ينتهي ، وهكذا اضطر األرض خلفه طابورا من الذ

ماشيا مـن " حوض الجاموس " أن يأتي إلى " أحمد الدالي "

استحم مرات كثيرة فـي يومـه المؤسسة ومعفرا بفشل ما،

األول ليتخلص من رائحة الماعز التي سيطرت على أنفه ،

بأنه يتميز هذه المرة برائحة األطفـال " نجوى " رغم تأكيد

عجـز اسـتعادتها لفصـول يومهـا رضع ، ولكي تداري ال

صمتها كله في هرش قنوطها مـن " مها " ت الزواجي استنفد

ر صـدره المبلـور وهـو غيابه الطويل ، أخذت تضفر شع

عاصم " ه القادمة ، لم تتذكر متى قال لها إن غارق في سفرات

مات من شهرين ، ثبتت بتأن شديد حـزام الـروب " التاجي

ده ، خجلت منه فجأة حول خصرها على عرى فائض عن ح

:قالت بعد ساعات من الصمت " التاجي " وهي في حضرة

Page 315: 539

.ـ يا عيني

حددت بوضوح وجها مكورا من تلك الوجوه التي إذا

ـ ما مرت على العابرين ال تترك فيهم أثرا ما ـ ولو ضئيل

أن تعرفني عليه " أحمد " لحظتها صممت يا . بالخصوصية

أهم من فـيهم " عاصم التاجي " كان .. ودخلت مع الداخلين

بحكم رئاسته لتحرير المجلة التي يعمل بها الجميع ، قلت لي

أن تقدمي فتقدمت ، وواجهت أخيرا ثقبي وجهـه " أحمد " يا

: الضيقين جدا والمؤهلين لبنفسج فريد في درجته ، قال

: بينما تقول عيناه ..ـ أنت رسامة واعدة

. ـ أنت أنثى واعدة

على االنتقام منه وأنا أمسك بغبائه في كيفية مت مفص

نطق الكلمات ، ال لكونه سمح لنفسه أن يهب أوسـمة لكـل

الشعراء والكتاب والتشكيليين دون وجه حق ، إذ أنه لم يكن

يصلح إال مقاول أنفار في أحد ميادين القـاهرة الفسـيحة ؟

ال ولكن لتأكدي التام أنه لم ير لي لوحة واحدة ولم يقرأ لي و

وأقسم أنني لم أرتب هذه النهاية وحدي . لغيري كلمة واحدة

إنك ستخرج ألمر ما وستعود بعد " أحمد " ولكنك قلت لي يا

ساعة لتأخذني ، تذكر أنك كعادتك تأخرت حتى قطعوا كـل

Page 316: 539

حلـول الم حول مجاعات أفريقيـا ، وجـدوى ال مباريات الك

القمتـين السلمية بين الشعوب ، ونهاية الحرب الباردة بـين

واكتفيت أنا بمداعبة وإثارة حنق روائي كبير قرر أن يلخص

والنظريـة الماركسـية ، " تشر نوبـل " روسيا في حادث

والفتيان والفتيات الذين يمارسـون الحـب فـي الشـوارع

وانصياع الشفاه للشفاه عيانا بيانا خلـف واجهـات المحـال

ا حبائل ما نرسم مع " عاصم التاجي " الزجاجية ، وكنت أنا و

:وقع ، فقد قلت فجأة وبصوت أكاد حتى أنا أن ألمح كذبه

ـ العرب سيموتون بإرثهم العقائـدي مـثلهم مثـل

. الهنود الحمر

" ثم راقبت إيقاع كلماتي على الجميع إلى أن ترجرج

: واقترب بلحمه الثري العجوز مني وقال " عاصم التاجي

. ـ ال تقال اآلراء هكذا يا ابنتي

: قلت بهدوء وبرود استنكرته أنا نفسي

سـقط فعليـا أممـا ـ تندهشون وكأن التاريخ لـم ي

هل تذكرون مثال ماذا أكلـت ورسـمت ، ومـاذا . بكاملها

" خوفـو " اعتنقت ، وبماذا حلمت عشرات الدول أيام كـان

يدشن حول تابوته أسرار البناء وأشعة الشمس وينظم دروب

Page 317: 539

ا هكذا مثلنا وبكوا على كل شـيء أقسم أنهم وقفو ! الروح ؟

نحـن : كما نبكي اآلن وقالوا ما يجـب أن نقولـه جميعـا

موسومون باالنقراض حتى تدور كرة التاريخ نصـف دورة

. على األقل

بـل والحقيقة لم يتوان أحد منهم في الهجوم علـي ،

سبوني ورموني بالجهل والكفـر ، وسـألوني عـن سـني

سمينة وأب فوق حاجبه األيسـر ودراستي وهل كانت لي أم

وشم على هيئة هالل ، كنت ثملة لحد أنني رأيـت كشـفهم

الكامل لعيني ، وهما تتابعان كل الرجـال وهـم يحملـون

أعضاءهم التناسلية فوق أكتفاهم ، وكـل النسـاء الـداهنات

وجوههن بطالءات منع العمر من التقدم ، كان حتى الهـواء

نني أكملت عشـرين فوا إ ع. من حولنا ينضح بجوع خالب

حزنا ولم أكن إال دارسة للرسم في كليـة الفنـون الجميلـة

الطعم الذي قدمته له ، وظل " التاجي " بالزمالك ، أخذ وقتها

القصد وحسن النية ، ثـم : وحده يدافع عني مستخدما لفظي

: خرجوا الواحد تلو اآلخر وهو يخطب فينا

والبطـون ـ حقا نحن قوم يتكئ على مخنا الجـنس

. الخالية

Page 318: 539

: وضحك كثيرا وهو يضيف

ـ يجب أن نقيم فاصال ما وهميا بين النساء والرجال

، ثم نطلق صيحة ما متفق عليها ليهجم كل منهم على اآلخر

لعقود زمنية طويلة ، بعدها من الممكـن إفـراز عالقـات

. صحيحة بين الرجل والمرأة

لـه اآلن كنت قد قرأت له باألمس فقط عكس ما يقو

عن أهمية الحفاظ على العادات والتقاليد حتـى ولـو كانـت

متخلفة ، ولكنني ظللت أصفق له بعد كل عبارة وأنا أخفـي

استهجاني لتحمسه الزائد لجميع األفكار في كل الحقب وبنفس

فيما ستنتهي عليـه الليلـة ، القوة ، كنت مشغولة حتى أذني

لى أن يتم كل إ" أحمد " شاركته دعاءه الطويل أال تأتي يا

ـ ة كحـول واحـدة ، رشيء وانتشيت دون أن ارتشـف قط

انتظرت ما توقعت أن يحدث وودعت آخر المدعوين ورددت

على غمزة قواد من عينيه بابتسامة هادئة ، وسرعان ما خلع

عمومية الكالم وقفز لحدود جسدي ، أقسم أنه لم يـر امـرأة

اآلن أتفحص ببـرود . هن أشباه إناث وإن كل من رآ قبلي ،

رقة اإلناث ، فخامة تنسيق الزهور ، ظالل الضـوء غيـر

الغالب من جميـع المباشر الصادر عن أباجورات جلبها في

Page 319: 539

فان جوخ " ذكر أنني وقفت طويال أمام وجه أنحاء العالم ، وأ

المعلق بعناية بين لمبات خافتة ، تمكنت من كبح حزن من "

أنا أنظر لجالل أنفـه وأذنيـه هذه األحزان غير المبررة ، و

وصل إلى مطاراته األخيـرة دون شـك " التاجي " تحديدا ،

اآلن ، فسجد هناك مستندا إلى حافة كرسيه المفضل وتهيـأ

،لقبول حتمي مساو لوعكة ليال طويلة ال أعرف أنـا لونهـا

: سحبت نفسا طويال يليق بنهاية المأزق وقلت

مونا أن الجـنس ـ أنت محق تماما لقد خدعونا ، عل

وطأة الجسد على الروح ، وما هو إال عالقة اإلنسان الحميمة

بأعضائه ، مثله مثل هذه الرجفة التي تشعر بها إذا ما احتبس

فيك البول ثم أطلقته ، أو أثناء تخلصك من عمود البراز ، أو

. أثناء طرد الحبلى لجنينها وسط عوالم الدم والمـاء واأللـم

. أنت فعال محق

تني قليال إشراقته المضطربة وأنا أفـك مشـبك وخز

تنورتي ، ولكنني واصلت رميها بعيدا وتحررت من سروالي

الداخلي ، أعطيته ظهري ببساطة من أعدت كـل خطواتهـا

سلفا ، لسعني وجومه من الخلف ونصفي األسفل عار ولكنني

تأملته وأنا أرتدي ما رميت ، فاتح . أكملت في ثوان ما بدأت

Page 320: 539

والعينين ، لملمت لوحة كانت وال بـد أن تكتمـل بهـذا الفم

مكوم على " التاجي " الشكل حتى ال ينساها وال أنساها أبدا ،

نفسه ككرة ضخمة وأمامه مباشرة كرة طحينيـة صـغيرة ،

لم . لعلها أول ما لوث سجادة دسمة حمراء لها طابع إيراني

: أعد أتذكر هل قلت له هامسة

عيش اإلنسان هكذا ـ كتلة مـن ـ أمن الممكن أن ي

أال تعـرف أن اآلالف . الرياء ـ أال تخجل من نفسك مطلقا

. يقرؤون لك

أنا . سيان . أم أنني فكرت فيها فقط ولم أنبس بشيء

في الحالتين متأكدة أنه سمعها ، فررت كفرار جميع القتلة من

" جرائمهم بعد ارتكابها بسخونة فقد بكارة ما ، حكيت لي يا

ته أنا مفتوحـا أنك دلفت فجرا من باب شقته الذي ترك "حمدأ

ت وشممت الرائحة فهم " التاجي " ت على ما أعرف ، فهزز

: وأنت تقول ككل شيء وأنك لم تستطع كبح ضحكت

" . مهـا السـويفي " ـ ال يجرؤ على فعل هذا إال

عاصم ماذا حدث ؟

ياي انكسار اللهجة مانحا إ " عاصم البلتاجي " طردك

ي افتتاحيات مجلته وكتبه ، التي تجاوزت عدد شعر رأسـه ف

Page 321: 539

هما بالعمالة لكـل الـدول المكدس بصلعة خاصة ، وظل مت

والرؤساء والملوك على الرغم من أن الرجل لم يـتقن فـي

حياته سوى هرس آراء اآلخرين ، وتوقيعها باسـمه ، فقـط

دون أن يعرفوا السـر " عاصم التاجي " اتفق الناس على أن

يهتم اهتماما حريفا بالسجاد الذي يمشي عليه في قاعات كان

كبار الزوار في كل البالد التي زارها مكمما أنفه بأصـابعه

:جلى على مؤخرات أصدقائه حتى قيـل وموزعا نظرات و

إنه غير كذلك اتجاه أعضائه ، ولكنهم لم يفتوا أية فتوى عن

ا مـن اعوجاج مالمحه الكروية من قرف مفاجئ يعتقله دائم

هل كان لي أن أرتقي . اجتماعاته ومناسباته السعيدة والبائسة

يعـرف مـا " أحمد " حياة الرجل إلى هذا الحد ؟ ألم يكن يا

سيحدث وتمنى أن يراه ، فجعلته يراه ، وكنت قادرة ثم أنني

ال أصدق كل ما أتذكر وال أفهم ما الـذي جعلنـي أتقصـى

؟ " جي التا" حقدي إلى نهايته هكذا في حضرة

" نفسه ، كثيرا وهو يواجه جمود " أحمد الدالي " أنب

الفوالذي وصمتها القانط الذي جعلهـا تسـأل أحيانـا " مها

. األسئلة وتجيب عليها وتقترح إعادة ترتيب غرفـة نومهـا

وضعا الخزانة مقابل السرير ورفعت عن مراياها الجرائد ،

Page 322: 539

لى حالـة لتعود إ كبير من المرايا الالمعة أكمال زوايا مربع

التطلع إلى نفسها من جميع الجهات وفـي كـل األوقـات ،

خصرها نحيف كما هو ، التفاف عودها جعلها تلف مـرارا

حول نفسها ، ولكنها أقرت وهي تتصيد عدم انتظام خطـوط

مة على جميـع الـدموع التـي الجلد تحت عينيها ، بأنها ناد

" تي يحبهـا وعلى صوت ضحكتها التي لها ذيل وال سكبتها ،

" . أحمد الدالي

بماليين الحيوانـات الصـغيرة " مرصعة " رحالت

التي سارت أمياال كاملة الوعورة ، تيبست من جديـد فـي

بطنها ، كانت قد عاشت من قبل مرارا حدوتة أحشائها تلـك

ابتداء من غاللة النور المسكوبة فيها وحتى حلول أعاصـير

ملة نطفة لحم على شـكل دم مبكرة دائما عن ميعادها ، وحا

قط هو أن جميع قطع اللحم تلك " مها " هالل ، ما لم تعرفه

التي تفننت في نثرها في جميع االتجاهات من النوافذ ، كانت

تلتقطها من الشارع وتتبلها بالملح وتضـعها فـي " نجوى "

دوارق زجاجية مؤرخة إياها بطريقة رصها ، وكانت إذا ما

ء ، تهرع إلى رف سري في المطبخ ضاقت بها أسباب البكا

Page 323: 539

"مها" فتنطق هناك نوبات هوسها البكائية التي طالما أرجعتها

. النعزالها اإلرادي عن الرجال

دخل الظالم عامه الثالث واختفى زعيق األطفال من

الشارع ، وذهبت بال رجعة المقـدمات الموسـيقية لنشـرة

طـال اللـبالب و" أحمد العتر " األخبار المنبعثة من مذياع

لدرجة أنه سد الطريق إلى السلم المؤدي إلى سـطح البيـت

، " أحمد منصـور " وغطى النافذتين المشرفتين على بيت

كلها بـاللون األخضـر ، فكانـت "نجوى " سوتلونت كوابي

تصرخ مستنجدة بمن يحميها من وحش له ألف قـدم وألـف

زهـرة ذراع جميعهم مثل األفاعي ، يدخل عليها كل ليلـة ب

البنفسجي األبيض المنتصب وفحولة أوراقه ليمارس خنقهـا

ظل الصيف باسقا أجنحته . حتى طلوع الشمس دونما صوت

الخالية من الريش على رؤوس الناس بتحد مشمس ، ونصل

يعكس بال كلل رذاذا مكتظا بحمم تكنس المارين من الشوارع

فـي ، وتغلق العيون الحمراء عنوة ، وتشرخ زجاج النوافذ

طال النهار وعجز الليل عن مهمتـه فـي . صهيل الظهيرة

لسنة ضخم عن مكانه ، ورددوا جميعا أن ا زحزحة القرص ال

الفائتة كانت كلها صيفا ، وأعادوا مراجعة تقـويم أجسـادهم

Page 324: 539

المدبوغة بلون طيني أجرب ليتأكدوا أن الشتاء لم يبزغ على

ية بشفاه ي صمت ال نهائ هذه األرض مطلقا وغابوا في رغاو

جافة متشققة ووجوه متشابهة حرمت عليهم متعة التمييز بين

النساء والرجال ، التأمت خواتم العرق فوق جباههم جميعـا

أوراقا عنقودية تشبه حبات الزبيب ، ولم تفلح خراطيم المياه

المفتوحة ليل نهار فـي إزالـة رائحـة البـاص المـزدحم

. المسكونين بها

نجـوى " حجرتها ، وحجرة " مها السويفي " أخلت

من األثاث كله ، وكدسته في غرفة الكراكيب بالطابق األول

ونزعت السجاد وأطلقت الماء على األرض حـرا ومتجـددا

المنهمك " أحمد منصور " جلست أمام . دائما لتبخره السريع

في تأمل رقعة الشطرنج ، عارفا أنهـا ال تجيـد الهجـوم ،

يه وزيرها هدية مقابـل بيـدق ولكنها في كل الجوالت تعط

وكأنها تتلذذ بغبائه ، تخبئ قدميها في الماء وتغلق الشـطرنج

:وتصيح

إذا أردت أن تغلبنـي فركـز علـى " أحمد " ـ يا

. الشاه

Page 325: 539

ـ هل قال لك أحد من قبل أن صوتك مصقول بناي

؟

. ـ قالوا

أحمـد " كلمت حشود الحشرات بأسـرها أن وكان

ه لسانها ، وعششـت فـي قميصـه بل أخرجت ل " منصور

وأعدم من يخون أوامره منها ، أقام محاكم وقضاة ومحامين

عند البركـة منهم ، وصبر كثيرا على مرافعات تستمر أليام

يـا أم إن : وقال " حوض الجاموس "المهجورة على حدود

اإليدز يسحل اإلنسان كومة من العظام إلى قبره فـي وقـت

اإليدز يدخل من الخلف فقـط فقـد قياسي ولما كان يعتقد أن

واصل غلق فتحة إسته باللزق الذي تبقى لديـه مـن عهـد

هـو فنسـي الدراسة على هيئة صليب ، حتى نفـد اللـزق

يا أم إن المرايا كلها تحيل بينـي : الموضوع برمته ، وقال

تمسح كل يوم قطع " سكينة العمياء " وبين صورتي ، وكانت

ابنها لتعيـد إليـه الذي لطخها بها المرايا من العسل األسود

العسل لم يحاول هو النظرفي المرآة إلى أن صورته ولما نفد

تـين الجميل" مهـا السـويفي " إن عينـي يا أم : مات وقال

تعمسان تماما مثل عينيك ، وقد نثرت في شعرها األخضـر

Page 326: 539

نهارا كتائب من القمل ، وأطلقت عليها فيـالق والعسلي ليال

البق لتكـون أجمـل فريسـة لهـم علـى من الصراصير و

أشعل قراطيس األوراق القديمة ليدخنها ، وكـان . اإلطالق

يحلق ذقنه في اليوم أكثر من مرة حتى تهتك جلده وكانت أمه

تسحبه مغلقة عليه جميع النوافذ واألبواب لتحممـه فيصـرخ

. مستندا ثم يستسلم مغمض العينين آمرا حشراته باالنصراف

ها لصـوت أختهـا تحاول النوم أثناء سماع " نجوى " وظلت

: الهامس ليال

أخذوا يزيحون الثلج في الفجر كالعـادة ، وموسـكو

ثالجة ضخمة تتقن حفظ لحمها البشـري المكتنـز لفتـرات

طويلة ، نساء تجاوزن الستين يقمن بتعبيـد طـرق للمـارة

بحماس جنود إلهية موقنة من الهزيمة ، ما الذي جعلني أبكي

جعلهـا يلبرد خلف زجاج النافذة ؟ وما الذ أرتجف من ا وأنا

بـل تلتقـي هي بالذات ترفع الجاروف عاليا لتحملق فـي ،

عينانا ، أحسسن أنها ابتسمت لي على الرغم مـن الضـوء

الشحيح الذي يعكسه الثلج ، تأكدت أنها ال تشعر بالبرد مثلي

عاهـدنا ، ولكنها بدون شك كانت تشبهني تماما ، وإال لماذا ت

صمتا على أن أنتظرها كل فجر حتى تنتهي مـن عملهـا ؟

Page 327: 539

جمعت حاجاتها ورفعت رأسها لتطمئن على وقوفي وابتسمت

مرة أخرى وذهبت مع الذاهبات ، التقيت بهـا كثيـرا عنـد

بائعي الورد ، أمام محطة المترو ، في المتاجر المحيطة بنـا

قط ، فقط وأثناء عبوري إشارات المرور ، لم نتبادل الحديث

تبتسم لي ، وأرد عليها أنا بإيماءة حزينة ، وكأنها تعمدت في

كل األوقات اإلعالن عن برودة ما فقد فكانت دائما ترتـدي

معطفا مسرفا في الثقل ، وجوارب عديـدة فـوق بعضـها

البعض وحذاء كهذا الذي يرتديه عمال البنـاء ، ولفافـات ال

ي طيب ، كان يقطع نهائية على رأسها ويا له من وجه صقيع

علي سيري في الشارع ويهزأ بكلماتي فتتجمد علـى أعـين

، اشتقت أن أكلمها ، أن أضحك في وجهها ومعها ! الرفاق ؟

: ، أن أداعبها قائلة

ـ يا سيدي الطيبة ، إن الممر الذي تنزحين ثلجه كل

فجر يشكرك بشدة ، ولكنني مع هذا أتعثر كل صـباح فـي

لت فيه ألنني أتـذكر وجهـك فأسـقط المكان نفسه الذي عم

. خجال

اعتدت أال أخلف لها ميعادا كنت أستيقظ علـى أول

حكة لجاروفها ، وفي ليلة نمت نوما عميقا ورأيـت وجههـا

Page 328: 539

المجعد ملتصقا بالنافذة ، وعينيها الالمعتين الضيقتين ترسالن

من السـرير " أحمد الدالي " لي خيط لوم وخزني ، فأزحت

، كان الممر نظيفا أكثر مما ينبغي هذه المرة ، وهرعت إليها

لدرجة أخجلت الثلج فأحجم عن الهطول في هذا اليوم ، على

انتظرتهـا فـي كـل . الرغم من تنبؤات األرصاد الجويـة

األماكن التي تتردد عليها ، التصق وجهي بالزجاج كثيرا كل

فجر ولكنها اختفت بهدوء وقسوة تشبه الـثلج الـذي كانـت

من طريق المارة وتكومه على رأس الشارع ليـذوب تنزحه

اختفت صانعة الجبال الثلجيـة الصـغيرة . هناك على مهل

ساحبة معها طيبة الثلج ونصاعة لحظات االنتظـار صـوت

هل نمت ؟ انهضي ، سأحكي لك مـن " نجوى . " الجاروف

: البداية

كنا نلتقي في المصعد ، يتحاشى النظر لي مباشـرة

لقـد صـرت : ضاحكة " أحمد الدالي " لت لـ حتى أنني ق

أخيرا شيطانة ، صاحبك البلغاري ال يجرؤ علـى أن يرفـع

عينيه في عيني ، بل أشعر أنه ينتفض إذا ما ألقيـت عليـه

. السالم

Page 329: 539

استمر الحال هكذا ، أمشي على الرصيف المجـاور

للسكن الجامعي ، فيمشي على الرصيف اآلخر ، المقابل لـه

ته إلى أحد المصاعد ، كان ينتظر باستياء شـديد وإذا ما سبق

بـالطبع . المصعد اآلخر ويتركني أصعد في المصعد وحدي

عرفت أنه يحب في صمت وغضب وجنون سيمنعه بال شك

على العشاء مع بـاقي األصـدقاء ، " أحمد " من تلبية دعوة

ولكنه جاء على غير توقعي ، اختار لنفسه مكانـا بحيـث ال

كما خمنت ولكنني كنت أراه وأرى ألول مـرة يراني مطلقا

بدقة عينيه اللتين ال تقويان على النظر مباشرة في عينـي ،

كانتا زرقاويتي الحزن وجميلتين ، تكلم الجميـع ، رقصـوا

حتى تعبوا واختلطت العوالم ، أخذ كل اثنين يتناجيان معـا ،

وكنت وحدي تجثم فوق صدري صـانعة الجبـال الثلجيـة

نت أحاول تبرير سر ارتباطي بها ، وإحساسـي الصغيرة ك

معه فـي حـوار " أحمد الدالي " الحاد هذا يفقدها ، وانهمك

. طويل أظن عن إمكانية عودة االتحاد السوفيتي مرة أخرى

: فجأة قرر أن ينظر لي أخيرا بعينين متسعتين

فـي " نفرتيتي " لقد رأيت " مها " ـ هل تعرفين يا

أدري لماذا هي أجمل امرأة في العالم وال" بوشكين " متحف

Page 330: 539

" هل تعرفين أنت لماذا يا . ؟ إنها سمراء وعادية لحد الوجع

أتظنـين نفسـك ! جعلوها أجمل امرأة في العالم ؟ هه " مها

؟ " مها " فاتنة يا

اخترت الصمت حتى النهاية ، وشـاركني الجميـع

: اختياري نصف نائمين فدوى صوته في السكون

باختصار شديد داعـرة ال تـتقن حرفتهـا ، ـ أنت

وربما كان ذلك سر جاذبيتك ولكنك قبيحة لحد الغثيان بعينيك

. اللتين تشبهان عيني بقرة قذرة

، " أحمد الدالي " كنت أمسك بشكل ال شعوري بيدي

ربما لكي ال يتهور ويضربه وربما لكـي أحتمـل الصـمت

.تحجرة وأحتمل تشنجه وعينيه المغرورقتين بدموع م

إذا كان قومـك يحرمـون " مها " ـ هل تعرفين يا

على المرأة الظهور بدون برقع فهذا التحريم فقط من أجلك ،

بل كان يجب وأدك منذ زمن طويل كمـا كـان يفعـل . ال

قـولي كلمـة ! تكلمي " مها " جدودك ، فأنت خالل وأيك يا

إال أيمكن إنجابـك " مها " أليس صحيحا ما أقول يا . واحدة

!من امرأة حارقة الجمال جمعتك من عشرين رجال ؟

Page 331: 539

وأراد أن يضيف ولكنه شعر فجأة بضعف ما فترجل

، الحظت أنه يتكلم الروسية بطالقة أدهشتني ، فقلت بصوت

منخفض وأنا أرتعد من اإلحساس بـالظلم والحـب وأتأمـل

" أحمد " عروق يدي التي نفرت على يدي

.ك للكلمات ـ أنا أحب كثيرا طريقة نطق

التقط باضـطراب . ولم أرفع عيني فيه مرة أخرى

علبة سجائره ، وثقابه ، وخرج على مهل ، دموعه حرقتني

يخلص يديه من يدي وسميح دموعي أخفيت " أحمد الدالي " و

وجهي في صدره خجال ، فضمني بقوة جعلتني أغمض عيني

:على صوته العميق الحنون وهو قطع الصمت

إذا كنت قد تزوجت مدينة جمال تمشي ـ ماذا أفعل

. على قدمين

في الصباح حرصت أن أرتدي ثيابي بتلصص كي ال

، فبعد كل كارثة كنت أتحاشى الكالم معـه ، " أحمد " أوقظ

وهو يسلط علي عينين تتمنيان أن يكون لي أنف معقوف ، أو

: فم معوج ، أو عين عوراء ولسان حاله يقول

!سر حدة هذا ؟ ـ ألوا يوجد شيء يك

Page 332: 539

بينما أغلق الباب لمحت ورقة مكتوبا عليهـا بخـط

واضح وحروف كبيرة جميلة ربما ليستطيع قراءاتهـا كـل

: المارين ببابنا

أستمحيك عذرا ، فقد كان علي أن أثقب قلبي " مها "

