رباعية بحرى

رواية محمد جبريل

أبو العبــاس

طبقا لقوانني امللكية الفكريةא אא

א .אא

א א أو عـرب االنرتنـت(א اى أو املدجمــة األقــراص أو مكتبــات االلكرتونيــةلل

א )أخرىوسيلة אא.

.א א

اقروا الفاتحـة البو العبــاس يااسكندرية ياأجدع نـــاس

أغنية شعبية سكندرية

القيراط الخامس والعشـرونفى اللحظة التالية ألذان الفجر من زاوية الزواوى ،

المقابلة ، الضوء الذى يصدر عن نافذة الجد السخاوى ، . يتكسر عبر شيش نافذته ، على جدران الغرفة الواسعة

السعى إلى الزاوية من صفر باشا . لدقائق ، ثم تسود الظلمة وشارع جودة والمسافرخانة وفرن حبيب واألزقة المتفرعة ،

الهمهمات ، الدعوات ، . ربما حتى سراى رأس التين ـ مهما تتلفع البسمالت ، الحوقالت ، األصوات المتحادثة

بالهمس ـ فإنها تصل إليه ـ خلل الصمت والظلمة ـ يتالشى كل أثر لضوء ، فيما عدا األضواء . واضحة ، رائقة

بابها الصغير ، ونوافذها : الباهتة المنبعثة من ثقوب الزاوية . كتل الظالم تلف الناس واألشياء . التى يغطيها وجه إنسان

لمساحات العريضة والزوايا تستسلم ا. حتى الظالل تختفى واألركان والجزئيات والذرات ، بعد األذان مباشرة ـ ظاهرة

. تحيره ـ لظلمة كثيفة ، ممتدة ، تلغى المالمح والتفاصيل . ربما يصحو على إيقاع جياد الملك ، فى شوارع الحى

ينصت ـ فى موضعه على . ساعة ، وتعود إلى السراى

الستغاثات والتسابيح ، تتناهى السرير ـ إلى االبتهاالت وا ..من مئذنة أبو العباس

يعلو بكتفيه . فى هذه اللحظات ، يعد نفسه للخروج يحرص أال يسعل ، أو يعطس ، حتى . وأعلى ظهره

تواجه عيناه تكسرات . اليصحو األوالد فى الغرفة المالصقة تتشابك أصابعه وراء . الضوء المتسللة من شيش النافذة

أزعجه فى البداية . ينسحب الضوء ، وتحل الظلمة . ظهره أال ترى عيناه ـ مهما يطيل التحديق ـ شيئا على اإلطالق ،

حتى الثياب . ثم اكتفى بالنظر فى الالشئ أمامه وحوله المعلقة التى تبدو ـ بتداخل النور والظلمة ـ أجسادا ضائعة

لى صوت ينتبه إ. المالمح ، تذوب فى حضن السواد القاتم إغالق الشيخ وهيب ، خادم الزاوية ، للباب والنوافذ ، فيهبط

الجانب . من جانب السرير دفعة واحدة إلى أرض الحجرة ..نفسه الذى صعد منه ، ربما الحظ يواتيه

ارتدى فانلة رقيقة ، تنتهى إلى الكتفين ، مفتوحة على . الصدر والظهر والذراعين ، وسرواال من التيل األزرق

..ودس قدميه فى حذاء من التيل األبيض

قبل أن يميل إلى باب الخروج ، اتجه إلى حجرة األوالد :قال للمرأة المستلقية فى طرف السرير .

..ـ اليوم أحسن :وهى تعدل رأسها على المخدة

!ـ الحمد هللا ـ تريدين شيئا ؟

..ـ سالمتك :عال صوته بالتذكر

اليلعب األوالد خارج البيت : ـ كما قلت لك فى الليل ..قد يتدخل الجيش ضد المظاهرات ..

. لطمته هبة هواء ، وهو يفتح باب البيت من الداخل . فضل ـ اتقاء لبرد الصباح الخريفى ـ أن يختصر المسافة

اتجه إلى الحارة الموازية لطريق الكورنيش ، خلف مطاحن ..شيمى بك وسينما األنفوشى

نظر إلى الوراء ، حتى يطرد النحس عن حرص ، فلم ياقتحمت أنفه ـ فى . تعرج به السير فى حوار وأزقة . نفسه

اقترابه من الشاطئ ـ ملوحة البحر ، ورائحة الطحالب على ناصية . واألعشاب واألسماك الميتة على الرمال

الحجارى ، لمح قطا أسود ، غاب فى شارع خير اهللا بك ، تفاءل ، ومضى إلى الوسعاية المتربة ، . المتفرع من السيالة

..المقابلة لدكان محمد صبرة الحالق ..أعاد النظر

!..أنسية ؟مالت من الوسعاية . عرفها من مشيتها المنكفئة الطفلة

التقى بها ـ من قبل ـ ثالث . إلى شارع ابن السعادات . فاصلت فى شروة من حلقة السمك . مرات ، وربما أربعا

. ت أقة بسارية فى المرتين اللتين رضيت فيهما بالثمن اشترسمع فى . هزت رأسها بالرفض ، فيما تال ذلك ، ومضت

قهوة الزردونى عن ترددها على بيوت العزاب ، وعالقاتها ، فوق األسطح ، وداخل األكشاك الخشبية فى ليل األنفوشى

م رآها ـ ذات مساء ـ تدخل البيت المهجور فى شارع سلي. أدرك أن أحاديث القهوة صحيحة ، فاستعاذ باهللا ، . البشرى

..ونفض رأسه وهو يدنو من معسكر خفر السواحل ، سار وراءه كلب

..لخطوات ، ثم اختفى ، فازداد تفاؤله . مجهول

دونا عن الشاطئ كله ، عن الشواطئ كلها ، اختار ـ ضيق ، ذات صباح اليذكر تفاصيله ـ هذا الشريط الساحلى ال

الممتد إلى مابعد قلعة قايتباى ، تعزله عن الشوارع والمارة المياه التى يخنق لسان الميناء . واألعين ، أسوار المساكن

الشرقية ـ بارتفاعه ـ أمواجها ، قبل أن تصل إلى الشاطئ الذى تقل فيه الرمال ، وتزداد الحجارة والزلط والحصا

مع هذا ، . ر المساكن واألوساخ ، يقذف بها من وراء أسواتوازى فى تاختار الطريق الحجرى ، الممتد ، الضيق ،

..جانبيه مياه البحر وجدران البيوت كانت المنطقة ـ إلى مابعد انتهاء الحرب بأشهر ـ

يشغلها جنود اإلنجليز ، والمدافع . محظورة على الصيادين ..المضادة للطائرات ، واألضواء الكاشفة

حذاءه ، وشد الصديري ، ورفع السروال خلع جلبابه وخطا بقدميه فى الرمال المبتلة ، يعانى . إلى مافوق الركبتين

. قطع الحجارة واألصداف المتكسرة والطحالب واألعشاب خاض فى المياه ، فال يبعد ـ إال بخطوات ـ عن الشاطئ ،

..ورنا إلى األفق الضبابى

لمكان نفسه ، لما صادف السمانات االثنتى عشرة فى اأنكر ـ فى . عد النقود ست مرات . باعها إلى أمين عزب

.. عصر اليوم ـ على الحاج قنديل شتائمه التى التنتهى :اختلج شارب الحاج قنديل

..ـ أصبح للجربوع صوت يرفعه :وهو يغالب التوتر

..ـ أنا لم أدس لك على طرف :اهتز الحاج فى كرسيه

!ـ وهل أنتظر ؟ى الحاج ظهره ، وانتظر أفواج السمان ثانى يوم ، أعط

لكن الشهر اليتيم بين الشهور خذله ، .. فى الموعد نفسه فاجأته األيام بالشبكة الخالية . غابت أسراب السمان . وانتهى

: رسم التأسف والمسكنة . !..لن أكررها .. ـ غلطة ياحاج

شفتيه قبل أن يرتب الكلمات ، ويفتح فمه ، رفع الحاج :من مبسم الشيشة ، وابتدره فى غضب

..ـ أنت من صبيانى ياولد ؟ :همس بلهجة متذللة

..ـ خدامك ياحاج :أسند مبسم الشيشة على كتفه

ـ اسمك ؟ ..على الراكشى .. ـ على

:عدل الحاج قنديل النظارة المقعرة فوق أنفه !..كل البالنسات فى البحر .. ـ وماذا تعمل هنا ؟

المملكة تشغى . لم يعرفه : بالتحديد . يتذكره الرجل لمالعشرات يعملون ـ بأمواله ، وتحت سطوته ـ . بالرعايا

فى ورش المراكب ، والصيد ، والبيع بالجملة والقطاعى ، لم يفتعل ـ فى السنة التالية ـ . والدخول فى مزادات الحلقة

أفواج غاب عن البالنس ، وعن الحلقة ، وانتظر . خناقة ..السمان فى الشريط الساحلى الضيق

ثم لم يعد ينتظر ـ فى سبتمبر وحده ـ غالالت ..السحاب الطائرة

..بالمصادفة ، سأله أمين عزب عن السمان :قال

..ـ لسنا فى سبتمبر :فى لهجة مشجعة

..ـ مارس موسم السمان أيضا أضاف رحلة العودة فى مارس ، الملتف باألمطار

نواء والرياح والبرودة ، إلى أيام الغياب عن البالنس ، واألوالحاج قنديل ، واللقمة التى ـ بالكاد ، وباإلهانة ـ يحصل

امتدت شهرا ثانيا أيام الوقوف فى الشريط الساحلى . عليها : ينادون . إن نسى ، ذكره الباعة فى الشوارع . الضيق ..الزوج بقرشين .. كواليا

:مين عزب بابتسامة مشفقة ومضت عينا أ ..ـ ألم يكن من األوفق أن تظل مع الحاج قنديل

:جاشت مشاعره ..ـ الحاج قنديل يقاسمنا فى كل قرش

:وغلب صوته تهدج ..ـ حتى صياد السنارة يشاركه رزقه

. لم يعد السمان ـ فى العام نفسه ـ اكتشافه الوحيد ه الساحلى بالذات ربما التأتى إلى االسكندرية ـ إلى شريط

ـ كل الطيور الوافدة والراحلة ، كلمه الجد السخاوى عن العصافير : مواعيد قدوم طيور الفصول ، ومواعيد ارتحالها

، الدقناش ، سمانة الغرب ، النورس ، الخنشع الزيتونى ،

فرخة الغيط ، الوردار ، الحسينى ، الكحال ، أبو فصادة ، .. الكيش أبو ديل ، الغر ، الخضارى ،

قل اهتمامه بصيد األسماك ، بمواعيد هجرتها ، قدومها ورحيلها ، المناطق المباحة والممنوعة ، مناطق التكاثر والجدب ، األنواء التى يصعب ـ حين تأتى ـ أن تخرج

ركز همه فى صنع شبكة . البالنسات إلى عرض البحر إذا جاوزت البحر ، . تحتضن أسراب السمان المتعب

تنفض : على قارب أو جدار أو حجر ، استراحت وحطتالشبكة التى تتقلص . عنها التعب ، تطير ، تواصل الهجرة

عليها يداه ، فخ النهاية فى الرحلة التى اليدرى أين ، والمتى ..، والكيف تبدأ

دله قاسم الغريانى على المكان ، لنشر الغزل ، ورفو الرمل فوق المياه الصمت الذى يعمقه تحرك ذرات . ثقوبه

األصابع المدربة تلضم . الهادئة ، عزله فى جزيرة مهجورة الخيوط الرمادية تسبق قرص . الثقوب المتهرئة ، الواسعة

أسراب النورس تطير إليه ، . الشمس فى صعوده من األفق ..فى سرعة مذهلة ، كأنها تنوى اختراقه

األمام فى لماذا الطيور التواجه: تساءل بينه وبين نفسه لماذا تكتفى بنصف الدائرة ، ثم تعود ـ ربما ـ .. تحليقها ؟

فى الطريق المضاد ؟ ..تنبه إلى مايشبه الريح المفاجئة

انتتر من جلسته لمرأى . غادر جزيرته المنعزلة . أسراب السمان ، كادت تالمس المياه فى طيرانها

طارت فى نصف دائرة ،. اصطدمت واحدة بأعلى كتفه أمسك بها ـ بيديه ـ قبل أن تفيق ، . ووقعت على األرض

فرد . فى اللحظة التالية ، قام بطوله . وتعاود الطيران ذراعيه مضربين يلقفان األسراب الوافدة ، يهبطان بها إلى

شغلته الحكاية ، . األرض ، يغيبانها تحت الشباك المفروشة أمين عزب فلم يعرف عدد السمانات إال عندما عرض عليه

..شراءها :سألته أم األوالد مشفقة

!ـ هل تنوى ترك مهنتك ؟ :حدجها بنظرة غاضبة

!ـ أنا ؟

ولوال .. ـ نحيا على نقود الطير معظم أيام السنة ..الحاجة مانزلت البحر

:أردفت فى توجس لن يقبل بقية المعلمين .. ـ إذا غضب منك الحاج قنديل

..أن يتعاملوا معك :صوته عال

!ـ هل أظل العمر تحت قدمى الحاج زفت ؟ :ثم وهو يهز أصبعه

ـ لو لم يحقق صيد السمان مافى رأسى ، فسأعود ..أصطاد حتى فى الشواطئ الممنوعة .. صياد سنارة

حين انتظر الحاج قنديل ـ فى الصباح الباكر ـ على امتد . باب الحلقة ، كان ضباب اليأس يحجب الرؤية أمامه

غاب . شمل الساحل بأكمله . لممنوع فى أعوام الحرب االحاج بين الطبالى ، وجرادل الماء ، والثلج ، واألجسام المنحشرة ، والمزادات ، والمساومات العلنية والجانبية والهامسة والتى يقطر فيها العرق ، والقبول ، والرفض ، والصهينة ، ودفاتر الصادر والوارد ، ومباحث التموين ،

واألكواب المترعة بدم الترسة ، ورائحة األسماك التى تأخر ..حفظها فى الثالجة

..نبهه حمودة هلول إلى وجود الحاج اليذكر الكلمات التى قالها ، وإن يذكر هزة الرأس

..الموافقة ..وعاد إلى البحر

كان الوحيد ـ بين المتعاملين مع الحاج قنديل ـ الذى الثالثة االبتدائية ، وقرأ القرآن ، وتعلم ظل فى المدرسة إلى

سماع نشرات األخبار ، وقراءة الصحف ، وكشف مايغمض ..عن سائليه من أمور السياسة

..فنج تجربته الثانية اإلستعلم صيد من العجمى ـ غربا ـ حتى . غاص إلى أعماق بعيدة

التركى كب ، : سفنج إلميز ـ بعد شهور ـ أنواع ا. السلوم ثالثة أنواع رئيسية ، يحرص عليها ، . نى كوم ، الزيموكا ها

لكن . جرت النقود ـ لفترة ـ فى يديه . ويهمل الباقى فتحى عبد ربه صعد : المشهد القاسى هجر به المنطقة كلها

نزل إلى األعماق مايزيد على األربعين . من الماء مشلوال أخرسه الشلل ، واجه شيئا لم يتبينه الرجال ، بعد أن. مترا

. شيئا قاسيا ، مفترسا ، دفعه إلى الطلوع من الماء بسرعة الحقيقة التى يعرفها صيادو األسفنج ـ بتأثير الفزع ـ نسيها

طلوع األربعين مترا مرة واحدة ، أضاع توازن الدم ، . ..فشل الجسد

الأحلم .. ـ أريد أن أشترى قاربا قبل أن يحل شتاءان لكن عشرين عاما فى البحر تعطينى الحق فى أن ..بالنعيم

..أكون حر نفسى القارب والطراحة وهجر السنارة ، حلم األب الذى مات

غالب الدمع وهو يتسلم أوراق انتقاله إلى الرابعة . بموته من بين عشرات الرؤى المبهمة ، والباهتة . االبتدائية

األب التى خطوات : المالمح ، تطفو هذه الصورة بالذات أتعبها التنقل بين الشواطئ ، تبطئ فى المنطقة المقابلة

يضع البوصة والغلق على سور . لمستشفى الملكة نازلى يغمض عينيه ، كأنه . يتنهد فى حزن هادئ . الكورنيش ..يتهيأ لنوم

أجمعه . ، لم أكن أستطيع تدبير إيجار الشقة اـ أحيان ..زعجة أول كل شهر بالسلف ، حتى ألبى الطرقات الم

المائة والثالثون قرشا ـ إيجار الشقة ـ كانت ـ قبل المبلغ ـ . الشواطئ كلها مفتوحة . الحرب ـ مبلغا وقدره

اآلن ـ يقل عن إيجار غرفة فى أسطح بيوت السيالة ، لكنه ..يعانى صعوبة تدبيره

فماذا تفهم امرأة غبية .. ـ المصيبة أنى أكلم نفسى !مثلك ؟. سى مافى األمر انه يفكر ، ويخطط ، ويحلم بالتنفيذ أق

حتى المرأة ، . جيشان أعماقه سره الذى اليدرى به أحد ..همها اللقمة والمستقبل الذى اليجاوز ظلها

. تكاثفت المتاعب ، فاختفت الظالل ، وحلت العتمة أطال الوقوف ، يحدق ، ويتلو اآليات واألدعية ، ويرهف

..الظلمة الساكنة لم تغادر داخله ، والحوله السمع ، لكن عاود التحديق فى الالشئ ، وإن غادرت عصافير

طارت فى . صفقت بأجنحتها . اللوحة على الحائط إطارها علت أصواتها . صنعت أشكاال وتكوينات . سماء الحجرة ..بشقشقة عذبة

الليـــــليادوب . رب اعتاد التردد على الجامع ألداء صالة المغمنذ الصباح . ينهى اليوم ـ قبلها ـ فى قهوة الزردونى

فى موسم . يشترى ويبيع ويصيح ويتعارك ويفاصل ويساوم إذا باع . السمان وطير البحر يعود إلى القهوة ، أو إلى البيت

من شروات الحلقة ، يجلس إلى الحاج قنديل ـ بعد أن تخلو يغادر . ، ويعطى ماعليه الحلقة ـ يتحاسبان ، فيأخذ ماله

الحلقة ـ بعد أن يربط على شروة اليوم التالى ـ إلى قهوة يناقش أحوال البحر . يلعب الدومينو والكوتشينة . الزردونى

يدعو . والصيادين ، ومايطرأ على األنفوشى ، ويغيب عنه ربما تأخر فى العودة ، . الرجال إلى الغداء ، ويدعونه إليه

خالية من أصدقائه ، " مخيمخ " يلمح قهوة . فتسبقه الصالةيتأمل ـ دون تنبه ـ حركة . فيواصل السير إلى أبو العباس

يصعد الدرج الرخامى ، إلى الباب الملكى ، المطل . الميدان يشق السبيل بين المصلين والساعين . على ميدان المساجد

..إلى المقام ، والذين يفضلون المذاكرة فى صحن الجامع

. تبدو ـ كصورة ثابتة ـ جلسة اإلمام على كنبة المبلغ أمامه وحوله أنصاف دوائر من المصلين ، اعتادوا الجلوس

تمتد الجلسة إلى أذان العشاء . إلى الشيخ بعد صالة المغرب ، والنجفة الهائلة وسط الصحن ، ترسل دفقات من النور ،

لدئرة قبالة تتحدد بين مساحات الظالل التى صنعتها نصف ااإلمام ، واللمبات المتناثرة فى األركان ، تصنع ظالال بأجساد

..الواقفين والجالسين ألف التردد على الجامع ، والمجاوزة ـ دون التفات ـ

يغتسل ، ويتوضأ ، ويسعى إلى الجدار القريب . إلى الميضة اليشغله الطنين الصاخب ، . مغمض العينين كالمتأمل .

األصوات الداعية والمسبحة والقارئة . الجدران تعمق صداهتصطدم بالجدران العالية ، . ، تتردد فى البهو الفسيح

رنين اليستمع إليه فى مكان . يتردد لها صدى . واألعمدة تردد على ياقوت العرش والبوصيرى وعلى تمراز . آخر

يبدو الصدى فى أبو العباس مغايرا بما . ونصر الدين تطول به الجلسة إلى صالة العشاء ، . أن يحدده اليستطيع

يتأمل المقرنصات والزخارف والنقوش فى األبواب . منفردا والنوافذ واألسقف ، واألعمدة الرخامية الهائلة ، والعقود

المحملة بالجفوت والصنج والخناصر ، أو يلمحه صديق ، لكن الصمت السادر الذى كانت أنصاف الحلقات . فيتسامران

..تتابع به حديث اإلمام ، دفعه إلى القعود قريبا لم يع كل ماتعنيه كلمات اإلمام ، وإن تأكدت خطورتها فى إضفاء اإلمام جدية علىمالمحه ، ومصمصات الشفاه

. وضح التأثر عميقا فى أنصاف الحلقات . المتناثرة فتشوا ـ . استهوتهم الرحلة التى صحبوا فيها كلمات اإلمام

هيأ ، كالعادة ، لتلقى األسئلة ـ عن غير المألوف ، لما ت ..ومايبعد عن نطاق الحديث

استأذن عبد الرحمن الصاوى ، فأعطاه اإلمام اهتمامه ..

ينصت ، ويتابع . كان يحرص على الجلسة المسائية ..المناقشات ، وإن لم يحاول السؤال يوما

:دئ خصه اإلمام بنظرة مشجعة ، فقال فى صوته الهالست ولدى : ـ ماحكم الدين فى من يواجه ابنه بالقول

؟ :قال اإلمام

..ـ إذا كان هو األب الحقيقى ، يقام عليه الحد

:خالط صوته قلق ـ وماالحد ؟

!ـ الجلد :تساءل عم سالمة

ـ ومن هذا األب الظالم ؟ :قال اإلمام

!ـ هل البد أن ينطبق السؤال على حالة بالذات ؟ :ع عباس الخوالقة اتصال الصمت قط

ـ هل يحل للرجل أن يتزوج حماته ؟ :همس اإلمام بإشفاق

!ـ ومايدفعه إلى هذا الغلب ؟ :قال الخوالقة

ـ عطية سرور ، تاجر العطارة فى شارع الميدان ، ناقشناه ، فأكد مشروعية .. طلق زوجته وتزوج أمها

..الزواج :قال اإلمام

م صحيح إذا لم يكن قد دخل على ـ زواجه من األبمعنى أنه إذا تزوج المرأة ثم طلقها قبل أن يدخل .. االبنة

.. فإنه ـ إن شاء ـ تزوج أمها .. بها :قال الخوالقة

فهل من .. ـ مضى على زواجه من االبنة شهران المعقول أال يكون قد دخل عليها ؟

:قال اإلمام ..عنقه ـ ألزم اهللا طائر كل إنسان فى

:خالط تردد مرتبك صوت الحاج محمد صبرة ـ هل تختلف شهوة الرجل عن شهوة المرأة ؟

:قال اإلمام وهو يهز رأسه أما المرأة فلها تسع .. ـ الرجل له شهوة واحدة

..شهوات :أردف فى تحذير باسم

ـ اليود الذى تشمه المرأة مع هواء البحر يغطى جسمها !امرأتك وإال خانتك فال تهمل .. بالشهوة

:ترامى صوت من صف خلفى ـ هل يساوى اهللا فى العقوبة بين اللوطى والزانى ؟

:قال اإلمام وربما عقوبة .. ـ الفعل متشابه ، والعقوبة واحدة

..اللوطى أشد :أضاف كالمتنبه

ـ أذكرك بأن الملك جبريل اقتلع مدينة سادوم التى كان فيها الخبائث ، وحملها على طرف قوم سيدنا لوط يرتكبون

ثم ألقاها كأنها .. أحد أجنحته ، وحلق بها إلى علو شاهق !ورقة

:ثم وهو يضغط على الكلمات !ـ قبر اللوطى يلفظه فور الدفن ، ليخلد فى نار جهنم

:غمز عم سالمة بعينه !ـ معظم القبور إذن خالية من أصحابها

ى األصابع المستأذنة فى اتجه إل. مام بنظرته إلعبره ا ..أسئلة أصحابها

يومان لم نره ؟ .. ـ أين صاحبنا حمادة بك :قال الحاج محمد صبرة

..إنه بعافية .. ـ زرته عصر اليوم :تأملها ، ثم أعادها . التقط اإلمام من فمه سنا مكسورة

..فهو يدبغ المعدة .. ـ انصحوه بأكل التفاح :قال الحاج محمد

..ذ حماما ساخنا ، ونزل إلى الطريق ـ أخ :قال اإلمام

إنه قوة للقلب الضعيف ، .. ـ عليه بالسفرجل إذن ..والمعدة التى تعانى

:استطرد متذكرا لو علم الناس مافى الملح ، .. ـ وانصحوه بالملح

..الختاروه على الترياق المجرب :اطمأن إلى تلهف الحاضرين لما يفيد ، فقال

لكن التديموا أكل .. تناول الملح بمقدار ، مفيد ـ إذا ضعف المسلم ، فليأكل اللحم .. إنه يذيب الجسم .. السمك فإن ألح عليه المرض ، وتناول .. ألبان البقر دواء .. باللبن

!فلن يغلبه المرض .. إحدى وعشرين زبيبة حمراء ***

تأخر . ى مغادرة الجامع بعد صالة العشاء ، تأخر فانتظم معهم فى صفين متقابلين . كذلك عشرات من المصلين

تسلموا نسخا من البردة ، مطبوعة بخط نسخ ، مشكولة .

بدأ الجميع فى تالوتها بصوت خفيض فى . بشكل واضح :عال ، وعال ، حتى انتهى إلى نغم متماوج . البداية

هو الحبيب الــذى ترجى شفاعتــه ل هول من األهـوال مقتحـــملك

نـه بشــرأفمبلـغ العلـم فـيـه وأنــه خير خلــق اهللا كلهــم

ارتفع اإليقاع بالذكر ، وأطفئت األنوار ، وتعالى النداء !اهللا حى ! اهللا حى :

بسم اهللا الرحمن الرحيم : البداية قرار مطمئن ، هادئ !فاعلم أن الإله إال اهللا ..