أنا رأيت جمال الفراعين كله : سأقول لهم في بالدي . بيدي

أسافر في . مدى حياتي وسأحتفظ بوجهك الجميل وحضرتك

. وداعا " . أحمد الدالي " قبالتي لـ . الثالثة بعد ظهر اليوم

" فينسي سالف "

أرجـو أن تنسـاني : ـ هززت رأسي وأنـا اردد

. بسرعة

فتحت الباب مرة أخرى مقررة أال أذهب إلى الجامعة

" حتى ال أراه ، خلعت مالبسي بصخب هذه المرة ، ولكـن

لم يستيقظ فنمت عارية تماما محتضنة ورقـة " أحمد الدالي

. صغيرة خدشني صاحبها وسافر

Page 333: 539

سمكة الجيتار

•"الصـافرات " على مدى بصرها وسمعها ، تغني

التي سحرت المالحين بصوتها ثم أودت بحيـاتهم ، والتـي

، والتي حكى عنهـا الصـيادون **" أوديسيوس " نجا منها

، ومن جسدها الذي ، أساطير بعد فرارهم من جمال صوتها

نصفه سمكة ونصفه امرأة ، ستسد سمكة الجيتار أذنيها كما

.لكي تضع موسيقاها الخاصة ***" بيتهوفن " فعل

حر التي تطلق أصواتا صافرة طويلة حادة متعددة عروس الب": أو : الصافرات •

.النغمات ، تغوي المسافرين فال يستطيعون فكاآا من ندائها بطل إغريقي خالف آلهته في رحلة العودة عقب حرب طروادة ، : أوديسيوس **

ولكنه " الصافرات " فتعرض لبعض األهوال ، منها وقوعه وبحارته تحت تأثير سحر .نجا منها

. بيتهوفن موسيقار عالمي فقد سمعه ، ولكنه استمر في تأليف موسيقاه ***

Page 334: 539

حوض السمكة

٨

لم تنقطع الصحف القومية ، وصحف المعارضة عن

لمدة " حوض الجاموس " شجب انقطاع التيار الكهربائي بحي

حكومة وزيرين ، وشرعت في خمسة أعوام كاملة ، أقالت ال

إعداد دراسات جدوى إلنشاء محطة نووية تولـد الكهربـاء

بحي حوض الجاموس نفسه والذي يئس سكانه من انتظـار

الكهرباء يوما بعد يوم فباعوا المراوح وأجهـزة التليفزيـون

والفيديو ولمبات أديسون والغساالت الكهربائيـة ، واشـتروا

ل عسل ، ومـع بدايـة السـنة بدال منها بقرا ودجاجا ومنح

قسـم شـرطة " السابعة للظالم الدامس أغلق بالشمع األحمر

إثر عدة اشتباكات دموية بـين الشـرطي " حوض الجاموس

التي استغلت انقطـاع " انشراح السبتاتي " الوحيد المتبقي و

التيار الكهربائي فأنشبت أظافرها في عيني الشرطي مساء ،

صباحا ثم اسـتولت " محمد القط " وسلطت عليه أسنان ابنها

بعد أن أخذ الرجل ذيله في أسنانه وهرب على مبنى المدرسة

Page 335: 539

االبتدائية الحكومية المغلقة ومبنى البوستة الذي تركه موظفوه

ومدرسوه مهاجرين إلى بالد اهللا بحثا عـن رزق أوسـع ،

: ونور ال ينقطع ، قائلين

لرسـائل إنه أينما وجد البشر فالبد مـن الكتـب وا

وسنعلم نحن البشر أسرار الكتابة والتمـاس العـذر لليـالي

الطويلة، وكيفية زراعة الصحراء وألوان قزح وبناء البيوت

والضرب والقسمة ، ولما انقسم الناس إلى فريقين أحدهما مع

فلقـد " حجـازي القـط " الشرطي الوحيد واآلخر مع عائلة

لمالبـس فـي فصول المدرسة ، ورتبت ا " انشراح " كنست

خزينة البوستة التي كانت تصرف منها معاشات المتقاعـدين

على فرشته إلى حجـرة بحريـة ، " حجازي القط " ونقلت

وزعت المقاعد بالعدل على الفصول ونجرت من المناضـد

أسرة بمعدل سريرين لكل غرفة ثم أغلقت البوابة الحديدية ،

طعـام وصلت هللا ثالثة أيام متواصلة وهي صـائمة عـن ال

والشراب وطالبة للتوبة ، في صباح اليوم الرابع علق عـن

الطعام والشراب وطالبة للتوبة ، في صباح اليوم الرابع علق

إعالنا على أول الشارع عـن تـأجير مبنـى " محمد القط "

انشـراح " المدرسة والبوستة المملوك بوضع اليـد للسـيدة

Page 336: 539

بإصـالح مقابل عشرة جنيهات شهريا مع وعـد " السبتاتي

دورات المياه ، وتقليم األشجار وزراعة بقية حديقة المبنى ،

أجرت جميع الغرف وانتقل جميع سـكان العشـش إليهـا ،

في إدارة شئون المبنى والحفـاظ علـى " انشراح " وتألقت

عالقات الجيرة ومواعيد دخول دورات المياه ، ولم تر مـن

ت قدميها ، يصل إلى ما تح . يومها إلى بجلباب واسع طويل

دككت أسفله بدوبارة حتى ال تغلبها وهي سائرة في الشـارع

في هذه األيام ومع خفوت عبث . عادات أربعين عاما مضت

األطفال في الشارع ، استشرى نمو اللبالب حتى إنـه أخـذ

من جميع نوافذ البيت ويتابعهـا " مها السويفي " يدخل على

" صباحا ، تعثرت به إلى الحمام والسرير فيوقظها من النوم

" أكثر من مرة فاستشاطت غضبا واسـتعانت بــ " نجوى

ليعدل لها مسار اللبالب فيتوجه إلى سـطح " أحمد منصور

نجوى " البيت بدال من دخوله النوافذ ، حجما اللبالب ودعنه

محـدقا فيمـا " مهـا " لشرب الشاي معهما ، جلس قبالة "

ف بتوصيل بيان سياسي وراءها ، بعينين زائغتين وكأنه مكل

: ممنوع من التداول

Page 337: 539

ـ لقد انتخبوا أكثر من ثالثين رجـال لمطاردتهـا ،

ولما كان شعرها منسابا إلى ما بعد أظافر قدميها ، فإن يدهم

: لم تنلها وال طالت أعينهم خلية من خاليا جسدها ، يقولون

إنها كانت إذا مرت بغابات في الصيف تلونت باألخضر وإذا

بغابات في الشتاء تلونت بالكستنائي ، وكانت في الليل مرت

عن شعرها الممتد من : يقولون . سمراء وشقراء في النهار

بابل إلى حضرموت ومن طيبة إلى أورشليم ظل ينمو إلى أن

أعاقها عن العدو فكانوا يطأونه أحيانا ويقصون منـه بـالدا

أحيانا ويؤرخون عليه عـدد شـهدائهم وأمـاكن مقـابرهم

الجماعية وهدف مطاردتهم لها حتى ال ينسوه مـع مـرور

إنها كانت تتلون باألزرق المخضـر إذا : يقولون . السنوات

ما مرت بالبحار والمحيطات وباألصفر الرمي إذا ما كانـت

. في حضرة الصحراء ، وبالبرتقالي إذا ما غربت الشـمس

نكح الرجال آالف النساء على خصالت شـعرها وأورثـوه

دهم سبب مطاردتهم لها فتزاوجوا وكانوا يقـرؤون فـي أحفا

عقود الزواج شهادة أنها أحلى النساء ، بل المـرأة الوحيـدة

على األرض وما نحن بمتزوجين إال لننجب مـن يسـتطيع

وإنما اعوج كاحلها فألقت فـي " مها " وما تعبت يا . صيدها

Page 338: 539

" يوم بعيد جسدها لتستريح وانتظرت تحت أعماق الماء قائلة

وأنا أصدقها . إنني أرى القمر والنجوم واألشجار تمشي إلي

" . مها " ، الخوف كل الخوف أال نصدقها يا

هـل تعـرف . ـ أنا أصدق فقط أنك ستجن قريبا

أخبرتني أمك أنك تتكلم أرقا . عاقبة عدم النوم ألسبوع كامل

وعشرين ساعة بشكل متواصل ، موضوعاتك غير مترابطة

... و.. ائيا عن الذهاب للجامعة ، وانقطعت نه

ـ إنما انقطع وإلى األبد ما يصلني للجامعة ، وأنـا

وارتضيت أن يرتبط مصيرنا معا " مها " تعبت من المشي يا

بهذا الظالم ، فلن نستطيع الخروج منه ولن يأتي إلينا أحـد

.نفسه " أحمد الدالي " حتى

ـ " أحمد الدالي " ـ مالك و ى إن ؟ اسمع أيهـا الفت

مشكلتك الوحيدة هي الحصول على امرأة تفتك بك وتفتك بها

!.؟ " حوض الجاموس " يا أخي أال توجد امرأة في

ضاحكة وهـي تخـبط " نجوى السويفي " انفجرت

:ركبتها بيدها

. تابت " انشراح السبتاتبي " ـ خسارة كبيرة ،

Page 339: 539

تحدثوا طويال عن أخبار مبنى المدرسـة ، وسـكانه

مدى صحة وضعهم القانوني وأين سيتعلم الصغار ، الجدد ، و

اتفقوا أال يخرج أحد مـنهم لـيال ، إذ إن الكـالب الضـالة

عسكرت داخل العشش معتبرة أن الليل من حقها والنهار من

وأمه كسكان " أحمد منصور " وأختها و " مها السويفي " حق

" لينام كما وعـد " أحمد منصور " وحيدين بالشارع ، نهض

فانقبض قلبها ، نادته ليقترب منهـا ، وعنـدما دققـت " ا مه

النظر في عينيه الغائرتين تيقنت أنها لن تستطيع محاصـرة

حجم تلك الكارثة التي انفك لجامها منذ زمن طويل ، بيـأس

شديد اشرأبت وقبلته من وجنتيه ، مألت عينيها مـن جمـال

خل مالمحه التي أضاءت تحت وقع قبالتها ، واستدارت لتـد

: حجرتها على مهل عندما أوقفها صوته المحايد الدامع

ستسامحينني أليس كـذلك ؟ تعـرفين أن " مها " ـ

األمر لم يكن بيدي ؟ هل تسامحين ؟

: عادت إيه ثم انفجرت باكية وقالت بصوت مهزوم

.لن أسامحك لقد أضعت عن عمد نفسك . ـ ال

فمها ـ الفاتحة " نجوى " احتضنته بعنف فهمت منه

دهشة ـ أن هناك اتفاقا ما مبرما بينهما على أال يرى أحدهما

Page 340: 539

دفن وجهه في شـعر " أحمد " اآلخر بعد اآلن ، الحظت أن

وأنه هو الذي خلص نفسه من ذراعيهـا . أختها بدون تعبير

مهروال ومثيرا زوبعة من صراخ الكالب في الخارج وما إن

ابل وأغلق عليـه على أنه دخل البيت المق " نجوى " اطمأنت

صارخة في وجهها علـى " مها " الباب ، حتى راحت تقذف

تالعبها بهذا الصغير ولم تسكت غال بعد تأكدها أنها نائمـة

منذ ساعات دامعة العينين كمالك صغير لم يرتكب أي ذنب ،

: أيقظتها في الصباح عابسة وقائلة

. ـ أنا ذاهبة للسوق

" بقدر ما أوجعـت ـ وأنا لم أوجع رجال في حياتي

، ولم يكن هناك إال طريقة واحـدة لتفـادي " أحمد منصور

. الكارثة وهو عدم والدة أمي لي وعلى هذه الهيئة تحديدا

. ـ ليتها ما فعلتها ال معك وال معي

إلى سور المدرسة ، بنـاء علـى " السوق " تم نقل

حيـث إن كـل البـائعين " . انشراح السبتاتي " اقتراح من

مشترين هم أنفسهم المعسكرون داخل السور ، وإن السلعة وال

المباعة والمشتراة كانت ترعى في حوش المدرسة ، تبـادلوا

معا الحمام بالبطاطس والحليب بالبرسيم والدقيق يـا رجـل

Page 341: 539

الفراخ ، وتدريجيا نفذت نقودهم ، ومع بداية السنة السـابعة

إيجار كل أن تعيد تقدير " انشراح " للظالم الدامس اضطرت

غرفة بكيلة قول ، أو أربعين بيضة أو كيل لحم والكيروسين

الذي ارتفع ثمنه من جراء انقطاع التيـار الكهربـائي قـرر

: سكان الحي مقاطعته قائلين

إن نور اهللا يكفي وعلى المسافرين للعاصمة جلب ما

وال " أحمد الدالي " نحتاجه فقط وما ال يستطيع إخراجه فدان

التي ترعى في حوش المدرسة ، وأصبحوا نـادرا دواب اهللا

ما يمشون إلى العاصمة ليبادلوا الزبد والجبن بمناديل الرأس

انعقدت بعد نقل السوق عدة اجتماعات . والسراويل الداخلية

الختيار اسم له ، رتبوا مسابقة وسحبت القرعة في احتفـال

ال ليكون اسـما ويومـا للسـوق و " األحد " مهيب ، واختير

يحدد يوم انطـالق " أحمد منصور " يدري الجميع هل كان

لقد وقف يومها مثلـه ! ؟ " يوم األحد " جنونه عندما اختار

مثل الجميع تحت سحابة هاربة من جحيم جهـنم ، جعلـت

رائحة شياط أثداء النساء تحلق في الهـواء بكثافـة مكونـة

كابوسا فوق راسه وحده ، واحترق الباذنجان فـوق فرشـته

أن يبيعها مقابل خسمة أرغفة " انشراح السبتاتي " التي كلفته

Page 342: 539

، وخمسة كيلو جرامات من أرجل الفراخ ، خرج الرجال من

مالبسهم تدريجيا ووقفوا بسراويلهم الداخلية فقط ينادون على

بضاعتهم ، وكانوا يغسلون من آن آلخر ما فـوق رسـغهم

أقدامهم ووجوهم في عرقهم الذي كون بحيرات صغيرة تحت

، وقد أكدوا فيما بعد أنهم لم ينتبهوا إليه في البداية وهو يرفع

ببطء جلبابه عن انتصاب عمـالق بكـر وحامـل لماليـين

الكوارث ، ولما الحظوا بعد قليل شـحوب النسـاء وتـدلي

ألسنتهن حتى العجائز منهن ، حركوا رءوسهم فـي اتجـاه

ود حقد في وجه فرشة الباذنجان ، كان موجها وبكلتا يديه عم

الجمع الذي خفتت أصواتهم مع خفوت بذاءاتـه التـي كـان

يطلقها ، وانخفضت رءوس الرجـال قلـيال لتمـر سـيوله

المعطرة بلحظات ما قبل نومه وحيدا آخذه طريقها إلـى مـا

تحت سرر النساء ، الالتي انسحبن ليغتسلن ، وسط انصعاق

ما حـدث رجالهن الذين أبرموا شبه اتفاق ودي على نسيان

فلـم " أحمد منصور " وغلى األبد اآلبدين ، شاركهم نسيانهم

يشاهده أحد بعد ذلك اليوم ، ال في النهار وال في الليل ولـم

سكينة العمياء " يعرف عنه أحد شيئا غال عندما دخلت عليهم

Page 343: 539

حوش المدرسة ، وسكتت إلى أن اجتمع الخلق فقالت لهـم "

: بثبات

يد فأنا لن أستيطع الوصـول ـ ادفنوا لي ابني الوح

. وحدي إلى المقبرة

: سألوها عن موته فقالت بالثبات نفسه

ـ منذ يومين دخل علي محتضنا وابور جاز قـديم

مشتعال ، ظل يتأوه يوما كامال على أن سكت أزيز الوابور ،

تحسسته ولكنه لم يعد يحدثني ، لقد صـمت تمامـا ، وأنـا

آلن ال حاجة لي به ، أريد أن احتفظت به حتى أشبع منه ، وا

. أدفن ابني الوحيد

" أحمد منصـور " تهامس الحشد الملتف حول جثة

بأن المرأة قد جنت كابنها ، تحسرت عليه النسـاء ، وهـن

يخمن أن جسده قد تلون بال شك بألوان الطيف كلها قبـل أن

يتفحم تماما ، كفنوه ووضعوه في خشبة خاصة به صـنعوها

انشراح السبتاتي " المقاعد الذي وهبته لهم بسرعة من خشب

حـوض " ، وستكون الخشبة التي تحمـل جميـع مـوتي "

" خرج التي تحمل جميـع مـوتي . إلى المقابر " الجاموس

" خرج الجميع خلف جنازة . إلى المقابر " حوض الجاموس

Page 344: 539

وأختهـا اللتـان " مها السـويفي " بمن فيهم " أحمد منصور

، سارت النساء في المـؤخرة كالعـادة عرفتا بموته مؤخرا

التـي قالـت " مهـا " برسغ " انشراح السبتاتي " وأمسكت

: مختنقة

" ـ كان يشعل النار دائما في أيامه األخيرة ، ويطرد

إذا ما حاولت السؤال عنه وعن أمه ويعاود إشـعال " نجوى

لم نتخيل أبدا أن النار التي اشتعلت منذ .. النار في كل شيء

. نفسه " أحمد منصور " مين بهذا التوهج لم تكن إال يو

ـ الواد ما تحملشي حبك يا عيني ، حضن الوابـور

.وراح في شربة جاز

أنهما تسيران في جنـازة ، ولكنهـا " مها " ذركتها

انشراح السبتاتي " قررت وهي حانقة أن تدعو إليها ذات يوم

سـره ، لتسألها كيف استطاعت وبهذه الحنكة أن تخمـش "

أن " نجوى " وبعد شهرين من انعزالها في غرفتها طلبت من

التي دخلت ترفل بغطائها المتسع الجيد " انشراح " تحضر لها

: قائلة " مها " ، جلست وبادرت

Page 345: 539

ـ بسيطة ، كان إذا ما ذكر اسمك أمامه يرتفع قليال

عن األرض ، ويحتضن شيئا ما في الهواء ، ثم يهز رأسـه

. نيه كارثة محققة لينفض عن عي

تتهمني بأنني قتلته ، تخاصمني من يوم " نجوى " ـ

! الجنازة ، أأستطيع وحدي أن أكون سببا في موت أحد ؟

فكل يمشي على . يا بنتي " نجوى " يا . ال . ال " ـ

ساعته وفقا لمشيئة اهللا ، كل يحفر نقرته التي سيدفن فيهـا ،

. أو اللحم سواء كانت مليئة بالجاز أو الخمر

" و " مهـا " على أن تشاركها " انشراح " وتضحك

. الضحك وتواصل " نجوى

ـ إن شاء اهللا ، هتكون نقرتي أنا مليئة بـالخراء ،

. رغم أني توبت توبة نصوح

إلى المطبخ ومصمصـت " نجوى " واستغلت دخول

: شفتيها وهي تتابع بعينيها مؤخرتها وعيناها تقوالن

رام البت دي ما يلمسهاش راجل لحد يا اختي مش ح

.دلوقتي

: وهي تقول لنفسها " مها " ابتسمت

Page 346: 539

أبدا ، اقتربت منها " انشراح السبتاتي " ـ لن تتغير

: أكثر وهمست

سأفضي لك بسر لن أسـتطيع " . مها " ـ اسمعي يا

. أال تحدثي به أحدا " أحمد الدالي " حمله وحي ، وحياة

به فقط ولكنني لن أحـدث بـه ـ إذا كان شيقا سأكت

. مخلوقا أبدا

" ـ اكتبي يا اختي اكتبي ما دام ما حدش بيقرا فـي

. اكتبي " حوض الجاموس

إن ثالثين امرأة بالتمام والكمال قـد حملـن مـن "

في سوق األحد " أحمد منصور " الحيوانات التي قذفها عليهن

أم " أن ، هكذا اعترفن لي ولو أن أصغرهن انهارت معترفة ب

أغوتهن جميعا ليتفرجن عليه عن قرب ، فكانت تدعو " حسن

الواحدة تلو األخرى ليدخلن عليه في عشة الـدجاج ، وهـو

كل ما يهمني اآلن هـو . يقضم جذرة أو يلوك حزمة برسيم

شلت يدها كما تعرفين ؟ " أم حسن " كيف ستلد هذه النساء و

! " . ن والغربان تنعق في المستشفى العام منذ سني

علـى أن تـدمع " انشـراح السـبتاتي " وتضحك

.. عيناها

Page 347: 539

وكأنـه نفـض فـي " أحمد منصـور " اهللا يرحم "

أرحامهن نطفا من مطاط ال يستطيع إخراجها ألـف برميـل

شيح ، لقد ضربت بطونهن بكل مقاعد المدرسة ، وجعلـتهن

يحملن البقرة تباعا إلى أن انقطعت أنفاسهن ، يبدو أنه ال مفر

" . رجاء " بالمرة أطمن على البت " . المنيا " من السفر إلى

.وحده " حجاز القط " ـ وتتركين

محمد وربنا ، هـاتعلم مـن " ـ أعمل غيه ؟ معاه

الداية هناك كل حاجة ، كدة في السر يعني ، فاضل شـهور

. وكلهم هايولدوا ، وآهي مهنة تنفعني بعد كدة

" نجوى " نادت " اتي انشراح السبت " وقبألن تنصرف

. لتصالحها على أختها

ـ ال تحاسبي أختك على ما لم يكن في وسـعها أن

. تفعل ، إنها مجروحة بموته أكثر منا جميعا

سرح اللبالب مرة أخرى على النوافذ حتى أغلقهـا

تماما ، وافترش جدران البيت من الخارج والداخل وأرضية

من عادة غلـق النوافـذ " مها السويفي " الغرف ، وارتاحت

أثناء تبديلها لثيابها أو استحمامها ، ومع الوقت والحر الشديد

اكتسبت حرية المشي في أرجاء البيت والنوافذ مفتوحة كمـا

Page 348: 539

طـوال " نجوى " ولدتها أمها ، ظلت تضحك من محاوالت

النهار لكنس وقص أغصان اللبالب من الغـرف ، إذ أنهـا

مو واالنتشار بالمعدل نفسه لـيال تتخلص منه نهارا ليعاود الن

وجد صـعوبة عنـد فتحـه البـاب " أحمد الدالي " حتى إن

مضطرا أن يزيح كومة كبيرة من أوراق اللـبالب قبـل أن

وجدها عارية تماما وحولهـا طـوابير مـن . يدخل عليها

الصراصير الطائرة التي كانت تهشها عن جسدها وتواصـل

ة مخطوطها للمرة الثالثـة الكتابة حتى انتهت من إعادة كتاب

واألخيرة بعد وصوله بيومين ، أغلقت عليـه درج المكتـب

: وألقت نفسها إلى جواره قائلة

.ـ لقد انتهيت

. وانشره " مها " ـ دعيني أخلصك منه يا

ال أريد أن يتـوزع دمـي علـى . ال ! ـ تنشره ؟

. القبائل ، أن يقرأه أحد قبل موتي

أثناء فك عريها عن الماليـين " أحمد الدالي " حدثها

التي تواصل القفز عبر سور برلين في اتجاه الغرب ، لتتفرج

على الدنيا بعد سنوات طويلة من المساواة والعزلة ، وعـن

زواجه الجديد من امرأة تجيد العزف على أوتـار جسـده ،

Page 349: 539

وتبدل لون عينيها بالعدسات الالصـقة ، وعـن مخلوقـات

رض وتسرق عينات مختلفـة مـن فضائية طائرة تزور األ

البشر لعرضها هناك في حديقة حيوان ، وحدثته عن مصرع

وجنونه ولم تسقط شيئا غال حالـة الحمـل " أحمد منصور "