ات بهمس ، والرءوس تهتز فى أماكنها تماوجت األصو. ثم تحركت األجسام ، وانتفضت واقفة . ، واألجسام ساكنة

علت األصوات ، وازداد التطوح ، ثم انتتر الذاكرون إلى فوق بآخر ماعندهم ، نترات متالحقة متتالية ، هدأت ، وهدأت األصوات ، وعادت األجسام إلى األرض ، واهتزت

، وعادت األصوات إلى التماوج بالهمس الرءوس فى أماكنها

ترافقه ـ ثانية . يعلو اإليقاع . تأتلف الحركة وتنسجم قيوم .. حى .. هو : ـ هزات األجساد واأليدى المتطوحة

..قهار .. حق .. يطيب الوقت . ترتفع التنهدات والصرخات والتشنجات

ترتفع ـ فى وقتها ـ صيحة . يكاد األمر يفقد ترابطه . اهللا ، إشارة االنتقال : النتهاء ، ممدودة ، عريضة ، عالية ا

يقيمهم على . يكبس الشيخ أيديهم وأرجلهم . إلى طبقة عالية تسكن الحركة ، وتهدأ الحواس ، ويتهيأ . بركة اهللا

..الذاكرون لطبقة أخرى من ترديد لفظ الرحمن الرحيم ات الدرج. خطر له أن ينضم إلى الطريقة الشاذلية

المريد ، المقدم ، النقيب ، الخليفة خاتمة الدرجات : صعبة لو استطاع أن يقطع الدرجات إلى آخرها ، يعرف . الروحية

األسرار والرموز والدالالت واإليحاءات واإلشارات والمشكاة والزيتونة والنوم على المسامير والزجاج المتكسر ، تخضع

ن يسيئون إليه ، ويجنب له الثعابين والحيات ، فيطلقها على ميمتطى الحصان فى الجلوة ، حوله المريدون . أذاها المحبين

ذوى الخاطر ـ بتوالى األيام ـ فاكتفى بالمشاركة . واألتباع فى الحضرة ، وترديد األناشيد ، والسير وراء جلوة الخليفة ،

واإلخالص فى حب آل البيت والصحابة واألولياء والتابعين ..

*** اعتاد . فكر فى الميل إلى شارع سيدى ياقوت العرش

يسأل ، . الجلوس إلى عم جابر برغوت ، خادم الجامع ..يجد فى مجلسه تعاطفا ومؤانسة . ويجيب الرجل

اجتذبته ـ من بعد ـ أنوار وأعالم ونوافذ مفتوحة وشرفات يطل منها نساء وأطفال ، وصوت حودة بدران

..هب تخترق الليل شضخم ، علقت . دخل السرادق فى الناحية المقابلة للبيت

أمامه ، وفى داخله ، التعاليق والنجف واللمبات الملونة ، يتوسط نهايته منصة خشبية ، . والرايات الحمراء والخضراء

يجلس فوقها العوالم ، يقابلها صفوف من الكراسى والدكك ..لفاصلة بالسجاد األحمر الخشبية ، وفرشت المساحات ا

..حيا وجلس ، وشكر على السيجارة وكوب الشربات العوالم على دكتين ، فى نهاية السرادق ، تفصل بينهما

..ترابيزة ، عليها الشموع والمرطبات

تبين ـ بنظرة جانبية ـ أن محيى قبطان يجلس فى ..حيا ، وسلم ، وتمتم بعبارات مجاملة . الكرسى المالصق

:همس محيى قبطان فى أذنه !تزوجت بنت الحاج قنديل .. ـ أخيرا

وضع راحته على جانب فمه ، وحرص على خفوت :صوته

ـ هل كانت عانسا ؟النساء يتحدثن عن جمالها وبياض .. ـ بالعكس

فإذا .. لكن الحاج أصر أال تراها عين قبل الزفاف .. لحمهاتعرف نصيب الحاج من وأنت .. إنها تشبهنى : سئل ، قال

..الجمال :ابتسم ، فكشف عن أسنان مفلوجة

ـ وهل وافق العريس على الشرط ؟ :قال محيى قبطان فى صوته الهامس

!ـ يتزوج أموال الحاج الابنته يلعلع ، فيغطى . أعطى انتباهه لصوت حودة بدران

على األصوات الهامسة ، المتالغطة ، المتشابكة ، يشغى ..رادق الواسع بها الس

قاعد على الرمــل وحدى فى عـز ضهريــة نارى ياعنيـــه يا.. الشمس قدحت دماغـى شعرتــش بحنيـه ومن هــوا البحــر ما

أتلـــوى.. تحرقنى .. تلسعنى نــار الجفا حلــو عطفـك لروحى ضــل شمسيـه يا

أيقظه الوصول المفاجئ لموكب العريس . طالت الجلسة قد أتم دورته السباعية فى ميدان ابو العباس ، يطلب كان .

سبقته الموتوسيكالت والسيارات . اإلذن من السلطان المصاحبة والهتافات والزغاريد وطلقات الرصاص والنقرزان بالسروال الفضفاض والصديرى المزركش ، ينقل العصا الطويلة ذات العمامة الملونة ، بين جبهته وذقنه

يرافقه . وأطراف أصابعه ، دون أن يمسكها بيده وأنفه وكتفه ..مساعداه بنقرات منتظمة على طبلتين علقتا فوق صدريهما

نزل العريس إلى حلقة . توقفت السيارة فى أول الطريق ..األصدقاء

:هتف حودة بدران يحرسك ياعريس .. الحارس اهللا والصالة على النبى

:أضاف األصدقاء

!وانت أونطجى :هتف حودة بدران و

..ياما انت صغير :أضاف األصدقاء

!عريس حلو يا :وتعالت األصوات منغمة ، يرافقها تصفيق

..يااسكندرية ياأجدع ناس .. اقروا الفاتحة البو العباس وترامى ـ من الشرفة المطلة على السرادق ـ صوت

:العالمة تغنى ديـــكإأنا ملك .. قطعنى حتت

حكت لعينيــك .. ه حكـتوعني !..ياولـه .. آه ياوله

توقفت عربة على ناصية الساحة المقابلة للبيت ، مزدانة يجرها أربعة جياد ، . بالشيالن الكشميرى والورد واألزهار

استقبل العريس عروسه فى عودتها من . ويخفرها األوالد مانعت ـ فى البداية ـ وتأبت ، كما تقضى . الحمام

ثم سارا إلى داخل البيت ، خلف ستار من الشيالن . األصول يتناثر فوقهما الملح والبدور . الكشميرى ، فال يراهما الناس

قطع صغيرة من نقود ذهبية وفضية ، تسبقهما الزغاريد : وزفة العوالم وأبو الغيط وأوالد عبد السالم

*** اختار لخطواته أن تميل إلى شارع البورينى ، ومنه إلى

..حة الواسعة ، قبالة حمام األنفوشى الساكان يعلم أن عم محجوب ، حارس الحمام ، يفتح أبوابه

يغادرون البيوت إلى الحمام ، فإلى أبو . أثناء الليل للمعارف العباس ، أو المساجد األخرى ، القريبة ، ليتجهوا ـ من بعد

..ـ إلى الشاطئ ..لمح النوافذ مضاءة ، فتأكد حدسه

: ـ للحظة ـ عينا عم محجوب تفحصته من البيت أم إليه ؟ .. ـ على الراكشى

:قال على الراكشى ..ـ فى الشوارع من أول الليل

:أطلق عم محجوب ضحكة قصيرة من أنفه ..ـ أغضبتك المرأة ؟

:قال الراكشى

ـ سرقنى الوقت بين الذكر فى أبو العباس ، وزفاف .. بنت الحاج قنديل ناوله الرجل صابونة . عم محجوب قرشا دس فى يد ..مستعملة وفوطة

:تعالى صوت من خلف أحد المربعات .. ـ لن تذهب إلى الحلقة إذن هذا الصباح

..ميز صوت قاسم الغريانى ألن الجن يتخذون من الحمامات مأوى لهم ، فقد استعاذ م باهللا من أذاها ، وهو يخطو على عتبة المدخل ، بادئا بالقد

..اليسرى بدا المكان ملتفا بضباب الماء الساخن من األدشاش ،

..وفى المربعات المتالصقة بطول القامة :قال الراكشى وهو يغالب ابتسامة

..ـ أستطيع ـ بحول اهللا ـ أن أظل ثالثة أيام بالنوم :وقال ألصوات الرجال المتالغطة داخل المربعات

ى الحمام ، عرفت أن ـ كلما وجدتكم بربطة المعلم ف ..حالكم واقف

:قال قاسم الغريانى

وتأتى .. تذهب فنركب البحر .. ـ نحن فى يد النوة ..فنأتى إلى الحمام ، أو نجلس فى القهوة :تناهى صوت من المربع األخير

..ـ هل عرفتم ماحدث ؟أدرك حمودة هلول أنه أسرف فى تصنع الجدية ، فغاب

قال فى سرعة ، ليبدد المشاعر المتباينة . الهدف الذى أراده ..

!ـ شفيقة غراب ماتت :قال قاسم الغريانى

..ـ حسبنا أن الحرب عادت :أضاف سيد الفران

!..ـ أو أن الملك فاروق هو الذى مات اطمأن هلول ـ بأصابعه ـ إلى غياب الصابون عن

:وجهه فى لها الفضل.. ـ موت شفيقة غراب ليس حدثا عاديا

..متعة اآلالف :ولون صوته

..ـ وحل عقدهم أيضا

:قال سيد الفران ـ المرة األولى التى زرت فيها كوم بكير ، كنت واحدا فى طابور ، والمرأة تستند إلى جدار ، تعطى اللذة فى دقائق

.. : قال الغريانى

جاوزت الخامسة .. ـ وماشأنك أنت بعالم الرجال ؟ ..فهل أفشى السر ؟ .. تزوج والثالثين ولم ت :قال سيد

!الحاجة بى للزواج .. ـ أنا أقفز وأجرى :قال الغريانى

وإن كنت أثق .. ـ أشهد لك بالتفوق فى العادة السرية !.. ..أن هذا هو آخر تفوقك

قال دياب أبو الفضل ، وهو يسلم جسمه إلى الماء :الساخن

فرت .. رشيدى حمدية بنت توفيق ال: ـ آخر األنباء ..مع عم شاكر فراش مدرسة الحجارى

:علت فى مربع الغريانى صيحة دهشة ..الرجل خطوتين والقبر .. ـ الأصدق

:قال دياب أبو الفضل ..ـ أغواها بكلماته المعسولة

:قال الغريانى !بخاتم ربها .. ـ البنت بكر

:قال خميس شعبان مرتين كل .. ة من دم الترسباـ كنت أبيع لها كو

..أسبوع :قال الغريانى

!ـ لذلك فجسمها بال عظام :قال سيد

!.. فتاة كاملة الدسم .. ـ يابخته الملعون :قال خميس شعبان

..ـ عندى لك عروس أشهى منها قال عم محجوب ، دون أن يزايل مكانه فى مدخل

:الحمام !وإال تزوج على روحه .. خميس ـ إلحقه بها يا

:وشى صوت سيد بالغضب !ـ وهل شكوت لك ياشقيق فرعون ؟

:قال خميس شعبان ..إنه منا وعلينا .. ـ التغضب من سيد ياعم محجوب

:ثم بنبرة معاتبة تقسو على عمك محجوب وهو فى سن .. سيد ـ يا

!أبيك ؟ :قال سيد

..ـ إنه دائما يرقص فى مركبى :قال خميس شعبان يبدل اتجاه الكالم

لم تذق شفتاها طعم شفاه .. ـ البنت التى اخترتها لك ..أخرى غير شفتى أمها

:سأل الغريانى فى اهتمام ـ من البنت ياخميس ؟

:قال خميس شعبان ..ـ صفية بنت المعلم محمد كسبة صياد الجرافة

:قال الغريانى ..بها عرق دمياطى .. ـ بنت شاطرة

***

كانت يداه مشغولتين . كتفه دفع الباب الخشبى بجانب ند عن الباب صرير ، عمق . الخالى " الغلق " باحتضان

تداخل بالظلمة والخواطر . الصمت الذى ساد المكان الجهنمية التى تسللت ـ فى الليل ـ إلى رأسه ، فأحس

ابتسم لفكرة الغريانى أن يترك للمرأة ـ ليلة ـ . بالرضا ظن نفسها الرجل ، فترفع هل ت.. فرصة القيادة فى الفراش

!ساقيه ؟ :دندن بصوت خفيض

وانا مالى ماهيه اللى قالت لى روح اسكر وتعالى ع البهلــىتعجب لسهو المرأة ، . شده الضوء الصادر من الحمام

..اتجه إليه ليطفئه . أو لخوفها :علت الدهشة بصوته !ـ تغسلين فى الفجر ؟

..أة سبق انتظاره للجواب شهقة المر :ضحك

ـ خفت ؟ :وهى تغالب االرتباك

..لم أشعر بصوت المفتاح فى الباب .. ـ الدنيا ليل :قبل أصابعه المضمومة

..ـ نورك يضئ المكان نترت الماء من يدها ، وأسدلت قميص النوم ـ بعفوية

..ـ على فخذيها :قال

..ـ أنا زوجك ياامرأة ..حاولت التشاغل بعصر الغسيل

:ال فى حسم ق !..ـ كفى

:ثم وهو يعاونها على القيام ..قد يصحو األوالد .. ـ الداعى لدخول الحجرة

:خالط صوتها احتجاج ـ هكذا على األرض ؟

!هكذا على األرض .. ـ نعم مالت إلى شوال فى ركن المكان ، . تلفتت فى حيرة

:التمعت عيناه بالسؤال . فنفضته أين ؟ من .. ـ هذا الشوال

:قالت وهى تسوى الشوال فى األرض ..ـ انه شوال الدقيق

:ارتعشت أهدابه ـ وأين الدقيق ؟

..ـ خلص :صرخ !ـ كله ؟ ..ـ كله

أطال النظر إلى المرأة التى توقفت عن تسوية الشوال ، بدت له طيبة ، ومسكينة ، . كأنه يراها للمرة األولى

شعرها : عليه حياته بدت له شيطانا ينغص . ومهمومة األكرت ، وعيناها اللتان غابت إحداهما وراء سحابة بيضاء ، وقامتها المدملجة القصيرة ، وثيابها التى لم تبدلها منذ

حتى عندما يضاجعها ، تكتفى بسحبها إلى مافوق . سنوات ..البطن ، وتسلم نفسها فى بالدة

باخت الصور ، وتماوجت ، وتطوحت ، سخيفة ، وبالفلما أدرك أنه فقد . تقافزت الكلمات داخل حلقه . معنى

..الرغبة فى الكالم ، أشاح بيده ..ومضى

لواحـد نصفـان ا ..طالت الوقفة ، فداخله الشك أنها ربما لن تجئ

استطالت ظالل الغروب فى شارع سيدى داوود ، احا من ـ بدا القادمون أشب. فأمسى المكان رماديا ، أو كاد

وإلى ـ الحجارى والموازينى وسليم البشرى والمسافرخانة قلت حركة السير ، فتمطى الهدوء فى أرجاء . وصفر باشا

..المكان يتوجس . كان إذا مشى أمام البيت ، أسرع فى خطواته

..من السكون فى الداخل ، خلف الباب والنوافذ المغلقة ا المرأة سبقته ، ربم. أعاد النظر من الباب الموارب

. فاختبأت ـ حتى اليراها أحد ـ داخل البيت المهجور تداخلت الظالل ، وتالشى الضوء من األبواب والنوافذ

نسى ـ أو تناسى ـ . المغلقة ، فاختفت المرئيات تماما تغيب فى النهار ، . مخاوفه ، أن البيت مسكون بالعفاريت

عندما تتمدد تبدأ صياحها وصراخها. وتظهر فى الليل يغالب الخوف ، اليتلفت . الظلمة فى المكان فتغيب مالمحه

تسعفه به مام ، تسبق خطواته مااأل، وإنما يمضى إلى ..ذاكرته من آيات قرآنية وأدعية

أغلق الباب ، فانعكس الصوت المفاجئ ضوءا مفاجئا هم باالنصراف ، لكن النافذة التى . فى نافذة البيت المقابل

..ل الضوء من خصاصها ظلت صامتة أطتعمد أن يصل قبل الموعد المحدد ، لتجده فى انتظارها

حين غادر البيت ، أهمل النظر فى ساعته ، فهل أوقفته . ..اللهفة أمام البيت المهجور ، قبل زمن من الموعد المحدد ؟

ضايقته البسمة التى اتسعت فى وجه المرأة ، عندما . تردد ، وتلعثم ، وغلبته الحيرة . ه أفرغ المشكلة من جوف

..دفعها إلى القسم بدينها حتى اليعرف األمر ثالث بدا الصدق فى قسمها ، وإن أتبعته بابتسامة يصعب أن

..تغيب عن باله :دس فى يدها خمسين قرشا ، ففاجأته بالسؤال

ـ هل أحضر معى شيئا ؟ تها بوجهها مسح المكان بعينيه ، فاليواجه ابتسامة ألصق

ـ ماذا تقصدين ؟ :وهى تدارى فمها براحة يدها

..أنا لم أجرب هذا األمر من قبل .. ـ حمادة بك :فى ضيق لم يحاول إخفاءه

!ـ الشئ . أعادت لف المالءة حول جسمها ، وتهيأت لالنصراف

لفه سكون . مالت بعينيها ناحية الشاطئ . أوقفها بنظرة ن بعد ـ تكسرات األمواج ، صياح يتناهى ـ م. الظهيرة

أسراب النورس ، صفارة باخرة فى الميناء الغربية ، دقات مسمار متكاسلة فى هيكل قارب ، هتاف سائق بنز فى

..الحصان الذى يجرى بآخر ماعنده :اقترب ، حتى داعبت أنفاسه أذنها

..أعتمد على تصرفك كثيرا .. ـ أنسية ***

لما ناداها ـ فى المرة األولى ـ واصلت السير ، دون لم يخطر ببالها أنها هى المقصودة . أن تعنى بااللتفات

لحقتها أيام األبوحمدات ، عندما استوقفها مرعى . بالنداء كان السكون سائدا ، . بيبى فى أول شارع سليم البشرى

..بالليل المبكر ، وبرودة الشتاء ..لى رجل ـ أنت فى حاجة إ

:كانت تعرف مهنته ، واألذى الذى ألحقه بناس مهمين ..ـ أحب أن أحيا بال زواج

:زوى مابين عينيه ـ من قال إنى أعرض الزواج ؟

:ولون نبرات صوته !ـ أنا أعرض حمايتى

:حاولت أن تلملم جرأتها ..ـ مم ؟

!..ـ من أذى أوالد الحرام :قالت بصدق

ـ ومن يهتم بى ؟ :وهو يضغط على كتفها

..ـ هذه وظيفتى :وعال صوته مهددا

..ـ التتحركى منذ الليلة بغير حمايتى :ثم فاجأها بالقول

.ادة بك أن يتركك تقيمين فى البيتـ سأتكفل بإقناع حم

شعره المفلفل ، المهوش ، والثقوب : شردت فى تأمله لمنسدل على المتناثرة فى وجهه بتأثير جدرى قديم ، وشاربه ا

شفته العليا ، والجلباب الكستور يضيق على قامته الطويلة الممتلئة

:ومال على أذنها ..ـ أنا أعرف حكاية البيت

:وعال صوته ..ـ وكل شئ

فكرت أن تظهر ترحيبا ، وتدعوه إلى بيت سليم البشرى . تتهمه بمحاولة سرقتها . يدخل ، فتصرخ بآخر ماعندها .

أطلقت . تهام الوحيد الذى تستطيع أن توجهه إليه هذا هو االهو . أف ف ف للتنبه إلى أنها تدخل البيت متسللة فى الليل

لم يعترض الرجل طريقها إال بعد أن عرف . بيت حمادة بك !..ماالذى أدخلها البيت حتى يسرقها فيه ؟. كل شئ

. التخرج ، والتقابل اآلخرين . الذت بالبيت المهجور توصلت إلى قرار ـ ارتعش له جسمها ـ بالرفض ، ولما

ترامت إليها من النوافذ المقابلة ، أحاديث النساء عن معركة من لم يمت ، أو يدخل . الفتوات فى ميدان الخمس فوانيس

وأعلن المخبرون منع حمل . المستشفى ، أخذه البوليس ..السكاكين والخناجر والمطاوى والسنج ، وادعاء الفتونة

اعتادت ـ من يومها ـ أال تلتفت لنداء التتبين صوت ..صاحبه

تعرفه . اضطرت للنظر من اللهفة التى امتطت صوته ناداها عبد الرحمن . جيدا ، والبد أنه يعرفها هو أيضا

الصاوى ـ ليلة عيد ـ فى مجلس الحاج محمد صبرة جذب مبسم الشيشة من شفتيه ، . الحالق ، ومنحها جنيها

..تمنت مبلغا مماثال ، وربما زاد عما دفعه الصاوى ف :أدماها صوته الغاضب

!..ـ التجوز الزكاة لمومس تداخل الفضول والغضب . شغلها األمر فى األيام التالية

..، فأعطت سمعها للروايات المتناقضة لم تعرف الكثير عن حياته ، ولعلها لم تعرف عن

اسطبل : أكد صيته بما ورثه ظروفه الخاصة شيئا ، وإن تالسيالة ، الفرن البلدى خلف سيدى على تمراز ، البيت

رويت حكايات عن األموال . الجديد فى شارع الحجارى

التى خلفها له والده فى صفائح مياه قديمة ببدروم بيت وكالة ..الليمون

هل تدركين مدى السمعة : سألها محمود عباس الخوالقة ..ها ؟التى تتمتعين ب

جاوزت مشاويرها األنفوشى ـ وبحرى كله ـ إلى من بين آالف . المنشية والعطارين ومحرم بك وأحياء أخرى

النظرات التى حاصرتها ، ودعتها ، لم تتجه إليها عيناه ، خطواته : مع ذلك ، كان جزءا من مألوف حياتها . يوما

شيشة مجلس العصر، ومبسم ال. المتالحقة فى شوارع الحى خوف سيد . ملتصق بشفتيه ، أمام دكان الحاج محمد صبرة

الفران ـ عندما يضيف رغيفين إلى ماتشتريه من الخبز . الرجوع ـ يعلنه فى نظراته المتطلعة إلى باب الفرن

..أحاديث السخط واإلعجاب والدهشة وعدم التصديق عم سالمة ـ صاحب مطعم النبالء بشارع السيالة ـ

قروش إلى أجرها ، وهى تغادر ـ آخر الليل أضاف عشرة :ربت ردفها ، وقال . ـ باب المطعم الخلفى

يطلب الرضا ليفوز فى .. ـ هذا خير حمادة بك ..االنتخابات

وطلبها ـ فى األيام التالية ـ رجال وشبان كثيرون ، لم عرف الطريق إلى . تكن تعرفهم ، والرأتهم من قبل

وعمال فى الميناء وأفندية وزبالون البيت صيادون وبحارةوعتالون وسائقو تراموايات وكمسارية وخدم جوامع وزوايا

حتى الممرض . وصبيان قهاوى ومخبرون وعساكر وردية فى مستشفى الملكة نازلى ، قال إنه فضل القدوم إليها ، وكان

كان . يستطيع مصاحبة امرأة من المترددات على المستشفى موعد فى الليلة الواحدة ، فتفسح ساعتين بين يربكها أكثر من

..موعد وآخر غاب . لما ناداها ـ فى المرة األولى ـ واصلت السير

..عن بالها أنها هى المقصودة بالنداء :عاود نداءه بصوت أعلى

!..ـ أنسية ..ذكر االسم ، فالتفتت

الشيشة . العصر موعد جلسته أمام دكان الحاج محمد ء ، ونظرات متطلعة لطفل ـ داخل الدكان ـ والأصدقا

وسير التجليخ ، المعلق . ينتظر دوره فى غياب الطهور ..بجوار المدخل ، يدل على دكان حالق

..دعاها بيده ، فتأكدت ، وعادت بخطوات مترددة قام من كرسيه ، . فطن إلى صعوبة الحديث أمام الناس

:وأشار إلى الشاطئ !ك ـ اسبقينى إلى هنا

المرة األولى التى اقترب منها ، وحادثها ، وتوضحت أميل إلى . بالكاد يبلغ األربعين ، وربما أقل . مالمحه

القصر ، تكسو الشعيرات البيضاء فوديه ، ووجهه مستدير ، له عينان دائمتا التلفت ، وشاربه . تنتشر فيه بقع الشمس

فى خمنت من الثقب الصغير . نحيل أقرب إلى الصفرة ..طرف أذنه العلوى أنه كان يضع حلقا

كانت تحيا الروايات العجيبة ، والمختلفة ، واليأتى ـ ..فى بالها ـ أن تجاوز الهامش

:ذهول المفاجأة تراجع أمام اللهجة التى تقطر ودا ـ كيف حالك ؟

:حدجته بنظرة متسائلة !..ـ الحمد هللا

:قال فى لهجته المتوددة !.. سيد يضايقك كثيرا ـ الملعون

نظرات سيد القلقة . المالمح الهادئة تخفى عقال حويطا ، المتطلعة إلى باب الفرن ، تنفى أن يكون هو الذى أفشى

..العمال اآلخرون سوق ، كل واحد فى حاله . سر نفسه :أضاف دون أن يعنى بتحديقها المستغرب

..ـ مضايقات اآلخرين التنتهى أيضا !..خل فى الموضوع لو يد

تواصلت لحظات . أجفلت لمروق طائر فوق رأسها الصمت ، تعمقها األصوات البعيدة لألمواج ، وصفارات البواخر ، وصيحات النورس ، وصرير عجالت الترام فى

..انحناءة مساكن السواحل :سوت المالءة على جسمها

..ـ أستأذن :ارتفع صوته بتوتر

!..ـ أريدك ..لحظة ـ فى مواجهة نظرتها المتسائلة تردد ـ

..شجعته بهزة من رأسها ***

..طرف الخيط يصعب التقاطه

كان فى السابعة لما طلبت أمه أن يشترى فوال للعشاء شجعته الظلمة ، فنزع الحذاء من قدميه ، . من الطنطاوى

برودة . افيا وأسنده إلى باب البدروم ، وغادر البيت حالطريق ، وملمس الحصى والتراب ـ فى باطن القدمين ـ

..يتسلل بلذة ، تتصاعد ، فتشمل الجسد كله قال الولد محمود عبد العزيز ، زميله فى البوصيرى

:األولية ـ كأنك تحرص على الهزيمة فى هذه اللعبة ، فال ينال

!..العقاب سواك د عباس متولى ، عن تملكه العناد ، فرفض تنازل الول

قست العصا على اليدين الممدودتين ، لكن . حقه فى العقاب ..اللذة ـ يذكرها ـ جاوزت األلم ، واألمنية أن يمتد الزمن

مجرد التالمس بين صدره وأيدى . لم يكن يضمر شرا عشرات يتدافعون ، . النازلين من ترام الرمل إلى الطريق

ما تزايد الضغط ، علت إيقاعات كل. فيستقبلهم بوقفة ثابتة النشوة ، وتراقص الجنون فى الجزر الوحشية ، وحملت

..البداية هراوتها ، وعادت إلى أصل األصول : دفعته المرأة بقبضة غاضبة

!..ـ هل ينقصنا زحام ؟لم يتحرك . الدفعة زر خفى ، أشعل النيران فى بطنه

لكن .. الغاضبة تمنى لو أعادت المرأة دفعتها. فى وقفته الطابور تواصل ، وابتلعت األمواج ماصادفها ، وواصلت

..االندفاع هو الذى دفعه فى طابور . لم يكن الرجل مخطئا

اليذكر الكلمات التى عقب بها على . السينما ليقف أمامه نظرات الواقفين فى الطابور لم تشغلها . مالحظة الرجل

فى وقفته ، وقال من ظل . الصفعة التى هوت على وجهه زاد . توالت الصفعات . بين أسنانه كالما آخر ، قاسيا

العينان مغمضتان ، والوحش النائم . الرجل فبصق عليه يصحو ، والدماء تسرى فى الشرايين الناضبة ، والخضرة

..تزهر فى مساحات الجدب نسبها إلى . أضنته المأساة ، حاصرته ، طاردته كظله

علت ضحكات السخرية . ح لجلساء قعدة العصر سواه ، ولم ..، وقالوا كالما معيبا

أخرس لسانه ، . ظلت الرغبة العارمة حبيسة أحالمها قرر ـ فى إصرار ـ . حتى لهؤالء الالئى تقاضين الثمن

أن يتحمل عناق السر المشبوب باللهفة والجنون ، فاليصبح ..السر سرا لو تخلى عن عناقه

: سم ـ ذات ليلة ـ دون وعى نطق اال !..ـ أنسية

رغم سيرتها التى تلوكها جلسة العصر ، لم يعن حتى أمسك . بأن يدقق فى مالمحها ، وال فكرفى بواعث اختيارها

توالت حمم الرغبة ، فدمرت . الخيط من طرف النهاية تابعها ، راقب . فى اللحظة التالية ، شغلته تماما . أعماقه

، سأل الجلساء ، وهؤالء الذين سال عرقهم على تصرفاتها تنصت . حتى الرغيفين الزيادة لم يفلتا من رقابته . جسمها

تفوت الكلمات القاسية ـ . إلى الهمسات فى األركان المظلمة هو نفسه فعل ذلك ـ تتناول الهبات ، لغرض أو لغير غرض ، تذهب وتأتى وتتسلل إلى داخل البيوت وتنصت وتجيب

وتناقش ، اليغادر الهدوء مالمح الوجه ، واليعلو الصوت .. عن الهمس ، والنظرات تغفو فى الشرود

هل هى المأساة السر ، يخشى أن تطارده بها أيامه !..القادمة ؟

..اختار الظهيرة أنسب موعد النتظارها

أوشك اليأس أن يتسلل إليه ـ فى اليوم الرابع ـ لما ..اهللا بك ، فى طريقها إلى السيالة خير رآها قادمة من شارع

*** ..ـ مساء الخير

لم ينتبه لقدومها ، مع أن بداية . فاجأه الصوت الهامس رتباك إلشمله ا. الطريق ـ من سليم البشرى ـ تبعد بمسافة

..، فلم يرد على تحيتها :قال وهو يخطو إلى األمام

..ـ اتبعينى :اوز الهمس دون أن تج

!..ـ فلنبق هنا :تساءل فى دهشة

..ـ كيف ؟ :لململت جرأتها

ـ أال تملك هذا البيت ؟ !..ـ لكنه مهجور ..ـ لن نسكن فيه

..ـ يخلو حتى من النور

:رفت على شفتيها ابتسامة !..ـ وماحاجتنا إلى النور ؟

..سنجد فيه كل مانحتاجه .. ـ لى بيت قريب : الداخل وهى تسبقه إلى

..ـ أمرتنى أن أتصرف كانت قد أطفأت . نظر ـ بتلقائية ـ إلى النافذة المقابلة

لكن الظلمة جاوزت .. تابع تلقيها صرير الباب . نورها ..ن حلكتها إغالق األبواب والنوافذرمادية الغروب ، عمق م

قادته من رسغه ، فأدرك أنها قد وصلت إلى الحجرة ..ا التى تعرفها جيد

لم يعد ترددها على البيت تخمينا ، وربما فاته ـ أثناء ..رقابته الصارمة ـ أنها تقيم فيه بصورة ثابتة

فى اللحظة التالية ، فاجأته ـ فى أعلى كتفه ـ بضربة عاجلت . مد أصابعه يريد دفعها . صرخ متألما . قاسية

..؟هل تبصر فى الظالم . ، فأدمتها األصابع بضربة سريعة :عال الغضب بصوته ..ـ كيف تجرؤين ؟

:دون أن يزايلها الهدوء

..ـ أمرتنى أن أتصرف ..لماذا عرض األمر عليها ؟

شغلته الفكرة ، تملكته تماما ، فأنسته نتائج كان عليه أن شدت قميصه بأصابع . عاجلته ببصقة مألت وجهه . يتدبرها اض ، لتأكد أن لوال أنه هو الذى طلب وشرح وأف. متوترة

خاصمت : هذه هى صورة عالقاتها فى الحجرات المغلقة الهدوء ، وتعالى صوتها ، مازجته حشرجة غريبة ، كأنها

سرت القسوة حتى أطراف أصابعها ، قسوة مدمرة ، . تموت تضع جسده المتكور فى أيدى ، . التبالى أين ، والكيف

..وأقدام ، اآلالف من العفاريت والمردة له أن الشياطين ـ رغم الغضب ـ تراقصت ، أذه

وأطلقت أغنياتها المحمومة ، وباحت الطالسم بألغازها ، وتوالت الصرخات المنتشية ، وتداخلت األصوات ، وتالشت

..المسافات والحدود فتدرك إصراره . فكر أن يوجه الضربات كيفما اتفق

..لكن المفاجأة اجتذبته ، فطاوعها .. على الرفض دفعت رأسه . الت الضربات والصفعات والشتائم توتأرجحت . الحقت جسده الممدد بركالت موجعة . بقدمها

السفينة الرعناء وسط الطوفان ، ولثم الصياد قدمى عروس ..البحر ، وامتص الرضيع الحنان من صدر أمه

اطمأنت ـ بأصابع مدربة ـ إلى تحقق الرجفة المشتهاة سوت . سد ، وتواصل الصمت هدأ ـ من بعدها ـ الج.

..مالءتها ، ودفعت إليه ثيابه ..أمسكت برسغه ، وقادته إلى الخارج

:مد أصابعه إلى صوت معالجة يدها للباب المغلق ..ـ خذى بقية أجرك

:فى صوت تغلف بهمس البداية ..ـ الأريد شيئا

.. وابتلعتها العتمة

فى حضرة السلطـان نسينا أو أخطأنـاربنا التؤاخذنا إن

*** ياأيها الذين آمنوا . إن اهللا ومالئكته يصلون على النبى

صلوا عليه وسلموا تسليما ***

هل يالزم : كان فى سياحة ، عندما عانى التردد البرارى والقفار ، للتفرغ للطاعة واألذكار ، أو يرجع إلى

وصف له الناس .. ئن والديار لصحبة العلماء واألخيار ؟المداوكان الليل قد جاء ، فقال فى . وليا برأس جبل ، فصعد إليه

تناهى صوت الولى من . الأدخل عليه فى هذا الوقت : نفسه اللهم إن قوما سألوك أن تسخر لهم خلقك ، : داخل المغارة

وإنى أسألك اللهم . فسخرت لهم خلقك ، فرضوا منك بذلك قال . اعوجاج الخلق على ، حتى اليكون ملجئى إال إليك

يانفس ، أنظرى من أى بحر يغترف هذا : الشاذلى لنفسه فلما جاء الصباح ، دخل عليه ، فأخذته منه هيبة ، . الشيخ

أتشكو إلى : قال الشيخ .. ياسيدى ، كيف حالك ؟: وقال له شكو أنت من حر والتسليم ، كما تااهللا من برد الرض

وأما شكواك من . التدبيرواالختيار ، فقد ذقته ، وأنا اآلن فيه أخاف أن تشغلنى : برد الرضا والتسليم ، فلماذا أقول

: ياسيدى ، سمعتك البارحة تقول : قال . حالوتهما عن اهللا ؟اللهم إن قومك سألوك أن تسخر لهم خلقك ، فسخرت لهم

هم فإنى أسألك اعوجاج الخلق الل. خلقك ، فرضوا منك بذلك : فتبسم الشيخ ، وقال . على ، حتى ال يكون ملجئى إال إليك

أترى .. قل يارب ، كن لى .. عوض ماتقول سخر لى خلقك ..فما هذه الجنابة ؟.. إذا كان لك أيفوتك شئ ؟

أمضه اإلحساس بالوحدة ، وهو يستند إلى الجدار ، فى

متد أمامه فراغ الصحن إلى ي. جلسته طرف صحن الجامع األبواب الخارجية ، يتقاطع فى أروقة ، تصنعها األعمدة ،

شكلت تكوينات . اختلطت األنوار والظالل . والقناطر فوقها على األجسام الجالسة ، واألرض

انتحى الركن ، تحت واحدة من القباب األربع الصغيرة ..قبالة القبة المواجهة لضريح السلطان .

المئذنة ، والقباب ، والباحة الداخلية ، : الجامع ألف والعقود المجملة بالجفوت والصنج والخناصر ، والباب الرئيسى المطل على الميناء الشرقية ، والباب الملكى المفضى إلى السيالة ، وباب الضريح ، والمحراب ، والمنبر ، والميضة ، وتآلف الهمسات واألدعية والبكاء

يكنسن حوله . النسوة يطفن بالضريح . والنداءات والزغاريد يغرفن بأيديهن . يقبلنها . يستندن إلى مقصورته النحاسية .

..يضعنه داخل المالءات . من الهواء المحيط النوافذ . لم يكن يشعر ـ فى مجلسه ـ بحرارة النهار

يتآلف فى الصحن الواسع ، لطيفا ، . مالقف ينفذ منها الهواء ..ين إليه ، فال يغادر مجلسه حتى يؤذن للصالة يستك

!..حمادة بك ؟: همس لنفسه ، كأنه يستوثق لمحه يتسلل بعينيه إلى مشربية مسجد النساء الصغير ،

تأكد . تطل على صحن الجامع ، ساكنة فى الهدوء والظلمة مما خامره ، لما اختار الجلوس بالقرب من المنبر ، فى

. األتباع والمريدون وقصاد المقام . ن مواجهة ضريح السلطايلمسن الضريح ، فتنتقل . النسوة يطفن ، أو يجلسن ، حوله

يمسحنه بالمناديل والثياب ، ويمسحن . البركة إلى األيدى ..على رءوسهن ورءوس األطفال

تشاغل بتأمل األعمدة بقاعداتها الهائلة ، وتيجان البرونز ، والحافات المحالة بآيات ، والزخارف الجصية الرقيقة

القرآن ، مكتوبة بالخط الكوفى ، واأللوف من قطع الرخام ..الملونة ، المتعانقة فى تكوينات زخرفية

اليدرى إن . نودى لصالة المغرب ، فاختفى الرجل ..كان قد انتظم فى الصفوف ، أم غادر الجامع

فز ، واتجه ـ بخطوات مهرولة ـ إلى حيث وقف ..ب ، تحت المنبر أمين عز

:قال فى ود ـ أين أنت ياعلى ؟ :قال على الراكشى

..ـ موجود :استطرد

..ـ أصلى معظم األوقات فى أبو العباس :قال أمين عزب

..أنا أقضى يومى كله فى زاوية خطاب .. ـ كما تعلم

:ثم كالمتنبه ..ـ لماذا التأتى لزيارتى ؟

ية الباب المطل على ومد يده ، فصافحه ، ومضى ناح ..أضرحة األئمة اإلثنا عشر

لم يكن يملك وضع أمين عزب داخل إطار محدد ، فهو يؤم المصلين .. والتأكد إن كان يميل إلى الخير بالفعل

كان يحرص . فى زاوية خطاب ، ويلقى فيهم خطبة الجمعة على جلسة العصر أمام دكان الحاج محمد صبرة الحالق ،

ثم لزم زاوية خطاب ، . فى أبو العباس ودرس المغربربما سعى لحل . ينصت إلى شكايات الناس ، ويحاول حلها

مشكلة فى قسم الجمرك ، أو داخل الميناء ، أو حلقة السمك ..

. كان الناس يتحدثون عنه بالخير ، فهو متق فى نفسه اشتغل بأنواع المجاهدات من الصالة والصوم وقيام الليل

وكان على دراية بعلم . قرآن وكثرة التسبيح وتالوة الحافظا للقرآن الكريم ، . القراءات ، وبطريقة األداء والترتيل

ينشد القصائد . فهو اليلحن ، واليتلعثم ، وله صوت حسن وكان دائم التردد على مقابر . اإللهية وأناشيد التوحيد

غلبه اليحادث أحدا ، وي. العامود ، يمضى الساعات داخلها وربما ظل فى مكانه ، مستندا إلى . انشغال بما اليفصح عنه

..جدار حوش ، يعطى القراء والمتسولين جعل من اإلمام الشافعى مثال أعلى ، فهو يقسم الليل

الثلث األول للعلم ، والثانى للنوم ، والثالث : ثالثة أقسام ..للتهجد

سجاجيد : ت قدم لمساجد الحى الكثير من النذور والهباوكان يرتب . وحصرا وأدوات نظافة وكتبا وذبائح وطعاما

ألسر فقيرة إعانات شهرية ، وتكفل برعاية عدد من أيتام ..قدم لهم مايحتاجون إليه من طعام وثياب . الحى

صار بيته ـ على ناصية شارعى اسماعيل صبرى يلجأون . ورأس التين ـ مقصد المحتاجين من أبناء بحرى

..يعولون عليه فى حل مشكالتهم . ليه إمن عاداته فى رمضان ، أنه يعد المآدب الطيبة فى

يدعو إليها الخدم فى جوامع أبو العباس . زاوية خطاب وياقوت العرش والبوصيرى ونصر الدين وعلى تمراز ،

. تقتصر الدعوة عليهم . وبعض المساجد القريبة ، األخرى تبعونها بالحلوى ، والمشروبات ي. يأكلون الفتة باللحم

الساخنة ، والباردة ، ويؤدون صالتى المغرب والعشاء ، ربما قضوا الليل إلى السحور ، فى . وصالة التراويح

إنما هى وليدة اللحظة ، . حوارات بال خيط محدد يصلها ..وعفو الخاطر

وحين وهب حذاء جديدا لسيد الفران ، قال له عبد :احكا الرحمن الصاوى ض

ـ هل فعلت هذا لكى تطيل عمرك ؟ :وهو يدفع براحتيه أمامه ، كمن يتقى خطرا

!ـ أفعله حتى الأسير حافيا فى اآلخرة ويذكر أهالى . عرفت عنه أفعال الفتونة ، وإن أنكرها

بحرى آخر معاركه ، لما طرد أجنبيا من قهوة الزردونى ، ..فلم يعد إلى الحى ثانية

لشيخ عرفة األنصارى ، إمام جامع ياقوت أستاذه اكانت غرفته المطلة على ميدان األئمة . العرش حتى وفاته

اإلثنى عشر ، عامرة ـ دائما ـ بدفاتر العلم ، ودواوين ال يكاد يغادرها إال إلى قيام . الكتب ، والسائلين فى العلم

اليطيل الجلوس فى صحن . يؤم المصلين ، ويعود . الصالة يلقى . جامع إال فى الوقت بين صالتى المغرب والعشاء ال

دروسا مماثلة لدروس الشيخ طه مسعود إمام أبو العباس ، وإن اختلفت نوعية الدروس ، ونوعية األسئلة ، واألجوبة ،

قرأ القرآن على سبع روايات ، وقرأ الكتب . والمناقشات وحفظ وقرأ علم النجوم ،. على أربابها من مشايخ العلم

. قصائد الشعراء منذ الجاهليين إلى حافظ وشوقى والجارم واجتهد فى سائر العلوم ، حتى ذاع صيته خارج بحرى

واستشهد بأقواله وعلمه ، أئمة ووعاظ فى . واإلسكندرية . مساجد كفر الدوار والدلنجات وحوش عيسى ودمنهور مات روى الناس عن حياته وقائع كثيرة ، تدخل فى باب الكرا

وعرفوا عنه المقدرة الفائقة على المكاشفات ، . والخوارق قيل إنه كان يستطيع أن يتشكل بأشكال البشر . والشطح

والحيوان والطير والحشرات ، وأشكال أخرى لم يرها أحد ويستطيع أن يخترق الجدران ، ويخرج من حنفيات . من قبل

ـ بعينيه ـ المياه ، ويسكن باطن األرض ، ويشاهد المالئكة ويشاهد أرواح األنبياء ، ويسمع منهم أصواتا اليسمعها سواه

قصد مجلسه الكثير من العلماء والزهاد وأهل الصالح ، . كندرية ، ومن إلسبلغهم صيته وعلمه ، وفدوا إليه من أحياء ا

يأخذون عنه ، ويستمعون إليه ، . المدن والقرى المجاورة

، ويتيمنون برأيه ، ويعرفون ويلتمسون منه البركة والمدد أخص ماالحظه عليه مريدوه أنه يفهم . النجاح فى مشورته يفجؤهم بالسؤال عن خاطر يشغلهم ، أو . مايدور فى نفوسهم

ملكهم ، وبرع فى صرفهم إلى . كلمات يترددون فى نطقها الجهة التى يريدها ، وحملهم على تلبية أوامره بغير مناقشة

وكان يدفعهم إلى قراءة ورد ، قال إن . د والمراجعة والترديرددونه كل ليلة ، . منشئه هو الشيخ أبو الحسن الشاذلى

وكان . ويتلونه جماعة ، دون أن يتغيب عن تالوته أحد يشدد على ضرورة حضور مجالس الورد ، ال يتغيب إال

فإذا لم يقتنع الشيخ بسبب التغيب ، ربما طرد . لعذر قاهر له طريقته فى إلقاء . مجلسه ، فال يعود إليه المريد من

يبدأ بالبسملة والصالة على النبى ، بصوت هادئ ، . الخطبة ثم يعلو بصوته ، ويلونه ، فيرج صحن . ساكن القرار

إذا أخذته الجذبة ، خلع جبته ، وألقى عمامته ، . الجامع . وشق قميصه ، وراح يحرك جسمه فى ارتعاشات سريعة

اعتاد . قص ، وإن لم يكن مايفعله رقصا حقيقيا كأنه يرالناس رؤيته وهو يسير فى الشوارع واألسواق ، مريدوه فى

إذا سار . ركابه بالعشرات ، يهجرون أعمالهم التماسا لعلمه

فى الميدان ، أو فى الشوارع الجانبية ، تهافت عليه الناس ، ويرجون منه يقبلون يده ، . وتكاثروا عليه ، وسدوا طريقه

الدعوات ، وربما اكتفوا بمسح أكفهم فى ثيابه ، ويستعيرون سبحته لعالج األمراض ، يلفونها حول رءوسهم أو بطونهم ،

لما استشعر من . للشفاء من الصداع والصرع وآالم المعدة نفسه قلة الجهد ، والميل إلى التعب ، لزم بيته ، فلم يعد

. وده األصدقاء والمريدون وطالت مدة رقاده ، يع. يغادره اكتفى بتسلم راتبه ، دون النسبة المخصصة له من صندوق

قال إن رعايته واجب وزارة األوقاف ، لكن حصيلة . النذور صندوق النذور أولى بها اإلمام الذى حل محله ، وخدم

ثم فاجأ أبناء الحى عندما قدم للوزارة طلبا . الجامع ئل والعرائض إلى الوزارة ، وتعددت الرسا. باالستعفاء

لما طالت مدة المرض ، رأت الوزارة . ترفض قبول الطلب . أنه من األوفق أن يعفى من اإلمامة ، ويثبت اإلمام المؤقت

وانتهى الشد والجذب . زادت العرائض ، ترفض التغيير حين استيقظ الرجل ذات صباح ، فطلب كوب ماء ، بل ريقه

تخاطف المصلون وضوءه ، . ت بقطرات منه ، ثم مافشربوا ، ورطبوا وجوههم ، وتبركوا بلمس شفاههم للقلة

وروى أن عشرات . التى شرب منها ، وإن فرغ ماؤها الطيور ، ذات األلوان المختلفة ، رفرفت فوق جنازته ، منذ بدأت سيرها ـ بعد أداء الصالة على الجثمان فى جامع

..العامود براهيم ـ إلى مقابر إالشيخ أخذ أمين عزب على نفسه عهدا ـ بعد وفاة الشيخ عرفة األنصارى ـ أن يأخذ نفسه بسيرته ، ويحفظ أحكامه ورسائله ، ويخاطب الناس بتواضع ، اعتادوا من الشيخ أن

..يخاطبهم به لم يجلس للوعظ والتفسير ، إال بعد أن حفظ القرآن

تبه شراح األئمة والحديث ، ودرس الفقه واألصول ، وماكعنى بمختلف العلوم اإلنسانية على منهج الكتاب . األربعة قرأ تاريخ الصحابة والتابعين وتابعى التابعين . والسنة

. واألئمة األربعة ، وغيرهم من أئمة السلف ، والمحدثين أجاد . تكاملت معارفه فى علوم الشريعة والطريقة والحقيقة

وتوصل إلى . ضها ، وأدواءها تعلم آفات النفوس ، وأمراوقيل إنه صنف . الكثير مما يفيد الناس ، ويصلح أحوالهم

قصر قراءة أصولها . كتبا كثيرة ، وإن لم يحاول طباعتها

على المقربين من أصدقائه ، يفيدون مما بها ، ويناقشونه فيه ..

يؤم فيها . اختار زاوية خطاب فى أول المسافرخانة يفتى . يقضى غالب وقته داخل الزاوية . ا المصلين احتساب

بما غمض على المصلين من أمور دينهم ، ويقضى فى شئون دنياهم ، يشرح لهم حقيقة التوحيد والتنزيه ، ومعانى آيات القرآن والطاعات والمعاصى والنية والقضاء والقدر والموت والقيامة والحساب والميزان ، يروى لهم سير

..ة والتابعين الرسول والصحابصحب . لم تقتصر دروسه على زاوية خطاب

يتحلقون حوله فى . المترددين عليه إلى سراى رأس التين يسألون ويجيب ، . الحديقة الواسعة ، كحدوة حصان هائلة

حتى ماكانوا يخفونه داخل . يناقشهم فيما قد يغمض عليهم ..حجرات النوم ، اعتادوا مصارحته به ، وطلب النصيحة

ضبط . أفتى للولد سمير بجواز االستمناء لضرورة أشفق . خميس شعبان ابنه وهو مشغول باستحالب اللذة

..الرجل لهيئة الفزع فى وجه الولد :قال سمير فى خوف

..ـ الشيخ أمين عزب أذن لى :هتف خميس شعبان

..ـ إنها مضيعة للدين والصحة :وهو يخفى نفسه براحتيه

..أذن لى ـ أقسم أنه :رزع باب الحمام فى وجه الولد !ـ سيرافقك فى النار بإذن اهللا

:قال أمين عزب للولد ..ـ أبوك يخاف عليك

..ـ طلبت نصيحتك ، فأذنت لى :ضحك أمين عزب ، فظهر التسوس فى أضراسه

..ـ أفتيت بالضرورة ، وليس بهد الحيل : وتأمل الولد

يزوجك ؟ـ لماذا التطلب من أبيك أنـ أنا أعمل فى ورش البالنسات ألصرف على نفسى

.. ـ فلماذا التتزوج ؟

:خرجت الكلمات مبحوحة

..ـ ماأحصل عليه يكفى بالكاد للمساعدة فى البيت :وهو يحيطه بنظرة مشفقة

..وأقم مع أسرتك .. ـ تزوج :قال الولد بلهفة

..فلماذا التكلمه ؟.. ـ أبى من أصدقائك *** يذكر إن كان الشيخ قد بدأ الكالم ، أم أنه هو الذى ال

أجاب على . لكن الرجل عقب على مالحظات أبداها . بدأ شرق . بدا ودودا ، طيبا ، فاطمأن اليه . أسئلة شغلته

تالصق كتفاهما فى الصالة ، وتصافحا ، . الحديث وغرب !تقبل اهللا : وهمسا بالقول

تصافحا فى أول الطريق إلى . ا الجامع معا غادر ..السيالة ، وافترقا

شده . تعددت ـ فيما بعد ـ لقاءاتهما ، داخل الجامع . إليه الطيبة ، والزهد ، والتقيد بمظاهر الكتاب والسنة . اعترف له بكل مايثقل ضميره ، وينغص عليه أيامه

جامع يمضى الشيخ ناحية . يفترقان أسفل درجات السلم ..ياقوت العرش

قهوة : ناقش تردده فى أى األماكن يذهب إليها الزردونى ، أم شاطئ الكورنيش ، أم يشارك فى حلقات

..الذكر ؟. روى للشيخ ـ فى ضيقه ـ عن قسوة الحاج قنديل

قال . عاب عليه اإلمام استغاثته . لجأ إلى الشيخ طه مسعود : وتساءل فى عجب . الى إن االستغاثة التكون إال باهللا تع:

هل يستغيث الغريق .. هل يستغيث المخلوق بالمخلوق ؟ ..بالغريق ؟

:قال على الراكشى !فكلمه .. ـ إنه يجعل لك خاطرا

: قال اإلمام ..فعاب عليك تكاسلك .. ـ كلمته

..وكن ثالثنا .. ـ اجمعنى به :وهو يعبر بيديه عن قلة الحيلة

فلن أجد .. فى التوفيق بين الناس ـ لو أنى أنفقت وقتى !..وقتا إلمامة المصلين

تسلل وراء عباس الخوالقة فى صعوده ـ آخر الليل ـ نزل بكلمات الرجل المواسية ، واعتذاره بأنه . إلى شقته

يشق عليه إتاحة العمل فى بالنساته ، لمن أشاح الحاج قنديل ..فى وجوههم بيده

يا الحاج قنديل وعباس يح. مشايخ الصيادين سبعة يشرفان على كل . يجلسان فى الحلقة . الخوالقة فى بحرى

السلف ، والتموين ، : رحلة ، منذ اإلعداد لها ، حتى العودة الصبيان للخدمة ، والموظفون لتسجيل . والفصال ، والبيع

..الحسابات . شكلت الحلقة جزءا من تجارة المعلمين اآلخرين

ا للموظفين ، اليترددون على بحرى إال تركوا العمل فيهلضرورة ، إلنهاء خالف مع مصلحة المصايد ، أو مع السواحل ، أو لالطمئنان على بالنس غيبه البحر ، أو إلنزال

بالنس جديد ، تم بناؤه فى ورش المراكب :قال الرجل فى لهجته المواسية

من يترك معلما ، .. على ـ هذه أصول المهنة يا ..عمل عند اآلخرين ؟الي

:قال الشيخ اسمك ؟ ما.. ـ اسمى يوسف بدوى

:فى لهفة

..على الراكشى .. ـ على بدا . مال الشيخ برأسه على صدره ، وأغمض عينيه

أنه أطال التفكير حين رفع رأسه ، وقال فى كلمات واضحة :النبرات

..إن اهللا إذا أحب عبدا ، ابتاله .. ـ ياعلى :وته بصدق مشاعره وتهدج ص

..ـ هذا البالء فيه تكفير لذنوب سبقت منك :واحتضنه بنظرة مشفقة

..ـ عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم :وقال

ـ قد يهبك اهللا ماتشتهيه نفسك ، فيمنعك عن األنس ..بحضرته

:صبعه محذرا إثم وهو يهز ..ـ أنت تعانى الموت األحمر

:ة أردف لنظرته المتسائل ..ـ إنه احتمال أذى الناس

:ووضع يده ـ بود ـ على كتفه

ـ العبد الراضى هو الذى يسر للمصيبة كما يسر للنعمة ..