الجماعي التي يشهدها الحي ، عاتبته تسقط شيئا غال حالـة

الحمل الجماعي التي يشهدها الحي ، عاتبته كثيرا على غيابه

عتذر بأنه كان وال بد من شراء سيارة الطويل هذه المرة ، فا

ثـم أضـاف بحنـق . في ظل انقطاعكم التام هذا عن العالم

. وكأنه تذكر فجأة

! ؟ " مها " ـ ألست صاحبة فكرة غيابي عنك يا

: سددت إليه عينين ساخرتين وأجابت محدثة نفسها

.ولهذا السبب تحديدا تعبدني وحدي . ـ بلى

إلى شقة هادئة أعـدها لهـا ، اقترح عليها االنتقال

فجـرا معـا . ووعدته بأنها ستستعد لهذا في المرة القامـة

أحمد شعرها الذي طال كثيـرا " تفاصيل غياب طويل ، فرد

على السرير محاوال عده أثناء قراءتها جرائد ومجالت سـنة

فائتة ، واهتمت بمقالة فانتازية توضح عالقة انهيار االتحـاد

نع النسيج في شـبرا الخيمـة والمحلـة السوفيتي بغلق مصا

Page 350: 539

لم تفلح محاوالتها في إزالة الجيوب السوداء التـي . الكبرى

أحاطت بعينيه بشتى الوسائل أثناء إزالته للشعر الزائد مـن

كالعادة " نجوى " واحتارت . مسام جسدها بالسكر والليمون

لقد . أي الحجرات عليها أن تدخل وأيها محرم عليها دخولها

ا يقفزان ملتحمين في جميع غرف البيت ، وكانت تجدهما كان

في جميع األوضاع وكأنهما يؤديان طقوس صـالة صـامتة

وأخيرا قررت أن تنزوي في ركن بالبلكون المطـل . طويلة

هـل : وأخذت تتذكر متسـائلة " أحمد منصور " على بيت

ودفنت أم أن ابنها هو الذي دفن فقط " سكينة العمياء " ماتت

عن ميكروكروم ، " مها " ولم تتمالك نفسها عندما سألتها !؟

: لتضمين كتفها األيسر ، فانفجرت في وجهها

عضة كلب ؟ . ـ وما هذا

" :مها " ضحكت

" . أحمد الدالي " ـ ال

: لها جرحها وهي تلكزها " نجوى " تبلت

ـ إذا كان مسعورا هكذا فلماذا ال تبقينـه معـك أو

. لقد تعبت من مستنقع المجانين هذا تذهبين معه ؟؟

Page 351: 539

أن تـذهب معـه ، " أحمـد الـدالي " كالعادة توسل

أن تبقيه معها ، هز كل منهما رأسه " مها " وكالعادة حاولت

وكأنهما يعرفان ما يقوالن يشبه إلى حد كبيـر جملـة مـن

وهـو يغلـق بـاب " نجوى " عرض مسرحي ثقيل ، سأل

: لت واجمة سيارته عما تحتاجانه من مؤن فقا

" ـ مبيد للصراصير ، وتعويذتين إحداهما تخـرج

من اللبالب ، واألخرى ترجع عقل زوجتـك " عفريت بطة

. المربوط في صخرة بالمحيط

ابتسم بمرارة مضطرا أن يغلق جميع نوافذ سـيارته

خوفا من الكالب الجائعة التي حاصرته من الجـانبين ، وأن

الظلمة الالمتنـاهي الـذي يضرب أنوارها األمامية في لحم

راضية مرضية ، ستعدين من جديد أيـام " مها " اخترته يا

غيبتي وستعيدين كتابة مخطوطك اللغزي إلى ما شـاء اهللا ،

وستحبين التفاصيل الصغيرة للكائنات الحقيرة التي تعيشـين

معها هنا ، وتشيرين دائما كالمرسلين على كنه األشياء دون

أنا الحياة ولو أنك أسـرع منـي فـي أن تبوحي ، وسأختبر

اكتشافها يا أميرتي ، سأجرب النساء ال لكـي أجـدك فـي

إحداهن ، بل ألبرهن لك كل مرة أنك واحدتي ، فلنتفق كمـا

Page 352: 539

أن يقتحم أحدنا غياب اآلخـر بمحـض " مها " شئت غذن يا

ولنتوزع معا على كلمتي اإلظالم والنور ما دمـت . الصدفة

تك التي ال أعرف نهايتها وال جوهرها ، أنا ثمن مدفوع لتجرب

وما دمت أستطيع الحفاظ على ملمسك الغجري لفترات طويلة

، ولكن هل سنقف كثيرا أمام عالقة الجمل بالصحراء تلـك

تسقط أمام أنفك الجميل جميع ألوان المعرفة وكل ما أعده ! ؟

مها " من غضب ، أستطيع أن أشدك من خصالت شعرك يا

كاألخريات ساعات نومي ، وتغسلين فدمي مـن لترتبي لي "

تراب العواصم ، وتمسحين آثار سياط الذكريات مـن علـى

ظهري ، وقتها سأستحيل عليك يا حبيبتي وألقيك من أعلـى

. نهار

الليالي الطويلة لم تستح من القامات المنتاهية الصغر

التي عاشت وعاشت ، ونسيت الشكوى حتـى هللا تعـالى ،

السوداء كانت تهب على السكان فتهشـهم لمـا آالف الندف

أن مائة شمس غير : وراء سور المدرسة ليكرروا كل مساء

قادرة على إنارة هذا الحي ليال ، وأنهم وال شك عندما ولدوا

حكم عليهم أن يستحملوا ذنب مـن عاشـوا فـي الكهـوف

إلى حـد " نجوى السويفي " فارت حاالت اكتئاب . سنوات

Page 353: 539

" مهـا " حار مرتين وفشلت جميع محـاوالت محاولتها االنت

لشفائها ، تفرغت تماما للبحث عنها في كل مكان ، تسـحبها

من تحت أحد األسرة ، أو تفك قرفصة ما يزيد على ساعتين

" في إحدى خزانات المالبس ، وعلى الرغم من كل عروض

أو الخـروج عـن حـدود " أحمد الدالي " بالسفر إلى " مها

" ت ، غال أنها كانت تعرف وبشكل مؤلم أن جدران هذا البي

مرتبطة وإياها بحافر حصان واحد ، سحلهما إلـى " نجوى

هذا المكان الموحش وما زال يرفض الخروج منه ، حكـت

لها كثيرا عن مشاعر أول امرأة وطأت القمر بقدميها ، وعن

كيفية اختفاء حي بكامله من الجرائد ، وعن الكهرباء التي ال

وإنما من " نجوى " الشمس والقمر كما كانت تعتقد تأتي من

شرارة ذروة التقاء الماء ببعضه البعض عند منحدر شريطة

البعد كل البعد عن أعين المتطفلين وإذا مـا جـاءت إلـيهم

الكهرباء فستصحبها إلى البحر ، ولم ال ؟ وهو ال يبعد عنهما

ما عنـد " انشراح السبتاتي " سوى ثالث ساعات ذكرتها بـ

: سألتها بدهشة

ما شـفتيش البحـر لحـد " مها " ـ وازاي يا ست

" مها " يا نهار اسود يا ! دلوقتي وانتي سافرتي بالد بره ؟

Page 354: 539

يعني عديني على كل بحار الدنيا وما شفتهاش ، يعنـي يـا

!اختي زي العجل في بطن أمه

، سـنرى البحـر ، " نجوى " لماذا ال تضحكين يا

بع الشاطئ الرملي الممتد الذي يتحول إلى ستلعب هناك ، وتتا

زجاج في المصانع حيث أن الزجاج ال يستخرج من المناجم

وإنما تستخلص طينته من انصـهار " نجوى " كما تعتقدين يا

" لماذا ال تضحكين يـا . القصور التي شيدها العشاق هناك

: صديقي الروسي " ساشا " ، اضحكي ، سألني " نجوى

تماسيح في النيل هل هي حقا تـأكلكم ـ هل ترون ال

من أيام الفراعنة وحتى اآلن ؟

:فضحكت ساخرة

ـ لم يعد بالنيل تماسيح ، خاصة ، بعد بنائكم منـذ

. زمن طويل للسد العالي

: فرد ممتعضا كطفل تم نهره

لم يفعل خيرا أبدا ، ال شك أن " ـ االتحاد السوفيتي

. لي هذا التماسيح كانت أجمل من السد العا

ابتسامة متحشرجة على شفتيها من " نجوى " تغالب

" مها " حكايات أختها ، التي كانت نادرا ما تصدقها ، وتجد

Page 355: 539

من المطبخ إلى حافـة البـانيو ، " نجوى " نفسها متعقبة لـ

" نجـوى " تسحب ما في يدها وهي ما زالت تحكي بينما يد

سله للمرة المائة تتسلل مرة أخرى إلى إناء الملح لتفرغه وتغ

وتنشفه ثم تضع فيه الملح ثانية ، وتعاود تلميع األثاث إلى أن

يضيع لون الموبيليا ، ترى ذرات التراب التي تعجـز عـن

رؤيتها عينا أختها ، وتحارب نمو اللبالب كل يوم ، وتبلـي

الشباشب في ضرب الصراصير دون فائدة ، كانـت يـداها

إلطالق ، فبنما تؤكد أنها قد تتصرفان دونما واعز منها على ا

تعبت من تنظيف هذا المنزل الكبير وتريد أن تستريح تنتش

المالبس التي جرتها من الخزانة لتعيد غسـلها " مها " منها

: وتصبح محركة يديها بيأس

سأظل أحبه حتى . ، ال فائدة " نجوى " ـ ال فائدة يا

فة األرض الموت ، هناك قانون ما يجعلنا نتكئ معا على حا

لنرفض السقوط معا أو الدخول معا ، وال توجد طريقة لحـل

. هذا االشتباك حتى الموت نفسه إذ إننا أيضا سنموت معـا

ال " أحمد الـدالي " أننا مختلفان فـ " نجوى " كل المأساة يا

يجيد إال الفعل أي أنه يعيش الحياة ، وأنا ال أجيد إال البـوح

Page 356: 539

أتفـرج علـى الحيـاة ، ومـن أي أنني مثل سمكة الجيتار

. المفترض أال نجتمع أبدا ولكننا اجتمعنا

قلـيال إال مـع " نجـوى " لم تنقشع حاالت اكتئاب

التي مألت البيت بأخبار حمـل " انشراح السبتاتي " وصول

ابنتها ، ويوجع عينيها الدائم هناك ليال من ضوء الكهربـاء

أخبـرتهم بـأن الذي نسيته منذ سنين ، وبأنهم كذبوها عندما

انقطاع الكهرباء سيدخل عامه الثـامن ، كمـا كـذبوا تلـك

، وبأنهـا تسـتطيع اآلن " بطة " الحكايات التي عن عفريت

" مهـا " ابتسـمت . توليد جميع نسوان العالم دفعة واحـدة

لتخيلها غابة من السيقان مرفوعة دفعة واحدة ، انتبهت فجأة

. تدكك بها جلبابها الواسع التي " انشراح السبتاتي " لدوبارة

ـ هل ركبت بها القطار ؟

. ـ ستصاحبني إلى أن أموت وسأوصي بدفنها معي

" . مها " إنها عزتي يا

تخلع مالبسها فـي " سكينة العمياء " أخبرتهن قلقة أن

الجهة الخلفية لبيتها ، وتنكش شعرها حتى تأخذ كل شـعرة

محمـد " بنـت "مهـا " مسارا ما ، ثم تحلب النجوم علـى

، وأنها قد عقدت العزم علـى " ليلى األصيل " و " السويفي

Page 357: 539

زيارتها الليلة لتهديدها أن ترجع عن حلب النجوم ، فلن يأتي

ظلـت " سكينة العمياء " هذا إال بالخراب على الجميع ولكن

لها تحلب النجـوم " انشراح السباتي " على الرغم من تحذير

ولما هبت رائحة أكثر " لسويفي مها ا " كل ليلة وتدعي على

من ثمانين كيلو جرام من اللحم على الناس ، اقتحموا عليهـا

بيتها ، وجدوها عارية ، ومزخرفة بكفوف آدميـة زرقـاء

: غطت جسدها كله ، وقالوا

هي آخر سـاللة المطبـوع " سكينة العمياء " ـ إن

على موتهم شعار الكف األزرق ورفضوا رفضـا باتـا أن

أو يحكوا لها حكاية أولى جدات " مها السويفي " لـ يفسروا

. التي أورثت حفيداتها لون موتها المزرق " سكينة العمياء "

حملوها في الخشبة نفسها التي احتفظت بنثـار فحـم ابنهـا

:واشتكى الرجال في الطريق من ثقلها وقالوا

ـ إن طينتها أرضية وأن احتمال استيقاظها في القبر

را عمق الرائحة التي أزكمت أنوفهم علـى مـدى يتعدى كثي

. أسبوع كامل بعد دفنها

شارعا كامل الوحشـة ، " مها السويفي " اآلن تواجه

كما حرم علـيهم " محمد منصور " فقد حرم على الناس بيت

Page 358: 539

الكالم بصوت عال حتـى " نجوى " بطة ، واعتادت " بيت

ا بطبقة أن ترد عليه " مها " تخدش حياء األشباح واضطرت

الصوت نفسها حتى استطاعت آذانهم أن تلتقط فيما بعد نهيق

مع نجومهـا إذا " سكينة العمياء " ومحاورات " بطة " حمار

ما كانتا في البلكون األمامي للبيت ، وكانتا إذا مـا وجهتـا

األفق الخلفي الممتد باألخضر نهارا واألسود ليال ، فصامتين

يلم باألبيض واألسود ، حيث يتفرجان على مشهد وكأنه من ف

أرضـه ألعضـاء لجنـة اإلصـالح " إبراهيم بـك " يسلم

لكي تنسى سؤالها المعتـاد " لنجوى " ماذا حدث . الزراعي

أن تعيد " مها " لقد تمنت ! ألختها عن ضرورة بقائهما هنا ؟

. عليها رغبتها في الهرب لكي تهربا هذه المرة بالفعل

سج تطاردها ، وتنهار فوق إن حقوال شاسعة من البنف

رأسها كل يوم آالف الصورايخ الضوئية الملونة التي كـان

يطلقها الروس في الميدان األحمر احتفـاال بأعيـاد الثـورة

ما الذي يجعلها تصعد وحدها نحو أخطاء التـاريخ . البلشفية

وغشم من ألبسوا المساءات المكتحلة بعذابات بسيطة عباءات

اآلن وبهذه القسوة ذكريـات الـذكور أتحاصرها! سوداء ؟

الذين ماتوا يوم عرس ملكة النحل الفـائزة بفحـل أودعتـه

Page 359: 539

شموس ماضيها وعرى مستقبلها وانفردت ببيضـها األزلـي

تمر الرهان يخونها ، فتقسم أنها لـم تخسـر إال دقـائق ! ؟

معدودة من ماليين السنوات الثلجية والمائية ، ولكن اليـابس

. مر المذاق

نهارا في الحواري القريبة الفارغة " نجوى " ولت تج

هائمة كانت تحتمي بالشمس وتطلق مئات األحجـار علـى

االلتصاق الحميم القدري للكالب وتعود صارخة فـي وجـه

بطة شغل شاغل إال مؤخرات " ـ لم يعد ـ عفريت : أختها

. الكالب وشجرة اللبالب

ا ضاقت حالة الناس خلف أسوار المدرسـة فعاشـو

حياتهم على أنها حصة طويلة مملة ال يراد لها أن تنتهـي ،

ما بين امـرأتين مطلقتـين فـي " انشراح السبتاتي " جمعت

غرفة واحدة ، ورتبت الغرفة الخالية لحدث الوالدة ، أوصت

، بـأن " األحـد " أهل العاصمة الذين عرفوا طريق سـوق

ريقـا يحضروا قطنا وشاشا ومغات وشمع مواليد وثالثين إب

مزخرفا وثالثين قلة مثلها ومالبس الصـغار مقابـل الزبـد

البلدي واللحم الطازج الرخيص وأعدت هي أحجبة للـذكور

Page 360: 539

ومثلها لإلناث ، وفي أشهر الحمل األخيرة المتقاربة للنسـاء

" :مها السويفي " قالت ل ـ

ـ أشعر أنني سأدخل امتحانا مثل هذا الـذي كـان

. ويرسب فيه "أحمد القط " يدخله ابني

، غال أنها امـتألت رعبـا " مها السويفي " شجعتها

قبل أو حالة والدة " حجازي القط " عندما وصلها خبر موت

عباءة سوداء ، وعصبت رأسها " مها " بأيام قليلة ، أخرجت

" حجازي القط " حتى الحاجبين بمنديل أسود ، ومشت خلف

لجميـل بالموسـى التي حلقت شعرها ا " انشراح السباتبي " و

: حتى الجلد وأخذت تندبه

سأظل حزينة عليه على يوم أن ينادي علـى البشـر

.بأمهاتهن

شالت تراب الطريق كله علـى رأسـها الحليـق ،

انشراح السبتاتي " ومألت به فمها وعينيها ، ومن يوم دفنه و

صائمة عن الضحك والكالم إال لماما ، ولكنها لم تخطـئ "

وليد ثالثين امرأة علـى التـوالي ، اعتنـت خطأ واحدا في ت

بالصغار رغم حزنها ، وعلمت أمهاتهن غسل صدورهن من

آثار بيض الذباب قبل رضاعة األطفال ، وألقت تعاليمها على

Page 361: 539

الرجال أن يسارعوا بإكمال بناء سور المدرسة حتى ال تنهش

مهـا " الكالب صغارهم ، وذهبت بعد آخر حالة والدة إلـى

طالبة منها أن تسمي سبع عشرة بنتا وثالثة عشر " السويفي

: ولدا قائلة

إن سكان العاصمة يؤكدون حرص الحكومـة علـى

تطوير الحي في إطار اهتمامها بالعشوائيات ، سيعود التيـار

الكهربائي ، وسيجمعون الكالب الضـالة المسـعورة مـن

ومن الجائز جدا أن يسير مترو األنفاق أسفل بيتك . الشوارع

ذا سيفتحون مدارس عربية وأجنبية ، ونريد أسماء تتناسب ه

ودخول األطفال فيما بعد هذه المدارس على أن يكـون فـي

" . أحمد " وفي الذكور " مها " اإلناث

مها الورق على هيئة كروت صغيرة وكتبت " قصت

على كل كرت اسما ، شرحت معناه وأصله وعنـدما رددت

" :انشراح السبتاتي " خلفها

ـ إيزيس ، ملك ، سلمى ، أحمد ، ديانا ، سوزان ،

: رأسها ضاحكة وكأنها تحدث نفسها " مها " مي ، رفت

Page 362: 539

وفسرت . ـ علهم حقا يكونون التقاء ما للحضارات

الفرق بـين الحضـارات " نجوى " و " النشراح السبتاتي "

. وحضرات الذكر

ظلت فترة طويلة تنقش األسماء على الكروت بخـط

التي كورت " انشراح " كل اسم مرتين كما طلبت منها جميل

فيما بعد كرتا من حجاب كل طفل ، وفكرت كثيـرا وهـي

لألسماء قبل " مها " تبحلق في وجوه األطفال وتستعيد شرح

أن توزع النسخة الثانية على أمهاتهن الالتي جـربن نطـق

ء األسماء مرارا قبل أن يهنن أطفالهن بها ويلصقن بها ، أسما

أزواجهن ، والتي كانت منهن بال زوج ألصقت االسم بالرجل

. الوحيد الذي أحبته في حياتها

اللعب القطنية المتناثرة فـي " مها السويفي " غسلت

غرفة نومها ، وأصلت باإلبرة ما تلف منها ، وكتبت علـى

كل لعبة اسم صاحبها الذي اختارته له ، وضعت ثالثين لعبة

وعرائس بشعر أصـفر فـي كرتونـة لكالب وقردة ودببة

ضخمة ، تذكرت فجأة من ثقل فتحهـا للبـاب الخـارجي ،

وشكها أال تكون قد ارتدت سرواال داخليا ، أنها لم تزر أحدا

منذ مدة طويلة ، بل إنها لم تطأ عتبة باب المدرسـة بعـد ،

Page 363: 539

الطريق ، وعـاد ثالثـتهم " انشراح السبتاتي " قطعت عليهم

التي تخلصت مـن عـبء هـذه " مها "إلى البيت وفهمت

ستدخل امتحانها الثـاني ابتـداء مـن " انشراح " الزيارة أن

وهـي " مها " صاحت . إذ أنها قررت ختان األطفال . الغد

: تفتح الباب

. ـ إال اإلناث

، بـس " مها " ـ لسة بدري على طهارة البنات يا

سـهم دول لو ما طهروش هيهيجو على خلق اهللا ، ويحكوا نف

. في حاجة إن اهللا في الحيطان

ـ من قال لك هذا ؟

أن تؤجل ختـان اإلنـاث حتـى " انشراح " وعدتها

كرتونـة " مها " تحدث األهل عن عدم ضرورته ، أعطتها

يوزعها على كل طفل " محمد القط " اللعب وسألتها أن تجعل

الكرتونة الضخمة وفـي " نجوى " وفقا السمه ، حملت معها

: وقالت وكأنها تحلم " انشراح السبتاتي " توقفت الطريق

ـ إذا مت فجأة فلن أندم على شيء إال عدم معرفـة

.سبب وجود أختك هذه هنا ومعنا نحن تحديدا

Page 364: 539

أحمـد " الـتخلص مـن " مها السويفي " لم تستطع

الداخل عليها كل ليلة بوابـوره المشـتعل ونـاره " منصور

ألخرى ، ومن باب البيـت الخضراء مطاردا إياها من غرفة

حتى العشش المدججة بالكالب ، يقطع خلفها الشـارع كلـه

فتنعطف يمينا لتختبئ في أكوام القمامة التـي يخـرج منـه

من جديد فتنعطـف يسـارا مـارة " أحمد منصور " اشتعال

بالبراميل المهملة ، تصعد سور المدرسة ، وتطـرق جميـع

وتندهش عندما ال تجد الفصول المغلقة وتفتح بابا إثر باب ،

أثرا لبشر ، وإن الفصول كلها مهيأة لحصة تاريخ ال محالة ،

: تسأل نفسها

!ـ أال تدرس هذه المدرسة إال مادة التاريخ ؟

" أحمـد منصـور " النيران تحيط بالمدرسة كلها و

يدخل اآلن عليها خالعا نيرانه كما يخلع عباءة قديمة ، وكيوم

جميال ، وقف أمامها مبتسما وسـألها أن ودعها لجنونه كان

: وهو يلهث

! ؟ " مها " ـ لماذا تهربين مني اآلن يا

لملم شعرها المبعثر في كفيه وقبلها علـى جبينهـا ،

تشبثت به تحتضنه فخلص نفسه من يديها ، وأعطاها عقـدا

Page 365: 539

من هذه العقود الزجاجية الرخيصة به سبع وعشرون حبة ،

ما يرتدي المرء عباءة ، أنـار لهـا ثم عاد وارتدى نيرانه ك

وهي التفتت خلفها فرأت " سكينة العمياء " الطريق حتى بيت

المدرسة تغيب في دكنة صامته تؤكد لها أنه لم يـدخل ولـم

" يعش في هذا المبنى من قبل صريخ ابن يومين ، نصـحتها

أال تنام ليال وقررت أن تستيقظ معها الليلبطوله وتنام " نجوى

شيء بل " مها " الشمس ، ولكن لم يتغير من حلم في طلوع

مـن " أحمد منصـور " شاهدته مفتوحة العينين على خروج

. بيته طائرا بوابوره المشتعل كصاروخ فضاء متجه إليهـا

أنهـا جلسـت " أحمد الدالي " فيما بعد لـ " نجوى " وحكت

على جوار أختها ليال تتذكر وجوه األطفال التي لعبت معهـم

صغيرة ، وإذ بها فجأة تلتقط عقدا مـن تلـك العقـود وهي

على أرض فصل من " مها " الزجاجية الرخيصة ، وقع من

. فصول المدرسة

، وسـتتعذب " نجوى " محبيها يا " مها " ـ ستعذب

بهم وسأظل أنا خارج دائرتها ، أنا أعبد أختك ، وعابدة هي

لملكـة أدري أنني الـزوج الوحيـد . لفضاء الغرف الخالية

سرحت جيوشها لصيد الفراشات بعض الوقت ، وهمت بفـئ

Page 366: 539

لتستريح ، ولكنها قررت فجأة أن تعرف شكل جذور شـجرة

ولكنني أخـاف أن " نجوى " دمها الملكي ، وأنا لم ألعب يا

تهز رأسها الجميل استحسانا بشيء ما فيقطعه لها قائد مرتـد

. من قادتها

وعدم " مد الدالي أح" لكالم " نجوى " سوى عدم فهم

فهمها لكالم أختها حقيقة جنون أحدهما بـاآلخر ، فنفضـت

كي يودع زوجته قبل سـفره " أحمد " يديها تاركة مجاال لـ

الفرق بين جلـد الضـاني " لمها " إلى أمريكا ، أخذ يشرح

ال ترفضه " جواكت جلد " واللبان وكيفية كتابة عرض أسعار

ل شـخير الشـاه تحـت أمريكا التي تعرف كل شيء من أو

" مهـا " السكين ، وحتى خروج الجلد من المدابغ ، كانـت

تسمعه ورأسها في حجره متأملة البقع الحمراء التي انتشرت

فوق كفيها ، طلبت منه أن يرسل شموعا تكفيها حتى عودته

، فقد عانت من فاذ الشموع المبكر مما سبب لهـا كـوابيس

نجوى في " األيام وقعت المشتعلة ، في هذه " أحمد منصور "