: وفاضت عيناه بما احتوى الراكشى ـ على العبد أن يستسلم لحكم اهللا تعالى فيما قضاه ،

..حتى يحدث اهللا بعد ذلك أمرا :وقال

إنه . لك عنه خير أو شر اليشغ.. ـ بادر إلى اهللا ..ملجأك ومالذك

: وسأله أن يرضى عنك شيخ الصيادين ، : ـ أيهما أحب إليك ..أم تأنس بحضرة اهللا ؟

:وأطال النظر إليه ، كأنه يتأكد من فهمه ـ إن حل بك اليأس ، وتغلب عليك الطريق ، فقد

!..خسرت ***

األمانى واألشواق ، وامتأل توالت األسئلة ، وتفجرتالقلب بالوجد ، واستشرفت النظرات آفاقا النهائية من

.األحوال الغريبة ، والمكاشفات التى التخطر ببال

متى يأذن اللــه ؟ ل بذكـره عقـد النوائب والشدائـدـمن تح يا وإليـه أمـر الخلق عائـدىن إليه الملتجـم يا

د تنـزه عـن فوائـدمـح يـوم ياياحى ياق أنت العليـم بما بليت وأنت عليـه شاهـد

اد وأنت فى الملكوت واحدـأنت الرقيب على العب من له حسن العوائـد يا.. فرج بفضلك كربتى

*** مالى أرى الناس يعظمونك ، : قال رجل ألبو الحسن بسنة واحدة : الشاذلى قال .. ولم أر لك كبير عمل ؟

قال . وماهى ؟: قال . افترضها اهللا على رسوله تمسكت بها !اإلعراض عنكم ، وعن دنياكم : الشاذلى

*** على . الباب الخشبى الكبير ، يفضى إلى فناء فسيح

وتناثر فى الزوايا . جانبيه غرف ، أبوابها بضلفة واحدة

كل القوارب القديمة مشنات السمك وقطع الفلين واألسفنج وهيا ..وعلقت ـ فى السقف ـ شباك الصيد .

فى نهاية الفناء ، نقر ـ بتأدب ـ على باب الحجرة ..المغلقة

سرير : فى ضوء اللمبة الخافت -ظهرت الحجرة صغير ، وثالثة مقاعد ، وترابيزة عليها كتب وأوراق ، ومرآة ، وإناء للشرب ، وأدوات لعمل الشاى ، ووابور

وافترشت األرض ـ أمام السرير ـ حصيرة . موس بري ..متآكلة

:قال الشيخ يوسف بدوى بلهجة معتذرة ..ـ هذا أهون من السكنى مع آخرين

:أضاف للدهشة فى عينيه !..ـ المفروض أن هذه غرفة مفروشة

جلسوا على طرف السرير ، . كان قد سبقه آخرون عدا فى مواجهة وعلى مقعدين من الثالثة ، وتركوا له مق

قدمه إليهم ، وقدمهم . أعمارهم التجاوز العشرين . الباب شغله الحرج عن تذكر األسماء ، وإن عرف أنهم . إليه

عمال شحن فى الميناء ، وطالب فى المعهد الدينى

:قال الشيخ ..ـ عليك بالمراقبة والمشاهدة والمعرفة

، كل ألف التردد على بيت الرجل ، عقب صالة العشاءينقص ، . يزيد عدد الجالسين ، فيبلغ أربعة . يوم خميس . يصعب ـ لضيق الغرفة ـ أن تسع المزيد . فيبلغ ثالثة

أباح لهم مجلسه ، يقرأ عليهم ، ويناقشهم ، ويجيب عن ..أسئلتهم

حرص ـ بتوجيه الشيخ ـ على اتباع الطاعات ، وأداء ل وضوء الفرائض والسنن ، وركعتى الضحى ، وبعد ك

وشغل وقته بالتهجد ، وتالوة القرآن ، وقراءة . ركعتين األوراد ، والذكر ، ومجاهدة النفس ، واالشتغال باهللا ، وترك ماسواه ، والجلوس إلى الشيخ ، يسأله فيما يغمض عليه من

ربما مضى إلى بيت الشيخ ـ فى غير . أمور العبادات يعانيه ، أو يشغله يكلمه فيما . موعد ـ إذا أشكل عليه شىء

ينصت الشيخ باهتمام ، يناقشه ، يرد على أسئلته ، يأمره . ..، ينهاه ، يشير عليه بما ينبغى اتباعه

همس فى لهجة . الحظ تأثره مما يتعبه فى الحلقة :مترفقة

كلما سقطت من عين الخلق ، : ـ قال بعض العارفين ..عظمت فى عين الحق

:وقال . جك بالزهد فيها ، واالشتغال باهللا عنها ـ اقض حوائ

اليشغلك أمرمن أمور . قل اهللا اهللا فى كل أوقاتك : وقال : وقال . الدنيا عن هذا الذكر ، حتى لو كان موت أبويك

متى أرضيت إحداهما ، أسخطت .. الدنيا واآلخرة ضرتان : وقال . حب اهللا وحب الدنيا اليجتمعان : وقال . األخرى وكان أشد الناس . اينزل بك من هذه األمور نعم كبيرة كل م

إن لم تنل حقك فى الدنيا ، فهو : وقال . بالء هم األنبياء ليست الطهارة مجرد غسل : وقال . محفوظ فى السماء

طهر باطن : وقال له بعد أيام . الظاهر ، دون تطهير الباطن ..الجوارح من المعاصى واآلثام

:ت مساء ، قال الشيخ فلما قدم عليه ذا ..ـ طهر القلب من األخالق المذمومة

:ثم وهو يهز أصبعه فى تأكيد ..ـ هذه درجة أخرى ، مطلوبة

***

مضت أسابيع ، ازداد فيها تقربه إلى الشيخ يوسف سأل ، وناقش ، واستفسر ، وتعلم معارف كانت . بدوى

..غائبة عنه :له الشيخ ثم قال

طهر السر عن كل .. ـ عليك بدرجة خواص الخواص !شئ ، سوى اهللا

بداية . عرف أن التطهير بداية الطريق إلى اهللا . المجاهدات ، والمقامات ، واألحوال ، ومعرفة اهللا سبحانه

تطهير الباطن من القبائح ، يلحق المرء باألئمة واألوتاد السالك . واريين والرجبيين واألبدال والنقباء والنجباء والح

هو السائر إلى اهللا ، المتوسط بين المريد والمنتهى مادام فى ..السير

:وقال له الشيخ فى جلسة تالية ـ عندما تستقبل القبلة ، اصرف همك عن كل شئ ،

..لتتوجه إلى اهللا :وقال

ـ حين تنوى الصالة ، فأنت تعنى عزمك على االمتثال وحين تكبر ، فإن ذلك معناه األ . لمعاصى هللا ، والكف عن ا

..يكون فى قلبك شئ أكبر من اهللا اإلسالم : تعلم أول آداب الحضور مع اهللا ، وبين يديه

له ، والرضا بحكمه ، وعدم الضيق به ، وعدم الرغبة فى تغيير مافيه اإلنسان من وضع ، وأن يملك نفسه من الفضول

ال يرى ألحد فى قلبه حسدا والغيبة والنميمة والكذب ، وأوالعداوة ، وأن يفارق إخوان السوء ، وصحبة المعصية ، ويكون مستعدا للموت ، مستغفرا من ذنوبه ، مجتهدا فى

..طاعة اهللا قد يلمحه قاسم الغريانى ، أو . قل تردده على القهاوى

حمودة هلول ، أو خميس شعبان ، فى طريقه من الحلقة إلى اليفطن إلى جزيرته . يدعوه ، فيلبى الدعوة . س أبو العبا

المنعزلة ، وسط نداءات المشاريب ، وصيحات لعب يستعيد كلمات الشيخ يوسف بدوى فى . الكوتشينة والطاولة

يتظاهر . الليالى السابقة ، ومايعتزم سؤاله عنه هذه الليلة هو انشغاله . اليتحدث عما يشغله . باإلنصات والمتابعة

..ى ، الشأن لآلخرين به الشخص

..زار الشيخ فى زاوية األعرج :غالب تردده

..ـ من هو األعرج صاحب الزاوية ؟ :قال يوسف بدوى

الولى الجليل عبد الرحمن بن ـ كما أعلم ، فإنه ..هرمز

ـ ومسجده بشارع رأس التين ؟أما الزاوية فكما ترى ، .. ـ المسجد به ضريح الشيخ

..ليس بها ضريح يؤذن للصالة ، يقرأ القرآن : الحظ أنه يقوم بكل العمل

، يؤم المصلين ، يقضى أوقات مابين الصلوات فى الجلوس إذا غاب عن الزاوية ، فلصالة العشاء فى أبو . إلى مريديه

. العباس ، قبل أن يمضى إلى بيته ، فى شارع ابن وقيع ة القرآن ، يمضى بقية الليل فى استقبال المريدين ، أو تالو

ربما غاب ـ لساعات ـ عن نفسه ، . وقراءة األحاديث ولم يكن يسأل مريديه عن أحوالهم ، . فيظل صامتا ، اليتكلم

..وإنما يحدثهم عما يفاجأون بأنه يعرفه ، وينصح ، ويوجه

كان يعرف مواعيد الصالة ، دون رجوع إلى ساعة ، . ن سؤال ينهض دون أن ينظر إلى شئ ، ودو. أو سؤال

يؤذن . يتجه إلى الميكروفون فى الجانب الغربى من الزاوية ينشد . اليؤخر لحظة ، واليقدم لحظة . للصالة فى موعدها

ـ قبل أن يؤذن للفجر ـ ألوانا من التراتيل والدعوات واالبتهاالت والتسابيح ، يمهد بها لألذان ، ويعد الناس أنفسهم

..للصالة تقى بإمام أبو العباس ـ يظهر الود كان الشيخ ـ إذا ال

واالحترام ، يطيل السالم والحديث ، يكثر من عبارات إذا . لكنه يتجنب مجالس اإلمام ، اليشارك فيها .. التفخيم

دخل الجامع ، اكتفى بإلقاء السالم ـ إن كانت حلقة اإلمام يؤديها ، . قائمة ـ وسعى إلى قرب المنبر ، فانتظر الصالة

ربما استوقفه أحد تالميذه ، ممن فتح لهم باب .وينصرف يمضى معه إلى خارج الجامع ، يستأنفان . قلبه ، وبيته

..حديثهما فى الطريق يتلقى منه ، يتربى . قر عزمه على أن يتأدب بالشيخ

أيقن أنه الأحد من كل المشايخ الذين جلسه إليهم . على يديه . النتفاع بعلمه فى جوامع الحى ، أجدر من يوسف بدوى ل

حتى أمين عزب نقل إليه ماقاله الحاج قنديل ، ثم نفض يده ..يتدخل بما اليؤثر فى صداقاته ، والمكانته . من األمر

. صار الشيخ حياته . استولت عليه سلطنة محبة الشيخ وجد عنده التعاطف ، والمشاركة ، والعناية ، واألمن ،

قال : لمعارف واإلفهام تلقى أسرار العلوم وا. والسكينة الشيخ ، زرت الشيخ فى بيته ، للشيخ رأى فى هذه المسألة ، نلتقى فى مجلس الشيخ ، ثالثة أيام غاب فيها الشيخ عن أبو

كأنه يعرف الشيخ من قبل البدء ، ويعرفه إلى .. العباس يطوف بباله وهو يختار أنسب المواقع لصيد . مابعد الختام

شروة من الحلقة ، يفاصل زبائن فى الطير ، يحصل على خط الرمل ، يضاجع أم األوالد ، يتلو القرآن ، ويطالع كتب

كان ـ يكتفى ـ عكس ما. الحديث والفقه والتفسير والسير بالتطلع إلى القهوة ، ويواصل السير إلى بيت الشيخ ، أو

..إلى بيته :سأل نفسه ، وهو يغادر بيت الشيخ ، ليلة

!فلمن تكون ؟.. ن الجنة لهذا الرجل ـ إن لم تك ***

اليتكلم بين . كان يحرص على التأدب فى مجلس الشيخ حتى لو رأى فى . يديه إال فى الضرورة ، واليقاطع كالمه

الكالم مايدعو للمناقشة ، كتم األمر فى نفسه ، اليبدى . يضمرعدم الموافقة معارضة ، أو مالحظة ، أو يلقى سؤاال

لنفوس ، يحمل زاد التقوى سار إلى اهللا فى منازل ا ..والطاعة

بدا له الشيخ جادا فى طلب الحق ، معرضا عن األنس غلب عليه التوكل . بالحق ، مستغرقا فى حب اهللا وخدمته

والسياحة والفتوة والزهد والتبتل واألفعال الظاهرة المحمودة اسه ، وتذهللا فى نفسه ، وزهده فى الحياة الحظ تقشفه فى لب.

، واإلعراض عن مباهجها ، والميل عن مطالب النفس ، عصمه اهللا عن . وشهوات الجسد ، ونزعات األرض

المخالفات ، وعن المعاصى والوساوس والهواجس والتعلق يصوم النهار ، ويقوم الليل ، ويؤثر الخلوة على . باألغيار

. ى الكالم ، والصيام على الشبع االجتماع ، والصمت علاعتاد السهر ، والصمت ، واعتزال الناس ، وإخماص

..البطن

قال زكى تعلب ، الطالب بالمعهد الدينى ، والشيخ فى :خلوة

يستطيع أن يحيا أسبوعا وأكثر بال .. ـ هو مثل الترسة ! طعام يدخل جوفه يهم ، أو يباسطهم ، أو يرفض التحدث إل. ألفوا أحواله يحصل له انجذاب إلهى ، يغيب عمن . اليحتمل وجودهم يفيق فيجد مريديه يحتضنونه بنظرات . حوله وعما حوله

..مشفقة يخالط اآلخرين ، يناقشهم ، . يحيا فى عالم غير العالم

يستمع إليهم ، ويجيب عن أسئلتهم ، لكنه ينطوى على حفظ علوم . مجاهداته وأشواقه ، يتبعها إلى حيث تقوده

زواهر األنباء ، . الطريقة ، أشرف العلوم وأنورها استوى عنده الرجاء ، . وزواهرالعلوم ، وزواهر الوصل

. والخوف ، والضعف ، والبسط ، والقبض ، والمدح ، والذم . سقط عنده اعتبار الناس ، فال يرى منهم ضرا والنفعا

: كان يقول و. وكان يراعى أنفاسه فى دخولها وخروجها أخاف إن وضعت فى القبر ، وسألنى منكر ونكير ، هل أقدر

اليراه إال من يتردد عليه فى . لزم داره . على جوابهما ؟

الزاوية ، أو فى البيت ، واليخرج إلى أبو العباس إال لصالة يحرص على أداء الصالة فى . العشاء ، أو صالة الجمعة

يختار . مواصلة الحقيقية أوقاتها ، هى كمال القرب والتنتهى الصالة . الصفوف األخيرة ، القريبة من الباب الملكى

. يدخل بيته . ، فينفذ إلى الميدان ، ومنه إلى شارع ابن وقيع اليفتح الباب إال إذا استخدم أحد . يتأكد من إغالق الرتاج

كان يعرف أسماء من . زواره السقاطة ، وأعلن اسمه يزمعون التحدث فيه ، اليسألهم ، وإنما ومايدخلون عليه ،

وكان يحفظ الكثير من أسماء . يلجأ إلى بصيرته وإدراكه أهل الحقائق واألصفياء واألولياء وأقوالهم وصفاتهم وبركاتهم ومكاشفاتهم ، يذكرها عفو الخاطر ، اليرجع إلى كتاب

..واليجهد ذاكرته خلوة ، لم يستطع ـ لضيق الشقة ـ أن يجعل لنفسه

يتأمل السماء . وإن أكثر من الطلوع إلى سطح البيت ..والقباب والمآذن ونهايات األفق فى الميناء الشرقية

ال مبدا لمريديه أنه يأوى إلى علمه ودينه ، فال أهل والحتى زاوية األعرج . ظاهر والمهنة أو وظيفة يتكسب منها

عن بلده ، ولم لم يتحدث . اليتقاضى مقابال إلمامته فيها

تردد عليه أقارب أو يظهر فى بيته زوجة والأبناء ، والظل الكثير من جوانب حياته فى . زوار من غير المريدين

يحاول هو كشفها ، أو يعرفها أحد ، وال ال. منطقة الظل كأنه يتعمد أن يكون غامضا ، وأن تكثر . حتى اإلشارة إليها

..جوبة من أى نوع تجد أ من حوله األسئلة التى القيل إنه ينفق من إيراد بيت قديم ، فى قبو المالح ،

وقيل إنه من مواليد . ورثه عن أبيه ، الذى ورثه عن جده له فيها سبعة أفدنة ، نصيبه من إرث أبيه ، . عزبة خورشيد

تنقل بين المدن والموالد والمشايخ والنقباء . يحيا على ريعها كر ، حتى استقر به المقام فى الطريقة والقراءات وحلقات الذ

الشاذلية ، فى المرسى أبو العباس والبوصيرى وياقوت العرش ، واألولياء الكثيرين ، يشغى بهم الحى ، فتختلف

..صورته عن بقية األحياء قال له . يأكل إال الفاكهة والنباتات عرف عنه أنه القلدك الناس فى كل إنى أدعو اهللا أن ي: شبيروا الجزار ، يوما

!..شئ ، ماعدا رفض أكل اللحم ، فهذا سيخرب بيتى لم . وكان يهمس باعتزازه أنه لم يغتسل عن جنابة

..عداها شغلته عبادة اهللا عن كل ما. يحتلم ، ولم يتزوج

يخطئ أو ينسى وال مع أنه كان يحفظ آيات القرآن ، ال وكان يطيل .يلحن ، فإنه كان يلتزم التالوة فى المصحف

ليست مجرد حركات وسكنات ، قيام وقعود ، تالوة . الصالة ورويت . إنما هى وقفة بين يدى اهللا . أقوال محددة ، وآيات

حكايات عن تزوده بأدوات وقدرات خارقة ، مؤيدا بقوى ..عليا تعينه ، وتساعده

لم يحدث مريديه عمن أخذ العهد ، وإن روى أنه أخذ أبو الحسن الشاذلى فى المنام ، أهمل من العهد على سيدنا

وقيل إنه أخذ العهد على . بعد ذلك دنياه ، وانشغل باآلخرة عال صوت ابو العباس من داخل القبر . السلطان فى قبره

ثم قرأ البسملة ، وقل هو اهللا أحد . بعبارات ، رددها الرجل . أصبح ـ من يومها ـ كما أراد لنفسه . ، وآية الكرسى

استمد . ل من السلطان معراجه وسلمه إلى دنيا التصوف جع. سره منه ، واستلهمه الوالية ، واستعان به على تبدل حياته

يتردد على الجامع إال ألداء صالة العشاء ، لزم الخلوة ، التعرف ـ بين المصلين ـ إلى من . وقراءة الفاتحة للسلطان

..ته توسم فيه صالحية الريادة ، فدعاه إلى بي

لم يبدأ فى إرشاد مريديه ، وسلوك طريق الحق بهم ، درس الفقه . إال بعد أن عرف المخاوف والمهالك والحدود

والكالم واألصول على أيدى أساتذة المعهد الدينى بالمسافرخانة ، وإن لم يلتحق ـ ذات يوم ـ بالدراسة

ن اقتصر فراغ وقته ـ أو كاد ـ على تالوة القرآ. المنتظمة ، ودراسته ، ودراسة الحديث والفقه ، وحضور مجالس

أحكم معرفة آيات القرآن ، ناسخه . الذكر اتالوعظ وحلق. ومنسوخه ، محكمه ومتشابهه ، مكيه ومدنيه ، وفهم تفسيره

حفظ األسماء السبعة األول ، . وعرف الروايات واألصول در ، الحى ، العالم ، المريد ، القا: فصول األسماء كلها

حفظ الكثير من األحاديث . السميع ، البصير ، المتكلم الشريفة ، واألدعية النبوية ، والسير المضيئة ، وأدعية الصحابة والتابعين واألولياء والصالحين ، واألذكار الشرعية

وتفقه فى . على اختالف مراتبها ، وأوراد وأحزاب أهل اهللا فضة والجهمية قواعد أهل السنة ومشايخ الصوفية الرا

عرف االختالفات فى . والشيعة والمعتزلة والقدرية والمشبهة وتعلم الصرف والنحو والمعانى . أسس العقيدة والتوحيد

والبيان والعروض والمنطق والحساب فى حدود المسائل

ثم نذر نفسه لدل السالكين على سبيل العروج إلى . الشرعية إلى منارات طريق اآلخرة الخالق ، وإرشاد التائبين التائهين

ينصح بمجاهدات ورياضات وأوراد وأذكار وأعمال ، . يسأل المريدون ويجيب ، . تزكى نفسه ، تطهرها من أدرانها

يقرءون القرآن ، يفسر لهم الشيخ آياته ، يستنبط منها األحكام يروى لهم أحاديث الرسول ، ومآثر آل البيت ، وقصص .

تقتصر أحاديثه فى الدين ، ال. بعين الصحابة واألولياء والتااليتكلم إال همسا ، لغلبة تجلى . يجاوزها إلى أحاديث أخرى

الفيوض اإللهية فى أحواله ، والغالب على طبعه البسط يعروه صمت ، فيعرف . والتبسم ولين الجانب والشفقة

ربما فز من مجلسه ، . مريدوه أنه يتأمل فى اهللا وصنعته فعله هو يثق المريدون أن ما. ة دون موعد وكبر للصال

إذا رفع رأسه . بعض سر الصلة بينه وبين الملكوت اإللهى من السجود ، بدت الدموع على األرض موضع الرأس ،

يطفئ . يلجأ إلى غرفته ، أحيانا . كأنها البركة الصغيرة يأذن بتسلل ضوء ال. النور ، ويحكم إغالق الباب والنافذة

يلزم المريدون . أو األنوار الباهتة من الحارة الخلفية القمر ،تصل إليهم كلماته المتسائلة ، واآلمرة ، . أماكنهم فى الخارج

فيعرفون أنه قد خال فى حجرته المظلمة إلى قوى ال ..يناقشها ، ويصدر إليها أوامره . عرفونها ي

قصده فى زاوية . اتسعت دائرة تالميذه ومريديه . ق كثيرون من أهل بحرى واألحياء المجاورة األعرج خل

غالبيتهم من الصيادين والعمال والباعة السريحة وأصحاب من يترددون فى إلقاء األسئلة بمجلس الشيخ طه . الحرف

مسعود إمام أبو العباس ، أو أن اإلمام يهمل اإلجابة على يجلس حيث . يختار لنفسه موضع الصدارة ال. أسئلتهم

وندواته ـ فى األغلب ـ على صورة . المكان ينتهى به يحرص أن يخدم زائريه ، أصدقاءه ومريديه وتالميذه . حلقة

. يتصاغر لما يفد على ألسنتهم من آراء تفد عفو الخاطر . يرفض اإلجابة ، إن تضمنت الكلمات يبدى تأففا ، وال ال

يشتط به ال. سؤاال ، ويتواضع باشا فى وجوه محدثيه يعلو صوته بعبارة محذرة ، وإن لم يكن يأذن ب ، والالغض

لمريد أن يبصق فى مجلسه ، أو يدخن سيجارة ، أو يضع ..رجال على رجل ، أو يجلس فى وضع الالمباالة

له آراؤه فى الحقيقة المحمدية ، . أضاء نفوسهم بكلماته وأهل البيت ، واألولياء ، والمعجزات ، والكرامات ،

، والزيارة الشرعية ، وفى علم الكالم ، وآراء واالستغاثة الفالسفة ، وشطحات الصوفية ، واجتهادات الطوائف والفرق

.. اشتهر بمعرفته باألصول والفروع والعربية واللغة والتفسير والقراءات ، وبتفوقه فى علم الحديث ، سواء فى التاريخ ، أو فى اإلسناد والنسخ والتصحيح والضبط ، وفى

..ظ األلقاب واألسماء والكنى حفتركزت كلماته فى الدعوة إلى الزهد ومخالفة النفس والندم واالستغفار ، والعمل بآيات القرآن ، واالقتداء بسنة الرسول ، وأكل الحالل ، وكف األذى ، واجتناب اآلثام ،

..والتوبة ، وأداء الحقوق تحدث عن اإلخالص ، والصدق ، والتوكل ، والزهد ،

والورع ، والرضا ، والتسليم ، والمحبة ، والفناء ، والبقاء ، والذات ، والصفات ، والقدرة ، والحكمة ، والروحانية ،

..والبشرية ، ومعرفة حقيقة الحال ، ومقامات أهل الوالية الحسد ، والكبر ، : دعا إلى التخلص من معايب الدنيا

اسة ، وهم الرزق وحب الجاه ، والسيطرة ، والرغبة فى الرئ، وخوف الفقر ، وخوف القلب من الثقة فى اهللا وعطاياه

وقسمته لألرزاق ، وخوف انخفاض المنزلة عند الناس ، والشح ، والبخل ، وطول األمل فى قادم األيام ، والغل ، والغش ، والمباهاة ، والتفاخر ، والمداهنة ، والطيش ،

..وضيق الصدر ، والخوض فيما اليعنى . الينطق بالرأى إال قبل أن يتدبره . كان يتروى

..ويختار الكلمات التى تعبر عن المعنى جيدا لم يبالغ فى شروطه كمشايخ آخرين ، فيأخذ على مريده أال يبقى له تصرف فى ماله والزوجته والنفسه ، إنما

تحددت شروطه ـ اليجاوزها المريد . التصرف كله للشيخ ..والسنن واألوراد واألحزاب والطهارة ـ فى الفرائض

إنما هو من أخذت .. نه مـ ليس شيخك من سمعت فهل اكتفيت بالسماع من إمام أبو العباس ، أو أخذت .. عنه

..عنه ماقاله ؟ :قال زكى تعلب

..ـ لم أجد فيما قاله مايغرينى بأخذه :قال الشيخ

..هو ليس شيخك .. ـ إذن :لمات ثم وهو يضغط على الك

ونحن فى حاجة إلى . ـ شيخنا يتحدث عن المبصرات ..أحاديث البصائر

:وخالط صوته تأثر ..يحبون أن يسمعوه ـ شيخنا يقول للناس ما

:وجال بعينيه فى الملتفين حوله ..تفيدهم معرفته ـ أنا أفضل أن يعرفوا ما

:قال زكى تعلب !..ـ إنه يظن أن اهللا يسكن جبته

:يق أظهر الضالأحب أن نتحدث عنه بتحقير .. ـ موالنا عالم جليل

.. :وقال لعلى الراكشى ، وهو يودعه ، ليلة

. وهو اليوجد إال فى البحر .. ـ الحقيقة مثل اللؤلؤ والسفينة اسمها .. ولن تصل إلى ذلك البحر إال بالسفينة