مأزق حسابات محصول قطعة األرض المزروعة خلفهـم ،

فلم تعد تفهم على الرغم من انتباهها لكل كلمـة يتفـوه بهـا

من أخذا ماذا ؟ وال كم عند مـن ؟ " حافظ المرسي " الشيخ

Page 367: 539

" و " حـافظ المرسـي " وأحضرت بعد أن عجزت الشـيخ

ثم قال لـ " أحمد الدالي " الذي استمع لهم " انشراح السبتاتي

" . نجوى "

ـ بعد أن تم إغالق مصانع النسيج ، وتـم تسـريح

عمالها ، وتكدس الناس خلف سور المدرسة في انتظار فرج

اهللا ، فهم يأخذون خضروات األرض مقابل اللحـم والجـبن

والبيض الذي يجلبونه لك ، والفرق بين هذا وذاك هو ديـون

. لكهرباء مؤجلة عليهم لحين هطول ا

ضاحكة حتى وقعت علـى األرض " مها " انفجرت

:الباب خلفه " حافظ المرسي " بمجرد أن أغلق الشيخ

" أن زوجي يشبه الشـيخ " انشراح " ـ اال ترين يا

أحمـد " كثيرا ، الفارق الوحيد بينهمـا أن " حافظ المرسي

. يعرف الشيكات والعقود وأمريكا " الدالي

" بابنها " انشراح " احمد الدالي " ر في هذا المساء بش

الذي صار مطربا مشهورا يطلع في التليفزيـون " أحمد القط

واإلذاعة وعلى المقاهي ومن النيل ، يـرش علـى النـاس

مسحوق تصفيق حاد ثم يولول على فتاته الهاربة مـع بـائع

بحنـق وخجـل أن ابنهـا " انشراح " أكدت . خص متجول

Page 368: 539

نذ الثالثـة مـن عمـره وصـوته أخنف وملتهب اللوزتين م

" وشاكوش " بطة " باختصار شديد هو خليط من نهيق حمار

شارحا لها بأنه بإمكان " أحمد الدالي " ، هدأها " أحمد العتر

عبد الحلـيم " أي أحد اآلن أن يغني دون أن يكون له صوت

فاألغنية على أية حال واحدة بعزفهـا " أم كلثوم " أو " حافظ

صوت عال بما يكفي لتغطية ولولة لبـؤة علـى الكومبيوتر ب

: صغارها ، وقال لها

سيعود يوما مـا بسـيارة نقـل " أحمد القط " ـ إن

انشـراح " محملة بزكائب النقود والياقوت والمرجان ، ظلت

مـن حالتهـا " مهـا " مكفهرة وغير مصدقة حتى أخرجتها

فحكت لها الحلم الذي تراه باستمرار وما إن وصـلت إلـى

" لفصول الخالية والعقد الزجاجي الرخيص حتـى قاطعتهـا ا

. وهي تضرب صدرها بكفها السمين " انشراح

، " مهـا " ـ ال حول وال قوة غال باهللا ، يا غمي يا

هيموتوا ثالثة أطفال ، يا ترى مين فيهم ؟

ما هي عالقة أطفال النـاس " أحمد الدالي " لم يفهم

ارتباكه من عدم سـيطرته بحلم زوجته ولكنه كان يحدد سر

على الرغم من أنها كالعادة كانت " . مها " على حدود جسد

Page 369: 539

جالسة على ركبتيه وغارقة كقطة صغيرة في حضنه تماما ،

مسلمة إياه مفاتيح دهشتها كاملة ، ظلت تمارس هوايتها فـي

فك أزرار قميصه ، ووضع رأسها على صـدره العـاري ،

تستمع إلى أخبار أطفالـه تقبل من آن آلخر أسف ذقنه وهي

كان يعرف أنه . ونجاح شركة االستيراد مع زوجته الجديدة

سيغيب عنها شهورا كثيرة قادمة ، ال يستطيع تخمين عددها

، وأنها السبب الرئيسي في سفره ، إذ أنه لـم يعـد يحتمـل

غيابها الحاضر وحضورها الغائب ، سيكتب لها بعد أيام من

ندما تزاول البوستة عملها ، وهـو وصوله رسالة تتسلمها ع

واثق أنها لن تعتني بتاريخ كتابتها ولكنها ستنتظر رجوعـه

كأمر مسلم به ، ودونما عناء كما تنتظر وال تنتظر شـروق

الشمس ، سيكتب لها عن لون األمسيات الفائتة واآلتية بدونها

وعن غصة قلبه في حضورها وعن الآللئ التي يراها وحده

يها وعن ملكوت نرجسها وعن جبالها الوعرة تنساب من عين

" التي لم ينجح حتى اآلن في تسلقها وعن قصة نشوء فعـل

في عالقته معها ، وعن أول محيط سيقابله ويلقي فيـه " كان

بخاتمها الذي ال يود غيره في إصبعه ، وعن الخدوش التـي

. تركتها أظافرها على روحه

Page 370: 539

ـ " أحمد " ـ كفى يا رك لـي لن تمـوت بعـد لتت

. وصاياك

لك حساب في البنك تستطيعين الحصـول علـى ,ـ

فوائده شهريا ، فقط ال تفكري في بيع هـذا البيـت إال بعـد

أنني وعدت أمـي " مها " تأكدك التام من موتي ، تعرفين يا

. بأنني لن أبيعه أبدا

كانت متأكدة من أنه سيعود لتمـوت فـوق صـدره

يتلون كفه بدمها القرنفلي ، العاري ويموت بعد ذلك ، بعد أن

ولكنها اختنقت ربما لنفاذ صبرها من غيابه القادم ، وربمـا

من خان سيجارته التي خطفتها منه فجأة ، وأطفأتها في كفـه

، حدق كل منهما في عين اآلخر الدامعة ، حتى استقر رماد

: كدت أنسى : السيجارة تحت جلده فخبط جبهته بيده

لسها فـي السـيارة علـى أج" نجوى " صحب معه

: جواره وعندما سألته عن وجهته قال

وكلفـه " نجوى " اتصل بخادمة كما فهمت . ـ هنا

أن يشتري سجائر تكفي كشكا انقطعت به السبل والكهربـاء

ومسحوق غسيل وصابون وشامبو وشـموع وكـل جرائـد

" : نجوى " ومجالت الشهر الفائت ، كان من آن آلخر يسأل

Page 371: 539

ضا ؟ وعندما تحسست سـماعة الهـاتف ـ وماذا أي

بلل هـو بطـن كفـه " أحمد الدالي " األنيقة التي تكلم فيها

: الملتهب بريقه وقال

" ـ نحن على بعد دقائق من العاصمة التي ال تنام يا

: أجابت هامسة وهي ساهمة " نجوى

. ـ بالضبط خمس وعشرون دقيقة ، أعرف

اءة الشـموع ، عن تقتيرها في إض " نجوى " تنازلت

فنثرتها صفوفا في جميع الغرف وردهات البيت والحمـام ،

وتمكنت من رؤية حزن عيني أختهـا المكثـف ، وعنـدما

غضت بصرها أكثر من مرة أمام تلك العينين اللتين تنفـذان

مهـا " إلى القلب مباشرة مثل سكين مثلوم ، ثـارت عليهـا

حدة في كـل وأطفأت كل الشموع مكتفية بشمعة وا " السويفي

أن الشمس هـي " نجوى " غرفة ولكن كان هذا بعد اكتشاف

التي توزع صباحا خزن عيني أختها إلـى سالسـل ملونـة

. همجية تتسبب في الكثير من الكوارث لآلخرين

بمجرد وصول سيارة نقل كبيرة تحولت غرفة مـن

غرف البيت في الطابق األول إلى متجر صغير ، رصت فيه

أن تترك " مها " ف على حدة ، وطلبت من كل صن " نجوى "

Page 372: 539

لها عبء توزيع الهدايا على الناس ، حتـى ال يعـانوا مـن

يوم سفره بقسوة " مها " الجوع والظالم المبكرين ، تبلد وجه

لم تعهدها في نفسها من قبل ، وعندما حملها بـين ذراعيـه

قبلت رأسه وسرحت شعره بأظافرها وتمنت أن يختطفها اآلن

في أحضانه هكذا ، إلى أن تموت دونما سماع قبولها ويبقيها

. أو رفضها

" .. مها " ـ

. ـ سآكل جيدا وأشرب وأنام ولن أبكي عليك مطلقا

. عظيم

ضغط خصرها بقوة وأنزلها مخفيا رأسها في صدره

:وهمس

" مها " ـ ستبكين كثيرا يا

ولكنها ظلت ما يقرب من سـاعة جامـدة العينـين

عن رحيله ، ظل يغيظها بأن يرفـع رأسـها ونصف غائبة

لينظر في عينيها ، فتقبله بسرعة ثم تعود إلخفائها في صدره

، احتفظت بمذاق دموعه على شفتيها ، ضمها إليـه بشـدة

وتركها فجأة وهي تحاول الجري خلفه فأغلق بـاب الغرفـة

على إصبعها متعمدا ، صرخت وانفجرت دموعها الحبيسـة

Page 373: 539

لت بعد ذلك إصبعها لتعرف أنها ربما ظلت ثم تأم . الغزيرة

. بأظفر حالك السواد إلى أن تموت

اشتد أوار برد هذا الشـتاء ، سـد النـاس شـبابيك

المدرسة بخرق قديمة ، وأغلقوا األبواب المفتوحـة طـوال

الصيف على أحاديث ال تنتهي أشعلوها في القمامـة وروث

، ومن عيالهم الذين البلهائم ، واشتكوا من أكل الشتاء الكثير

لم يكن غريبا إلى هذا الحـد أن . يجوعون كل نصف ساعة

ينقطع فجأة ثالثة أطفال عن رضاعة أثداء أمهاتهم ، وأثـداء

لبن الماعز الطازج " انشراح السبتاتي " كل النساء فتغلي لهم

ثم تعطيه لألطفال فيعتادون عليه أياما ثم يرفضونه ويسهلون

م من أعشابها حتى يصيروا جلدا علـى بشكل دائم على الرغ

عظم ، هذا لم يكن غريبا ولكن الغريب أنهم ذات ليلة ظلـوا

يشهقون فاتحين الفم حتى ماتوا فـي الصـباح فـي لحظـة

. واحدة

وجههـا حتـى أدمتـه " انشراح السبتاتي " لطمت

: بأظافرها وصرخت

علشـان تـوبتي تبقـى توبـة " مها " ـ الحقيني يا

وانتي عليـك " جامع القاضي " ش الكالب من نصوحة ، هنه

Page 374: 539

تصليح الشبابيك ، وشوية حصر نفرشه بيها ، صالة النـاس

االنفرادية دي في بيوتهم ، هتجلب علينا كل يوم مصـيبة ،

غمـام ، ومـش نقاصـنا إال " حافظ المرسي " معانا الشيخ

. الجامع

حـوض " بخارجـة مـن " مها السويفي " ما كانت

، دفنوا األطفال " انشراح السبتاتي " من أجل إال" الجاموس

الثالثة بسرعة وحزن لم تعرفاهما على أي مـن موتاهمـا ،

مالبسها في فجر يوم األحد منتظرة أن تتفق " مها " وارتدت

مع سيارة من تلك السيارات الزائرة للسوق لتقلهم " انشراح "

في امتدت ! فارق كبير بين القاهرة وضواحيها . إلى مصر

البداية خجلى أبواب كثيرة مغلقة وسابحة في أصـوات مـن

عملوا بها ، وعمروها ثم ذهب كل منهم إلى غيابه الخاص ،

عنكبوت يعشش على أبواب مصانع حيدة خضراء وصـفراء

وسوداء ويساعده في نسج خيوطه سحابات نسيج قطنية تحط

عليه من ماكينات مهجورة ، من سيصدق أحدا إذا ما أقسـم

لظ األيمان أن هذه المصانع كانت يوما ما مفتوحة ؟ لعن بأغ

صاحب السيارة األنيق البدين وعـورة الطريـق ثـم سـأل

: بتأفف

Page 375: 539

ـ ما الذي أنزل بأميرة قيصرية هنا ؟

ابتسمت بسخرية ومرارة ، وهـي ال تـذكر كيـف

في " انشراح " و " نجوى " جلست إلى جواره ، بينما جلست

ت على أن هذا يتم ببديهية شديدة ودونما المقعد الخلفي ثم فطن

: قصد ، قالت

ـ أنا لم أزر في حياتي غال روسيا وأراني ال أشـبه

سكت فترة لملم فيهـا خجلـه . بحال من األحوال القياصرة

واضطرابه وهو يشاركها التطلع إلى وجهها المـنعكس فـي

المرآة ويفكر في جملة تجعله مثقفا ، ويبرر بها إعطاءها رقم

تليفونه ، بينما كانت تفكر في أنها تحمل وجها ال تحتمل هي

: نفسها التطلع إليه كثيرا فأدارته إليه وتركته يثرثر

ـ سيأتي إليكم أكثر من خط أتوبيس ، يصلكم بكـل

مكان في مصر ، وسيجعل مترو األنفاق من حيكم هذا مزارا

.سياحيا

: قالت متهكمة

. تجارة من فضلك بنك االئتمان وال. ـ هذا هو

" مها " بلغت الفوائد المستحقة أكثر بكثير مما توقعت

، نقلت بموجب توكيل رسمي حق استالم الفوائـد الشـهرية

Page 376: 539

ألختها إشفاقا على نفسها من الخروج مرة أخرى ، وأعطت

مشترطة أن تـدعوهما علـى " . انشراح " النقود كاملة لـ

مـن " انشـراح " شاي في أي كازينو على النيل ، ارتبكت

شـدتها إلـى " مها " عباءتها ذات الدوبارة السميكة ، ولكن

كرسي استطاعت أن ترى من عليه نهرا من األنهـار التـي

حـافظ " تجري تحت الفردوس السامعة عنـه مـن الشـيخ

: ، قالت وهي تمأل عينيها بمنظر النيل " المرسي

ـ إذا كانت الجنة أحلى من هذا المكان ، فأنا أريـد

.ضاحكة " مها " أن أموت شهيدة ، قالت

ـ يجب أن نصنع لك أوال معركة ما لتستشهدي فيها

. قلب مليون شهيد " انشراح " ، لك على أي حال يا

فـي " الموسيقى الهادئـة " انقطعت كما بدأت فجأة

راجيا فتاته أن تعود إليه " أحمد القط " الكازينو ودوي فحيح

اسود وجهها خجال وطلبـت منهمـا ، لم تخطئه إذن أمه ، ف

:االنصراف وهي تلملم عباءتها وتزفر بغيظ

. ـ غراب البين هذا لن يصلح لشيء أبدا

Page 377: 539

رجعوا بعربة نقل محملة بنوافذ ولمبـات وبراميـل

كيروسين وحصر وأسمنت وصنابير جديدة وألـواح كـونتر

.خشبية وجوخ للمنبر

المرسـي حافظ" للشيخ " انشراح السبتاتي " سلمتهم

. "

. ـ لعله يكون جاهزا في ظرف أسبوع

مهـا " عماللرجال طوال النهار والليل وشـاركتهم

" انشـراح " أول صالة جماعة وعندما قالت لــ " السويفي

. بفرح

. ـ حما

:قالت لها

" . مها " ـ جمعا إن شاء اهللا ، أنا أحبك يا

الجميـل " حافظ المرسي " زين اليوم صوت الشيخ

ورغم ضيق ذات اليد إال أنهم تبرعوا للجامع بأكفان اشتروها

وشـموع ، وأصـلحوا وغسـلوا " سوق األحد " من زائري

الخشبة الوحيدة الباقية من فحمها ، ووضعوها خلـف منبـر

اإلمام ، حاكت النساء كل مالبسهن الخضراء ستائر لنوافذه ،

انشـراح "ووزعن األيام فيما بينهن لنظافته ، وأطلقن على

Page 378: 539

" صفة الحاجة على الرغم من أنها لم تخرج مـن " السبتاتي

في حياتها إال يوم سافرت للمنيا ، ويـوم " حوض الجاموس

قالت . لشراء ما يحتاجه الجامع " مها السويفي " خرجت مع

:ومالمحها تفيض بالفر والنور

" ـ إذا ما بلغ األطفال الثالثة ، فسـيعلمهم الشـيخ

القرآن والصالة وتعلمينهم أنت ما تعلمته في " حافظ المرسي

.المدارس حتى يصيروا مثلك

الحمراء المنتشرة علـى " مها " لقد زادت كثيرا بقع

" الكـالو " كفيها وحين الحظت أن وجع قدميها يتخطى ألـم

ظلت تقرأ خطته يداها وتنام على إحدى الصفحات على غير

" : نجوى " العادة ، سألتها

يدين كتابته مرة أخرى ؟ ـ هل تع

أخشى أن يكون في رضائي عنه هذه المـرة . ـ ال

. نهايتي

" كان آخر حمل لها ، نزفت دم أربعة أشهر ، وقلبت

، " مها " ـ له حكمة في هذا يا : نطفة اللحم باكية " انشراح

كل القبيحات الجاهالت ينجبن ، وأنت ال تستطيعين اختـزان

. ك الجميل الدم تسعة أشهر في بطن

Page 379: 539

أروقة طويلة مثل تلك الليالي التي يعشها الناس خلف

، ومثل الردهـات التـي " انشراح " سور المدرسة كانت يا

يفصلون بها المساجين عن العالم الخارجي ، هطـل الـثلج

يومها بثأر من يعرف أ،ني مـن بـالد حـارة وأن قـدمي

ـ " أحمد الدالي " تنكسران مع كل خطوة ، منعوا دخول من ال

معي ، فوقف في العراء منتظرا مالبسي ومواعيد زيارتي ،

كعادته كان ساحرا وسط القضاء األبيض وعمالقا أسمر ظل

يستوي على مساءاتي حلما طازجا ، كان على أن أتجرد من

كل شيء حتى خاتم زواجي ، ألبسوني

قميصا طويال يربط من الخلف بشـرائط قصـيرة ،

قة جزت شعر سـري السـفلي وجعلوني أخضع لماكينة حال

دونما رغبة مني ، كان علي أن أجيب عن اسمي ومـن أي

نسـاء .. البالد أتيت ؟ وكم مرة هرب مني الدم الملقـح ؟

بدينات متبالت بالبصل والفودكا ، وحكايات الطوابير الطويلة

أحمـد " رافقتني إلى عنبر به أربع فتيات سواي ، ودعـت

ربية أيقظت فضولهن ، ولم أفقـده من النفاذة بلغة ع " الدالي

بقدر ما افتقدته هذه الليلة ، إحساسي بأنني أنام على حشية ،

" صنعتها أيد غريبة جعلني آزن كفتي الحياة والموت فيربح

Page 380: 539

في الصباح أعطيتهم دمي وبـولي . على األبد " أحمد الدالي

لكي يحللوه وكان علي أن أمشي به ممرا طويال قررت فـي

أرشد مواعيد دخولي دورة المياه والحمام الذي كان نهايته أن

فارغا طوال اليوم ، ومصطف أمامه عشرات اإلنـاث مـن

الثامنة وحتى العاشرة ، صدقت أن الطابور الروسي عـادة

بليدة يتعمد الناس كبس أحالمهم واحتياجاتهم فيها ، وكنت قد

مللت من إلحاق إجابتي عن سؤال ـ من أي البالد أتيـت ؟

واقعة في قارة أفريقيا وآسيا على لونين من .. لة طويلة بجم

أيقنـت . البحار األبيض واألحمر وصاحبة أقدم الحضارات

أن الفتيات رغم دراستهن الجامعية وقراءتهن الدائمـة فـي

" المترو وعلى األرصفة وداخل دورات المياه يشبهن كثيـرا

ية إال من ، ولما كنت ال ألفت األنظار إلى كوني أجنب " نجوى

خالل لكنتي ، فقد اخترت السكوت ، حتى دخل علينا يوما ما

الطبيب رئيس القسم ، مؤكد أنه سرق كل عمـق اخضـرار

مياه النيل في عينيه ، كان يعرف من الملف الذي أمسكه من

ـ من : قال . ـ مصر : أنا ومن أين ؟ ولكنه سألني ، قلت

أخبرني أنني أشـبه أحببت رؤيته ، . بداية البدايات أنت إذن

: قلت . كثيرا نفرتيتي

Page 381: 539

عينـاك . ـ بلـى : قال بعنف أبوي . ـ ال أعتقد

الواسعتان الجميلتان على هـذا الوجـه الصـغير ، ودقـة

األعضاء ، أنت مثلها تحتفظين فقط بما هو جميل وجوهري

ابتسمت متعجبة من فكرته ولم أفهم من . يا جميلة الجميالت

أن دمي به خطأ ما يـزعج الجنـين ، مصطلحاته الطبية إال

بحزن احتياجي لعالج طويـل وحـزن " ألحمد " وخرجت

. اصفرار األروقة الخالية في المستشفى ليال

علم األهالي أطفالهم المشي من المدرسة ، ومـرورا

التي كانت تعـد " بيت مها السويفي " بجامع القاضي وحتى

يمونها ، وبـدون نفسها لدخول األربعين بشموسها وأغصان ل

أن تعرف أنها لن تمارس بعد اآلن أبدا عادات دمها الشهرية

لهواية اختفائهـا " نجوى " أو حملها المستحيل ، ومع عودة

المتكرر لم تالحظ حاالت إغماء أختها الفجائية ، وال توقـف

" مهـا " زحف اللبالب في الغرف ، ومرة أخرى اضطرت

: بسها وصاحت إلى إغالق النوافذ عند تبديل مال

ـ سيسرح في الشـارع سـبعة وعشـرون طفـال

. وسيعبثون في لبالبتي

Page 382: 539

أثناء تمرين األطفال على نطق جمل كاملة مرضـت

: األمهات يسرهن وقلن

ـ إنهن وكأنهن يحملن سـبعة أراضـين تطـوقهن

وقالت . بمعادنها ومياهها ، وبلولة من ماتوا قديما ودفنوا بها

: صارخة في وجه كل منهن على حدة "انشراح السبتاتي "

ـ إذا كان ما تقولينه هذا حدث فيما يراه النائم فهـو

حلم سخيف ، وإذا كان كالم نهار فستتكلم عنه عنـدما يبلـغ

. األطفال سن الزواج

وافق األهالي على عدم ختان اإلناث ، وحكوا وهـم

يشوون أكواز الدرة في األمسيات الشتائية ، حكاية مجنـون

ش في زمن بعيد والحمد هللا عن زمننا هذا ، بعثر في يوم عا

" أحد رونقة دفعة واحدة ولكن عفريتا يشبه كثيـرا عفريـت

وزع هذه البذور بالعدل وزرعها في أرحام النسـاء ، " بطة

" مها السـويفي " بالمناصفة مع " انشراح السبتاتي " حملت

يـث ال السبعة أرضية وراحتا ترتبان وقت إذاعـة النبـأ بح

ثانية ، حاكتـا طيلـة اليـوم " أحمد منصور " يشردون لحم

" فساتين ملونة للبنات وشورتات قصيرة للذكور من مالبـس

Page 383: 539

وكانت . السوارية والماتينيه ، التي لم ترتدها منذ زمن " مها

: أثناء ذلك تردد دائما " انشراح "

مالئكة صغيرة . ـ أال ترين كيفية نظافتهم وجمالهم

.بحق

أسست لهم في حوش المدرسة أرجوحـة وحصـانا

خشبيا ضخما وحزنتا من تبول بعض األطفال الالإرادي الذي

جامع القاضي وهم يعبرون سـن الثالثـة " منعهم من دخول

" هذه المرة أن يفقس شعر " أحمد الدالي " بقليل وسمح غياب

أبيضه كله فتعصبه بمنديل أسود لن يفارقها إلـى أن " نجوى

ت وحيدة وشاهدة على غياب حي بكاملـه كـان عاديـا تمو

لدرجة إسقاطه من خريطة بلد ومن حفالت شاي المسـئولين

. في العاصمة

لتحتمل التجـار الـذين " سوق االحد " استعت رقعة

عانوا من كساد األقمشة واألوانـي البالسـتيكية والبخـور

والصابون في العاصمة والمدن الكبيرة ، فجـاءوا مجـربين

" راجت بضاعتهم ولكن حمـل " . حوض الجاموس " اس ن

أخذ يثقل خطواتها شيئا فشيئا ، وأكلها قلبها علـى " انشراح

: وقالت . فلذاته الغائبة

Page 384: 539

وليضربني كما شـاء وليصـم " أحمد القط " فليأتني

" المنيا على أختـه " محمد " أذني كل يوم لفحيحه ، وألرسل

ن لها أن تضبط دعوتها لعودة هل كا . لتأتيني وأراها " رجاء

فيجاملهـا " حافظ المرسي " الغائبين على صوت آذان الشيخ

الناس كلها ويدعون خلفها فتصعد الدعوة إلى أبواب السـماء

. المفتوحة وقتذاك

وحدها هذا النـور الـذي " مها السويفي " لم تالحظ

: أحاط بثوبها الفضفاض ورأسها وإنما قالوا

ستنير الحـي عمـا " انشراح " ـ كرامات الحاجة

.قريب

رغبة في البكاء وقالت وهي تتابع بقع " مها " كتمت

: الدور التي تتقافز حول وجهها

ـ كان يصرخ فينا دائما ، لماذا نحن العرب بالذات

ودونا عن جنسيات األرض كلها نكرة الجمال ؟ هل كان بينه

: قائلين وبين جدنا األول ثأر ما ؟ كنا نهدئه ضاحكين و

ونحن األبناء الشرعيون للجمـال . ـ كيف يا كمال

. نفسه ، فيلوح بيديه يائسا

Page 385: 539

" قوم يا مصري " : " مترو األنفاق " يومها غنينا في

لسيد درويش ، وكنا من فلسطين والعراق وتونس والسودان

واليمن ، نستقبل ابتسامات وزعها علينا الروس الطيبـون ،

نحو ثلج ال ينام ، معاطفنـا الفرويـة وتعبر السلم المتحرك

أحمـد " وقنافذ رءوسنا ال تحمينا أبدا ، تجمدت تحت ذراع

وانتظرنا الترام طـويال وتعجـب أكثرنـا اهتمامـا " الدالي

بالسياسة من معادلة قسوة درجة الثالثين تحت الصفر وتأخر

الترام ، واقترح ثورة صغيرة على هيئة المواصالت الروسية

تمارا الكسندر وفنا " وتمنينا أن تكون الليلة نبطشية ، ضحكنا

" ، سلمنا بطاقات هويتنا على بابا مسـكن معهـد السـينما "

وقدمنا لها عبة سجائر أمريكية فتحـت لنـا أبـوا " الفجيك

ابتسامتها ، اعتذرنا لتأخر وقت الزيـارة وحملناهـا لتـأخر

. الترام

: وقلنا

. ـ كمال اللبناني

: قالت

الطـابق . ويستعد للسـفر فجـرا . موجود . آه ـ

١١١٥الحادي عشر غرفة

Page 386: 539

: قلنا

. ـ تصبحين على خير

: قالت

.ممنوع . أرجوكم . ـ بدون مبيت

: قلنا ونحن نتجه ألبواب المصاعد

سنسهر معـه حتـى ميعـاد . نرجوك . ـ بمبيت

. طائرته

كان ثمال وهادئا ، ولكنه اصطنع بمجـرد دخولنـا

: اجرة مع فتاته الروسية ، فرت على إثرها هاربة ثم قال مش

ـ ال ينقصنا غال غربة اللغة ، باهللا علـيكم كيـف

يشرح المرء المرأته تاريخ أمه بأكمله لكي تفهم نكتة مـا ،

وتضحك عليها ؟

الحظ مراقبتي لظله األبيض الكثيف علـى الحـائط

:رأسه وقال واغتصابي البتسامة إذا ما التفت عينانا ، فهز

، ولكـنهم " مهـا " ـ بيروت كانت مثلك جميلة يا

اكتشفوها ، اكتشفوا سر مـذاق قهـوة شـارع الحمـراء ،

Page 387: 539

والجونالت القصيرة ، ومنتديات الشعر فقطعوهـا وأحرقـوا

. لحمها هناك فوق أشجار األرز

ذكرناه أننا ما جئنا إال لالحتفال بتخرجه وسفره على

أن نبتهج قليال ، أخبرنا أنـه قـرر بيروت غدا ، وأن علينا

الزواج من فتاته الروسية واصطحابها معه ، ثم صاح وهـو

: ساهم

أخرج في حياتـه " تاركوفسكي " ـ هل تعرفون أن

القصيرة جدا سبعة أفالم فقط وهي تمثل اآلن مدرسـة فـي

. وأشار إلى مؤخرتـه . اإلخراج ، وسأرجع أنا ألخرج هذه

: قلنا له

!ـ كيف ؟

وأنت الحاصل على جميع جوائز مهرجانات الطلبـة

. في الخارج لمدة ستة أعوام

فانتعش قليال وظل لمدة ساعتين يعلمنا كيفية أن يشم

: المشاهد رائحة الوردة على الشاشة قال

ـ فلنفترض أن لدينا بائعـة ورد تعـرض جميـع

زهورها عيانا ، فحتما لن يشم المشاهد شيئا ، ولكن دعوهـا

ئ الورود بشرشف أبيض ، ويأتي يطلنا متلفتا يمنة ويسى تخب

Page 388: 539

، ثم يقع بصره عليها وهي تسحب وردة واحدة مـن تحـت

" كلـوز أب " الشرشف ، يقترب منها في مشهد متوسط ، ثم

هل سيشـمها . عليه هو والوردة ثم قطع للكادر وهو يشمها

: المشاهد حينئذ ؟ قلنا

عونـا مـن جديـد د. ال أعتقد . ال : قال . ـ نعم

رصنا ، وكنا خمسة عشر شخصا حول الغرفة في . نجرب

خطين متقابلين ووضع أمامنا المقاعد والمناضـد الصـغيرة

وجهاز ، الريكوردر واالسطوانات ، وافرغ رفوف المكتبـة

من الكتب التي قرأ عناوينها حينا ثم واصل رصها ، فرجنـا

وقـال أكثرنـا . أثناء ذلك على الهدايا التي اشتراها ألهلـه

: اهتماما بالسياسة ممتعضا

يسـتخدمنا . ـ لن يتوب اهللا علينا من جنون الفنانين

في سـتين داهيـة . جميعا وكأننا جماد ليشم المشاهد وردة

كفاه أن يسمع ويرى " كمال " المشاهد ورائحة الوردة يا عم

: مبتسما " كمال " ، أليست هذه هي السينما ؟ قال

جماعة هذه آخـر تجـاربي ، وبعـدها ـ اعتذر يا

. واآلن . سنجلس ونحكي كما شاء لكم

Page 389: 539

فلنتخيل أن ما فعلت هو سرداب طويل ، بـل ممتـد

إلى ما ال نهاية ، أوله نفترض باب الغرفة وآخره تلك النافذة

التي ستمثل فتحه ، تطل على براح وتقع في نهاية السرداب

بطلنا مسجون سياسي ، ولتكن هذه الوردة على تلك النافذة ،

مثال ، ومحاصر في هذا السرداب لمدة طويلة ، يحاول منـذ

زمن البحث عن مخرج ، معه حقيبة صغيرة مثـل هـذه ،

وامسك حقيبته ، سيجري هكذا ويقع وينهض ويلمـح أثنـاء

تعثره ورده خلفها براح ، فيجري بكل قوته وعنـد وصـوله

من منهم همس بأن ال أذكر . إليها يركع أمامها متعبا ويشمها

درجة الحرارة اليوم ثالثين تحت الصفر وأننا سنتجمد مـن

كنا وكأننـا تـم . البرد وسأل اهللا أن ينتهي لكي نغلق النافذة

تثبيتنا بمسامير في أماكننا خلف أكوام الكتب واالسـطوانات

: مكونين ممرا فعليا شهد وقوفه خلف الباب وقوله

لبطـل متعبـا ـ سيكون المشهد عاما وسـيجري ا

أمام الوردة التي وضعها علـى " كمال " ويم يركع .. هكذا

النافذة من الورود التي أحضرناها له ، بل تجاوزها ليقفز إلى

فـي . براح النافذة بأناقة بالغة وحقيبة بها مشروع تخرجـه

إننـا : التحقيق صباحا قلنا بما فينا أكثرنا اهتماما بالسياسـة

Page 390: 539

اره ، ووصفنا للمحقق مجلسنا البليد جميعا مسئولون عن انتح

هدأتنا عميدة معهد . إلى جوار الحائط أثناء وبعد قفزه بدقائق

: السينما وعزتنا قائلة

ـ كان مخرجا عظيما يسيطر على فريـق عملـه ،

. ويحقق المشهد ، مهما كان هذا المشهد

وحـده وإنمـا " كمال " اكتشفت يومها انني لم أحب

" أحمد الدالي " من الرجال ، واشتهيت أحببت كل من عرفت

" أحمد " أو أنني اشتهيت كل من عرفت من الرجال وأحببت

أو أنني أحببت واشتهيت جميع من عرفـت مـن الرجـال

هل تفهمينني يا انشراح ؟ " أحمد " واصطفيت

صاعدة في ملكوت حليبي يدشن ذكريات من تـألموا

" مها " كة على جبين تار" انشراح " بكت . وماتوا فوق قلبها

" مهـا " قبلة اعتذار طويلة على ما لم ترتكب ، اسـتطاعت

وهي تتذوقها أن تحدد بوضوح تام رائحة دباغـة الـدوبارة

ليونة األسمنت : السميكة التي ستالزمها في كل لياليها المقبلة

وكنت ورقة توت الحي وأغنيته في زمن " انشراح " كنت يا

لـك لـون " انشراح " عادية كنت يا انقطعت فيه األغاني ،

منتصف ليلة شتائية ناحت فيها أصوات سيارة مطلقة نبـاح

Page 391: 539

الكالب من العشش واألضواء الخافتة في بيتي ومغيرة بعض

. الشيء أوقفت نومك وصحوك

وهي تعيد عصب رأسها وتجـري " نجوى " هتفت

: ناحية البلكون

" .أحمد الدالي " ـ

: يا وقالت رأسها نف" مها " هزت

" . نجوى " ـ لم تقفز روحي من مكانها بعد يا

الذي ظل ينفض العشش كلها بحثا " أحمد القط " كان

من البلكون ساردة له حكايـة " نجوى " عن أمه ، دلته عليها

" المدرسة باختصار شديد أخذ بعد نور سيارته ، وضـبطت

" ح انشـرا " نفسها أكثر من مرة وهي تدرج " مها السويفي

في من ماتوا مستخدمة في الكالم عنها فعل كان ، أو تلملـم

أحمد " وطأة رحيلها دون أن تعرف لماذا ودون أن تتوقع أن

قد طرق الباب كثيرا قبل أن يتأكد الرجال من صـوته " القط

األخنف فيفتحون له ، أفسحوا لسيارته مكانا بجوار المواشي

دلوه على غرفة أمـه سألوه عن أخبار الغربة ثم . والدجاج

التي تنام وحيدة بعد موت أبيه وسفر أخيه ألخته في المنيا ،

عادوا على أسرتهم فرحين ومفسحين مجاال لمراسيم استقبال

Page 392: 539

في ظهيرة اليوم التالي لم يستطيعوا . أم انتظرت ابنها طويال

تبرير احتجابها في الغرفة أكثر من ذلك ، فطرقـوا البـاب

: مسلحا وصارخا في وجوههم " القط أحمد " لخرج عليهم

لي حساب مع أمـي يجـب أن . ـ كل على غرفته

. أسويه

في البداية أذعنوا لقضاء اهللا ولكن بعـد اكتشـافهم

نظافة حوش المدرسة ، والشارع المقابل لها من الحجـارة ،

: حاصروا الغرفة وقالوا له وهم يبكون

. أبدا " انشراح " ـ لن تكون هذه نهاية الحاجة

ـ يا بني إن اهللا يغفر الذنوب ، فكيـف ال تغرفهـا

. أنت

ـ سنحكي لك ما ال تعرف عن شئون العيش ، ولكن

. افتح . فقط

. ـ ال ترتكب يا بني أبضع الجرائم

" حـافظ المرسـي " أصابت رصاصة ذراع الشيخ

وانفض الجمع على مداواة الرجل دون فائدة فقد يـأن إلـى

، وحكوا " انشراح السبتاتي " ذي تحبس خلفه جوار الجدار ال

فيما بعد أنها صمدت أمام حجارة وحصى الشـارع كلـه ،

Page 393: 539

مكبلة بالحبال في سريرها وغارقـة فـي بولهـا وغائطهـا

ألسبوع كامل لم يضع نهاية له إال جدار كامل من جـدران

على حجـارة كبيـرة بمعـول " أحمد القط " المدرسة كسره

إنها لم تتكلم إال في يومها األول فقط : أحضره معه ، وقالوا

، توسلت إليه بحملها له تسعة أشهر ، وبإطعامها إيـاه مـن

لحمها طيلة عمره ، وباهللا ، وبجلبابها المدكك بدوبار سـميك

وبرغبتها في رؤية أخته الغائبـة ، وبـدعواتها المسـتجابة

لعودته ، وصمت بعد ذلك إلى أن ماتت مطرقة برأسها على

ومغمضة العينين وراسمة علـى شـفتيها ابتسـامة صدرها

ساخرة ، جعلت النسوة فيما بعد يتبولن في سراويلهن عنـد

الغرفة بنفسه ، كنسها ومسحها " أحمد القط " نظف . تذكرها

بالفرشاة ، وغسل جسدها باكيا عليه ، لفها بمـالءة نظيفـة

ـ : ومددها على السرير ، ثم خرج خاطبا في الناس

. فذت أمر اهللا ، ماتت أمي رجما ـ لقد ن

أعطوه صامتين كفنا من جامع القاضـي ، وكفنتهـا

النسوة ، حمل أربعة رجال فقط نعشها ، وخبط بقية األهالي

حـافظ " رأسهم في الحائط ليوم كامل مات في نهايته الشيخ

كل مـا ! ، ال يدرون أمن وجع ذراعه أم كمدا ؟ " المرسي

Page 394: 539

حط األلفاظ مـع الرغـاوي التـي الحظوه أنه لعن وقذف بأ

تكاثرت حول فمه حينما طلبوا أن يتلو الشهادة ، دربوا بعـد

ذلك أنفسهم على نسيان قذفه حتى ال يتفوهوا بما يكفرهم هم

قد سمع سـبابه وقذفـه فـأفتى " أحمد القط " أيضا ، وكان

مها السويفي " الحظت . بتكفيره وخسرانه للدنيا واآلخرة معا

": نجوى " طفال من الشارع ولما طرادتها اختفاء األ"