..التصوف :وقال له فى ليلة تالية

..ال ولزوم األدب ـ التصوف مراقبة األحو :وفاجأه ـ ليلة ـ بالسؤال

ـ ألست مسلما ؟ :قال الراكشى

..ـ طبعا :قال يوسف بدوى

اتبع . ـ التصوف من اإلسالم كأنه الروح من الجسد ..شيخك يصح إيمانك

:ثم فى لهجة مشجعة فستصل بعون اهللا .. ـ إذا ترقيت فى مقامات اإليمان

.. عبد اهللا كأنك تراه إلى مقام اإلحسان ، فت :قال الراكشى

ـ وهل هذا آخر المقامات ؟ـ إنه مقام العارفين ، الواصلين ، المكرمين بأنوار اهللا

..وأسراره مع أنه أفاد من دروس إمام أبو العباس ، استوعب منها مااستطاع ، فإن كلمات الشيخ قادته إلى دنيا مغايرة من

كشف له عن تلقى . واألسرار القراءات واألدعية والغوامض علمه ماينبغى أن يكون عليه المتلقى من . العلوم اإللهية

عالم . اإلستعدادات وأداب األخذ والعطاء ، والقبض والبسط

يحفل بالنورانية والرؤى والصفاء . لم تطأه قدماه من قبل ..واألغنيات الجميلة ، الغائبة المصدر : قال لما اطمأن إلى إخالص انتباهه ،

عليك أن .. ـ قبل أن تواصل سيرك فى الطريق !تطمئن إلى علمك أوال :استطرد موضحا

..ـ العلم هو أول مافرضه اهللا على عباده ***

دفع إليه ، وهو يودعه ـ ذات مساء ـ بمظروف كبير :الحجم

..أتركها عندك وديعة .. ـ هذه األوراق :غلبته الدهشة ـ لماذا ؟

..ثم أعدها .. ـ اقرأ مابها :أظهر القلق

..ـ لست متعلما بما يكفى :حدجه بنظرة مترفقة

..ـ قلت إنك تعلمت إلى االبتدائية

:ثم وهو يربت كتفه !.سلنى عنه .. ـ مايصعب عليك فهمه

رأى الحاج قنديل ـ فى الليلة نفسها ـ يغادر نقطة ..األنفوشى ..تبعه أسرع فى . د فى فمه كلمات االعتذار والمصالحة أع

خطواته ، بحيث إذا نادى على الحاج سمعه ، لكن قدميه .أبطأتا ، حتى مضى الحاج فى قلب السيالة

حقيقة ماجرى للصيـاد جمعة العدوى لكن الزميل الحبيب جمعة . الموت على رقاب العباد

ان من الصعب إنقاذه وك. العدوى ـ فى الحقيقة ـ لم يمت .. من األيدى التى احتضنته ، وغابت به داخل البحر

..ورأيناها ..لذلك تفاصيل كثيرة

:صورة لما يجرى فى بداية كل رحلة هكذا تقضى . الجد السخاوى يصعد إلى البالنس أوال

عجوز ، يهمل قص أظافره ، أو مداواة جروحه ، . األصول ..فالقبر يخفى كل شئ

:ح بيده للمالحظة يشي !..اليكون لذلك أهمية .. ـ عندما نكبر

:يعلو حاجبا حمودة هلول بالدهشة !..ـ هل الكبر هو انتظار الموت ؟

:وهو يغمض عينيه فى سرحة

لكن العناية .. ـ إنى أركب البحر ، وأنفق على نفسى بتلك األمور ـ يعبر بيديه ـ تختلف عن عنايتنا بها حين

.. نكون شبابا. تقدم السن باد عليه ، وإن صعب عليه تحديد عمره

التجاعيد تعرجات فى وجهه ، وأجفانه ضاقت على عينين ..غاب التماعهما

أبناء جيله ماتوا ، واآلخرون . أحد يتذكر طفولته اللم يتعلم سوى حروف الهجاء ، . وعوا عليه وهو عجوز

ات من القرآن وكيفية وصلها ، وقواعد الجمع والطرح ، وآي، يحتفظ بكمية طيبة من األمثال والحكم واأللغاز والحواديت

يعرف باألنساب ، وأسماء الرجال ، فى . والحكايات الجميلة عرفهن قبل أن . السيالة وماحولها ، وغالبية أسماء النساء

إذا قادته خطواته فى . يكبرن ، ويتزوجن ، ويلدن األبناء يه النسوة من النوافذ وأبواب حوارى السيالة ، نادى عل

ربما استوقفته واحدة فى الطريق ، وشكت له . البيوت قد يبادر بالسؤال عن الزوج الغائب ، أو . معاملة زوجها

يرد على الدعابة بما تسعفه بديهته ، . صحة االبن المريض يزوره الرجال ، يسألونه . ويبذل النصيحة عن طيب خاطر

حتى الذى تهجر . شكالتهم اليومية ، يناقشونه ، يعرضون م .. امرأته فراشه ، يشكو له همه

. ابنته الوحيدة ـ كبرى أبنائه ـ جدة لبنين وبنات األول تاجر منيفاتورة . اوالده الثالثة اختاروا مهنا مغايرة

بشارع الميدان ، والثانى عرضحالجى أمام سراى الحقانية ، ت زوجته البقاء ـ أليام ـ اعتاد. والثالث سائق بترام الرمل

فى الشقة المطلة على زاوية الزواوى ، وإن تردد عليها معظم ساعات النهار ، سيدات من الحى ، ينظفن لها البيت ـ فهى مريضة ـ ويجهزن الطعام ، ويغسلن الثياب ،

. ويمألن القلل ، ويبخرنها ، ويقضين حاجياتها من السوق وى ، وألنها طيبة ، سهلة يحببنها ألنها زوجة الجد السخا

..العشرة يحتضن النفس ـ وأشعة الشمس ـ . يغادر جلسته ال

يؤمن . ينزع غطاء رأسه قبل أن ينام . بقبضتين التفتران ..بفائدة الشمس للجسم ، اليخشى منها حتى على رأسه

:يرنو إلى السماء بنظرة ممتنة أشكوه إلى الشمس لحظة.. ـ عندما يضايقنى أى شئ

..طلوعها ، فتهدأ نفسى

:يضيف بلهجته الطيبة !أحسست بالغربة .. ـ إذا غابت الشمس

يتصور أنها ال. كأنه مسكون بانجذاب نحو الشمس ربما وجد . يراها كيانا وروحا وعقال . مجرد كائن جامد

يكلمها بما يفد إلى ذهنه . نفسه مستغرقا فى التحدث إليها اليعنيه إن الحظ من حوله ، أو . ولسانه ، ويشكو همه

يحب الشمس ، والتنفس بعمق ، والتمدد فوق . أنصتوا يحب الجدار . األرض الرملية ، والبحث عن الهدوء ماأمكن

ال. تبينها الرجال ييلتصق فيه بالرؤى التى ال. القديم يدخن ، وإن أسرف فى شرب القهوة ، وال يشرب الكيف وال

أنفلونزا ، أو نزلة برد ، شالها على إذا أصابته . الشاى يركب البحر ، وإن ال. يرفض أن يلزم السرير . قدميه

. يروى ذكريات قديمة . قضى يومه فى قهوة الزردونى يعطى . يرسل حكمة عفو الخاطر . يردد أغنية بعدت أيامها

هل البحر اليوم شرد أو : يفرغ معلوماته للسؤال . خبرته ..حصيرة ؟

الهواء . له دوره فى نجاح الصيد ، أو فشله الهواء الهواء الجنوبى يؤثر على . الشمالى يزيد فى ضغط الجو

حقول األسماك . حركة األسماك ، فتستقر فى األعماق خرائط فى رأسه ، فى األنفوشى والميناء الشرقية وأبو قير ورشيد ومطروح والسلوم والبرلس وبور سعيد وخليج

يعرف . والعمق ، وأنواع األسماك المكان ،. السويس الكثير عن تيارات المد والجزر والتيارات والضوء والحرارة

األمواج : ، على طول الساحل حتى آخر الحدود الليبية والرياح والعواصف واألنواء وسحب األمطار ومواعيد السفر

البحر صديق قديم ، يطمئن إليه ، . ومناطق الوفرة والجدب البحر عندما : يخذله ، وإن اعتاد الرجال قوله فال يمكن أن

!.. أما إذا أخذ ، فاهللا هو المنجى . يعطى ، فهويعطى بسخاء دل الرجال ـ بعد انتهاء الحرب ـ على مناطق جديدة

غنية بالبربونى وسمك موسى . للصيد شرقى الساحل ..والمرجان واللوت

..بكى الرجال فرحا دينة ، ضعيفة ، رغم توافر عمليات الصيد غربى الم

البالنسات والفاليك تخلو من الثالجات ، فيفسد . األسماك لكن الرجل يؤكد ـ فى النهاية ـ . محصول األيام الصعبة

القيمة . أن بركة اهللا ـ وحدها ـ هى التى تحمى الرجال

للتأكد من ارتفاع الموجة ، وحرارة الماء ، وكمية الرطوبة ، البراعة . لتطلع ـ بفهم ـ إلى األفق وسرعة الريح ، وا

تتركز فى التأكد من متانة الدفة ، وسالمة الشراع ، وطريقة بحرية أو : فكه ، ونشره ، فى مواجهة الرياح واتجاهاتها

يردد . تبقى فمن تساهيل اهللا ما. غربية أو مريوطية يرددها الرجال من بعده . التسبيحات والصلوات على النبى

.. الننظر وراءنا . نحذر التعثر عند صعودنا إلى البالنس

نبصق على الغزل ، أو فى . نقضى على أسباب النحس . ..القارب ، استجالبا للحظ

ربما أرجأ الجد السخاوى موعد اإلبحار ، إذا قفز أحد ..الرجال إلى البالنس بالقدم اليسرى خر لنا سبحان الذى س. ينزلق البالنس فى المياه ببطء

مع . طوله أقل من ثالثين مترا . هذا ، وماكنا له مقرنين الماء : هذا ، تكدس على سطحه ، وفى دخانيقه ، زاد وزواد

والزيت والشحم والثلج والخيش والغزل والحبال والطبالى وصناديق الدخان واألدوية وأدوات النظافة والجرادل وقطع

بعيدا عن الشاطئ . حر يغادر األنفوشى إلى ظهر الب. الفلين ..والبيوت والسفن الصغيرة وسماع أصوات االستغاثة

يحدق فى . الجد السخاوى يضع يده على حافة عينيه ربما يتوه فى أزقة األنفوشى . بعد الجزيرة األفق ، ما

معظم وقته ـ فى البر ـ فى قهوة الزردونى . ورأس التين ى سطح البيت المطل يحب حائطا بالذات ، ف. ، أو فى بيته

يغفو . يجلس إليه غالبية أوقات النهار . على زاوية الزواوى ، يصحو ، يتأمل تموجات الخيوط المتصاعدة ـ بتأثير

يهز الرأس لمرأى . حرارة الشمس ـ من مياه الخليج أسراب النورس ، الغربان البيضاء التى مسخها اهللا ، ألنها

..تسرق طعام الصيادين : عبد الدايم يقول حسان !..ـ ألسطة

:يشير الجد السخاوى إلى السكومندو قاسم الغريانى ..ـ افرد الشراع

:بعض مارواه قاسم

..فى لمحة ، أو أقل ، اعتليت الصارى

. أطلقته . فردته ببطء . فككت الحبال من حول الشراع س أتأمل البالن. الأترك مكانى . هبت الريح ، فامتأل بالهواء

بيوت األنفوشى تتحول ـ من . حركة الرجال من فوقه . يتضاءل ، يشحب ، يغيب ، فتحيط . بعد ـ إلى خط رمادى

: أتعمد أال أطيل إليها النظر . بنا المياه من كل جانب انفراجة الموج لمقدمة البالنس فى عناق الرحالت المتصلة ،

. .ساقا امرأة تتشوقان للمضاجعة ..خل عنك ياجد سخاوى . أنزل إلى الدفة

شعور الراحة يتملكك وأنت تواجه ـ من نافذة مرتفعة الشعور نفسه يتملكك وأنت تدير الدفة . ـ ليل المدينة الغويط

يدان لذراعك ، . البحر أرضك . فى مواجهة الموج الهادئ . تقفز فى دائرة الشباك التى ألقى بها الرجال . لسطوتك

تتأمل صحوة . الذى يحيط بالدائرة تتأكد من كردون الفلينتردد ـ مع . امتداد تكسرات الموج من كل الجهات . السماء

. تساعد فى إعداد الطعام والشاى . الرجال ـ مقاطع أغنية . تمأل النفس رؤى وأحالم . ترف ابتسامة لذكرى قريبة

..حتى الشتاء له أيامه الطيبة ، الكثيرة

كرهت . الح الحدود لسنوات ، عملت جنديا فى س. الصحراء ، سكونها ، جمودها ، امتدادها إلى خواء

بقدر ماكرهت . الصحراء تبدأ رماال ، وتنتهى كما بدأت خره آالبحر نعرف أوله والنعرف . الصحراء أحببت البحر

هل توجد حياة . نعرف ماذا فى قاعه نرى سطحه ، وال. لهائلة ، والكائنات وناس من عوالم تحتية ، أو أن األسماك ا

السطح المكشوف ، األعماق !. التى لم نرها ، تلتهم البشر ؟تبدل . الغامضة المبهمة ، القوة الهائلة ، الطيبة ، القاسية

. األجسام واألصوات واأللوان فى السطح ، وفى األعماق البد أن تصادق . حياة البحر التعرف االنطواء وأخذ الجانب

. يب ، تبدى الدهشة والفرحة واألمل ، تحادث ، تسأل وتجالبحر .. تكشف مابداخلك ، حتى لو كنت ذا طبيعة كتومة

. يفرض المصارحة ، يفرض الجرأة ، والشجاعة أيضا : بمجرد الخروج إلى عرض البحر ، أنت تواجه المجهول

األسماك الشرسة ، واألنواء ، واألمواج العالية ، وتمزقات الت ، والدوار ، والبرد القارس ، األشرعة ، وأعطال اآل

..والشمس الالهبة

متى نعد . الجد السخاوى اليخطئ فى ترتيبات الرحلة الثياب واألغطية المطلوبة ، ساعة القيام ، . البالنس لإلبحار

لكن .. العودة ، اتجاهات الريح ، توقعات العواصف واألنواء كب أطول من حياتنا فى المر. البحر ـ فى النهاية ـ بأهله

جيراننا السماء والشمس والمياه . حياتنا داخل البيوت البالنس هو . واألسماك والعواصف واألنواء وأغنيات الصيد

نخالط من تمتد مودتنا لهم . البيت والقهوة والشارع والعمل حتى آخر العمر ، ونلتقى بمن تنتهى معرفتنا بهم عقب

ألغنيات التى نرددها فى ا. مغادرة الميناء الذى التقينا فيه عرض البحر ، تختلف عن أغنياتنا عند إنزال ، أو رفع ، الشراع ، أو جر المرساة ، أو إذا كان البالنس ينزل البحر

نتطلع ـ بعد أيام ـ . لكل مناسبة أغنياتها . للمرة األولى خلف حاجز المركب إلى الخط الرمادى ، الضئيل ، الممتد

:ف أحدنا ، أو نهتف فى صوت واحد يهت. فى نهاية األفق .. ! ـ أرض

ثم تتوالى السفن المتجهة إلى . نصادف بالنسا أو اثنين زحام من . عرض البحر ، والعائدة ، والواقفة فى أماكنها ثم تتناثر . السفن الكبيرة والصغيرة ، تؤكد دخولنا الميناء

اى مئذنة أبو العباس ، صارى العلم فوق سر: المرئيات رأس التين ، قلعة قايتباى ، أسطح البنايات العالية ، صف

..البيوت فى امتداد الشاطئ يصعد الحاج قنديل إلى البالنس ، قبل أن يصل الشاطئ

يتقاضى هديته ، ونحمل باقى " . المحصول " يتسلم . الطبالى إلى الحلقة ، أو يشتريها الباعة على الشاطئ ، أو فى

يأذن به الجد لى األوعية والسالل مانعطى حام. الحلقة يكرر الجد . السخاوى من األسماك والثعابين والجمبرى

. السخاوى اعتزازه بأيام كانوا يفاضلون بين صيد المركب يختارون األنواع النظيفة ، ويعيدون األنواع األخرى إلى

..البحر تفتح األبواب المغلقة ، وتطل النسوة من النوافذ ، ويقفن

تتعالى التعليقات الصاخبة ، والهامسة ، . لى األبواب ع ..ويؤمر األوالد بالذهاب إلى أماكن نومهم مبكرين

:موال للصياديــن

أقـوم من النـوم أقـول يارب عدلهـا بلدى قصاد عينى ومش عارف أعدلهــا

هو عارف يعدلهاا وادى ريس البحـر محتار م لهاسألت شيـخ عالـم بيقـرا فى معاد

:سند الكتاب من يمينـه والتفت قـال لـى بين المسا والصبــاح ربك يعدلهـا

:ذكر حادثة قديمة كتمهيد مناسب

خرج إلى البحر ـ بعد عمرة ـ منذ " تماظا " البالنس غيبت األيدى المجهولة الحبيب تماظا الهوا . ثالث سنوات

..من فوقه فى نوة العجوزة وا الذى كان يعالج الدفة فى نادى على عم حزين اله

..مواجهة الريح الشديدة تألم الرجل ، بكى ، صرخ ، بسمل وحوقل وتهدج

..لكنه لم يحاول حتى أن يترك مكانه .. بدعوات كان البحر ملك أهله ، واأليدى المجهولة لن يشق عليها

حطمه ـ . نفس الرجل قهره فى البالنس . أذى من يقاومها أضافه إلى خسارة االبن . ثأر منه . ماما بعد العودة ـ ت

..لم يكن لديه حيلة أمام قوى مسيطرة ، باطشة . الغالى

:ماذا جرى فى الرحلة المشئومة ..خرجنا إلى عرض البحر ، شرقى االسكندرية

. الدفة فى يد حسان عبد الدايم ، يديرها دون عناء ا غاص ، إذ. الوحيد الذى يغلق فمه على كمية من الزيت

..ينفثها فى الماء ، فتضئ له البحر ، ويرى طريقه اختالط أصوات . يشبه الوسوسة ترامى إلى أسماعنا ما

نراها ، بالمياه ، باألصوات الهامسة الرمال من جزر الجزر مجهولة ، يسكنها كائنات ليست . التى يغيب مصدرها

لمراكب تأتى ا. ترعى فى أحراشها دواب هائلة . من البشر تهبط بواحد من . ، فتضربها ، تحطمها ، أو تركب فوقها

..ركابها ، أو أكثر ، أو بالمركب كلها إلى قاع البحر ..هز رأسه ، وأشاح بيده. يخف قلقه الجد السخاوى لم

أهل البحر يضمرون الشر ، فلم يكن فى األفق ـ لما :ينبئ بعاصفة بدأنا الرحلة ـ ما

!.. فيه أغرق قوم نوح ..ـ اليوم أربعاء أوامر ، وشخط ، . بدا الجد السخاوى أشبه بالمارد

..ونطر ، وقوة على النفس ، وعلى الرجال

أشار ، فقفز قاسم إلى الصارى ، يحتضنه ، يلمه ، تقلصت قبضتا عبد الدايم القويتين على الدفة . يحيطه بالحبال

لمتناثرة فى ربطنا المعدات ا. أغلقنا األبواب المفتوحة . ربما . حتى الطبالى الممتلئة باألسماك والثلج . البالنس

طيرها عنف الرياح ، وأعددنا الجرادل لنزح المياه عندما ..يركب الموج سطح البالنس المكشوف تشنجت أصابع عبد . اهتز البالنس دون رياح حقيقية

..الدايم على الدفة اآلذان زعيق علت األصوات الهامسة ، تداخلت ، فأصم

تكاثفت الظلمة ، وهاجت . وصراخ وضحكات مجلجلة ..تتكسر مياهها الرياح ، وتدافعت األمواج كالجبال ، ال

ارتطمت سالسل الجبال الصغيرة بجانب البالنس ، كل موجة تحمل فى طياتها روحا حية ، تدفعها ، . فمالت به . واء الراكد نراها ـ تنفخ اله ماليين األفواه ـ ال. تعلو بها

..يصبح ريحا ، فعاصفة ، فنوة قاسية :همس الجد السخاوى بورد البحر

..ـ فلنأمل فى بركات سيدنا الخضر :شاب صوت قاسم غضب

!ـ وماشأن سيدنا الخضر بمانحن فيه ؟ :قال حسان

نه يظهر لمثل مركبنا ، فيقودها إلى الطريق إـ .. الصحيح

..ة نطت سمكة هائلة فى البرو :صاح الجد السخاوى

حتى قطرة الماء ربما تحمل ..يلمسها أحد ـ ال ..!الخطر

فى لحظات ، أحاطت األيدى الخفية بالبالنس ، ..واختطفت الحبيب ، الحبيب ، جمعة العدوى

الصورة األخيرة التى نذكره عليها ، حين كان يحتض ه فى تدافعت الجبال الصغيرة ، فأخفت. البروة ، ثم اختفى

. لم يجد الفرصة لالحتماء أو المقاومة أو االستغاثة . ثناياها الحقنى ياقاسم : اسم قاسم ـ دون سواه ـ رف فى أسماعنا

..! الجبال الصغيرة تناطح . كانت البروة قد خلت منه

..البالنس بقسوة وحشية

جذبه الجد . نزع قاسم ثيابه ، وهم بإلقاء نفسه وراءه المقاومة ربما . نه فى صدره المتعب احتض. السخاوى

..تدفعهم إلى اختطاف البالنس بأكمله

:مالحظات ذات أهمية بالغة تكنسين التراب من . حين تطوفين بحجرات البيت

تكنسيه ناحية الباب الخارجى ، فال ال. الصالة إلى الداخل تطلقين البخور ، تبسملين ، تحوقلين ، . تكنسى الحظ السعيد

ين األدعية ، تقرئين آية الكرسى ، تتأكدين من إغالق ترددتأمنين النافذة المطلة على سيدى كظمان ـ حتى ولى اهللا ال

جانبه ـ فألن تلك هى الوسيلة التى تجنبين بها البيت أذى األوالد والبنات يصارحون بالشك وعدم . عوالم أخرى

!..ماعفريت إال بنى آدم : التصديق :انى قال قاسم الغري

فستختار بيوت .. ـ لو أن هناك عفاريت بالفعل !..األغنياء

:أضاف وهو يطلق ضحكته المسرسعة !..ـ يكفى أمثالنا عفريت الفقر

مكتوب فى القرآن . تستعيذين باهللا ، وتطلبين المغفرة لكنك ـ لم . الكريم الذى لم يحسنوا اإلفادة من قراءتهم آياته

ف أهل البحر لزوجك جمعة ؟ ـ ترفضين رواية اختطا. ربما أخطأ الجد السخاوى . أكدها كل الرجال . العدوى

لكن البحر عندما أقلعنا ، .. ربما األربعاء ليس أفضل األيام بعدنا عن الشاطئ بأزيد قليال من كيلو مترين . كان حصيرة

. حدث اختطاف الحبيب جمعة العدوى هو المعنى لكل ما. حركوا األمواج بماليين األيدى . ف األفواه أثاروا الرياح بآال

..أحاطوا بالبالنس ، وأصروا على مايريدون . واألقدام قاسم هم ـ لسماع اسمه ـ . لم يكن بوسعنا أى شئ

لكن األعماق البعيدة ، الدنيا الغامضة .. بالقفز وراء العدوى ..المجهولة ، كانت ـ فى ثوان ـ قد ابتلعته

..عود لعله ـ يوما ـ يفجأة ، . غيبت األنواء ـ من قبل ـ رجاال كثيرين

..رووا الكثير من الحكايات واألعاجيب . عادوا .هذا أملنا

األسطى مواهـببدوا غرباء عن القهوة ، بالسروال الفضفاض ،

..والصديرى المزركش ، والالسة الحرير الكراسى من الليف المجدول ، والترابيزات مستطيلة ،

وفى الصدر كنبة خشبية ، ذات مساند على . رخامية السطح وتناثرت ـ على الكراسى والطاوالت . الظهر والجانبين

عود ، كمان ، طبلة ، رق : والجدران آالت موسيقية قديمة وثمة صور ـ على الجدران ـ لسالمة .. ، ناى ، مزمار

حجازى وسيد درويش وزكريا أحمد وأحمد المسيرى وحمامة لعطار ا

تعالت النداءات والدندنات والشتائم وعبارات اللوم زبال .. كوانى : والمعايرة ، ولغة السيم التى غابت معانيها

عنترة .. أبيج .. موزة جهرة .. تشنيب .. فورتى .. آميد .. ..صولى ..

وضع الجرسون أمامهم طاولة من النحاس بثالثة أرجل صينية ، بها ثالثة أكواب وضع عليها ـ باليد األخرى ـ .

..من الشاى نظر إلى الوجوه الثالثة التى تحيط بالمكان فى استغراب

. أكبرهم فى حوالى الستين ، قامة مدملجة ، ورأس أصلع . دائم التلفت ، ويجرى بظهر يده . على الفودين شعر أبيض

اآلخران شابان يشبهانه فى . على عينه كمن يعانى رمدا قدر أنهما ابناه . إن بدا جسماهما أطول وأنحف المالمح ، و

.. ..ـ جئتم لالتفاق على صهبة ؟

:قال المعلم عباس الخوالقة ..ـ نعم

أنهوا ترددهم على الصاغة وسوق الترك وسوق المغاربة ، لشراء األساور الذهبية والطسوت ، وأناجر

أنهوا مشوارهم بقراءة الفاتحة لسيدى . النحاس المطروق المغاورى ، فى التقاء شارعى اسماعيل صبرى وصفر باشا

..لم يعد إال االتفاق مع العوالم ، وتحديد موعد الزفاف . :قال الجرسون

ـ هل جئتم السم بالذات ؟ :قال الخوالقة

!..ـ ال :وهو يومئ برأسه

..عليكم باألستاذ حسن عشم .. ـ إذن شارع اسماعيل بدا ـ فى جلسته على ترابيزة محاذية ل

يرتدى . صبرى ـ وحيدا ومنعزال عما يشغى فى القهوة أسمر الوجه ، وإن خالط سمرته . بدلة سوداء ظاهرة الرثاثة

وفمه واسع ، تحيط به شفتان غليظتان ، يعلوهما . شحوب أنف ضخم ، يطل من منخاريه حزمتان صغيرتان من الشعر

تعلم . أبو العباس بدأ حياته قارئا ومنشدا فى . األبيض طال تردده على . أصول ترتيل القرآن ، وإنشاد التواشيح

صار . حفالت القراء والمنشدين ، وحاول تجويد الترتيل على معرفة جيدة باأللحان فى أصولها الدينية ، واستوعب

احترف الغناء فى الموالد والمناسبات الدينية . أصول األنغام ح فى أن يميز الناس صوته بمجرد أفل. ، والليالى واألفراح

حين خذله صوته ـ ! . عشم يغنى : سماعه ، دون أن يروه يبدى اإلعجاب ، " مطيباتى " بتأثير السن والكيف ـ عمل

.. كمان والنبى .. آه ياسيدى : ويهلل للمطربة أو الراقصة ..أعد .. ياعينى على كده

لما بدأ جلوسه على قهوة الفنانين ، حرصت فرق أشار على األسطى مواهب أن تهمل . العوالم على استخدامه

قرن . أداء أغنيات مطربات الفترة ، وتغنى من ألحانه نصيحته بتقديم أغنيات قوامها الموشحات والبشارف

أدتها مواهب فى حفل زفاف ، فتمايل . والسماعيات ذاعت األغنيات ، فقلدها . الحضور طربا ، وطلبوا اإلعادة

حتى الرجال خنثوا أصواتهم ، وأعادوا . االسكندرية عوالم ..غناءها

اعتزم عباس الخوالقة أن يكون حفل عقد قران ابنته ، هو مثله . وزفافها ، فى بهاء حفل ابنة الحاج قنديل وزفافها

شيخ صيادين ، يجمعهما الود والصداقة والجلوس فى درس لكن . برة إمام أبو العباس ، وأمام صالون الحاج محمد ص

المكانة االجتماعية التعرف العواطف ، والتأذن بالتغاضى عن كالم الناس ، ومالحظاتهم ، وعن تأكيد مكانته فى الحى

..، وبين الصيادين

قال حسن عشم ، وهو يعبث بإصبعيه فى الشعر المتدلى :من أنفه

!طرب واهللا زمان يا.. ـ كان المغنى زمان :يده ثم وهويمسح أنفه بظهر

غنى .. القديمة النجومـ هذه القهوة هى االمتداد لقهوة فيها سيد درويش ، وسمعه جورج ابيض وسالمة حجازى

..والست الغندورة والشيخ زكريا :استطرد الجرسون وهو يضع الصينية بفناجين القهوة

ـ فى هذه القهوة ، كان المغنى يحصل على رخصة ..الغناء واعتالء التخت

:ن عشم رأسه فى تأكيد هز حسيحفظ أمام أساتذة الطرب ـ كان المغنى يسمع ما

إذا وافقوا على أدائه ، سمحوا له بارتداء حزام .. والموسيقا !احتراف الغناء

:وأشار بيده ناحية الميناء الغربية فى حارة بز .. ـ سالمة حجازى ولد بالقرب من هنا

وهكذا كل األسر .. د لكن والده كان صيادا من رشي.. امه ..أصلها من رشيد .. القديمة فى المدينة

:وخالط صوته أسى واضح لكن الفنانين .. ـ القهوة تحتفظ ـ حتى اآلن ـ باسمها

لم يعودوا هم زبائن القهوة ، أو أنهم تخلوا عن مكانتهم ..آلخرين

:واتجه إلى المعلم عباس الخوالقة بمالمح متسائلة ك ستجد هنا عالمة تجيد تقسيم الليالى ـ هل تحسب أن

.. الوجه المريح أمر ضرورى .. حسبك وجه مريح .. ؟ ..وصوت يخفى ضعفه بأداء األغنيات الخفيفة

:واعتدل فى جلسته ..ـ أغنية يعجبنى مثال

:ودندن اللى يكلمنـى وبحنيـه يغازلنـى يعجبنى

حبش يقرصنـى وف نص الليل يسايسنـى بس ما :وتنحنح

اليقدر على أدائها مطرباتنا .. ـ حتى هذه األغنية ..الالئى يتعاطين األفيون بشراهة رجل

:قال عباس الخوالقة

جيدة ، تسعد البنت ، وتسعد ـ كل ماأطلبه صهبة ..أمها

:قال حسن عشم ـ األسطى مواهب هى الوحيدة التى تغنى فى تياترو

..أحمد المسيرى :س الخوالقة قال محمود عبا

..ـ ربما تطلب مبلغا مرتفعا :قال حسن عشم

واألسطى مواهب .. تشغله الفلوس ـ من يعشق الفن ال ..تحب الفن

:قال الجرسون وهو يقدم كوب شاى لحسن عشم ..ـ أسطتنا أزاحت عن عرش الطرب أسماء كبيرة

:وتظاهر بالعد على أصابع يده بة وام النخيلى والتقيلة ـ فاطمة القطورية وفاطمة كهر

..والحاجة زنوبة :وتنهد

!..ـ كثيرات : قال حسن عشم

تجيد الغناء والعزف على كل .. ـ أسطتنا تخت بأكمله ..وإن احتاج األمر ، فهى ترقص أيضا .. اآلالت

:مال عباس الخوالقة على أذن الرجل ..ـ لكنها ـ فيما علمت ـ عجوز

:قال حسن عشم ..ن فى العتاقى ـ الده

:والحظ نظرة السخط فى عينى الجرسون ، فاستدرك ..ـ ثم أن أسطتنا ماتزال فى أول شبابها ..اتجهت األعين إلى باب البيت المجاور

وقفت األسطى مواهب بجسمها الممتلئ ، واألصباغ . مألت وجهها ، والشبشب تطل منه أصابع مطلية بالحناء

، ضيق العينين ، شاربه كخط فوق يتبعها رجل ضئيل القامة ..يرتدى جلبابا مكويا ، ودس قدميه فى قبقاب . شفتيه

أطلقت ـ فجأة ـ ضحكة عابثة ، تمهد بها لدخول :تبعتها بدندنة . القهوة

ه ـماتخافش علي أنا واحده سجوريا ه ـفى العشق ياإنت

ا ـواخده البكالوري ه ـتخافش علي ما

:يا عال صوت حسن عشم مغن داللى عليك ياداللى سنتين وانا احب وادارى يا

:أطلقت المرأة ضحكة مصحوبة بغنجة ةـاهللا السالم عايق على خدك شامة وعينك منهم يا

خطوات من شارع . أمضت شبابها فى حارة العوالم زوبة الكلوباتية ونبوية شخلع وعزيزة كهربة : محمد على

حظ وقمر المصرية وحميدة وعايدة وصفى وعزيزة المناصرة والفن والسهر والليل والنجوم والموسيقا والغناء والطرب وضبط اآلالت والتقاسيم والصاجات وأغنيات

: تعلمت كل الرقصات . األفراح والسيم والسالم المربع الشرقى والشمعدان والزفة والشرقاوى والنوبى واالسكندرانى

ا الشمعدان التى لم يطلبها أحد ، تقدمها فى األفراح ، ماعد. .. فنسيتها

كانت تجيد العزف على اآلالت . لم تكن مجرد مؤدية ثم لم تعد المهنة كما . الموسيقية ، وتفهم الغناء على أصوله

..لم تعد العالمة تستحق اسمها . زمان ومضى . كانت

:قالت وهى تعد بيديها وعازف ـ الطاقم يتكون من قانونجى وعازف كمان

زائد راقصتين .. بيانو منفاخ وطبال ومونولوجست ومطرب .. أو ثالثا لزوم الزفة

:أضاف الرجل وراءها متسائال ـ والحقاقة ؟

:قال لنظرة عباس الخوالقة الداهشة ..ـ هى التى تقول المديح فى حق العريس إن شاء اهللا

:قال مصطفى عباس الخوالقة ..ـ نحن أهل العروس

:قال الرجل !..ـ وتمدح العروس أيضا

:قال الخوالقة محتجا ..ـ لم يبق إال أن ندفع أجر المطيباتى

:قالت مواهب متغاضبة فننا .. ـ نحن النستأجر من يبدى اإلعجاب أو يهلل

!يكفينا :أردفت فى لهجة متفاخرة

اسكندرانى .. ـ لدينا راقصات يجدن كل ألوان الرقص ..نوبى وشرقى وشرقاوى و

:قال الخوالقة ..ـ سمعنا عن سناء العطار

:قال الرجل وراءها يستعان بها إذا غابت الراقصة .. ـ هذه راقصة زنقة

..الحقيقية :قال مصطفى عباس الخوالقة ..ـ نحن نطلب زفافا محترما

:قالت مواهب ..جارية اطبخى ـ يا

:قال الخوالقة ..ة ندفعه تريده الصهب ـ كل ما

:أضاف موضحا ..وليلة الفرح .. ـ ليلة الحنة

:زوى الرجل وراءها حاجبيه فى استنكار ..ـ طبعا

:قال حسن عشم

..ـ األسطى مواهب من عائلة عوالم :ثم وهو يضحك عن فم تساقطت معظم أسنانه

!ولدتها أمها فى فرح ـ :عال صوت األسطى دون توقع

ـى معـاك من البـر أحسـن لىريس البحـر خدن يا أتعلم الكار بوسـع البــال أحســن لـى

أجر لبــان أحســن لـى.. أزود بمـده طلعت ألـم القلوع لقيت العويل أطول من الصـارى

وقلت البــر أحسـن لـى.. رميت المدارى :قال عباس الخوالقة

..توجد راقصة شمعدان ؟.. ـ طبعا :بأصابعها شهقت وهى تضرب صدرها

رقصة الشمعدان التعرفها !.. ـ ماكانش يتعز ..ذهب إلى محمد على ا.. االسكندرية

:فوت المالحظة ..ـ ليتك تتعاقدين أيضا مع فرقة نحاسية

:أطلقت ضحكة مائعة ..ـ الفرق النحاس عند المبيضاتى

:أضافت بجد لم تعد فرق النحاس ـ بعيد عنك .. ـ هذا زمان وفات

و بالطبلة والرق والقانون الصهبة تحل.. ال للمآتم ـ إ ..والعود

:وأغمضت عينيها كالمتذكرة .. كانت الغلبة للموسيقا الشرقية األصيلة .. ـ زمان

!جاتى اأما اآلن ، فالكل يعزف الموسيقا الخو :قال الرجل الواقف وراءها

ربما حمامة العطار .. أين هى اآلن ؟.. ـ أفراح زمان ..آخر الفنانين الحقيقيين هو

:قالت األسطى مواهب ـ متى الفرح بإذن اهللا ؟

:قال مصطفى عباس الخوالقة ..ـ األربعاء

:عال حاجباها بالدهشة ياعلى بيت .. عروسة االربع ياتطلق .. ـ ولماذا ؟

..ابوها ترجع :قال محمود عباس الخوالقة

!..ـ فال اهللا والفالك :لقة قال عباس الخوا

..ـ هذا هو الموعد الذى حددناه مع أسرة العريس :قالت مواهب فى تمنع

.. أنا مشغولة الخميس والسبت واألحد .. ـ غيروه عروسة االتنين .. االثنين موعد مناسب .. والجمعة أجازة

..يزورها الحسن والحسين :استطردت وهى تميل برأسها إلى الوراء

.. فى الزفة جنيهات ذهبكانت البدرة .. ـ زمان !..نحصل على النقطة بالعافية فى أيام النحس

:قال حسن عشم ..تقبل سوى أفراح الشاطبى وطالع ـ األسطى ال

:قال الرجل وراءها ..أتى بهمها تـ النقطة فى أحياء البلد ال

:تدخلت األسطى مواهب ..وابنتك ابنتى .. ـ أنت أخ عزيز :وقالت فى حسم

..يريدون فق معهم على ماـ ات

:قال حسن عشم ..هذا عشم الناس الطيبين .. معلمة ـ سلمت لنا يا

وأخرج من جيب جاكتته العلوى ، ورقة صغيرة مطوية :جرى فوقها ببقايا قلم كوبيا .

عشرة قروش أجر العربة .. ـ عشرة قروش عربون ..خمسة وعشرون قرشا ثمن سجائر .. الحانطور

:جل وهو يتبع األسطى إلى داخل البيت قال الرفصال ال.. مقاولة األسطى مواهب معروفة للجميع ـ

!..فيها :تناهى صوت امرأة من نافذة فوق القهوة

..ـ األسطى ترفض أن يفتح البوفيه بدونها :قال عباس الخوالقة

..ـ المفروض أنها تحضر قبل ذلك بساعات :قالت المرأة من مكانها

بد لألسطى أن تقف بجوار العروس عند افتتاح ـ ال ..البوفيه

همس . تأخر المعلم عباس الخوالقة . انصرف الشابان :فى أذن حسن عشم

..ـ من هذا الرجل ؟هش حسن عشم ـ بيده ـ ذبابة ، حطت على حافة

اهتزت ، . امتعض لسقوطها فى الكوب . كوب الشاى ..تحاول التخلص ، ثم سكنت

: عشم حوله تلفت حسن ..ـ أى رجل ؟

يسأل بدال منها ، ويرد .. ـ الذى كان يقف وراءها ..على أسئلتنا

:كشف حسن عشم عن أسنانه المتساقطة وقوادها فى حاالت .. ـ إنه طبال األسطى وزوجها

!..الضرورة

قهوة كشــكمع أن الضابط الشاب أفاض فى شرح البواعث التى

وة ـ وكل محال االسكندرية ـ أمرا جعلت من إغالق القه :مطلوبا ، فقد سأله المعلم كشك فى قلق

ـ ماالمطلوب بالتحديد ؟القهوة منذ أنشأها المعلم كشك الكبير ، فى أعقاب

تستقبل . الحرب العالمية األولى ـ لم تغلق أبوابها يوما يأتى الولد عزت . تهدأ الحركة . الرواد إلى الواحدة صباحا

تتحول بالتصاق كل . يصف الطاوالت . لمعدات واألغطية با .. طاولتين ـ إلى أسرة ـ يريح الرواد أجسامهم عليها

:قال الضابط يوم حداد بمناسبة ذكرى .. ـ كل المحال ستغلق غدا

..توقيع اتفاقية السودان :تساءل بيومى جالل !ـ مالنا والسياسة ؟

:قال الضابط فى غضب واضح !.. فلسفتك فى فمك ـ ضع

:قال المعلم كشك ..ـ ولكن القهوة لوكاندة أيضا

الطاوالت المتجاورة لم : جال الضابط بعينيه فى المكان ترفع عنها المخدات واألغطية ، ورائحة النوم ، وأكواب الشاى المتناثرة فى الردهة الفسيحة ، وصورة على الجدار ـ

..ر عالها التراب ـ لخراف فى مروج خضفإن المحال العامة يجب أن تغلق .. ـ أيا كانت الصفة

..أبوابها اليوم كله :قال سيد الفران فى لهجة متوسلة

ـ هل بوسعنا أن نلزم القهوة ، ونغلق على أنفسنا من الداخل ؟

: زغده فى كتفه !..تعال نستضيفك فى القسم .. ـ إن شئت

..التقت نظرات الرجال فى قلق غادر القهوة سوى ثالثة من التسعة الذين استقر لم يكن

سعى حسنين . بهم الحال ، بتوالى األعوام والرواد

الدمنهورى إلى محطة البنزين فى أرض المحافظة القديمة ، وبدأ عم محمد الطوشى . يعد لتشغيلها قبل السابعة صباحا

جولته بصينية الحلوى ، بعد أن اطمأن إلى تسويتها على وحمل زناتى الكناس عهدته ، مكنسة كبيرة . الساخنة المياه

..من قسم المنشية إلى مبنى البورصة : منطقته المحددة . توالت األعوام ، فأحكمت العادة قبضتها على القهوة

أصبحوا جزءا من حركتها . لم يعودوا روادا . وسكانها غابت الوجوه الطارئة ، فيما عدا بعض الذين . اليومية

جلسون على الموائد مصادفة ، ينهون صفقة عاجلة ، أو يسائق تاكسى يميل إلى جانب الطريق ليحتسى كوب شاى ، أو متقاضين ينتظرون فتح أبواب ، أو بدء جلسات ، المحكمة

اكتفت القهوة بسكانها التسعة ، . الشرعية فى مبناها القريب ى أعمالهم يغادرونها ، ويعودون إليها ، فى مواعيد ذهابهم إل

..، وعودتهم منها ، اليذهبون إلى مكان آخر: نزع الضابط فتيل القنبلة ، فانفجرت بعد انصرافه

كيف يترك السكان جزيرتهم المنعزلة ، إلى عوالم أخرى ، لم يحاول غالبيتهم ـ من قبل ـ ارتيادها ، واليعرفون عنها

!شيئا ؟

:بيومى جـالل

مصطفى حجازى ومؤمن : سه دعا أقرب التسعة إلى نفيصعب أن . الدشناوى ، للجلوس على شاطئ الميناء الشرقية

يشاهدون صيادى السنارة . يمتد اإلضراب إلى الصيادين المتناثرين فى امتداد الكورنيش ، أو يتابعون صيد الجرافة ، منذ استدارة حلقة الفلين فى المياه ، حتى سحبها إلى

..لط داخل الشبكة الشاطئ ، واألسماك تلعوجد مصطفى حجازى فى إغالق القهوة المفاجئ ،

استهوت الفكرة مؤمن . فرصة لزيارة أهله فى كفر الدوار قرر قضاء اليوم بكامله فى قريته القريبة من . الدشناوى

..دمنهور لم يكد يقطع خطوات فى طريق الكورنيش ، حتى أدرك

.. ساعة ، أو نحوها ربما استهواه المشهد . سخافة الفكرة فماذا عن بقية اليوم ؟

. خال الطريق من الجنود ، والسالح ، والمصفحات اقتصر وجود الجنود على المعسكرات فى مصطفى باشا

ربما يخرجون بأعداد قليلة فى شوارع . وكوم الدكة والميناء

يحسبونهم على بحارة . المدينة ، فال يفطن المارة إليهم وثمة صيادون ، علقوا غزلهم ـ ليجف ـ . السفن األجنبية

على المراكب المهجورة ، فوق الرمال والحواجز والجدران ..

مال إلى شارع اسماعيل صبرى ، ومنه إلى رأس التين توقف أمام بيت صغير ، تطل واجهته على . ، فالحجارى

تذكر ـ بال مناسبة ـ أغنية قديمة . أول شارع المسافرخانة :، فدندن بها

والصبـر أمـره طـال واش بعد وقف الحــال

أدهشه ـ قبل أن يستخدم السقاطة ـ أنه لم يناقش . كيف ساقته قدماه إلى هذا البيت بالذات البواعث ، وال

ثمانى سنوات ، أو تزيد ، منذ غابت القرية المطلة على طريق المعاهدة ، وإن لم يعرف من االسكندرية سوى قهوة

ادرها إال لشراء الطلبات من شارع الميدان كشك ، يكاد اليغ..

. حين أطل وجهها من الباب الموارب ، حدقت للحظات ..ثم عرف أنها تذكرته ، لما فتحت الباب على وسعه

..ظل فى وقفته ، يغالب الحرج :تناهى صوتها من الداخل

..حسن موجود .. سى بيومى ـ تفضل يالترع والجداول وشجر ا. دنديط !.. حسن عبد المقصود

المقابر تعلو ـ فى . التوت والصفصاف والطرق الترابية ناظر محطة السكة الحديد ، جلسته . هضبتها ـ عن البيوت

. المسترخية فى المنتصف بين شباك التذاكر ومخزن العهدة محمود المنسى . تفارق يمناه إمام المسجد بعصاه التى ال

أيام . وابراهيم سليمان وحسن النجار ورمضان أبو العالورش البالط واللحام . النزهة فى ميت غمر والزقازيق

صناعة السالل وأقفاص الجريد ، لم تؤت همها ، . والصاج ..فترك القرية

أدرك من مغالبة حسن ـ فى الداخل ـ لنومه ، وإلحاح كان . المرأة الزاعق ، أنه لم يحسن اختيار وقت الزيارة

على الكورنيش ، يتأمل صيادى السنارة بوسعه أن يتمشى والجرافة ، يتطلع إلى المياه والقوارب وطيور النورس ، يخالط الناس ، ويدخل معهم ـ كما يحدث أحيانا ـ فى

: طرف الخيط . أحاديث ، تبدأ ـ فى العادة ـ بال مقدمات

يتصل الحوار ، ويتشابك الخيط ، . رأى ، والتعقيب عليه يعلم أنه سيخلفها وراءه فور العودة . صداقة إلى حيث تنشأ

..إلى القهوة غالب . كان األمر قد انتهى ، ولم يعد بوسعه التراجع

..ساتر ، وبسم اهللا الرحمن الرحيم يا: حرجه بـ :تعالى صوت المرأة من الداخل

..سى بيومى ـ تفضل يااحتل السرير ثلثيها ، وتطلعت . الحجرة بالغة الضيق

يه ، من تحته ، ستة أعين صغيرة ، فى حين بدا حسن إلكالمتكوم على حافة السرير ، يدعك عينيه بظهر أصابعه ،

..ويغالب التثاؤب اكتفى بالتحية من بعد ، وجلس على الكرسى الوحيد فى

ضراب إللعن ا. أحس بسخافة الموقف . ركن الحجرة كان يغسل لو أن القهوة لم تغلق أبوابها ، ربما. وسنينه

الهدمتين ، ويعد لنفسه طعاما ، بدال من األصناف الثابتة التى ..يقدمها له مطعم التوفيق القريب

..بيومى ـ خير يا :عمق السؤال إحساسه بالحرج

وجدت فى اإلضراب فرصة .. ـ خير ان شاء اهللا ..لزيارتكم

فاترة ، لمجرد . تناثرت السالمات والتحيات من جديد ثم أخلت األعين الستة ـ فيما بعد ـ . دور حديث أن ي

مكمنها ، ونزل حسن إلى الحوض القريب ، فغسل وجهه ، وسحبت المرأة كباس وابور الجاز ، دفعته فى تالحق ، حتى عال الوش ، وتعددت أدوار الشاى ، وأتى أكبر األوالد

بشارع صفر باشا ، وعلت " حسونة " بالطعمية الساخنة من . لذكريات بعيدةالضحكات

:صابر الشبلنجى

على ندائه من النافذة ، فوق التميمىأطل المعلم :األسطبل

..ـ أجازة اليوم ياصابر :علت دهشته بالسؤال !ـ حتى األسطبل ؟

:وهو يعيد إغالق النافذة ..ـ أوامر الحكومة

لو أنه صحا من النوم على مهل ، فى الوقت الذى صبعه خصلة شعره األمامية ، إويداعب بيتمطى ، . يختاره

يعد ـ بنفسه ـ . اليشغله من تخلى القهوة لهم طاوالتها ربما غسل . الثياب " غلق " كوب الشاى بالحليب ، يقلب فى

. القهوة أغلقت أبوابها ، واألسطبل أيضا . المتسخ منها راحة مدفوعة األجر من تنظيف اللجم ، وغسل الحناطير

والكارو ، وبيع الروث للحدائق ، وشعيرات والبنزات ..الحصان ، تلتف حول زوائد السنط ، فتسقطها

..مضى فى شارع السيالة إلى نهايته انقطعت الرجل ، . الدكاكين مغلقة ، والشوارع مهجورة

ربما يعانون نفس . فيما عدا أفراد ، اقتعدوا األرصفة يز من بينهم أحد لم يم. ظروفه ، أو أن لهم ظروفا أخرى

ينقذه . يجلس إليه ، يحادثه ، يأخذ منه ويعطى له . معارفه ..من الحيرة التى لم تكن فى باله ، وال استعد لها

عالنات ثالثة أفالم ـ عرض مستمر ـ بسينما إتأمل دايما فى قلبى ، بطولة : بالكاد نطق أسماءها . األنفوشى

فاء ، بطولة تحية خإلطاقية ا.. عقيلة راتب وعماد حمدى المنتقم ، بطولة أحمد سالم .. كاريوكا ومحمد الكحالوى

واختفى . حتى باعة اللبن ، غابت نداءاتهم . ونور الهدى ..الزبالون من مكان تجمعهم ، أمام منزل أبو خطوة

توقفت خطواته ـ بعد أن اتجهت ، بتلقائية ، فى شارع ر أن كل األمكنة شيمى بك المفضى إلى السينما ـ لما تذك

..مغلقة أسرع لرؤية جانب . عاد إلى ساحة المرسى أبو العباس

..من البوابة المطلة على ميدان األئمة مفتوحا قبل أن يصعد الدرجات الرخامية ، أشاح له الخادم

..بظهر يده مال ناحية شريط الترام ، ومنه إلى الحديقة المقابلة

..لمستشفى الملكة نازلى على السور الحديدى ، يتطلع إلى البحر بعينين جلس ينصت إلى أصوات التكسرات المتتالية للمياه . التتأمالن

وتناثر العجائز على الشاطئ يغزلون الكنار . على الصخور ..

!..لو أنه يعرف يقضى النهار . القطار يصل رشيد فى ساعة أو أقل

شاهين ، فتبدو يجاوز طاحونة أبو . بكامله ، يعود أول الليل

تستعيض عن . أنا صابر .. من ؟. المشربيات مغلقة كالعادة هل تذكرت . عينيها المنطفئتين بيديها ، تفسحان لها الطريق

!..أمك ؟ :قال المخبر

ـ معك بطاقة ؟ :وهو يفك األستك عن المحفظة

..ـ نعم :تساءل القادم من ناحية البحر

ـ بال عمل ؟ ..ـ أجازة د بالجرافة ؟ـ تصي !أعرف ـ ال

..ـ هذا شأنى ..ـ ولكن

..ـ األجر عشرون قرشا حتى الظهر ..مضى وراءه

التقط شيئا . وكان نورس قد مال إلى صفحة الماء ..ثم حلق ـ ثانية ـ فى السماء . لعله سمكة . بمنقاره

:سيد الفـران

أهمل . لحقها وهى تهم بإغالق الباب الخشبى الضخم :لنظرة المتسائلة ، عكست صيحتها ا

!..ـ أنت ؟ :زاد من اقترابه ، فتركت الباب مواربا

ـ ماذا تريد ؟ :فى لهجة متوددة

..الحكومة ضيعتنى فأتيت .. ـ بصراحة ..حدث روى لها ما

. كانت خطواتها العائدة قد انتهت إلى الصالة الواسعة لتصقت بالجدار ، خلت من األثاث ، فيما عدا كنبة وحيدة ا

وكراسى ، وترابيزات قديمة تكومت فى جانب منها ، وثالث إطارات مستعملة ، وعرق ضخم من الخشب ، وصل مابين

..المنتصف وأعلى النافذة المطلة على منور خلفى ..تبعت نظراته

كان . كأنه يتعرف ـ للمرة األولى ـ إلى البيت الخالى أول دحديرة أبو العباس ، ينتظرها ـ عقب انتهاء العمل ـ

طريقها التى التغيرها منذ ألحقها بالعمل فى بيته ، المطل فندى الكاشف الموظف أعلى سيدى البوصيرى ، عبد اهللا

تتحمل أحاديث . تنظف وتغسل وتكنس . بسراى الحقانية فاته سن . ه وحيدا تاالرجل عن شقيقتين تزوجتا ، وترك

تزوم وتواصل العمل . حياته الزواج ، ولم يعد ثمة من يمأللم تشغل بالها ـ رغم تلميحاته ، . وافقت لإليراد الثابت .