" انشـراح " ترى ماذا يحدث هناك ؟ ما الذي يؤخر

. عن زيارتنا

: قالت واجمة

" . انشراح " ـ ماتت

: ببالهة " نجوى " قالت

ـ كيف ؟

فقط أنا . ـ من أين لي أن أعرف ؟ ألست معك هنا

. متأكدة من موتها

. سة جـدارها السـاقط لم تحتمل بقية جدران المدر

فتشققت وانهارت قبل أن يفلح الناس فـي حمـل أمتعـتهم

وأثنـاء . وأسرتهم وإخراج المواشي إلـى سـاحة السـوق

تفكيرهم في وجهتهم أغلقوا باب المدرسـة علـى انهيـاره

Page 395: 539

وأختها زحف حشد كبير " مها السيوفي " وذكرياته ، وتابعت

ـ ة وأقفـاص من الرجال والنساء واألطفال وبقـرة وجاموس

دواجن ، وهو يتقدم نحو العشش المهجورة ، حـددتا علـى

رأس الحشد جلبابا أبيض قصيرا وبنطاال أخضر قصـيرا ،

مثـل حفنـة " احمـد القـط " وذقنا طويلة وقفت تحت فـم

صراصير في حالة جماع ، وقد تشابكت أجنحتهـا وقـرون

هشوا الكالب من العشش ، ودخلوا كـل إلـى . استشعارها

لتفاصيل حياتهم التي " نجوى " القديم ، وأثناء استعادة مكانه

تتحسـس شـحوب واصـفرار " مها " كانت . كانت تنساها

وجهها وتهمس وهي تزحزح حجـرا كبيـرا يجـثم علـى

: صدرها

. ؟ ألم أقل لك ؟ لقد ماتت " نجوى " ـ ألم أقل لك يا

.فقط لو أستطيع البكاء

Page 396: 539

سمكة الجيتار

ي المياه خارج الشبكة ، حتـى إذا ستترك أجنتها ف

كانت هذه األجنة ما زالت تحتاج إلى فترة حضانة ، ستكون

هادئة تماما ولن تحاول المقاومة ، لن تحاول الخروج مرة

أخرى ، لن تتخبط في الشبكة ولن تشكو األسر ولن تغنـي

أبدا للخالص ، ستتمنى فقط أن تسرد وبصوتها هي الحكاية

.حتى النهاية

Page 397: 539

ض الجاموس حو

٩

هؤالء الذين رفعوا قبعاتهم ودعوها للرقص في أعياد

الثورة بالميادين الفسيحة منذ زمن بعيد هم فقـط الـذين لـم

يتخيلوا قط أنها ستموت في الشتاء الفارس ، فهي لـم تكـن

ولم تحب عكس جميع الموسـكوفيين . تشبهه أبدا لتموت فيه

فرحة بشـقتها الخاليـة الثلج ليغطيها اآلن هكذا ، وال كانت

لتلقي في خالء أرحب وتكون وظيفتها األخيرة في الحياة هي

. إذابة جليد رصيف كامل بسخونة خروج الروح من الجسد

الشارع هو الشارع نفسه الذي عكس ظل أربعين عاما بكـل

الكوابيس واألحالم الممكنة وغير الممكنة ، المـرأة جميلـة

على كل البيوت بالعدل خاضت جميع حروبها بنجاح وزعته

مكتفية بحفنة نجوم من الصفيح علقتها حتى يوم مماتها على

صدرها الطيب المكتنز الرافد اآلن بهدوء ، منذ ثالثـة أيـام

وقعت في الشارع المجاور لبيتها ، في " فالنتينا " اكتشفوا أن

Page 398: 539

بادئ األمر ظنوا أنها وعكة وستمر ولكنهم عندما تأكدوا من

:ا باالتصال باإلسعاف قائلين موتها سارعو

" . فالنتينا " ـ ماتت

: قال النبطشي

؟ " فالنتينا " ـ ومن هي

: قالوا

، نحن لم ننادها قـط باسـم " فالنتينا " ـ اال تعرف

، نحن لم ننادهـا قـط باسـم " فالنتينا " عائلتها ، لقد كانت

وأنـتم يجـب أن . وكفـى " فالنتينـا " عائلتها ، لقد كانت

. أو اسألوا عنها آباءكم . نتذكروها

: قال النبطشي

.ـ أنتم دون شك تمزحون ، حسن ، وكم عمرها

: قالوا

. ـ أكثر من سبعين عاما

: قال النبطشي

ـ هذه ليست مشكلتنا ، وال حـدود اختصاصـنا ،

. حاولوا أن تتصلوا بالبوليس

Page 399: 539

أسقط في يد الجميع عندما رفض البوليس اسـتالمها

ما دامت لم تمت مقتولة ، وإنما ماتت هكذا النتهاء عمرها ،

راحوا ألول مرة يفتشون عن تاريخا ، فتاهوا أكثر ، إذ أنها

لم تترك عمال غال ومارسته حتى إنها عملت ممرضة أثنـاء

الحرب العالمية الثانية متبرعة بأجرها كله ، وذلك في وحدة

بيديها للشعب في اإلسعاف نفسها التي رفضت دفنها ، خبزت

استشاط . أفران الكولخوز ، وساقت الترام مخترقة به الثلوج

:الناس غضبا ورفضوا دفنها بهذه الطريقة قائلين

ـ لن تجمع نقودا بأية حال من األحوال مـن أجـل

، وعندما قطعوا أشـواطا طويلـة " فالنتينا " شراء قبر لـ

فـي " فالنتينـا " ما العمل ؟ ، لم يجدوا : لإلجابة عن سؤال

مكانها ولم يستطيعوا تصديق الخبر الذي نشر فـي صـفحة

الحوادث عن كرم السلطات المحلية البالغ ، حيـث عجلـت

مسنة ماتت على كومة من الثلج على الـرغم " سيدة " بدفن

. من انتظار عشرات الجثث في الثالجات لدورهم في الدفن

: أخذوا فيما بينهم يتهامسون بالحقيقة سرا

مختفية تحت أكوام الثلج فـي انتظـار " فالنتينا " ـ

. ذوبانه لتعود مع الصيف القادم شابه من جديد

Page 400: 539

عيناها معلقتان على ورقة نتيجة قديمة ال تسـاعدها

كثيرا في حساب كم من األيام مضى ؟ وكم يتبقى لتراه مرة

أخرى ؟ سفره كان نهائيا هذه المرة إذن ، سـيعود وسـتراه

ولكنها لن تشعر بشيء حينئذ ، لن تتخلل يداه شعرها ثانية ،

؟ ، لن يقفز قلبها عندما يلمسها ، لن تروح في غيبوبة وحـد

بين ذراعيه ، لن ولن ، أكان عليها أن تبقيه علـى جوارهـا

وأن تغير في سبيل هذا حتى جلـدها ، بـل ودت اآلن لـو

سلخت هذا الجلد بكل ترحاب لتلثم ذقنه من آن آلخـر ، وال

تحول عينيها عن وجهه أبدا ، أن تحدق في عينيه كثيـرا ،

متى قال لها ؟

ابكي على رحيلي ولو لمـرة " مها " ـ ابكي اآلن يا

. واحدة

. ـ أتمنى أال تأتيني إحدى زوجاتك أثناء سفرك

. ـ لم يعد لي زوجات سواك

أنـا الزوجـة . يا إلهي . كم أنا سعيدة ! ـ أحقا ؟

" . احمد الدالي " س الوحيدة للبرن

. ـ أحبك

Page 401: 539

كانت تسمع نشيج عظامها المحبوس كمـا . مستحيل

يسمعه هو دون شك ، وال قطرة دموع واحدة ، كالعادة مسح

دموعه في شعرها وحملها بين ذراعيه إلى البـاب وعنـدما

: أراد أن يتركها همست في أذنه بصوت ضائع تماما

. قليال .. ـ ابق معي

. أنا ال أخشى المـوت اآلن " نجوى " ا هل تعرفين ي

كالهما . اآلن فقط أعرف أن الحب والموت هما شيء واحد

قفزة في الفراغ ، إنني بين ذراعيه ال أرى أرضا وال شجرا

وال سماه وال بشرا فقط جسده الذي يحيط بي من كل اتجاه ،

. وجسدي الذي يغرقه حتى ال تنفذ إليه قطرة من هذا العـالم

: سأعيد الشرح مرة أخرى . ذا هو الموت أليس ه

افترضي أن هناك جسدين من الحديد منجذبان كالهما

إلى اآلخر ، إن مجرد التحامهما من جهة ما سيفقدهما علـى

الفور الصلة بالعالم الخارجي ، فما بالك إن كانـت لـديهما

القدرة على الحركة أيضا ، إنهما سيدوران وكأنهما نجمـان

اء فسيح ، لن يعكسا شيئا للعالم ولن يراهمـا عائمان في فض

. العالم الخارجي ، ولن يخمن أحد أبدا أنهما اثنان

Page 402: 539

ـ وأنت كنت تريدين دائما أن تشعي شيئا ؟ لمـن ؟

؟ لماذا لم تحتفظـي " مها " للعالم ؟ فليرح العالم في داهية يا

بزوجك ؟

لماذا ال أرتاح " نجوى " ـ روحي في داهية أنت يا

!ومنه ؟ منك

" نجـوى " فرغ البيت من زواره تمامـا وظلـت ،

تستخدم من كل شيء اثنين ، تعد طعاما الثنين ثـم نضـعه

بكامله بعد أن يتناوال منه القليل خلف الباب مباشرة في ورق

مقوى ، وأصبحت نادرا ما تنزل السوق ، كانت غالبـا مـا

اه مـن تدعو أحد الصبية ليشتري لها ما تحتاجه ، يناولها إي

. النافذة فتناوله القروش الباقية دون أن تعرف حتـى اسـمه

كانت قد ملت تماما من رقم اثنين ، وعندما تالحظ أن كوبي

الشاي اللذين في الحوض قد مر عليهما شـهور ال يـزدادان

كوبا ، وال ينقصان طكوبا ترمي بواحد منهما من الشـباك ،

انت تغتاظ جدا من فقط لتخرج كوبا مختلفا أو طبقا جديدا وك

األطفال الذين يعيدون إليها أطباقها ، ولكنها تأخذها وتشكرهم

وتظل تسب اليوم األسود الذي قذف بها إلى هـذا الحـي ،

وهي تذرع الغرفات جيئة وذهابا غارقة تماما " مها " فتبتسم

Page 403: 539

أن أختها تخلت " نجوى " في ذكرياتها ورويدا رويدا الحظت

خطوطها الذي أخت تقرأ فيه قليال عن حرصها على إخفاء م

، ثم تنام على إحدى صفحاته كثيرا ، تساعدها للوصول على

سريرها وتحمل المخطوط إلـى المكتـب ، تقـل صـفحاته

المسودة بخط صغير منمنم وتمصمص شفتيها وهـي تتمـتم

: لنفسها

! ـ أمن أجل شيء كهذا يفسد المرء حياته كلهـا ؟

" وتندهش وهي تتأمل وجـه تغلقه وتعود لمصمصة شفتيها

المبتسم وكأنها تسمعها أو كأنها تلهو مع بعض المالئكة " مها

أحمـد " الصغار ، إنها اآلن تستطيع وصفها وهي نائمة لـ

عندما " نجوى " ـ ما شكلها يا : الذي يسألها كثيرا " الدالي

وإنما تضحك بصـوت عـال " نجوى " تنام هه ؟ وال تجيبه

: قائلة

: أنا زوجها حتى تسألني ؟ فيقول بألم حقيقي ـ وهل

أختك ال تنـام وهـي " نجوى " ـ أنت ال تفهمين يا

إنني لم أرها وهي . معي أبدا ، إنها تنام بعدي وتستيقظ قبلي

نائمة حتى إذا قررت أن أبقى أسبوعا مستيقظا تظـل هـي

Page 404: 539

إنها تنتظر حتى تدخل في نـومي وتحـرث . مستيقظة معي

أرجوك " . نجوى " ا لي يا صفيه. أحالمي

من جديد ظلوا في الخارج يبحثون عن بقعة ترمـي

عليها الشمس ضوءها ، وحرارتها حيث إن األرض حـولهم

كانت غارقة في مياه األمطار والمجاري ، وكان من الصعب

إيجاد مكان جاف ينشرون عليه مراتبهم المبتلة ، ومالبسهم ،

ية طويلـة أو بالتكـاتف ظلوا يستدفئون بإقامة معارك كالم

لضرب أحدهم بعد ضبطه وهو يسرق الغسيل ، أو يتلصص

" عليهم أثناء تبديل مالبسهم ، وبعد أن تنتهي المعركة كـان

يمسك الميكرفون الذي يعمل بالبطارية ويخطب " أحمد القط

فيهم موضحا عقاب السـارق ، وإثـارة الفتنـة ، والحـرام

تها تسمع إلى هذه الخطب أن أخ " نجوى " الحظت . والحالل

أن " نجوى " بانتباه شديد وال تتكلم أبدا أثناءها حتى اعتادت

. صراخه " أحمد القط " تصمت كلما بدأ

تغير شكل الناس في الشارع ، اختفى األطفال منـه

تماما ، وتنكروا في مالبس الكبار فارتدى الصبيان عفريتـة

ي ، وارتدت البنات العمل في الورش التي تبعد أمياال عن الح

جالبيب واسعة وغطين رءوسهن بقطـع مـن مالبسـهن ،

Page 405: 539

وكانوا عندما يسيرون في الشارع بأسمالهم هذه يظنهم المرء

ازداد قبح كل شيء واختفى أثر . من بعيد جماعة من األقزام

جدارا كامال من سـور " أحمد القط " شجرة اللبالب ، نزع

ليتسنى لـه االجتمـاع المستشفى الذي تستند عليه العشش ،

بالناس في ساحة المستشفى حيث كان جامع القاضي بعيـدا

عنه ثم أنه حرمه على الناس ألن من أعادت بنـاءه سـافرة

كافرة ال تصلي فيه ، وال تعرف من أين أتت بنقودها التـي

من الممكن أن تكون حراما ، كان يخرج خلف عشته ويجلس

ال ، وعندما ينام يسـلمهم بالناس الذين كان أغلبهم من األطف

. ليعلمهم فصار السور " محمد القط " ألخيه

يوما بعد يوم أغلق أغلب الخلق عليهم أبواب العشش

، وكانوا يخرجون فقط للصالة ، ويكتفون بسماعه من عشتهم

وهو يكفرهم واحدا واحدا ، فينظرون إلى بعضـهم الـبعض

: ويهمسون سرا

!؟ ـ لم يعد إال قاتل أمه هذا

فـي " أحمد منصور " وجه " مها السويفي " تذكرت

الذي ظـل يقـرأ " أحمد القط " آخر أيامه وهو يحدثها عن

لسنوات طويلة كل ما تقع عليه يداه مـن ألغـاز وروايـات

Page 406: 539

بوليسية ، ويتفرج على أفالم أكشن أمريكية حتى يقتل أمـه

دون أن يدخل السجن ، باحثا عن جريمة كاملة ، كان هـذا

أن يتاجر في المخدرات وقبل أن يصير مطربا ، ولكـن قبل

قط أنه بعد أن قتل أمـه لـم " أحمد منصور " ما لن يعرفه

: ينقطع عن عادته تلك ، قائال ألصدقائه المقربين

ـ ربما قذفت علي الحياة من يستحق القتل أكثر منها

، كانت تستند على كل جدار قليال ، وأصبح من الصعب أن

. عم بها .. سؤال أختها تتهرب من

كأنها حالة طويلة من األنفلونزا الحادة ، إغمـاءات

تورمت . طويلة األمد ، وعدم المقدرة على القيام بأي مجهود

. أقدامها ، وازداد احمرار كفيها

في دماء أختها في حوض الحمام ، " نجوى " حملقت

ثم أخذتها وهي شاحبة تماما إلى سـريرها وصـرخت فـي

: ا وجهه

انطقي يا . ـ منذ متى وأنت تتقبلين دما ؟ يا خرابي

" .مها "

ولكن أختها الصغيرة نامت كمـالك علـى صـوت

في منتصـف الليـل " مها " عندما نهضت . لطمها لوجهها

Page 407: 539

منكفئة على حافة السرير فقررت أن تجعلها " نجوى " وجدت

تنام معها منذ اآلن وإلـى أن تمـوت ، أيقظتهـا كعادتهـا

" يـا " يـا قـدري " نجوى " يا " نجوى " ـ يا : حكة ضا

" . مصيبتي

من نومها متمنية أن يكـون مـا " نجوى " انتفضت

قالت وهـي تمسـح دموعهـا . حدث مجرد كابوس مزعج

:بصوت متهدج

. ـ ال بد أنك جائعة

التـي تناولـت " مها " وجرت ناحية المطبخ وخلفها

. اما حساءها وكأن األلم قد ضاع منها تم

كان يعد ميكرفونه لصالة الفجر ، ولمدة ساعة كاملة

ظل ينذر النساء الجميالت الالئي سـيعلقن مـن شـعورهن

مهـا " ونهودهن كما وعد اهللا عباده يوم الدين ، غامت عينا

وهي تقـول " نجوى " ونهضت فجأة فأمسكت بها " السويفي

: بصوت متوسل

، " راح السبتاتي انش" وابن " مها " ـ ما لنا نحن يا

أال تـرين . هه ، كأنك لم تسمعي شيئا ، انسه تماما يا أختي

أنك مريضة ؟

Page 408: 539

على سريرها وهي تحاول السـيطرة " مها " استلقت

: على أنفاسها ، وكأنها شاخت مرة واحدة

إن كل كالمه " . نجوى " ـ أال تسمعين ما يقوله يا

غلقـون علـى وعيد وسباب ، لقد جعل الناس كما الفـراخ ي

إنني أشم رائحة كراهية لـي آتيـة مـن . أنفسهم المشمش

؟ لمـاذا يفلـت " نجـوى " ماذا قال لهم عني يا . أعشاشهم

لماذا " نجوى " بجريمته حتى يصم آذاننا بفحيحه هذا ؟ آه يا

؟ لماذا ينتظر حتى يشـاهدني وأنـا " أحمد الدالي " ال يأتي

أموت ؟

من خطبته بـع صـالة " أحمد القط " ما إن انتهى

الفجر ـ محذرا األهالي بأال يخرجوا بناتهن للعمل ، فلـيس

في المصانع أو المؤسسات إال رجال سيمسـكون أثـداءهن

بارتيـاح " نجـوى " ويعملهن الفسق والبغاء ـ حتى تنفست

مغمضة العينين ، استغرقت هي أيضـا " مها " عندما وجدت

قررت أن تقـوم بمـا " مها " في النوم إلى جوارها ، ولكن

نوت ، نهضت بهدوء ، وارتدت مالبسها وأغلقـت خلفهـا

. الباب وهي تفكر أنها ستبدأ حوارها معه هكذا

!ـ من والك على الناس داعية يا ابن العاهرة ؟

Page 409: 539

نعم فالهجوم سيشله تماما فيضـطرب وتسـتطيع أن

إن : تجعله ال يستخدم الميكرفون في شتائمه ، سـتقول لـه

جوعى وال يجب أن تحرم عليهم الخـروج للعمـل ، الناس

سـتقول . خاصة وأن أغلب من يعول هذه األسر من النساء

منذ أتيت إلينا وقد زاد الحي خرابا على خـراب ومنـذ : له

وطئت قدماك هذا الحي ونحن ولم نسمع ضحكة واحدة مـن

إنك تسكب عقدك النفسية وغباءك : ستقول له . طفل صغير

" انشـراح " لقد قتلت مـع : ستقول له . فال في عقول األط

شباب الحي وحولته إلى كومة من العجائز الهرمين المقطبين

إنهـا : دائما خوفا من أن تكون الضحكة حرام ، ستقول له

تتمنى موته مقتوال بسكين تنغرز تماما في حنجرته هذه التي

تبخ كل تلك األكاذيب ، وستجعله يعترف بمنن أعطاه نقـودا

تبول في عقول الناس هكذا ، يمنع علمهم وعملهم ويجعلهم لي

ثم إنها ستتركه مهددة إياه بأنها لو سمعت . مسخة بين االمم

صوت هذا الميكرفون مرة ثانية فستقتله بنفسها ، وطبعا هو

لن يستطيع قتلها ، حيث إنها ليست على أية حال من األحوال

" . شراح السبتاتي ان" داعرة كأمه ثم ستبكي وألول مرة على

استندت على الجدار قليال وهي تحاول تنظيم تنفسها ، ظلـت

Page 410: 539

تراقبه وهو جالس حفنة من البؤس ، بيـه عصـا صـغيرة

ملفوف طرفها في قطنة مبللة بشء أصفر لعله صبغة يـود ،

يضعها في حله فينقبض وجهه متألما فينزعها بسرعة ويعيـد

" انشراح السـبتاتي " المحاولة من جديد ، يبدو أنه كما قالت

يعاني من التهاب دائم في لوزتيه انتبه أخيرا إلـى وقوفهـا

هناك ، لم يختلف تأثيرها عليه عن تأثيرها على سائر البشر

، وقعت من يده العصا ، وانتفض واقفا بجلبابـه المضـحك

القصير الملوث بعدة بقع ، طال صمته حتى أنها ضجرت من

: العصا الملقاة على األرض الموقف برمته ، فأشارت إلى

ـ لماذا ال تذهب إلى طبيب للعالج ؟

لم يجب ، خطت باتجاهه خطوة شعرت على إثرهـا

بدوار فجلست على حجر ، ورفعت رأسها لتـزيح شـعرها

خلف ظهرها ، وانتظرت أن يقترب هو منهـا ولكنـه بقـى

مزروعا في مكانه ، وأخيرا تمتم متهتها وكأنه يراهـا ألول

:مرة

. ـ سبحان الخالق المبدع

: قالت مؤكدة

. ـ نعم سبحانه تعالى

Page 411: 539

اندهشت هي نفسها من هدوئها ومن إحساسها بـالود

. والقرب منه وكأنه صديق

أن الجمال والخيـر " أحمد " ـ أكاد أكون متيقنة يا

. من عنده ، وأن القبح والشر من عمل اإلنسان

: هز رأسه نافيا

شيء من عند اهللا ، كل شيء علـى إنما كل . ـ ال

. اإلطالق من عنده حتى االبتالء

أيقنت أنها لن تصمد طويال فالفضاء بينه وبينها امتأل

بالغمام ، إنها على مشارف إماءه أخرى طويلة ، أصـبحت

: بصعوبة تراه فقررت أن تطلب منه بسرعة ما تريد

ـ وهل الميكرفون بصوته المـزعج وسـبابه ومـا

ن ألفاظ نابية ، وهذا الذي يخطب فيه بصوت يشـبه يطلقه م

. أنكر األصوات هو أيضا نم عند اهللا

: ضحك بعصبية وقال

ـ أنا الذي أخطب ، تركت الغنـاء ألننـي عرفـت

أخيرا أن صوتي قبيح ولكن ماذا أفعل ؟ ال يوجد في الحـي

. من يمتلك صوتا جميال لينوب عني

Page 412: 539

، ولكن ماذا " لمرسي حافظ ا " ـ آه ، فلقد قتل الشيخ

فعل الخلق لتعدهم بعذاب النار ، وتمنعهم من الخـروج فـي

والنساء " أحمد " طلب الرزق ؟ إن الرجال منهم يحملون اسم

، وهم يصلون ويصـومون رمضـان " فاطمة " يحملن اسم

وال يقربون بالتأكيد الخمر ، وهـم يعيشـون . وبقية األشهر

فيهـا قبـل حضـورك صابرين في العشش التي كان يعيش

فـاهللا أرحـم " أحمـد " ال تكن فظا غليظ القلب يا . الكالب

! لماذا ال تذكر قط في أحاديثك عقاب قاتل أمه ؟ . الراحمين

أرادت أن تنهض متجهة ناحيتـه ، ولكنهـا فجـأة

الفزعـة " أحمد القـط " تكومت في مكانها حتى أن صيحة

حـدث ، فخرجت دون أن تستفسر عمـا " نجوى " أيقظت

حملها . ال بد وأن تنفذ ما انتوته " مها " وكأنها كانت تعلم أن

إلى المقعد األمامي في سيارته النصـف نقـل " أحمد القط "

الباكية ، وركب في الخلف " نجوى " وتوسدت رأسها صدر

" أحمـد القـط " ، دارت السيارة كمـا قـال " محمد القط "

" ويلـة اسـتطاعت بمعجزة ، وبعد أن ظل يسوقها لفترة ط

: أن تقول " نجوى

Page 413: 539

ـ سنتصل بزوجها في أمريكا ، أما اآلن فسـنذهب

. إلى أحسن مستشفى في مصر ، أنا معي الكثير من نقودها

" بينكـين " لــ " أغنية " منى " من يفتح على غفلة ، ويطير في المساء شيئا ما ينهار تحت وقع ! بهذه الحدة ؟ •

رح في الفضاء غرفا بناسـها أجراس مهرة عذراء ، من يس

لـم تـرتح الـورود علـى ! ومناضدها وعريها الناعس ؟

أغصانها ، وال تركت رءوس الفتيات صدور من تهوى وال

فارقت أنا االتكاء على دمعتين حزينتين احتفظت بهما لوقـت

يغني ويدق بقدميه على موت راع عجوز " بينكين " الحاجة ،

املة تدخل القلب وتخـرج ، يمتد صوته إلى أدوات مطبخ ك

منه ، تاركة رائحة غابات وحيدة تطلق األلوان فـي رحابـه

" بينكين " الوقت وتمزجها بأجساد تعيد تشكيل الفراغ ، يغني

كي ترقص األوردة والضلوع ، يشـعل أسـراب الشـموع

المعلقة في الهواء ، بصوته يسوط األيام ويعجـل بانتهائهـا

على أكتاف مـن راحـوا فتبحر أشرعة مراكب تحط دائما

. بصالة وصمود

مغن روسي •

Page 414: 539

افتحوهـا ، *" هذه ليلتـي " نجوى " ـ افتحوا لي يا

حتى تعود المقاعد إلى أماكنها ، حتى يتأمل القمر من عليائه

هذا السكون ، افتحوها حتى تحط العصافير من جديد فـوق

. لبالبتي فتعيد ترتيب الفصول

حتـى " أم كلثـوم " ظلت أليام تستمع إلى صـوت

توقفت رغبتها في سماعها كما توقفت عن أشياء كثيرة مـن

قبل ، ومن جديد أخذت تسأل بشغف شديد عن أهـل الحـي

تجلـس " نجوى " الذين انتشروا في أرجاء منزلها مما جعل

على حافة سريرها طيلة الوقت بينما نسوة الحـي يطـبخن

ويقمن باألعمال المنزلية ، كانت تدعك لها قدميها وظهرهـا

وال تستطيع تحمل تعبير األلم على وجه أختها فاعتـادت أن

ها هو قدها الفـاتن الملتـاع . تقوم بهذا وهي مغمضة العين

إلى وجه باك مغمض " مها " تتطلع . يوشك أن يغادر هيكله

العينين طوال الوقت ، غادرت صاحبته األربعـين بنظـرة

رجـل ، خجلى على برتقال يهتز ، يكاد لم يمسسها إلى اآلن

ولـم تبتـع لحظـة **"نزار " ولم تذبح على شفتيها قصائد

مجنونة بجمالها وال حلق الحزن على شعرها الجميل الـذي

" . أم آلثوم " قصيدة تغنيها *

" . نزار قباني " الشاعر **

Page 415: 539

مهـا " ازداد بياضه نصاعة ، وال جربت بعد االنتحار حبا ،

التي حكت كثيرا آن لها اآلن أن تسـتريح وتنـام " السويفي

: هادئة على صوت أختها

خبئتها في حجرة مغلقة ، بعد أن ـ كانوا يتعمدون ت

يثبتوا المسامير على المشربيات وذلك عندما كانوا يعلمـون

بمرور موكب الملك من تحت بينهم ، كان يجلـس أحـدهم

خلف بابها يحرسها حتى ال تتسلل في الزحـام فتطـل مـن

ذات . البلكون ، لتتفرج على الموكب فينتهي أمرها وأمرهم

ن على عالقة بـبالط الملـك ، يوم وزارهم صديق لجدك كا

. وعندما لمحها وهي تمر من غرفة ألخرى

: قال لجدك

أقسـم ! ـ آه لو علم الملك بوجود هذا الجمل عنده

قل لي أهذه ابنتك ؟ . أنه ما تركه أبدا

:قال جدك

ليست ابنتي على اإلطالق ، إنها ابنة الجيران . ـ ال

. وهي في زيارة لنا

: وهو يقول هب الرجل واقفا

. ـ حسن ، سأزور جيرانكم إذن

Page 416: 539

ارتعب جدك وأمسك الرجـل مـن رسـغه وقـال

ـ اسمع يا أخي ، باهللا عليك أترك لي ترتيـب : باستعطاف

هذه الزيارة ، ومر علي بعد يومين ، فللبيوت على أية حـال

. حرمة

وعندما جاءه الرجل بعد يومين ، أخبره أن الجيران

افروا إلى اإلسـكندرية ، ونصـحه يرفضون زيارته وقد س

. بالذهاب والبحث عنهم في ميامي

عندما لكزوها أن تسرع بتحضـير نفسـها ألنهـم

ليتوهـوا " حدائق القبة " سيبدلون شقتهم الواسعة الفخمة في

كان هذا أو إنذار مبكـر لهـا " الزاوية الحمراء " في زحام

أن يتبرأ منها بورطة جمالها ، وتنبئها بأن هناك احتماال قويا

. كل من ستقابلهم بعد هذا اليوم

صان الحي ظالمه ، واحتضنه وأخذ يرعاه تماما كما

وحدتها ، خفتـت األصـوات بالخـارج ، " نجوى " تصون

تستمع إلى وجيب الرياح في أغصان شـجر " مها " وأخذت

الكافور الكثيف الذي وكأنه نبت فجأة حول البيت مـن كـل

طه في الفضاء فكانت تتكون من أوراقه جانب ، تبعثرت أمشا

المتناهية الصغر أشكال تتابعها بعينيها المفتوحتين ليال ونهارا

Page 417: 539

، كانت تبتسم له إذا ما الح لها وهو يقطع األفـق بخطواتـه

الواثقة والكبيرة ، ولحيته المهذبة ، وردائه الذي خاطه مـن

اطـه السحاب ، والكبيرة ، ولحيته المهذبة ، وردائه الذي خ

. من السحاب ، فيبدو أحيانا أبيض وأحيانـا بلـون السـماء

يتأملها ثم يمضي أو يمد يده على جبينها بمسح عرقها البارد

: وهو يقول بصوت ال يشبه الصوت البشري

. ـ ها هو االمتحان

ثم يدبر ويقبل ، عيناها اآلن تريدان أن تنغلقا علـى

د حتى ولـو معـه أحالمهما ، وهي ال تريد أن تتكلم مع أح

لقد نفذ الكالم ما الذي يجعله اآلن عنوة يفتح لها عينيها . هو

ويجلس على إفريز شباكها ، هذا العربي الجميل باسم الثغر ،

.ما الذي يجعله اآلن فقط يقرر وصل ما انقطع من حديث

.كل المحاربين اكتووا بها يا ابنتي ! ـ الحياة

أنهـا لـم تكـن ـ ها هي تنكسر على ركبتي ، وك

وكأنني لم أمألها صخبا بحكاياتي ، ولم أشخبط في وجههـا

. بفرشاتي ، وكأنها كانت حلما

. ـ للروح أمكنة تجوبها غير هذا الجسد

Page 418: 539

أنا مهيـأة اآلن . جربت هذا عندما أحببت . ـ نعم

. للقفز في هذه الهوة

. ـ لست بهيابة كما أرى من ارتفاع السلم

أحمـد " لماذا يريـد . صولو إليه ـ لكل دربه في ال

القط أن يكون درب الوصـول إليـه واحـدا ، وأن يكـون

بالضرورة محفوفا بالظالم ؟

ـ ال تفكري في هذا اآلن يا ابنتي ، فما زال الطريق

أمامك طويال ، سيعلمون ذات يوم أن كل شيء مباح إلنقـاذ

: النفس التي نفخ اهللا فيها من روحه

. م أبدا ال يكتمل ـ، بيني وبينك كال

يضحك ألول مرة بصوت رائق وهو يشير بإصـبعه

. النوراني إليها

" . كل كمال إلى زوال " فكما ترين . ـ هذا أحسن

التي أيقنـت أن أختهـا " نجوى " يختفي على دخول

على مشارف غياب طويل ، يبدو مألوفا لدرجـة موجعـة ،

الخالي الـذي كانت قد أمضت نهارها كله محدقة في الشارع

، إنها لم تزد " أحمد الدالي " تمنت كثيرا أن تقطعه خطوات

: في مكالمتها له عن

Page 419: 539

. تموت " مها " إن . ـ أن ارجع

عيناها غائمتان في انسحاب أختها البطيء وإشراقاتها

بدأت تهيئ نفسها السـتعادة حـوارات . المتقطعة المفاجئة

تظل تحـدق لنهايـة طويلة تمت بينهما ، فظلت تحدق كما س

عمرها في بقعة على الجدار ، ستكون بمثابة شاش سينما لها

فـي " مهـا " رتبت وجه . في أيام وحدتها الطويلة القادمة

الذاكرة في أغلب حاالته ، كانت تحاول اإلمساك بمالمحهـا

: وهي تصرخ في وجهها عندما كانت بقادرة على الصراخ

لقـد أضـعت " نجـوى " ـ هل يصعب فهم هذا يا

حياتي كاملة مدفونة بذيلي في مياه ضحلة ، انتظـر شـبكة

تصطادني حتى أهرع إليها بنفسي ، ولن يكون لـدى وقـت

غال لترك بيضي ، وأنا ليست لدي بيضات ألتركها ، فلمـاذا

! عشت عمري كله مجرد سمكة جيتار حمقاء ؟

كانت تطارد صوتها ، تحفظ كلماتها حتى تفهمها فيما

مهل ، تسمعها اآلن وهي تجهش بالبكاء في وجـه بعد على

حـوض " زوجها وهي تطرده أول مرة بعد أن جاء بها إلى

" :الجاموس

Page 420: 539

ـ منذ قفز الناس من شرق سور برلين إلى غربه ،

والدنيا تحاول إقناعي بأن الشمس تشرق من الغرب ، ومنـذ

خلفتني وردة أحسن تجفيفها على شرفة من شـرفات إحـدى

. اخرج اآلن . اتركني وحالي . قهوتي باردة زوجاتك و

وكأنهم يضغطون على زر ما فيها ، كـان وجههـا

على األرض " أحمد القط " يضيء فجأة ، تندهش من جلسة

ومن سمح لـه ! متى اقترب منهما هكذا ؟ . بجوار سريرها

ثمـة رجـل ! أن يتجول في البيت وكأنه من أفراد العائلة ؟

عها ، ويهمس في أذنيه بمـا ال تسـمع سمين يحقنها في ذرا

التي تواصل تدليك سـاقيها وظهرهـا " نجوى " ويمضي ،

. مغمضة العينين ازدادت فجأة شيبا وقبحا

، يقف مبتسما فـي مواجهتهـا " أحمد القط " ينهض

: قائال بصوت منخفض

ـ كيف حالك اآلن ؟ ألن تحدثيني لمـاذا يخصـك

بالظهور ؟ حدثيني كيف يبدو ؟

. مهيبا باذخ المحضر ـ

ـ إنني يا أختاه افتح على الهواء أعضائي كلها ، لي

روح ثقيلة ، وجسدي يقيـدها ويمطرهـا بوابلـه وحممـه

Page 421: 539

وحكاياته ، كلما فكرت يا أختاه في مخرج سكب اهللا علي هذا

. الجسد فأجدني مكبال إلى األرض

حينما يوجد العشق الحقيقي ، يفني العاشق فـي " ـ

فالفراشة التي تعشق النار إذا مـا وصـل . لممشوق وجود ا

ويتم الوصال بأن تسري النـار فـي . إليها ال تتخطى عنها

وجودها ، وعندما تصبح الفراشة شعلة وتمتزج بالنار وتتحد

معها حينئذ يتم لها الكمال ألن العاشقين أصبحا واحدا متحـدا

هذا . شيئا يا هللا من الرائع الذي كتب هذا ؟ لم أعد أذكر " .