تشعر بالضيق ـ . المفاجئة ـ فى أن يجاوز دوره كمخدوم وربما القرف ـ من وجهه المستطيل ، وشاربه الذى أخفى

يطيل التأكد ـ فى المرآة ـ من انتظام أطرافه ، . شفتيه ثم من . انبى فمه ، والصوت الرفيع والزبد المهمل فى ج

..األحاديث المفاجئة ، المفعمة باإلشارات والتلميحات تدخل فى الثالثة ، عقب قدومه من الحقانية ، وتنصرف

تشترى . تصعد الدحديرة إلى الموازينى . فى السادسة تلتقى فى طريقها بسيد الفران ، . حاجياتها من شارع الميدان

ين أو ثالثا ، تحدد الموعد فى ناصية كلمت. أو سواه تظل . تواصل سيرها إلى البيت . الحجارى والمسافرخانة

تحرص أن تكون . التغلقه قبل أن يأتى اآلخر . خلف البيت

إذا واجهت إصرارا ، فإنها تأخذ العنوان . الليلة لموعد واحد ..، وتطلب االنتظار

الخبز الرجوع . لم تكن تتوقع سيد الفران فى كل ليلة يعلو الهمس . تدبر الحجج لرؤيته . اليعطيه حق العشيق

يتوضح اإلصرار فى لهجته الحادة ، والتماع عينيه ، . أحيانا وارتعاشة أصابعه التى اسودت بما يختلف مع بشرته المائلة

هاهو . اتبعنى : تنهى الموقف خشية الفضيحة . إلى السمرة يتأمل داخل البيت الذى . المقابل ذا يحدثها عن اليوم كله ، و

لو أنها أصرت على الرفض ، أو . لم يكن شاهده فى النهار ..قاومت ، فمن يدرى ؟

ـ هل نقضى اليوم كله فى حجرة مغلقة ؟ :فى استسالم المس إشفاقها !ـ إنى ملكك ، فتصرفى

..دخلت إلى حجرة مجاورة ، فلم يتبعها ها بما لم يتبينه ، وإن مألت. عادت بحقيبة من القماش

. حبكت المالءة على خصرها . أطلت منه عروق خس رفعت طرفها األيمن ، فبدا كاحل قدمها ـ تنعمه بالحجر الخفاف ـ أسدلتها على الساق اليمنى ، ضاقت عند الخصر ،

علت إلى الكتفين ، وطوى . ثم اتسعت الستدارة الصدر . ل بأوية يغطى الرأس الساعد األيسر أطرافها ، بينما المنديوضعت البرقع تحت . تنزلق منه خصالت الشعر األسود

" العروسة " ثم ثبتت . العينين ، فغطى باقى الوجه ..على األنف ..أخبار المواصالت ؟ ـ ما

:وهو يؤكد بهزات من رأسه ..ـ رأيتها تعمل فى طريقى إلى هنا

..كة نازلى ركبت األوتوبيس من أمام مستشفى الملتشاغل بالنظر إلى البحر ، يقذف . تبعها فى صمت

ازدحمت السيارة فى المحطة . برذاذ الموج خارج الكورنيش يغيبها حرص أن تكون نظراته ثابتة عليها ، فال. التالية الزحام

اتجهت إلى حدائق . نزلت فى محطة الشاطبى شير إليه ، الشالالت ، دون أن تعنى بالنظر وراءها ، أو ت

..فيقترب منها

وضعت . اختارت ظل شجرة أمام المستشفى األميرى طبقا كبيرا ، به كومة من أم الخلول والجندوفلى وبلح البحر

..والجمبرى ..رنا إليها بنظرة متأملة

كانت قد أهملت المالءة ، وتربعت ، وإن غطت ساقيها فى رقبتها دارت آثار حرق . بفستان من البوبلين الملون

عيناها الواسعتان . بإيشارب ، دست أطرافه فى صدرها ..الشديدتا الصفاء ، تغمضهما ـ لكلماته ـ فى خجل يدهشه

أطال تأمل تقاطيع وجهها المنمنمة ، ولثغتها الواضحة ، وهزة رأسها فى الكالم ، وكلماتها العفوية ، والتعبير

..بأصابعها ..شرقت فى حديثها وغربت

تتردد إال على بيوت العزاب ، أو تدخل نها المع أبيوت المتزوجين فى غيبة النساء ، واألوالد ، فإنها عرفت

استمعت إليها فى أوقات الصفو . الكثير من أسرار البيوت والمؤانسة ، وهى تستبدل ثيابها ، وهى ترتشف كوب الشاى

تسأل ال. قبل أن تدخل غرفة النوم ، وهى تتهيأ لالنصراف ، إنما تترك أذنيها ، قصعة يقذف فيها الرجال بمشكالتهم

تفرق بين شكوى التبرير للخيانة والشكوى . ومايعانون التشارك إال إذا تطلع الرجل إليها ، ينتظر رأيها . الحقيقية

.. إذا أردت ، : أحس بتحرك الدمع فى عينيه لما قالت

..فاترك لى هدومك أغسلها من شئ بين إصيعيه ، ثم يدسه ثانية وحين لمحته يتأكد

:فى جوربه ، تساءلت ـ ماهذا ؟

..ـ قطعة أفيون :ضربت صدرها براحتها

!..ـ تتعاطى الهباب ؟ :قال فى تصعب

..ـ أستعين به على السهر :أسندت ذقنها على إبهامها وسبابتها

!ـ ألسنا أولى بثمنه ؟ة الممزقة السيالة والفانل. اعتادت رؤيته فى الفرن

: ابتسمت لهيئته الجديدة . والوجه المتسخ والقدمين الحافيتين

لصوف ، والوجه الخالى من البنطلون ، والقميص ا ..األوساخ

على تأكيد ـبدا طيبا ، وإن أصر ـ بالكناية والتورية يتفق مع جسمه الضامر كأن نار الفرن لم فحولته ، بما ال

خلى له ساقيها ، فال تلحظ الفارق كانت ت. تبق له إال العظم بينه وبين المترددين عليها فى البيت المهجور ، أو يستقبلونها

تفطن إلى . ربما شرد ذهنها إلى جزر بعيدة . فى بيوتهم فوارق إال عندما تفاجأ ال. انتهائه حين ينهض من فوقها

إذا أصر ، . تحاول المسايرة أو االعتذار . بغير المألوف .. صوتها ، وهددت بالفضيحة عال

عدا الخصلة كان قد أهمل شعر رأسه ، فتلبد ، ماالمتهدلة على جبهته ، وأحاط بوجهه النحيل ، يناقض اتساع عينيه ، وتضخم أنفه ، والسنتين العلويتين األماميتين ،

لنحافته . تضغطان ـ إن أغلق فمه ـ على شفته السفلى ك فى رقبته ، إذا تكلم ، أو ابتلع البالغة ، فإن تفاحة آدم تتحر

..شيئا :فاجأته بالسؤال

ـ من أين أنت ؟

:أطلق من أنفه ضحكة قصيرة ..ـ من هنا بلدك ؟.. ـ أقصد

..ـ كفر الدوار ..ـ أنا من سحالى

أدركت أن الكالم فى هذا األمر ، ربما يجرها إلى لقريبة حياتها مع أبويها فى القرية ا. ماتحرص على كتمه

وعت على الخدمة . من دمنهور ، تبدو فى ذهنها كاألطياف على ناصية شارع . فى بيت المستشار صالح توفيق

لما اتهمها بسرقة النقود من محفظته ، . الصاغة بدمنهور تأكدت أن أباها ـ لما استدعاه الرجل ـ سيدافع عن براءتها

. ه لكنه أغلق عليها باب المطبخ ، وتالحقت ضربات.. احمرت عيناه ، وارتعش شاربه ، وتقلصت مالمحه ، فلم يعد ذلك الرجل الذى يجلس إليها أول كل شهر ، يسألها عن أحوالها ، ويطمئنها على أمها وأخوتها ، ويدس فى يدها

شغله انتزاع . خمسة قروش من راتبها الشهرى ، ويعود د اعترافها بمكان المحفظة ، دون أن يسألها إن كانت ق

ظلت . سرقتها بالفعل ، أو يصغى إلى صراخها وتوسالتها

فى مكانها ، تكتم األلم ، وتنصت إلى إلحاح أبيها بأال يبلغ فتحت . سيدها البوليس ، وأنه لن يتركها حتى تعيد المحفظة

..باب المطبخ ، وجرت بآخر ماعندها الحظ محمود عباس الخوالقة حيرتها فى محطة دمنهور

تنقل . رافقته ـ يائسة ـ إلى االسكندرية . فأجابته سألها ،. التقطت طرف . ـ لثالثة أيام ـ بين أصدقائه ، ثم تركها

..الخيط ، فعادت إلى الشقق بمفردها :فاجأها بالسؤال

ـ لماذا سميت أنسية ؟ :قالت بعفوية اعتادها

ـ قالت لى أمى أن أبى اختار اسمى على اسم سيدة .. أرض فى قريتنا تركية ، لها

:قال متضاحكا ..ـ أنت إذن أنسية التركية

:مصمصت شفتيها !..ـ ليت لى جمال التركيات

***

يدس النقود فى الحقيبة القماش ـ وهما عائدان ـلمحته :أجهشت ـ فجأة ـ باكية .

!..ـ تعدمنى ***

بعد أن اطمأن المعلم كشك إلى إغالق أبواب القهوة ، .. سيد الفران من الطريق لحقه صوت

..أدار المعلم ظهره إلى الداخل اوى ، وهو يسحب الغطاء على قال مؤمن الدشن

..صدره ..ـ وحدى جئت قبل الموعد

:تخللت صوت المعلم ارتعاشة غضب واضحة ..ـ عرفوا السهر منذ يوم اإلضراب

:أضاف ، وهو يتأكد من التصاق الطاولتين !..مح بأى تأخير لن أس.. ـ منذ اآلن

فلنعبـر النهـر أوال

إنك تعلم أنى بالجهالة مالله: من حزب الشاذلى وقد وسعت كل شئ من . وأنت بالعلم موصوف . معروف

. جهالتى بعلمك ، فسع ذلك برحمتك ، كما وسعته بعلمك أنت . اللهم فاطر السموات واألرض ، عالم الغيب والشهادة

كم بين عبادك ، فهنيئا لمن عرفك ، فرضى بقضائك ، تحوالويل لمن اليعرفك ، بل الويل ، ثم الويل ، لمن أقر

ياشديد البطش ، ياجبار . بواحدانيتك ولم يرض بأحكامك نعوذ بك من شر ماخلقت ، ونعوذ بك من . ياقهار ياحكيم

ظلمة ماأبدعت ، ونعوذ بك من كيد النفوس فيما قدرت ونسألك . ونعوذ بك من شر الحساد على ماأنعمت ورأست ،

عز الدنيا واآلخرة ، كما سألكه نبيك سيدنا محمد صلى اهللا عز الدنيا باإليمان والمعرفة ، وعز اآلخرة : عليه وسلم

واذكرنا إذا . إنك سميع قريب مجيب . باللقاء والمشاهدة ذا وارحمنا إ. أغفلنا عنك بأحسن ماتذكرنا به إذا ذكرناك

واغفر لنا ذنوبنا ، . عصيناك بأتم ماترحمنا به إذا أطعناك

والطف بنا لطفا يحجبنا عن غيرك ، . ماتقدم وماتأخر ..إنك بكل شئ عليم . واليحجبنا عنك

*** قبل أن ينتصف -مرة األولى لل-عاد إلى البيت

..الليلاموا فى حجرتهم ، األوالد ن. جلس فى الصالة يقرأ

. رأى أم األوالد مشغولة برتق الثياب . وحجرته مضاءة ..تركها ، وعاد إلى الصالة

. عمل ـ بتوصية من أمين عزب ـ شياال فى الميناء تنقلها إلى شون . حمل أجولة قمح من البواخر إلى السيارات

تقاضى ـ فى عصر كل يوم ـ ثمانية عشر . الورديان الولد عبد العال صبى الحاج قنديل بنظرته فاجأه . قرشا

:المتسائلة ـ هل تركت مهنتك ؟

:زفر فى ضيق ..ـ معلمك أنسانى مهنتى

..ـ أكلمه لك ، فتعود إلى البالنس :رفت على شفتيه ابتسامة مهزومة

..أريد إال أن يتركنى فى حالى ـ ال ..تسلم مكافأة اليوم التالى ، مشفوعة باالستغناء عنه

:درس المغربفاجأ اإلمام ، ونصف الدائرة حوله ، فى ..ـ إقض بينى وبين الحاج قنديل

:أخلى اإلمام وجهه للدهشة ـ لماذا ؟

..لى البالنس ، ويحاربنى فى رزقىـ يرفض إعادتى إ ..تجه اإلمام بنظرته الداهشة إلى الحاج قنديل ا

..ظل الحاج قنديل ساكنا :ارتفع صوت حمادة بك

..موالنا ـ مجلس علم ـ هذا ـ ياهل يرضى جلساءه فى : فتش اإلمام عن الكلمات

..نصف الدائرة ، فيغضب اآلخرين ؟أعفاه الراكشى من الحرج ، حين مضى ناحية الباب

..الرئيسى ***

:قال له الشيخ يوسف بدوى

والمحبة درجات أوالها .. يكره ـ الصوفى الحقيقى ال !رفض الكراهية

:ووضع يده ـ بود ـ على كتفه ..فابدأ .. ـ إذا كنت مخلصا فى توجهك

:التمعت عيناه بحيرة ..ـ كيف ؟ :قال الشيخ

..ـ صل ، وصم ، وأد الفرائض أوال : استطرد موضحا

ثم اقرأ . وصل ركعتين بنية التوبة واإلنابة .. ـ توضأ ..واستمع ، حتى تجد فى نفسك استعدادا للتعلم

:وتسارعت حبات مسبحته فإذا .. ـ العلوم والمعارف ثمرات التصفية والتطهير ..تطهرت األسرار ، ملئت بالعلوم والمعارف واألنوار

ـ بعد العودة من الحلقة ـ على الجوامع اقتصرت دنياهوالمساجد والزوايا والحصر واألبسطة والمنابر واألعمدة

هلة والمصاحف والكتب الرخامية والقباب واألضرحة واألالدينية والسبح والبخور والخيام والسرادقات والحضرة

وحلقات الذكر وترتيل القرآن واإلنشاد وسماع المدائح النبوية والتسابيح والتواشيح واألهازيج الصوفية والدعوات واالبتهاالت والعزائم ودقات الدفوف وإيقاع الطبول وأنغام

والصمت واالنزواء واالنفراد الربابة وأصوات المنشدين ..والتواجد والشطح والهزات العنيفة

كان يصلى العشاء ، ويخلو إلى القرآن واألوراد يقوم من مجلسه إال عند واألحزاب وكتب الصوفية ، ال

وقرأ فى . وكان يصلى الفجر بوضوء العشاء . طلوع الفجر توح مناقب الصالحين ، وكرامات األولياء ، وأخبار الف

والغزوات ، وشمس المعارف الكبرى فى السحر ، وكتب األوراد والوعظ واإلرشاد ، وسير الهاللية والزناتية وعنترة

..والظاهر بيبرس وسيف بن ذى يزن أزمع أن يختم كل . أدرك أن المقام صعب المرتقى

فدرجات الجنة . قارئ القرآن فى آخر درجة . أسبوع ختمة لزم طريق االستقامة ، وتستر ستر . على عدد آيات القرأن

اإلخالص ، وطهر نفسه بالعبادة ، وطهر الروح بدوام الذكر الصالة ، والصوم ، وبذل : حرص على مبادئ النهايات . ترك هللا أمره ، يتواله . فى اليد ، وشوق النفس إلى الحج ما

ودعا اهللا أن يعصمه من الحسد . ، ويحفظه من العصيان ..الحرص والطمع والشره والغل و

خلف دنيا الناس . صرف قلبه عن المخلوق إلى الخالق مضى مع المسارعين إلى ظل اهللا ، أهل المجاهدة . وراءه

ألقى همومه فى مياه البحر ، متالحقة األمواج إلى . واألوراد استغرقته لحظات . نهائية األفق سرح فى ال. غير انتهاء

ل الدعاوى والغايات ، وعاد إلى من التبرى والتخلى عن كقيوم حى ، يا أهللا ، يا يا: حفظ أسماء الخلوة . بداية البداية

نور األنوار نهاية النهايات ، يا ذا الجالل واإلكرام ، يا ، ياحجبت أنوار التقوى ظلمة الغفلة ، . روح األرواح ، يا

..وتوقد القلب بنار الذكر، وطارإلى اهللا اشتياقا : له الشيخ قال

أما األوراد ، . ـ الحزب بال وقت مخصص لقراءته ..فإنها تقرأ فى أوقات منتظمة بالليل والنهار

الزم الشيخ يوسف بدوى مالزمة المريد الصادق لشيخه تلتمع . يخفض عينيه فى مواجهة نظرات الشيخ . العارف

إذا لم يتكلم ، ضغطت . ببريق لم يجده فى عينى رجل آخر نه ـ بعفوية ـ على شفته السفلى ، وذقنه مشذبة ، أشبه أسنا

بإطار رقيق مختلط السواد والبياض ، وعباءته السوداء الشفافة مسدلة على جلباب من البوبلين الخفيف ، بما يناقض

..الجبة والكاكوال ، زى المشايخ ورد الليل ، وورد النهار ، وورد السفر : حفظ األوراد . ورد الجو ، وورد التهجد ، وورد السحر ، وورد البحر ، وبها العمل والحساب فيها ، ويوم القيامة . انتظم فى قراءتها

..عمل حساب والقرأ فى الوحى والرؤى والمالئكة والشياطين والكرامات والمعجزات والمكاشفات والصفات واللوح والقلم ، وحقائق

خوارق والحشر الرسل واألنبياء والموت والقبر والغيبيات والوالميزان والصراط والحساب والجنة والنار ، وأسرار العوالم األخرى ، واألرواح الساكنة فى الحيوان والطير والزواحف ، واألحالم وتأويلها ، والطب الشعبى ، وقراءة الطالع ،

..وبركات العباد والزهاد والورعين والمريدين والعارفين الموالد السنوية ، : مها قرأ فى تقاليد الصوفية ومراس

واألحزاب ، واألوراد ، وحلقات الذكر والسماع واإلنشاد ، ..والعهد بين الشيخ والمريد

كان قد شاهد األقل من تلك المراسم ، ولم يتعرف إلى ..غالبيتها

قرأ البن عربى ، والجيالنى ، والنابلسى ، والشعرانى ، اذلى ، وأبو والحالج ، والبسطامى ، واألشعرى ، والش

وقرأ الوجيز البن عطية ، والمصابيح للبغوى ، . العباس وإحياء علوم الدين للغزالى ، وختم األولياء للترمذى ، وقوت القلوب للمالكى ، والرسالة البيانية للقشيرى ، واللمع للطوسى

وقرأ فى الزهد . ، وبردة البوصيرى ، وديوان ابن الفارض زاد ، فقرأ فى الحب . اهدة النفس والتقشف ومخافة اهللا ومج

ثم قرأ فى . اإللهى والطاعة المجردة عن الرغبة والرهبة الفناء والجذب والمحو والغيبة والكتاب والبقاء والحلول

وقرأ عن الصالحين والمحبين والمطيعين . والتجلى وحصل على سير وشروح وتفاسير . والمشتاقين والمقربين

..ومعارضات الفناء والبقاء ، الموت والحياة ، التخلص : حفظ الذكر

من آثار الرغبة واألنانية ، تثبت الروح فى طهرها وبراءتها ..

قرأ فى المقامات واألحوال والشوق والصبر والخوف والرجاء والقرب والبعد والزهد واألنس والبسط والقبض

والمراقبة والهيبة والمشاهدة وسائر األحوال ، والوقت والجمع والتفرقة والصحو والذوق والمحو واإلثبات والوجود

..والتجلى والمحاضرة عرف مقامات اإليمان باهللا ومالئكته ورسله ، وباليوم

التوبة ، والشكر ، : اآلخر والغيب وقضاء اهللا وقدره والصبر ، والخوف ، والرجاء ، والتوكل ، والتوحيد ،

الباطنية ، واألنس والزهد ، والفقر ، ومحبة اهللا ، واألذواق ..باهللا ، والرضاء بأحكامه ، والشوق إلى يوم اللقاء

يصح تعرف إلى معان لم يكن يعرفها ، تصور أنه الالحب ، الخمر ، الشرب ، السكر ، المدام : أن يعرفها مسلم

، الكأس ، الصد ، الهوى ، الجفا ، الوجد ، العتاب ، الصبابة .. ، الهيام ، الندامى ، العشق ، التوله ، الوصال

تردد على مكتبة أبو . زاد على ماقدمه الشيخ إليه العباس ، وعلى المكتبة الحجازية أول شارع الميدان ، ومكتبة حمامة النن بالموازينى ، وباعة الكتب على رصيف

يستعير الكتاب لليوم التالى . شركة ليبون بالمنشية الصغرى

يخلو إلى فراشه ال. ويقرأ ، ويقرأ ، يظل ساهرا ، يقرأ . ..إال إذا قهره النوم

فى . انصرف إلى رياضات العزلة والخلوة والصمت فى ركن يطل على الدحديرة الخلفية ، . صحن أبو العباس

يبعد عن زائرى الجامع ، وحتى عن المنشغلين بأداء ركعات يغادر مجلسه إال ألداء الصالة فى مواقيتها ، أو ال. السنة

للتردد على مساجد الحى األخرى ، أو لبيع شروة يحصل عليه من حمودة هلول ، أو للذهاب إلى البيت بعد إغالق

يفتح النافذة المطلة على زاوية الزواوى ، . أبواب الجامع يتربع . يكتفى بالضوء المنبعث منها . ويضئ لمبة الصالة

..فوق مخدة صغيرة ، يخلو إلى بحر يغيب أفقه بالسؤال إلى علماء الشرع والفقهاء وأهل الحديث لجأ مجالس األئمة فى ياقوت العرش والبوصيرى . والتفسير

واستأذن فى الجلوس إلى قاضى المحكمة . وعلى تمراز وأنصت إلى اجتهادات مشايخ . الشرعية بشارع فرنسا

لم يفرق بين جامع وآخر ، . الطرق فى موالد أولياء الحى بين إمام ذائع اإلسم ، أو مسجد وزاوية ، والبين جامع و وال

. يستزيد من العلم ، دون انشغال بالمصدر . آخر مجهول

يترك . يسقط ذقنه على صدره ، ويغمض عينيه ، وينصت األسئلة للمحيطين ، اليسأل إال إذا أوشكت الجلسة على

يأذن له اإلمام ، . صبعه إيغالب حياءه برفع . االنفضاض يهمس بالسؤال فى . يطيل ، واليعلو صوته ال.فيسأل

..كلمات قليلة ، ثم يعطى انتباهه إلجابة الشيخ الحظ أمين عزب ـ فى انحناءة الطريق إلى الميناء

علت . الشرقية ـ ثيابه المتسخة ، وإهمال شعر رأسه :الدهشة بصوته

..على الراكشى أم الشيخ حماد ؟.. ـ من أرى الشيخ حماد داخل المساجد ، وأمامها اعتاد الناس رؤية

، وفى حلقات الذكر ، وفى الشوارع ، وعلى أبواب الدكاكين جسمه الضخم ، وشعره المهوش ينسدل على كتفيه ، .