المخطوط الذي كتبته أنا ، هل سيقرؤه التالميذ غير مرتـب

. وغير مكتمل ، وهم يفضون قراطيس الطعمية في الصباح

مـن " نجوى " نعم أنا تعجبني هذه الفكرة ، نعم افعلي هذا يا

بيعي مخطوطي بقروش لصـاحب مطعـم الفـول . أجلي

. والطعمية

ها من السنترال كان عليه أن يذهب اآلن ليحدث زوج

، كان عليه أن يفكر طيلة الطريق فيها ، ما الذي يجعلها هي

العليلة التي تنتظر الموت بشجاعة وصبر أسرة وجذابة هكذا

كيف يخلقها اهللا جميلة وعذبة وعليمة إلى هذه الدرجـة ! ؟

حتى يعذب بشره غير الواصلين بها ؟ سأكون آخر محبيهـا

Page 422: 539

آخر من يقع عليـه ظلمهـا دون شك وهذا يكفيني ، سأكون

وسحرها ، علي أن أذهب آلتيها بالدواء وبزوجها ، وعلي أن

. أضع بين يديها هي العليلة ، كل ما اقترفت يداي من اآلثام

مصادفة هي كما ينابيع عمرها آالف السنوات ومنزوع عنها

الغل واليقين والحاجة ومكتفية بنفسها وبرسالة ما سـتتركها

ا الذي ومكتفية بنفسها وبرسالة ما سـتتركها كما األنبياء ، م

كما األنبياء ، ما الذي يميزها حتى تجد طريقها إليك وحـدها

بهذه السهولة وبدون دماء ، كيف وصلت إلى خالصها فـي

العشق ، في حب ما خلقت يداك ، ها أنا أحبها وأرى الطريق

إليك محفوفا بحدائق مسحورة ولكي أتطلع إلى نورك وجهـا

سأكون شهيدها حتى تشفق علي يا رب وتكاد تحسبني لوجه

. شهيدا

مع مرور األيام ازداد صمته ، ولم يعد يجيب علـى

علـى " محمد القط " استولى أخوه . األسئلة التي توجه غليه

الكرباج لتعليم الصغار والميكرفون رغم أنه لم يجرؤ علـى

ذنه كل استخدامه ولو لمرة واحدة غال في األذان الذي كان يؤ

أما هو فقد كان يجري هنا وهنـاك . مرة واحد من األهالي

" أحمد الدالي " بحثا عن الطبيب أو الدواء أو لمطاردة أخبار

Page 423: 539

بالتليفون ، متحاشيا تماما نظراتهم المندهشة لتغيره حتى أنهم

كانوا يذكرونه أحيانا بمواعيد الصالة ، أو يجذبونه جذبا من

ا ، منتظرا إشراقاتها القليلـة ، قرفصته على األرض بجواره

كانت إذا ما سألها سؤاال ال تجيب عنـه مباشـرة ، حلـوة

الحديث كما هي حلوة الشكل ، تبتسم مزيحـة ألمهـا جانبـا

وتحكي عن السحب التي أزاحوها عن سماء موسـكو فـي

مؤتمر الشباب العالمي ، حتى ال تسقط األمطار على رءوس

ول الشباب مـن جميـع الضيوف ، وتحت سماء صافية تج

أنحاء العالم في العاصمة وظلوا يتساءلون عن معجزة إزاحة

... السحب

" :احمد القط " قاطعها

كيف واتتهم الجرأة هؤالء الكفرة أن يغيروا . ـ حقا

مسار السحاب ؟

: تجهمت من جديد ألنه أجبرها أن تجيبه مباشرة

ظنك هذا ؟ أال ترى أن " أحمد " ـ ماذا تظن باهللا يا

هو ما جعلك منذ أسابيع تحرم الخيار وتحلل قضاء الحاجـة

أعتقد أن اهللا يفرح بمحاوالت خلفائـه علـى ! في الخالء ؟

.األرض

Page 424: 539

ونامت ما لم تنم بعمق منذ مرضها ، كانـت تتـابع

نجوى " أثناء خروجه مع الزائرين ظال أبيض كثيفا ثم تسأل

: بصوتها الحالم "

" . نجوى " أبيض حولي بعد يا ـ أال تلمحين ظال

في " أحمد الدالي " عندما اصطدم به عند الباب ، قرأ

عينيه كل الكالم الذي قرأه في عيون الكثير من الرجال الذين

: رأوها قبله

ـ هل هذه امرأة تترك ؟

:قال له هامسا بضيق لم يحرص على إخفائه

؟" نجوى " ـ كيف حالها اآلن ؟ أين

" :أحمد القط " أجابه بالضيق نفسه

إذا لم تمت بتليف كبدها ، فستموت . ـ قال األطباء

لـم يسـتطع . بسرطان الرئة ، ولكنها تحتمل في شـجاعة

. المرض إهانتها أبدا

:ساهما " أحمد الدالي " قال

. ـ وهل استطاع أحد قبله إهانتها ، ابق معي قليال

. ا اآلن أخاف أن أقابله. حدثني عن أي شيء سواها

Page 425: 539

! ثم تخاف وأخـاف . إنها نائمة . ـ لن تقابلها اآلن

!لماذا ال تخاف هي من شيء من أين تأتيها هذه القوة ؟

ال يعرف متى استدارت عينا أخيـه هكـذا ، حتـى

!صارت كعيني صقر جائع ؟

بعثر محتويات العشة يمينا وشماال ، وهو يبحث عن

مبتورة ، لـم ستسـتقم شيء ما وأخذ يتمتم حين رآه بكلمات

: وهو مشغول البال " احمد القط " غال عندما قال له

. ـ هل ستتركني أنام ولو ساعة

:مهتاجا " محمد " صرخ

ـ ال وال دقيقة واحدة ، لماذا ال تنام عنـد العـاهرة

.التي عملت لديها خادما أخيرا

. اهللا يسامحك ! خادم ! ـ عاهرة

هه ؟ لماذا ؟ اهللا ال يسامح ـ ولماذا يسامحني اهللا ؟

قلت أنك تبت وصدقتك حين . وال يتوب على دواب مثلنا أبدا

رفعت عنا عارنا ، صدقتك عندما قتلت أمنا وصدقتك حـين

وجدت طريقا لك ولنا للخالص من الطين الذي ولدنا وكبرنا

ونهلنا نمه ، وها أنت تجرنا لطين جديد ، اخرج يـا خـادم

Page 426: 539

ال تترك هذا الحي قبل أن تتسبب فـي لماذا. العاهرة اخرج

. هه . جريمة أخرى

كان الزبد يتطاير من فمه ، وعيناه تزدادان استدارة

كبر بما يكفـي ليصـدق " محمد القط " فيزداد رعبهما ، إن

إال إن هذا المسخ الـذي أمامـه ، هـذا . أخوه أنه ال يمزح

، الغبي من صنعه هو ، هذا هو عمله في الفتـرة األخيـرة

عمله هو فقط ، وعليه أن يطرق برأسه إلى األرض هكـذا ،

أو أن تمتلئ عيناه بوجه أخيه الثائر ، بمالمحه الحادة التـي

ينظر إلـى " أحمد القط " تزداد صالبة بيقين ال يلين ، كان

يديه حتى يتأكد أن لديه هذه المقدرة على عجن تلك الكتلة من

: هل قالت له . الشر

ل إن الشياطين وحدها أنسب خلـق اهللا أكاد أقو " ـ

" . المتالك اليقين

أم أنـه توصـل إليـه . أم أنه قرأ هذا في كتاب ما

واآلن فقط وأخوه يدمدم حوله مثـل وحـش كاسـر . اآلن

.ورغاوي الزبد تتناثر على شفتيه كمحموم

هل كانت إلى هذه الدرجة تريد أن تموت فمرضـت

نسان هي فقط التـي تجعلـه كم أصدق اآلن أن إرادة اإل ! ؟

Page 427: 539

يترك الحياة ، وهذا يشمل أيضا الجندي الذي يصـاب فـي

المعركة برصاصة ، إنه لو أراد الحياة لجعل ضلوعه تحول

دون وصول هذه الرصاصة لقلبه أو لمخه ، أنا ال أريـد أن

أحارب أكثر من ذلك ، بي رغبة مجنونة أن أكون هناك في

باقا عليها في شيء ما وليكن استقبالها ، بي رغبة أن أكون س

سـنتحدث .. في الموت ، يجب أن أسبقها إلى هناك ، هناك

هل ! ما أحلى وجهها هذا الساحر ! كثيرا ، ما أحلى صوتها

كان علي أن أقطع حياتي كلها في األنفاق حتى أراها ككـوة

. من النور مفتوحة عليك يا رب

لـى جرا من جلبابه مارا بـه ع " محمد القط " جره

أبواب العشش كلها ، ممرغا إياه في تراب الشـارع ، كـان

" أحمد القـط " يلكم كل من يحاول تخليصه من بين يديه ، و

استكان تماما واستسلم لركالت أخيه األصغر واضـعا يديـه

على راسه ، كان يبتسم تارة ويبكي أخـرى وهـو يسـتمع

:لصراخ أخيه

. ـ لقد صبأ ابن العاهرة

.انت تحط على عينيه وتدغدغ روحه طراوة ندية ك

. ـ صبأ

Page 428: 539

يعاود االبتسام ، جسده يخف ويخف حتى خيل له أنه

ربما إذا ما ازداد هذا األلم الذي يشعر به اآلن فسوف يطيـر

مخلفا وراءه صوصوة الفراخ وعويل الطشوت األلومونيـوم

طوق جلبابه ، كان يعرف أن خالفه الوحيد اآلن في رحمـة

لم يستطع أبدا قيادة أفكاره ، بات يتمـتم بطلـب اهللا ، ولكنه

الرحمة بينما يفكر في البنات اللواتي يتوارين بسرعة خائفات

كم واحدة منهن اآلن تحلم بفتى قـوي : خلف أبواب العشش

كأخيه محمد هذا ؟ كم واحدة منهن يعذبها مرقدها البـارد ؟

ـ " وهو هنا تطبق مخالب يديه على عنق أخيه ، وعلى د أحم

أن يحتمل حتى النهاية عمله ، أن يحتمل ما اقترفـت " القط

. يداه

مزق من عليه جلبابه ظـل يلكمـه فـي صـدره ،

ويضربه بكل شيء يقابله ، وعندما كلت يداه ، طرحه علـى

األرض ، برك فوقه ليستريح ، وغامت عينـاه فـي ظلمـة

السماء ، وهو منتبه تماما إلى أن يتم عمله دون تلتقي عينـاه

بعيني أخيه الذي كان جسده يدخل في استكانة تشبه اسـتكانة

.حشية من القش

. ـ قل ، لماذا أردت أن أقتلك يا ابن العاهرة ؟ هه

Page 429: 539

... ـ

عندما حملـوه . ظل يعوي طويال وحده في الشارع

ووسدوه فرشتها كان مبتسـما " انشراح السبتاتي " إلى عشة

ا ، وأقسموا فيما ويده اليسرى على ضلوعه تتحسس كسوره

منـذ " أحمـد القـط " بينهم أنهم ألول مرة يرون في عيني

. طفولته هذا السالم والطمأنينة والمحبة

ها هو أخيرا يراها نائمة ، أهدابها الطويلة تنام على

جنتين شاحبتين ، شفتاها راح احمرارهما ولكنهما مزمومتان

يبدو ملتهبا بجمال وانسياب ، أنفها الذي لم يستطع قط كسره

إثر ورم كان عند األرنبة تماما ، يدها اليمنى كانت تلهو على

ما يبدو قبل أن تنام في شعرها ، قطرات من العرق زينـت

اقترب منها وجلس بهـدوء . جبينها ، جميلة هذه العليلة واهللا

، التـي اعتـادت " نجوى " على حافة سريرها في مواجهة

أن يبقيها نائمة ألكبر قـدر حاول. النوم مؤخرا وهي جالسة

ممكن من الوقت ليتأملها ، فلم يأت بحركـة حتـى ليمسـح

دموعه التي ظل من خاللها يتطلع إليها ، ويلمح هذا الظـل

األبيض الذي ازداد كثافة خاللها يتطلع إليها ، ويلمـح هـذا

الظل األبيض الذي ازداد كثافة اآلن حولهـا ، هـل يمكنـه

Page 430: 539

ه بهدوء ليفصل ما بين حـدود كتفيهـا إزاحته قليال ، مد يدي

: وشهقت فيوجهه " نجوى " فتململت . وشعرها وذلك الظل

!! ـ أنت

" وضع إصبعه على فمه مشيرا لها بالسكوت ، ولكن

: ظلت نائمة ، فقال بعد فترة هامسا " مها

لم أرها مريضة أبدا غال مرة واحدة ، بعد زواجـي

قادر على تنفيذ تهديي لها األول عليها ، بعد أن عرفت أنني

، " أنجـيال " إذا لم تترك الشـخبطة بفرشـاتها ، تزوجـت

مريضة فذهبت إليها " مها " وتركتها بعد شهر ثم عرفت أن

، طرقت بابها يوما كامال فلم تفتح وعندما كسـرت البـاب

أتذكر أن هذا . طارت هي إلى النافذة وجلست على إفريزها

جمهورية حولنـا باسـتقاللها ، كان وقت سعار مطالبة كل

كانت أوكرانيا تعاير روسيا منهم بشرا ، بعد أن كانوا رعاعا

يعيشون في مستنقعات الثلج ويموتون فيها وهم ال يعرفـون

نجوى " ظللت طوال حياتي يا . الفرق بين المصنع والكنيسة

أعيد في وقت فراغي تأليف أكثر من سـيناريو لجلوسـها "

ة في شبه تهديد لي باالنتحار ، هـل كانـت على إفريز النافذ

مثال ستلقي بنفسها من الطابق السابع عشر أو أنني اقتربـت

Page 431: 539

منها أكثر ؟ أو لو أنني تكلمت أو حتى همست ؟ ماذا كانـت

ستفعل لو أنني صرخت ؟ أو تركت الغرفة وخرجت ؟ ثـم

لم أسـتطع . أراها تجتاز الفضاء وتسقط محطمة على الثلج

الركوع على ركبتي أمامها في مكاني متـأمال فعل شيء إال

وجهها الشاحب ، الذي يشبه وجههـا اآلن ، وهـدوءها ، ال

أدري هل سمعتني وأنا اردد اسمها مرارا ، أظن أنه لم يكن

بجسدي قطرة دم واحدة لتقذف بصوتي إلى الخارج، أنا أيضا

ال أتذكر كيف أنها ترجلت عن إفريز النافذة فوجدتها أمامي ،

:ضعت يدها على رأسي وهمست و

. ـ أيها المسكين

ـ ثم طلقت هذه الفتاة ؟

ـ طبعا كما طلقت كل من تزوجتهن دونها ، وكنت

. كلما أحاول إخبارها بطالقي إلحداهن تبتسم وال تعلق مطلقا

. ـ نم قليال بجوارها

ـ أحاول ، وأحاول أن أهيئ نفسي لها ، منذ عرفتها

رفين كيف يهيئ رجل نفسه المرأة كأختك وأنا أحاول ، أال تع

؟

Page 432: 539

لم يشعر بها إال ورأسها يتسلل على صدره ، فكـت

أزرار قميصه حتى تنساب دموعها ، وتأوهت في هذه المرة

من وجع أنفها ، وهو يقبض كما اعتاد على خصالت شعرها

ويضغط وجهها في ضلوعه ، بدوا وكأنهم ثالثتهم نسوا لفترة

: ست هي طويلة الكالم حتى هم

ـ ما عاد الحمام يرفرف فوق لبالبتي ، مـا عـاد

" أحمـد " الفجر يختلف كثيرا عن الغسق ، ما عادت يدك يا

ترعى مواسم وغابات في جسدي ، ما عدت أشـعر حتـى

بطعم دموعك ، يبدو أن هذا مذاق النهاية ، يبدو أنه قد جـاء

، " نجـوى . " أوان فطام جسدي عن جسدك ، أنا كم أحبك

وهي ترتدي ثوبـا أبـيض " انشراح السبتاتي " مس رأيت أ

. شفافا وتأخذ بيدي ، هل تفسير هذا أنني سأموت اليوم

، " أحمد " ، معك " مها " ـ ال ، اشربي حساءك يا

. وسأذهب أنا ألغسل الثياب

. أنا ال أريـده . ابقي أنت معي . ال تذهبي . ـ ال

. سيظل يبكي وأبكي

" . مها " ني أبقي معك يا ـ لن نبكي ، دعي

Page 433: 539

لن " نجوى " اسمعي يا . ال . هه . ـ إلى أن أموت

. وغال من سيدلك لي ظهري . تنتقلي من هذه الغرفة أبدا

: بفرح " قال أحمد

. أنا " مها " ـ أنا يا

:بمرارة " مها " ابتسمت

. ـ أنا لم أعد صالحة ليديك

ة إلى صدره سمحت له أن يسقيها الحساء وهي مستند

، وسمحت له أن يبقى معها حتى تنام ، ظلت تحدق في عينيه

ثـم . ، وتعيد تشكيل مالمحه على وجهه عشرات المـرات

طرده صراخها عندما استيقظت إلى باقي أجزاء البيت يتجول

منتظرا أن تهدأ حالتها وتسمح لـه . هنا وهناك بين زائريها

. بالدخول

ا حشية متعفنة ؟ لماذا ال ـ ما الذي أتى به اآلن وأن

يذهب إلحدى زوجاته ؟ أو يتزوج من جديـد إذا كـان قـد

تخلص منهن ، لماذا يعذبني بوجوده دائما حتى وأنا أموت ،

، يسافر كمـا كـان يسـافر " نجوى " قولي له أن يمشي يا

. دائما

. ولكن نامي اآلن . سأقول " مها " ـ سأقول له يا

Page 434: 539

ووجهه يتحول علـى " ى نجو" ـ يومها ، وقف يا

:وجه قرد يصرخ في وجهي

ـ ما هذا الذي ترسمين ؟

سأترك كل شيء من أجلك ، حقا ما الـذي : قلت له

أو بحيرة راكدة في ! تعنيه مناظر غابات غارقة في الثلج ؟

. لن أرسم بعد ذلك أبدا ١سهل مهجور ؟ ط

لقد اتخذت قراري ، أنا ال أريدك في " مها " ـ ال يا

. ياتي أنت غامضة جدا أنا ال أفهمك ح

: قلت له وأنا أبكي

. ـ سأفعل كل ما تريد ، سأغير من نفسي

ـ ال ، وكيف ستكونين حينذاك ممتعـة إذا تغيـرت

إنك حتى ال تنامين . ال " . مها " بناء على طلب مني ؟ ال يا

أنا أخاف منك ، ترسمين طـوال النهـار وتواصـلين . أبدا

. ال أنا ال أريدك بعد اآلن . ال الليل التفرج علي طو

قلت له وأنا أشعر أنه بهجره لـي يسـحب روحـي

: معه

Page 435: 539

ـ قل لي ماذا علي أن أفعـل وسـأفعله ، سـأترك

الفرشاة ، لن أذهب إلى الجامعة ، سأجلس هنا تحت قـدميك

. تماما

وجلست بالفعلت تحت قدميه ولكنه أزاحني ووقـف

: يصرخ في منتصف الغرفة

ستفعلين هذا ألنني طلبته ، ولن أكـون مسـتمتعا ـ

، ليست المشكلة في الرسم ، " مها " هل تعرفين يا . حينذاك

أنا ال أعرفك ، أنا ال أعرف شيئا أبعد من جلدك هذا ، أنـت

سـت . بالنسبة لي صندوق أسود كهذا الذي في الطـائرات

" انتهي وقتك يا . سنوات دون أن أنجح في فهمك ومعرفتك

هذا . هذا يكفي جدا . ست سنوات وأنا أدور في فلكك " ها م

. يشعرني بإهانة

تمنيت أن أذبح نفسي بيدي ويبقي معي ، كنت أريـد

كنت أريـد أن أهـين . أن أضحي بأي شيء كي ال يتركني

نفسي مئات المرات كي ال يشعر هو باإلهانة ، ظللت راكعة

: وأنا أهمس كأنني على مشارف موت محقق

. ولكنني أعبدك ـ

: صرخ ساخرا

Page 436: 539

نعم تعبدينني كإله مثل آلهة آل قريش ، إليه . ـ نعم

تعبدينني في النهار لتأكليني فـي الليـل " مها " من عجوة يا

! ولكن هل سمعت من قبل عن إله ال يفهم شيئا عن عبيده ؟

" أنجيال " أنا تعبت منك جدا ومللت ، أنا أريد أن أتزوج . ال

ن وضوحها ، فتاة مفهومة لحد المتعة ، تدخل علينا ، اال تري

: ببساطة وتقول ضاحكة

يطاردني فأشـفقت عليـه بعـد " . أليوشا " ـ ظل

. أسبوع ونمت مع

" رماني هكذا ببساطة خلف الباب وخرج ، ظللت يا

أحدق في الغرفة ، في المكتبة ، الكراسي التي طالما " نجوى

شـف السـرير ، جهـاز جلست على ركبتيه عليهـا ، شرا

السنترميوزك الذي ظللنا لمدة شهر متواصل نستمع نه إلـى

لتشايكوفسكي حتى خيل إلينـا أننـا " بحيرة البجع " موسيقى

" نجـوى " ال شيء في الدنيا يشبه يا . بجعتان نمرح هناك

. امرأة محبة مهجورة

يراها وهي نائمة كخفاش معلقـة " أحمد الدالي " ظل

ن شجرة اللبالب وجسمها كله متدل يتـأرجح قدماها في غص

في الهواء ، كان يستند بمرفقة على إفريز الشرفة التي تطل

Page 437: 539

المهجورين ، همـس " بطة " و " سكينة العمياء " على بيني

ـ كل هؤالء البشر ماتوا : تقترب منه " نجوى " حين رأرى

وانمحت آثارهم ، ضحكاتهم وحكاياتهم ، أنـا تعبـت مـن

. كما تتعب الشطآن أحيانا من لم بحارها " نجوى " ا لملمتها ي

فلماذا تواصل طـردي . لقد وعدتني أن تموت على صدري

. من غرفتها اآلن

، وتضيق عينيها اللتـين " نجوى " تربت على كتفه

أفرغتا منذ شهور كل ما فيهما من دموع ، وتدعوه بعد ساعة

. تريده " مها " فـ

وهذا العطر الـذي رشـته وجهها الضاحك المتألم ،

وعلي سريرها حتى أضاع من أنفه رائحـة " نجوى " عليه

زوجته البرية تماما ، كم األدوية الذي يحيط بها مـن كـل

جانب وزجاجات العصائر الفارغة ، كل شيء كان يشـعره

بالخجل من نفسه ، من صحته ، من قدرته على القيام بأيـة

كس ما توقع ، كانت حركة من يده ، دخل متعثرا ، وعلى ع

تحثه على االقتراب منها حتى احتضنها ، أخذها برفق فـي

صدره ، منتبها أال يوجعها ، واال يشعرها بأنه ما زال قويـا

. أو أنها مريضة

Page 438: 539

، وكأنه " نور " أنني أرى اآلن " أحمد " ـ تصور يا

فقط ، رأيت في الحلم أننـا وكأنمـا . كان معي منذ ساعات

مسد شعري ويتحسس وجهي كما لـو كـان حبيبان ، ظل ي

أعمى ، لكم أحببت ذلك ، أعجبته كثيـرا لوحـاتي ، كـان

ألم أحرق في ! يتفحصها باهتمام ودهشة ، من أين أتى بها ؟

كـل ! ؟ " نجوى " كل ما رسمت يا " أحمد منصور " نيران

" نجـوى " أنا لم أحك لك بعد عن نور يا ! ما لونت يداي ؟

د ووجهه األسود وألوانه الصاخبة التي كنا نور بشعره األجع

نعطيها له بسخاء مقابل أن يفرجنا على كل ما يرسمه ، كان

" إنه سيكون مثل : أيضا يرسم لنا في كراستنا ، كنا نقول له

فيبتسم في تواضع وخجل ، وكنت " دافينشي " أو " فان جوخ

ـ ي أنا أعد المرات التي أراه فيها ، أحببت المدرسة وأنـا ف

اإلعدادية من أجله وأحبني كل التالميذ ، عذبت المدرسـين

الذين كانت ال تتحول أعينهم عن وجهي أثناء الشرح ، بينما

أتوه أنا في تجاعيد شعره ، ويديـه اللتـين تمسـكان بقـوة

بالفرشاة فتنطلق كالممسوسة في خلق حيوات ال تنتهي ، كنت

لخطابـات أحاول جذب انتباهه بأن أقرأ له وأنـا أضـحك ا

الغرامية التي كان يكتبها لي التالميذ ، حتـى أثيـر غيرتـه

Page 439: 539

فيصارحني بحبه الصامت الذي تفضحه عيناه ، ولكنه كـان

دائما يمتعض وينسحب من المكان ذات مرة فرجنـا علـى

صورة بنت سوداء قبيحة جدا قائال إنه سيرسمها ، وعنـدما

قال . ها سأله التالميذ ضاحكين وهل سيتزوجها بعد أن يرسم

. نعم عندما أكبر سأتزوجها فأنا أحبها : بثقة وخجل

أهديته فيما بعد كل الدموع التي سكبتها على النهايات

عبد الحليم " الحزينة لألفالم العربية ، وكل يوم احتفاء بموت

في أخر شهر مارس ، ومع كل أغنية تتغنـى بظلـم " حافظ

جعله يتحـدث ما من وسيلة نجحت معه أل . المحبوب للمحب

معي ، أو يقابلني حتى أنهيت المرحلة اإلعدادية ، فقرر أبي

بعدها أن ينقلني من المدرسة المشتركة إلى مدرسـة ثانويـة

كلما كبرت زدت ولها به حتى صرت أرسم . حكومية للبنات

. الذي لم يبق منه إال الفرشاة واأللوان " نور " فقط من أجل

كثيرا ، يـتقلص تحـت وطـأة يغير األلم من مالمح وجهها

رعب ال يمكن وصفه ، تصـرخ وهـي تحـاول مسـتميتة

: السيطرة على نفسها

اخرجا ، أنا ال ! ـ لماذا تحملقان في وجهي هكذا ؟

. أريد أحدا هنا

Page 440: 539

لم يتصور أيهما أبدا أنها هي نفسها التي حكت منـذ

ليس أمامهما " . المدرسة اإلعدادية " وعن " نور " قليل عن

يبد أو الـوحش الـذي . تنفيذ ما تطلب فيتأهبان للخروج إال

يركض في دمائها همد هو أيضا اآلن فتعود لتهمس في هدوء

" ـ ألن يخبرني أحدكما كيـف مـات : وهي تستجمع قواها

؟" أحمد القط

" احمد الـدالي " ينظر كل منهما إلى اآلخر ويتلعثم

:وهو يسألها

. ـ وهل مات ؟ نحن ال نعرف

شارت له أن يقترب منها ، فاقترب ، مدت يـدها ، أ

وأخذت تسرح له شعره بأصابعها ، كما اعتادت حتى كاد أن

ينسى للحظة أنها مريضة ، توقفت عنـد أذنـه وقرصـتها

: مداعبة ، وهي تقول بطريقة أم تهدد ابنها

ـ أتكذب علي وأنا أموت ، الكذب على الميت حرام

.يا حبيبي

اذا ال تهتمين بنفسك فقط ؟لم" مها " ـ يا

ـ عندما أسألك عن شيء فأنا أهتم بنفسي ، تقصـد

. أال ترى أنه يذوي ! أن أهتم بجسدي ؟

Page 441: 539

قبل يدها ، جلس على األرض وهو ما يزال ممسـكا

: بها وقال بصوت خفيض

. ودفن منذ يومين " محمد القط " ـ قتله أخوه

"انشـراح السـبتاتي " ـ ومن جديد سكنت عشـة

! الكالب ؟

مها ؟ وأي كالب ؟ لم يعد هنـاك " ـ أي عشش يا

عشش على اإلطالق ، لقد استلموا كلهم منذ زمن بعيد شـققا

.من المحافظة

" بلغ الشرطة حتى تقبض علـى : ـ طيب ، اسمع

" . محمد القط

. ـ إنه محبوس بالفعل

خـرج فيهـا مـن \في األوقات القليلة التي كانت تح

نجوى تجـوب " القصيرة ظلت " مها " ء إغفاءات الغرفة أثنا

أرجاء البيت الذي فرغ اآلن بالفعل من خطـوات أختهـا ،

ظلت تستنطق الحوائط حائطا حائطا وتستمع إلى ضـحكات

تلك الجميلة الرؤوم ، التي كانـت تصـرخ جـذال ونشـوة

وغضبا ، تنفجر رعونتها في كل ركن ، تخـرمش أسـرار

ر وجودهـا ، وتقـبض عليـه ، الناس وأسرارها لتجترح س

Page 442: 539

أعدت نفسها لكثير من االحتماالت عما سـوف تفعلـه مـع

جسدها الذي لم يزل مبتلى بالوجود ، ستظل تشيخ وتشيخ إلى

" مهـا " أن يتحدب ظهرها وكل يوم ستتطلع إلـى صـورة

الوحيدة المتبقية والتي قطعتها من شهادة الثانوية العامة ثـم

ـ في إطار ذهبي سيستحيل إلـى كبرتها بعد موتها وعلقتها

لون ما باهت لن تستطيع وصفه ـ على الحائط إلى جـوار

بعد يومين " على البلتاجي " الذي سيهديها إياها " يس " سورة

سـتقف أمـام . مـن الـدخول " مها " بالضبط لتمنع روح

صورتها طويال ، ستطيل النظر في عينيها ، وإلى وجنتيهـا

لوان كلها للون خاص به وحده ، وإلى شعرها الهارب من األ

ستجد بالفعل شبها بين الصورة وبين أمها التي ماتت شـابه

صـورة أيهمـا ؟ : أيضا بل قد يختلط عليها األمر وتتساءل

ستتأمل وجهها هي ببطء في زجاج الصورة ، ثـم سـتعتاد

عيناها بالتدريج الجمع بـين صـورتها وصـورة أختهـا ،

التي تركت الحياة وهي تحياهـا ، والمقارنة بين هذه الجميلة

وبينها هي العانس السمينة التي تموت في الحياة وال تحياها ،

ستظل متمترسة خلف عزلتها ، حتى يأتي يوم تقف فيه أمام

الصورة لتعيد مقارنة وجهها بوجه أختها فتجد أنهما على حد

Page 443: 539

في الصورة كثيـرا " مها " كبير متشابها ، فلقد ابيض شعر

في هذه . ونبتت فجأة شعيرات بيضاء تحت ذقنها وحاجباها

الساعة فقط ستندهش وستفسر ذلك بأن تراب مقبـرة أختهـا

ظل يتطاير كل يوم ويحط على صورتها منذ موتها وحتـى

. اآلن لكي تكبر يوما بعد يوم معها

أخذت ترى أثناء إغفاءاتها المتقطعة نيـران محلقـة

، انتظـرت حتـى " احمد منصور " كتلك التي كان يشعلها

فكومت كل لوحاتها في البلكون " أحمد الدالي " نامت أختها و

وسكبت عليها كل ما وجدته من كيروسين وأشعلت فيها النار

، ووقفت تتفرج بهدوء على أشكال وجهها المختلفـة وهـي

تذوب وتذوب ، تمنت أن تعيد اآلن رسم وجههـا ، ولكنهـا

على طابور يسير خلف فتحت علينيها . سرعان ما استيقظت

بعضه البعض ببطء ، وكل واحد فيه يقف على سريرها قليال

ثم يمضي على حال سبيله مخترقا الجدار الذي خلفها تماما ،

: وهي تقول لها ضاحكة " انشراح السبتاتي " ابتسمت لـ

ـ يا اختي ما تخلصي وتيجي بقى والنبي ده سـهلة

. عاملة زي شكة الدبوس

Page 444: 539

ت متكسر مطقطق كأوراق شـجر فـي فتتمتم بصو

:الخريف

. ـ حتى ظهرت البشارة وكان أن شغفن بها

: ويهمس " أحمد الدالي " يميل عليها

؟" مها " ـ ماذا تريدين يا

أبو إيـد " ويمد يده على رأسها فتنظر إلى إلى عيني

وتشعر بأن شعرها الذي كان يتساقط حتى الصلع " خضراء

: تهمس : ما بغزارة دفعة واحدة في الشهور األخيرة ن

. أريد مرآة . ـ مرآة

نظرت إلى وجهها ووجدت أن هذا الوجه هو تحديدا

. ما ظلت تبحث عنه دائما لترسمه

. ـ لن أستطيع اإلمساك بالفراشة اآلن

؟ " مها " ـ ماذا تقولين يا

الـذي " أحمد منصـور " ولكنها تحول وجهها إلى

خضراء ثم يخرج من الطابور ويقول ينتهي من فرش ليمونة

ال " أحمد الـدالي " نجوى و " بصوت عال ، تندهش هي أن

: يسمعانه

Page 445: 539

إنهن يطعمننا منذ حواء وحتى اآلن ، يغسلن جواربنا

القذرة عند عودتنا ، بعد أن نعيث في األرض فسادا ، نشعل

الحروب ثم نجلس نتفرج عليها كما مباريات كـرة القـدم ،

دن ونمسح أطالل حضارات ثم نمأل الجرائـد نقضي على م

نضع أرجلنـا . والكتب بتحليلها اقتصاديا وسياسيا وتاريخيا

على أعناق بعضنا البعض حتى يعود المنتصر فيجـد فـي

انتظاره عشرات النساء يستقبلنه بأقواس الورود ، لم تكفنـا

أبدا امرأة واحدة ، تحرق كل شيء وهن ينظفن بعدنا الرماد

قننا في شفقة وصمت وكأننا عقابهن األبدي الـتعس ، ، يعان

ومن ال يحارب منا يتاجر حتى في أجسادهن هن ، فيـربتن

على أكتافنا ككائنات محكوم عليها بحمل حجر سيزيف العبثي

، نرفع أعالما اليوم ونحن نجأر في وجوه أعداء وهميين ثم

ندوسها غدا ، نبلي مؤخراتنا على مقاعـد السمسـرة نبيـع

نشتري كل شيء حريصين أن تظهر فوق رابطة أعناقنـا و

تفاحة آدم فينظمن لنا ساعات نومنا ويقظتنا ، نذهب لتخترع

الذرة ثم نفجرها ، نخترع في المعامل أشد األمراض فتكا ثم

نترك نساءنا وأطفالنا وننهمك في اكتشاف عالج لها ، نلهـو

نشاهد منذ مع الجماجم دائما وهن يمسحن عن أيدينا الدماء ،

Page 446: 539

آدم وحتى اآلن كيف تنتفخ بطونهن ، وتخرج من أجسـادهن

كائنات تشبهنا كثيرا فنغير منهن ، نحقد على حب الطبيعـة

لهن ، فنأخذ أطفالهن ونعلمهن من جديد أن يكونـوا رجـاال

يدمرون كل ما يقابلهم من أوجه الحياة ، وخاصة نسـاءهم ،

نحن تعساء " مها "هل تعرفين يا . حيث أنهن مصانع الحياة

هذا " فان جوخ " لحد البكاء ، ولم ينج من مصيرنا إال أشباه

ألنه انحرف قليال ! الذي تعشقينه ، هل تعرفين لماذا نجى ؟

أنا لن أكون فارسـا " مها " ال يا . إليهن جزء منه يشبههن

. أبدا ، أنا أريد أن أكون شاعرا

: تتمتم بصوت ضائع تماما

ة أمي وأبي ، رسائله في األرض كلها ـ شوفي يا ابن

لم تصل ، هل كانت إذن تستحق اإلرسال ؟

" :نجوى " تميل عليها

؟ " مها " ـ هل تريدين شيئا يا

التي تمر أمامها سـريعا " وردة " ولكنها تستمع إلى

: وهي تنتحب

. ـ يا للي شبابك زين وأنت زين

. لوال شبابك ما بكت لي عين

Page 447: 539

علـي " ، التي تمسك بيـد " وردة " يد ثم تنتبه على

: كطفل صغير وهو يهز رأسه ويدندن " القزعة

. ـ أنا إن شكيت للحديد ربع ما بي

ثم يتزايد عددهم مثل كورس في مسرحية كوميدية ،

صحفيون يريدون وصف ما تراه اآلن ، باحثون ال يعرفـون

عن أي شيء يبحثون ، جمعيات حقوق إنسان تنـدد بمـا ال

دري ، معامل األمراض الخبيثة التي تريد سـرقة دمهـا ، ت

هواة تصوير فوتوغرافي يصـوبون فـي عينيهـا أضـاء

كاميراتهم ، مرشحون في انتخابات مجالس ال تعرف مـاذا

كان خارج الطابور ، واقفا على " موتسارت " وحده . تفعل

ال تعـرف " سوناتا ضوء القمر " إفريز النافذة وتنبعث منه

. كيف

:تتمتم بصوت مرهق تماما

؟ ، " أحمـد " ـ فيم تظننا كنا فاعلين بأجسادنا يـا

حنظل يتناثر على شفتي ز

جس جبينها وأقعي على األرض بجـوار سـريرها

: وقرأ بصوت عال من جريدة صفراء قديمة كما طلبت منه

Page 448: 539

مؤسـس نظريـة " حكاية عبد المنعم عسـران " ـ

. العشش

بداية القرن العشرين ، وتحديدا بدأ تاريخ العشش منذ

عبد المـنعم " في منطقة الزمالك ، حيث بنى شخص يدعى

نزح من محافظة قنا كشكا خشبيا صـغيرا وسـط " عسران

قصور الزمالك ، ولما ضاق به أهل الزمالك ، اشـتروا لـه

قطعة أرض جنوب الجيزة حتى يرتاح أصحاب القصور من

أتى بكل أقربائه مـن " عبد المنعم عسران " فوضاه ، ولكن

بلدته وباع لهم في هذه المنطقة كل واحد عشرين مترا وبهذا

.. ساهم في إنشاء عزبة الصعايدة في إمبابة

هل جاء النور ؟ . قل لي " . أحمد " ـ يكفي هذا يا

؟ النور لم ينقطع عـن الحـي " مها " ـ أي نور يا

. أبدا

هو إذن . الم يا س . ـ النور لم ينقطع عن الحي أبدا

من أول ! يا له من وصف ! خيالي المريض خيالي المريض

من كتبه يا ترى ؟ كيف سودت على تلك األوراق وأنا ال أجد

نعم أنا أتذكر أن هـذه . نعم . له بديال اآلن ؟ خيال مريض

Page 449: 539

العشش كانت بها لمبات تميل إلى اإلحمرار مدالة من السقف

.، وكأنها رءوس مشنوقين

عينيها وأذنيها بيديها ، غذ كان يمـر فـوق أغلقت

بأضـوائه الباذخـة وصـوته " مترو األنفاق " رأسها تماما

. الرتيب المنتظم

" : نجوى " صرخت في وجه

ـ أطفئوا هذه األنوار ، لماذا تعذبونني ؟ أال تشفقون

هذا الرجل يتفنن في التنكيل بي ، " نجوى " علي مطال ؟ يا

الحي كله ليشعل في وجهي موسيقاه لـيال ألم يسلط علي هذا

ونهارا ؟

وضع يده على جبينها ، كان وجهه يتحول إلى وجه

بعينيه الضيقتين النافذتين ولحيته المهذبـة ، " دوستويفسكي "

: ووجنتيه الشاحبتين ، ظل يرتل بصوت ليس بالتأكيد صوته

قم لخبزك هذا الذي ال يمكن أن يجف ، وجعتك " ـ

*" . مكن أن تصير فاسدة إذ بها تصبح روحا التي ال ي

على مدى بصرها في األفق ، كان متـرو األنفـاق

يخلص نفسه من ركام البيوت التي تجثم عليه ، فينفضها دفعة

آتاب الموتى *

Page 450: 539

وجهها شـاحب . واحدة ، وينطلق كاألفعى صوب العاصمة

يطلق نوره األبيض المعتاد ، شعرها الناعم الغزير ، الـذي

ي أن يذهب للخلف ينام اآلن تحت رأسها كانت تجد صعوبة ف

ليسمح لمنبته هذا المثلث الصغير على جبينها المضـيء أن

يتألأل مع حاجبين ناعمين بكثافة على قوسين بديعين ، عيناها

تزدادان اتساعا ، وتفران إلى عالم يغلب عليه اللون األبيض

، شفتاها تنسحبان إلى هدوء وسالم آسر ، جسـدها الناحـل

تماما وعنقها ما زال يجلس على رخامه ، اآلن عيناهـا خمد

مفتوحتان على سقوط صواريخ نارية ، سيان لديها اآلن هل

هي صواريخ حربية أم صورايخ مهرجانات ، وعلى أرنبـة

أنفها الدقيق االنسيابي المتكبر في آن واحد كان آخر ورم قد

ترك حفرة عميقة حتى عظام األنف ، مما جعلهـا ال تنسـى

قبل أن تنساب في شفتيها آخـر كلماتـه ، أن ترفـع يـدها

بأصابعها الدقيقة الطويلة لتغلق بها هذه الحفرة بـدالل أخـاذ

. بالغ

Page 451: 539

سمكة الجيتار

عيون الشبكة ضيقة ولكنها تستطيع الرؤيـة مـن

خاللها ، أجنتها في أمان اآلن ، ستكرر كل ما فعلت هـي ،

هائج تتصارع ، وعنـدما ستترك بقية األسماك في البحر ال

تكبر لن تفكر كثيرا وهي تفر بأجنة جديـدة نحـو الميـاه

الضحلة ، دافئة ذيلها في الرمل ومحاولة أن تغني أغنيتها ،

. فربما ينفتح خلفها بحر مختلف عما كانوا يعرفون

Page 452: 539

حوض الجاموس

١٠

نبحت الكالب الضالة في هذه الليلة بشراسة وبمـا ال

ستدخل منتصـف " مها السويفي " لشك في أن يترك مجاال ل

طائرة في الخشبة نفسها " جامع القاضي " ظهيرة اليوم التالي

المعبقة بالرماد ، وستترك بعد الصالة عليها أكتاف الرجـال

الذين حاولوا أن يحملوها قليال طوال الطريق المـؤدي إلـى

ـ " احمد الدالي " مقابر الصدقة ، التي ما إن رآها ذ حتى أخ

: يصيح

أمامك البحـر . نعم . طيري " . مها " ـ طيري يا

وخلفك هذا الخراب العظيم ، ال تشيري على األشـياء كمـا

، فأنا لن أحل اآلن ألغازا ، حددي لي " مها " اعتدت دائما يا

: مصيري

...البحر أو

Page 453: 539

فوق منتصف المقـابر " مها السويفي " وبينما تعلقت

ة لحشـد مـن الرجـال والنسـاء تماما إلعطاء فرصة كامل

واألطفال الذين تضاعفوا خلفها فيما يشبه مظـاهرة سـلمية

" أحمد الدالي " صامتة ، كي يلحقوا بالخشبة الطائرة ، وقف

في مكانه طويال أمام البوابة الرئيسية للمقابر ، التي شـهدت

بعد دفنها كأن ينتبه أثناء " مها السويفي " تفاصيل جديدة لـ

ور القصير المؤدي إلى العيون الحجرية المتزاحمـة قفزه للس

إلى أنه لم يتابع جيدا ، أي من هذه العيون ابتلع وغلى األبـد

فيكتشـف . أو أن يحاول تخيل كيف تنـام اآلن ! جسدها ؟

فجأة أنه نسى وبشكل مطلق مالمحها التي كان يحفظها طوال

ية حياته عن ظهر قلب ، ولما أحس بأنه محاط بأعمدة قرمز

فلقد دخـل حجرتهـا . عالية ال تسمح له إال بأن يعود للبيت

مباشرة ، فتح درج المكتب السفلي المحـرم عليـه فواجـه

: مخطوطها الضخم ، حمله وهو يتساءل

في . ؟ " مها " ـ هل ما تبقى كافيا لقراءة كل هذا يا

طريقه اتجه إلى كتلة من السواد منكفئة على نفسها كجنين ،

. ها وهو يتطلع إلى كل وجه من وجوه أختها استند علي

. ـ ال تحرقها

Page 454: 539

ـ أال ترين أنها ال تشبه أيهم ؟

واستمر في إشعال النار في جميـع لوحاتهـا حتـى

غطى الرماد كل شيء في الغرفة ، جمعه وأخذ ينثره علـى

البالط وهو يحاول جاهدا أن يجد مكانا مالئمـا للمخطـوط

الرماد ، ثم يستبدله بمربع ، ثم فكان يضعه محاطا بمثلث من

ال يروق له ، فيستبدله بشكل عشوائي ، ثم ينظم الرماد على

شكل امرأة فاتحة ذراعيها وساقيها ، ومسـتقرا علـى هـذا

الشكل أخيرا ظل يضـع المخطـوط تـارة بـين ذراعيهـا

المفتوحتين ، وأخرى بين ساقيها المفتوحتين ، واعتادت عيناه

" ه عن الحركة إال عنـدما قفـزت عليـه الظالم فلم تهدأ يدا

" :بسوادها ويديها المتورمتين " نجوى السويفي

. ـ ايها المعتوه ، أيها النذل

وطويال طويال نظر كل منهما في عين صاحبه ومنذ

عن صمتها وإلى أن ماتـت " نجوى " تلك اللحظة لم تخرج

في سن متأخرة فوق سطح البيت ، ظلت ال تسـتخدم سـوى

مل تبدأ كلها بكلمة أريد ، أريد أن أحصل على فوائد خمس ج

هذا الشهر ، وأريد كيلو جرام لحم ، وأريد عشرة أرغفـة ،

ويقسم الجيران أنها لم تزد أو تختصـر . وأريد أنبوبة غاز

Page 455: 539

كلمة من جملها الخمس ، وأنهم كانوا ال يقاطعونهـا رغـم

يديها وأنها لم تحاول قط عالج ورم . معرفتهم بكل ما تريد

الذي استفحل في أيامها األخيرة حتى صار مسـاويا تمامـا

ولم تستحم على اإلطالق إلى أن استطاع أهل . لقطر فخذيها

الشارع كله تحديد مكانها من رائحتها النفاذة التي لـم تكـن

بالمكروهة أو المحببة ولكنها رائحة خاصة جدا ، ومصحوبة

يائسة غيـر مقصـودة دائما برغبة في البكاء والقيام بأفعال

قبل موتـه بسـاعات " أحمد الدالي " تماما كتلك التي قام بها

قليلة حين شم تلك الرائحة مبكرا فبكى كما لم يبك رجل فـي

" نجـوى " العالم على امرأة ، وراح يخلع ببطء شديد سواد

ومخطوطها الذي " مها " طبقات وطبقات وفوق رماد لوحات

يمزقه ، اكتشف أنهـا تمتلـك خطفته ونامت عليه خوفا أن

أتعس وارق جسد شاهده المرأة عذراء معطرة بدمع نـدى ،

التي نسيها تماما " مها " ربما كانت محاولة منه لتذكر مالمح

وربما كان اعتذارا طـويال . وهو يضغط وجهها في صدره

منها لجسدها وهي تفتح جميع خالياه لغيث قبالتـه ، ربمـا

يرة منه لفك لغز عشقه لهن بشـكل كانت محاولة مستميتة أخ

عام ، هذه الكائنات الدقيقة التي تشبهه وال تشبهه فـي آن ،

Page 456: 539

وكان كلما فشلت محاولته ، يجمع اهتياج كل أمواجها تحته ،

وشـفتاها . ربما كان آخر أمل لها في استنشاق عبق أختهـا

تبحثان عن مكان تستنجد به بينما يقرر مرة أخرى المـرور

كل ما أوتيت من قوة حرمـت علـى أطفـال بها فصرخت ب

الشارع وكالبه وقططه النوم باستقرار ، ولليلة الثالثة علـى

" " . التوالي منذ موت السويفي

مخطوطها من تحت أختهـا ، " أحمد الدالي " سحب

فتجلت له بشعرها الهفهاف ، وحفرة فوق أرنبة أنفها ، أخذت

دوء إلـى غرفتهـا ، بعريه وذروته الخالبة اآلفلة وأصلته به

الملقاة في نومها ومائها أعطتـه " نجوى " ودونما التفاته لـ

جميع أقراص كبدها وألبسته مالبسه ، وعطرته بمـا تبقـى

لديها من عطور ، وألقته على السرير واضـعة بـين يديـه

مخطوطها الذي فتحه على احتفائها والصفحة األولى ، ومن

: ع أن يقرأ خالل غمام وجفنين متثاقلين استطا

كانت هي آخر انفجاراته في هذا الموسم ، فقد نامت

يومين كاملين عارية على بالط الغرفة المجـاورة النتحـاره

المفاجئ ، ولملمت حينما استيقظت مالبسها السوداء المبعثرة

ولملمت أيضا آخر مذاق لشفتيه وأماكن . في جميع األركان

Page 457: 539

آخـر مـذاق لشـفتيه أسنانه جميع األركان ، ولملمت أيضا

وأماكن أسنانه على جسدها المنهك ، وعلـى الـرغم مـن

قرصها المتكرر ألذنيه وتكبيرها فيهما ، وعلى الـرغم مـن

هزها المتواصل ليديه وقدميه ، وعلى الرغم مـن قراءتهـا

العميقة لتوسل وذعر عينيه المفتوحتين الميتتين ، فإنها لم تجد

رغبتها األخيرة في رخاوة وسيلة تتحقق بها من موته إال حك

.. ذبول أسمر ينام على جمال أسر لمن هيأ نفسه أخيرا لـي

. "