ويتداخل مع شعر ذقنه ، وفمه المنفرج عن شفتين متدليتين ، تتوقف ، . وأنفه الذى أجهده زكام دائم ، وخطواته المهرولة

ثم . نه ، يرنو إلى الناس واألشياء ، كالمتأمل فيظل فى مكا !..حى : عنده يطلق الصيحة بآخر ما

عرفه الناس من أهل . كان معظم الوقت غائب الحس الجذب والصحو والكرامات ، وإن لم يكن أحد يعرف عن

من أين أتى ؟ أين يقيم ؟ أين يختفى عندما . حياته شيئا أين ينفق ـ وهو يرفض تطول غيبته ؟ وبمن يلتقى ؟ ومن ولم يكن يتقاضى مقابال . مساعدات الناس ـ على نفسه ؟

يا: يكتفى بالقول . حين يسبق فى الطريق أم طفل تائه ويسأل الناس المرأة عن طفلها التائه ، وإن روى .. عدوى

دياب أبو الفضل أنه رآه يختلى ببائعة فجل فى ضريح سيدى سبقت صيحة . الفجر تبينهما دياب فى غبشة. كظمان

تكاثفت . الرجل بانجذابه صيحة دياب بإعالن الفضيحة الهمسات والتساؤالت والتخمينات ، وإن لم تلتق على تصور

عرف الناس أن له حاالت وكرامات ، منجذب إلى . محدد يرونها ، فال أحد يسأله عن تصرفاته وأقواله قوى يراها وال

صعب تبينه ، ويلوح بيده يحدث نفسه ، ويعلو صوته بما ي. واشتهر بالكالم على . يرونه ، ويبتسم ـ ويكشر ـ لمن ال

. الخاطر ، واإلخبار بالمغيبات الماضية والحاضرة المستقبلة وقد يفاجأ جالسا أو مارا بشتمة . ربما تكلم بكالم من الحكمة

أو بصقة أو ضربة عصا ، قيل إنه يتجه بها إلى من أغضب وكان يعروه فى بعض األوقات ذهول ، . بعصيانه اهللا

يمضى . فينصرف عن الناس ، اليستمع إليهم ، وال يحادثهم

فى طريقه ، أو يقف حيث هو ، وتتجه نظراته إلى مااليراه . لم يكن ـ مع جذبته ـ يترك من الصالة فرضا . أحد

يؤديها فى المسجد القريب ، اليتردد على مسجد بالذات ، ليه على رصيف ، وكبر بالصالة ، وإذا تناهت وربما خلع نع

إليه أصوات ذكر أو تواشيح أو ابتهاالت ، دارت رقبته ـ .بتلقائية ـ فى تناسق مع النغم

. الكها فى فمه . دبر على الراكشى الكلمات فى ذهنه غمغمت شفتاه بما لم يتبينه أمين عزب ، فهز رأسه ـ

..الة متحيرا ـ وواصل السير إلى قلب السيأحس أن مناهل استزادته تتسع ، فاشتطت به األشواق ، واقتصرت صداقاته على العارفين والزاهدين والعابدين

وأكثر . والمشايخ والمنشدين وسمار الليالى وأهل الطريق ..من االستغفار والتسبيح والصالة على النبى

:فاجأه الشيخ وهما ينزالن الدرجات الرخامية البيضاء تريده بال غاية ا ألن م.. تريد نت لن تصل إلى ماـ أ

.. :وخالط صوته حسم

منزلة ، فستظل فوقك منازل ـ مهما تبلغ من ..ودرجات

:وقال للتساؤل فى مالمحه . وتوقف عن السير لم تنضم إلى إحدى الطرق ، فستظل من أهل ـ ما

!الظاهر والرسوم :أضاف لحيائه المطرق .. والتعلم ، هو البداية فى الطريقـ الحرص على العلم

:ولجأ إلى تعبيرات يديه موضحا ـ البد فى البداية ، أن يتأدب المريد على شيخ يثق فى

..علمه زاد إصراره على أن يكون من الشاذلية ، لما قرأ أنهم

: بعدهم يختصون بثالثة أشياء ، لم تكن ألحد قبلهم والالثانى أن . محفوظ األول أنهم مختارون من اللوح ال

الثالث أن القطب منهم . المجذوب منهم يعود إلى الصحو ..دائما أبدا إلى يوم القيامة

كان يعرف اإلسم . خال إلى حياة قطب العارفين تغيب السيرة التى ولدت الطريقة . والصفات المطلقة

انفتحت أمامه دنيا واسعة ، . والتالميذ والمريدين واألتباع ..طائف الحكمة ، وحقائق المحبة ، وأنوار العلم تفيض بل

همس لنفسه ، وهو يميل من شارع الحجارى فى طريقه يؤدى .. هل يصبح ـ ذات يوم ـ من األقطاب ؟: إلى البيت

. ورده بمفرده ، يتخطى اجتهادات أهل النجدة ، وأهل الغيب يعلم ما.. يبدل خلقا بعد خلق ، ويصفى تصفية بعد تصفية ؟

تشرق عليه أنوار .. يعلمه إال الصفوة المختارون ؟اليعرف حقائق األسرار ، .. األرواح السماوية العرشية ؟

وكيفية الصعود والنزول واالستواء ، وسر االستمداد والتدبير يظهره اهللا إلى الوجود ، يصرفه إلى الكون ، . والتسخير

عيان ، ينطقه بالمغيبات ، يخرق له العوائد ، يقلب له األيمشى على الماء . يظهر على يديه العجائب والمكاشفات

والهواء ، يطوى األرض ، يركب السماء ، يكلم المالئكة واألرواح المهيمة فى جالل اهللا تعالى ، والجماد والحيوان

..الذى الينطق ؟هون األمر بأن األقطاب كانوا مريدين صغارا ، ثم

الترقى ، فيصبح من األبدال فهل يتاح له التدرج و. تدرجوا

، والنجباء ، والنقباء ، واألبرار ، واألوتاد ، ثم يصبح قطبا ..، له فضائله ومكاشفاته ؟

فى قهوة مخيمـخ

:قال الجد السخاوى بنفس مكروش ..ـ أنا قادم من القضاء

:همس قاسم الغريانى لحمودة هلول !..اسمها أيام عرابى .. ل ـ يقصد مساكن السواح

اختار الجد السخاوى كرسيا بجانب طاولة ، تفصل بينه الجدران مغطاة بالخشب المكفت ، تزينه . وبين حمودة هلول والكراسى خشبية ، قاعداتها ومساندها . قطع مرايا هائلة

وثمة ـ على الجدران . العلوية جدائل مصنوعة من الخوص د يطعن بسيفه ، من فوق جواده ، ـ صورة لخالد بن الولي

..مسيلمة الكذاب ، الملقى تحت قدميه . كانت مساحة الظل قد اتسعت ، فمألت ميدان المساجد

يشغى بالناس ، والباب الجانبى ألبو العباس فتح لصالة المغرب ، والمتصوفة يسندون أجسامهم وأعالمهم على

..جدران الجامع ، استعدادا لحلقات الذكر

لمح الجد السخاوى شهابا ساقطا فى نهاية األفق ، عند ..نهاية السلسلة

:قال بتلقائية !..ـ سهم اهللا فى عدو الدين

وعلى رأسه طاقية . كان يرتدى جالبية من الزفير ودس قدميه فى قبقاب خشبى ، يصدر ـ إذا سار . بيضاء

.. ـ صوتا ذى إيقاع ا قاسم الغريانى ، ضحك حمودة هلول لمالحظة أبداه

الذباب اليقترب من الجد السخاوى ، . وأكدها باقى الرجال ..اليقف حتى على ثيابه ، كأنه يعرف مكانته بين الصيادين

:قال الجد السخاوى ـ المظاهرات بطول الكورنيش ترفض قرار مجلس

مزق المتظاهرون علم أمريكا ، .. األمن بتقسيم فلسطين ..وداسوه باألقدام

:قال قاسم الغريانى ـ معلوماتى فى السياسة مثل معلومات حمودة هلول فى

..الهنك :وطوح بقطعة حبل فى الهواء

ثم نساوم ؟ .. لماذا النقبل : ـ مع ذلك فإنى أسأل :ثنى إليه الجد السخاوى مالمح متسائلة

ـ نساوم على أرضنا ؟ :قال الغريانى

..ـ على ماخسرناه ـ أفضل من البكاء ـ فيما بعد :قال حمودة هلول

ـ مع أن الغريانى اسكومندو الجد السخاوى فإنهما !..اليتفقان إال فى حب البحر

قال عبد الوهاب افندى مرزوق الموظف بمكتب صحة :الجمرك ، بنبرة عليمة

..ـ هذا قرار تقف وراءه الدول الكبرى دهنه .رغم تقدم عمره ، فقد ظل شعره أسود كثيفا

يقص ذقنه ، اليطلقها ، . بالفازلين ، ومشطه إلى الخلف وكانت جبهته تبرق دائما ـ حتى فى . واليحلقها بالموسى

وكان يرتدى بدلة من الكتان البنى . الشتاء ـ بقطرات عرق ..، وحذاء أبيض على بنى

:قال محمود عباس الخوالقة لمحيى قبطان ـ هل قررت إطالق لحيتك ؟

: محيى قبطان قالالأستطيع أن أدخل عليها وأنا حالق .. ـ زوجتى نفسة

..ربما تنشهر أو يتكبس لبنها .. ذقنى أو رأسى كان محمود عباس الخوالقة قد وصل إلى الثالثة

. االبتدائية ، ثم عمل مع أبيه فى البالنسات ، وفى الحلقة حلقة أو الحاج قنديل شدد على أبنائه ، فال يترددون على ال

تخرجوا من الكليات ، والتحقوا بوظائف فى . القهاوى اليعرفون حتى . الحكومة ، وتزوجت اإلبنة الوحيدة

الصيادين الذين يعملون على بالنسات الحاج قنديل ، لم يكن يشغل المعلم . والالسماكين الذين يتعاملون معه

ولم. عباس الخوالقة ، رؤية محمود ومصطفى فى القهوة يكن يضع على مائدته أسماكا يسهل صيدها ، طعمها

ثعابين . البسارية والجمبرى الميت وقطع الخبز المبلول البحر والكابوريا أطباق دائمة ، ولحم الترسة طبق رئيسى

ربما أوصى بشراء لحم قرش من . فى غداء كل جمعة وأحد من األسماك المفترسة والمؤذية تؤثر فى قلب. البحر األحمر

. يواجه الخوف والمجهول ، اليميل فى أول انحناءة . يأكلها لم يركبا البحر لصيد ، . عاونه محمود ومصطفى فى الحلقة

عرف . وإن أجادا السباحة والدخول بالفلوكة فى عز النوة يرحب بالحاج قنديل والحاج محمد . عنه أنه اليختار جلساءه

ويدعو خميس صبرة وحمادة بك وعبد الرحمن الصاوى ،شعبان ومحيى قبطان وقاسم الغريانى وبقية الصيادين

البالنس للصيد ، والحلقة للبيع ، . والسماكين فى الحلقة وإذا جلس فى . والقهوة لقضاء الوقت والمودة والمؤانسة

القهوة فإنه ـ وحده ـ يدفع حساب كل الجالسين معه ، ..لى جيبه حتى حمادة بك كان يضغط على يده إن امتدت إ

وقف الجالسون لجنازة فى طريقها من الحجارى إلى :همس الغريانى لصوات امرأة . مقابر العامود

!ليتها تصوت فى بيتنا.. ـ صواتها جميل :قال الجد السخاوى

ـ من كان يعلم أن الكورنيش سيحيط باإلسكندرية ؟ :قال عبد الوهاب مرزوق

..قا جديدا ـ خلقت االسكندرية بالكورنيش خل :قال حمودة هلول

ـ لو أنى كنت أعلم بالكورنيش ، ربما كنت أبيع كل ..ماعندى ألشترى أرضا على البحر

:قال محمود عباس الخوالقة ..ـ أبى سمكة ماؤها السيالة

لما عرض على أبيه شراء بيت فى طريق الكورنيش ، رفض . عرض هدم البيت ، وإقامة بيت جديد . رفض

هاجسه أن هد البيت سيؤدى إلى انهيار . س الخوالقة عبا ..البيوت القديمة المجاورة ، المتالصقة

:قال قاسم الغريانى ـ هل أصبح الستر عملة جديدة ؟

:قال عبد الوهاب مرزوق مع ذلك فما .. ـ انتهت الحرب ، واستقرت األمور

..تزال غالبية بيوت الشاطئ ترفع الفتة شقق لإليجار :ال حمودة هلول ق

ـ لماذا اليحاول المقتدرون ـ مثل حمادة بك ـ أن ..يفيدوا من هذه الفرصة ؟

:قال صابر الشبلنجى لحسان عبد الدايم بدال من جحر .. ـ لماذا التستأجر شقة على الشاطئ

!حارة قراقيش ؟ :قال حسان وهو يدفع بيديه خطرا مجهوال

ـ وأين أذهب من الجد السخاوى ؟كان الجد السخاوى دائم التحدث ـ والسخط ـ عن بدعة انتقال أبناء األنفوشى ورأس التين إلى منطقة الرمل ،

أصاب الناس خبل . والعمارات الجديدة فى طريق الكورنيش نسوا أصولهم ، ومهنتهم ، وأولياء . ١٩٣٤، بعد إنشائه فى

اهللا الذين يتبركون بجيرتهم ، وانطلقوا إلى المناطقلم يعودوا يعرفون من االسكندرية سوى . والعمارات الجديدة

..الرمل وطالع :قال الغريانى

ـ حسان يدفع ثمن تكاسله عن الحصول على شقة أيام ..الحرب

:وأردف فى نبرة متصعبة ..ـ كانت الشقق الخالية على قفا من يشيل

. قدم الجرسون هارون شايا لخميس شعبان ، فرفضه :قال

..ـ هات كوب كزبرة مغلية :قال هارون

..تأخذ كمونا ؟.. ـ قد الأجد كزبرة

:قال خميس شعبان ..الكزبرة أفيد .. أحس بانتفاخ فى البطن .. ـ ال

:قال صابر الشبلنجى .. تزوره الكوابيس كل ليلة .. ـ مسكين سيد الفران

نصحه الشيخ جابر برغوت بتعليق جورب بشكل تقاطعى .. قدميه من السرير ، بعد أن يشبكه بدبوس ناحية

:استطرد متحسرا والينام .. ـ المشكلة أن سيد لم يرتد جوربا فى حياته

!ـ مثل العبد هللا ـ على سرير ألقى محمود عباس الخوالقة ببقايا السيجارة فى الطريق

:وهو يقول !..ـ دستور

:قال للدهشة فى وجه حسان عبد الدايم على أن أعتذر .. نا أصابت واحدا من اخوانـ ربما

..لهثنى . انتفضوا لصيحة مفاجئة من خليل افندى زيتون

:إليه قاسم الغريانى مالمح مبتسمة

عثرت لك على عروس .. ـ التحزن ياخليل افندى ..مناسبة

كان خليل زيتون من أسرة موظفين ، يغلب على لبلقطرية ومساجد تزاوج تردده على ا. أفرادها االنطواء

. اكتفى من تدخين الحشيش ـ فى البداية ـ بالقطعة . الحى اليجاوز الدخان الفم إلى الحلق ، ثم يطرده ، ويمضغ ليمونة

ثم . إذا طالت الجلسة ، اليتأثر ، واليغيب ذهنه . كاملة وقال لجلسائه فى لحظة . جاوز تدخين الحشيش إلى مضغه

!. فسينتهى إلى قطعة حشيش لو أن جسمى عصر ،: صفاء الحشيش هو أفضل وسيلة لتحقيق المساواة بين البشر : وقال

وفاجأ رواد قهوة مخيمخ ، لما أقبل عليهم ـ ذات مساء !. لم : قال للنظرات المستغربة . ـ يرتدى طربوشا بغير زر

اعتاد الناس رؤيته ـ فيما بعد ! .. أجد لزر الطربوش فائدة اعتادوا صيحاته ونداءاته واستغاثاته . ى ـ فى شوارع بحر

. ، وجلوسه ـ منفردا ـ على القهوة ، يتحدث مع نفسه يهمس صوته ويعلو ويغضب ويتشاجر ويزعق ، الينشغل به

..الرجال ، ويمنعون األوالد من أذيته ، فهو بركة :قال عبد الوهاب مرزوق

طل ـ المجانين وحدهم هم الذين كانوا يشترون بيوتا تكان الشاطئ ـ قبل إنشاء الكورنيش ـ مجرد . على البحر

..رمال وصخور ومياه اليردها سور :قال الجد السخاوى

ـ عندما بنى صدقى الكورنيش ، لم يكن فى ثم تضاعفت .. االسكندرية سوى األنفوشى والشاطبى

..الشواطئ إلى المنتزة :وعال صوته بلهجة متباهية

!..ل االسكندرية ـ هذا الشاطئ هو أص :قال مختار زعبلة

..ـ أريد أن أركب البحر :قال قاسم الغريانى

!..ـ إركب امرأة أحسن :أغمض عينيه ، وأردف

!..سأوصى أن أدفن فوق امرأة .. ـ قبل أن أموت :قال محمود عباس الخوالقة

..ـ كنت ظهر اليوم فى سوق الدقاقين :قال حسان عبد الدايم

..ا ـ خير : قال محمود

..ـ بحثت عن وصفة لعالج الكحة التى طالت مع أبى :قال الجد السخاوى لخميس شعبان

فلن تكون بحاجة . ـ إذا أكثرت من أكل الخضروات ..إلى طبيب

:قال محيى قبطان !..ـ خميس فى حاجة إلى دواء ينقذه من الخوف

قادما كأنه يتوقع. عرف عنه الرجال تلفته ألقل صوت كالكس سيارة ، سقوط مجداف ، : ، أو يخشى المجهول

ارتطام باب ، وقع أقدام ، نداء ، تعالى أذان من مسجد قريب ربما مال ـ بعفوية . ينتفض كالمنتبه ، أو ينصت باهتمام .

ابتدره على الراكشى ـ يوما ـ . ـ كأنه يفر من المكان !..الأحد : له غالب انفعا.. هل تتوقع أحدا ؟: بالسؤال

لحظت المرأة النظرات الموجهة إليها ، وإن تظاهرت ..بأنها تتظر إلى الناحية األخرى من الطريق :هتف قاسم الغريانى وهو يصفق بيديه

!..ـ أحب السمك الرعاش

:وأسند ظهره إلى الكرسى يكفى أن تقلبها على ظهرها .. ـ إنها امرأة مثل الترسة

!..، فيسهل صيدها :قال الجد السخاوى

اهللا ، الحترق هذا الحى من ـ لوال بركات أولياء ..!فساده

..ـ لماذا التتزوج ؟عرف الغريانى من نظرة حمودة هلول المتسائلة ، أنه

:قال . يقصده بالكالم لماذا .. ـ ولماذا أقيد نفسى ببيت وزوجة وأوالد ؟

..أحمل نفسى مسئولية الأقوى عليها ؟أميز . طويل القامة . والى الثامنة والعشرين كان فى ح

مافى وجهه عينان لوزيتان ، واسعتان ، شديدتا االلتماع ، تدلى شعره على عنقه وقفاه ، وشفته . وحاجبان كثيفان

يرتدى . وله شارب نحيل يميل إلى الصفرة . السفلى ممتلئة سرواال طويال واسعا ، فوقه صديرى ، وفى قدميه حذاء من

. لم يتزوج ، وإن عرف عنه ميله إلى النساء . الكاوتش يتخيل . يعرى المرأة الواقفة ـ أو المارة ـ أمامه من ثيابها

التفصيالت الدقيقة ، يحكى على القهوة تخيالته ، كأنه رآها اليشغله إن كانت المرأة زوجا أو أختا ألحد أصدقائه . بعينيه

..كالها جعلت النساء للمتعة فى كل أش. :رماه دياب أبو الفضل بنظرة ضيق

!الكتفيت بقطع رأسك .. ـ لو أنك على األورمة " يقف أمام . قبل طلوع الفجر ، يغادر حمام األنفوشى

ينظف شروات السمك الصغيرة ، إلى . فى الحلقة " أورمة يتوالى فتحه لبطن السمكة ، يخرج أحشاءها ، . ماقبل الظهر لمالح ، ينظف القشور من الجسم ، يقذف بها يغسلها بالماء ا

تنتهى الشروة ، أقة أو أقتين ، . فى الطبق النحاس المجاور يقذف بها فى القرطاس ، ويضع على األورمة شروة أخرى

يوزع وقته بين قهوة الزردونى وقهوة . يغادر الحلقة . مخيمخ ، ومشاهدة مباريات الكرة فى الساحة الترابية ،

. حتى الغداء يتناوله فى مطعم النبالء . للحلقة المالصقة يلقى السالم . ربما تسكع فى الشوارع والحوارى بال هدف

يشارك فى الموالد . على من يعرفه ، أو يأخذ منه ويعطى وحلقات الذكر ، وإن اكتفى بأداء صالة الجمعة فى سيدى

.نصر الدين

:قال محيى قبطان .. عامت يقرقش .. ـ الغريانى مثل فأر المركب

..غرقت ينط على البر :قال الغريانى

..ـ أنا الأريد ألحد أن يشاركنى حياتى :قال حمودة هلول

..ـ لكنك تريد من يخدمك : قال الغريانى

..ـ هل أعجز عن تدبير اللقمة وغسل الهدمتين ؟قضمته . وأشاح بيده ، فبدا أصبعه الخنصر مختفيا

:ترسة بكفيها !تنس أن معظم حياتى فى البحر ـ ال

:قال عبد الوهاب مرزوق ..ـ ماأجمل أن تعود لتجد امرأة فى انتظارك

:شوح الغريانى بيده !..ـ اليهم أن تكون هذه المرأة زوجتى

حين عرض دياب أبو الفضل علي قاسم الغريانى أن يقاسمه شقته ذات الحجرتين والصالة ، اعتذر بأنه ألف الحياة

اليستطيع أن يحيا مع شخص آخر ـ ولو كان . رده بمفوكان يتجه ـ أحيانا ـ . صديقا غاليا ـ تحت سقف واحد

إلى طريق الكورنيش ، يتمنى رؤية امرأة وحيدة ، تشاركه ..المغامرة

مع أن المعلمة أنصاف كانت قد جاوزت الشباب ، ولم تكن تعنى ـ فى ترددها على بحرى ـ بمظهرها ، فإن

تدق األرض بكعبيها . مح وجهها كانت تشى بجمال قديم مالقيل إنها التتردد على . ، فيتعالى رنين الجالجل والخالخيل

بيتها باألنفوشى ـ قبالة الحلقة ـ منذ استقرت فى كوم بكير حتى آخر أزواجها عبد العال حلوفة ، . ـ إال لضرورة

لمعلمة غاب عن بحرى ، واقتصر على المدافعة عن نساء ا..

:قال حسان عبد الدايم .. المعلم التميمى صاحب اسطبل السيالة .. ـ بالمناسبة

..شاهدته أمس فى بار بكوم بكير :قال الجد السخاوى

!هل كنت تصلى هناك ؟.. ـ وأنت :قال حسان

..ـ كنت فى طريقى إلى كوم الناضورة :واستطرد مؤكدا بتعبيرات يديه

وشربت الخمر .. الشأن لى بكوم بكير .. ـ الحمد هللا ..فى غلطة وتبت

أحزنه أنه . جره الغريانى لشرب الخمر فى بار البوستة هكذا قال له أمين عزب . لن يستطيع الصالة أربعين يوما

روى أمين عزب حديثا عن الرسول . حين صارحه بما فعله وقه أثر الخمر يظل فى جوف المرء وعر. ، يؤكد المعنى

..وأعضائه أربعين يوما كاملة قوادين ، : سرحـت أخيلة الرجال فى الحى القريب

وبرمجية ، ونساء صبغن الوجوه بالبودرة الملونة واألقالم وأحمر الشفاه ، وأسدلن الشعور ، وارتدين قمصان النوم الشفافة ، والصنادل ذات الكعوب العالية ، تطل منها أصابع

..مطلية األظافر :قال قاسم الغريانى

فهو .. ـ جعل التميمى من الملكة نازلى مثله األعلى ..يحرص على التلذذ بالحياة إلى آخر قطرة

:قال مختار زعبلة لعبد الوهاب مرزوق

..ـ معى كابوريا :قال عبد الوهاب مرزوق

..ـ الأحبها :قال مختار

هى طعمها أش.. ـ إنها كابوريا حمراء ، وليست زرقاء ..

:عال صوت الجد السخاوى فائدتها الوحيدة أنها تأكل .. ـ وهل للزرقاء طعم ؟

!األسماك ، وتقضى على كل ماتصادفه :قال حمودة هلول

ومع محاوالت .. ـ فى السنة الماضية لدغتنى واحدة ..الحاج محمد صبرة ، فلم أنم ثالثة أيام بطولها

:فاجأ الجد السخاوى مختار زعبلة ..ـ هل أنت صياد بالفعل ؟

:دارى مختار ابتسامة مشفقة ..ـ ماذا ترى ؟

:قال الجد السخاوى ..ـ والكل من ركب الحصان

:ثم وهو يدنى الكابوريا من عينيه ..ـ إنها تسم البدن إذا دخلته

:وقذف بها إلى أرض الطريق فهو القطن الطويل التيلة عند .. ـ إكتف باإلسفنج

..الصياد :تنهد مختار زعبلة

..ـ وماذا أعمل لظهرى الذى أقعدنى ؟ :حدق حمودة هلول فى القادم

.ـ الحاج قنديل يطلبنا فى رحلة جديدة

أولى مراتب السالكين

يــارب صـــل علـى الحبيب محمـــد خيـر الوجــود المصطفى نـور الهـــدى

*** اهللا اهللا نكبــره اهللا اهللا ونذكــــره

اهللا اهللا يجمعنــا والنور تبين مشاعــره النور تبين بشائره والقلب طوته نظائــره

*** بـدأت بسـم اللـــه أدعــوه ربيــا

ـرار المـوالى الخوافيــــاإلى كشف أس وصليت دومـا علــى الحبيب محمـــد صــالة الحب للحبيــب الهاديـــــا سـألتـك ياأللـه يامـن بـــك اهتــدى ا قلبى وروحــى وفــؤادى وعقليــــ ألف قلــوب العالميـــن لقلبيـــــا وأمدنــى يــاذا الجــالل بنفحــــة

فــؤاد صافيــــاتجعــل القلــب وال

:قال الشيخ يوسف بدوى

!ـ التركب البحر على الشاطئ :ثم وهو ينظر إلى مالم يتبينه على الراكشى

الذكر . ـ الذكر ـ كما قال أولياؤنا ـ أكبر من الجنة نصيب اهللا ، والجنة نصيب العبد

: وقال الشيخ ـ إن الجنة تبنى بالذكر ، فإذا حبس الذكر ، كف

..ءالبناتنتظم على توجيهات . يبدأ مجلس الذكر بالمستفتح

الشيخ حركة الذاكرين باإلنشاد ، واإلخالص فيما هم مقدمون ينداح فى . بستغرق فى الذكر ، فيخرج النور من فمه . عليه

..المكان ، تشرق به وجوه المريدين اشترى للطريقة ـ على نفقته ـ دفا ، تضبط بإيقاعاته

حدد لهم طريقة االهتزاز أثناء . فى مواكبها حركات السير الذكر ، والجهة التى ينبغى أن يميلوا فيها ، عند نطق كل

..يمد الكلمات ، يمطها ، ينغمها . كلمة :قال الشيخ

..ـ التوبة أول مراتب السالكين لطريق الصوفية :وصمت حتى استرد أنفاسه

ق الصوفى ـ التوبة هى أول مايجب أن نفعله فى الطريإنها ـ كما يقول إمامنا الغزالى ـ مبدأ طريق السالكين ، .

..وأول أقدام المريدين :قال على الراكشى

..ـ فأنا إذن بدأت السير فى الطريق :قال الشيخ

ـ الأستطيع أن أهب إشارة االستمرار إال لمن يستحقها ..واصل تعلمك أوال .

لب منه أن يستعيذ من ط. لمحه يتثاءب وهو قائم يصلى كان . نفخ فى أنفه ، حتى يتثاءب وهو فى الصالة . الشيطان

يجب أن يتحرز ، فيضع يده على فمه ، حتى اليدخل ..الشيطان جوفه

اشتغل بأنواع . تاب إلى اهللا ، واجتهد فى التمثل بالشيخ المجاهدات ، من صوم وقيام الليل وقراءة القرآن وكثرة

كيف يدخل الحضرة بخشوع وحب وطهارة تعلم . التسبيح يحاول ـ . يغادر حمام األنفوشى ، وقد تطهر جسده . كاملة

يسقط . فى الطريق إلى أبو العباس ـ أن يطهر داخله أيضا عرف . ماعدا ذكر اهللا ، واالنشغال بحبه ، والشوق لذكره

األستاذ ، وإمام الوقت ، وشيخ العهد ، والنقيب ، : أسماء غفر اهللا لهم . لكل مقامه واختصاصه . ، والوتد والبدل

وقرأ فى الكبرياء ، والعزة ، والقوة ، والعظمة ، . أجمعين واإلجالل ، واالتصاف بالقدرة التامة ، والعلم المحيط ،

تعرف إلى عالم األسرار واألنوار . وسائر أوصاف الكمال الظاهر والرموز واإليحاءات والدالالت والمشكاة والزيتونة و

تمنى أن يطيب . والباطن والزيت الذى يضئ ولم يمسه نار يطهره اهللا من . قلبه بنور التوحيد والمعرفة واإليمان

يقفل . يحفظه ويحرسه ، ويمأله محبة وخشية . األوساخ المعرفة ، : يصل إلى الكرامة العظمى . عليه قفل القدرة

..واالستقامة ، ورفع الحجاب ، وفتح الباب :قال يوسف بدوى

من لم يتغلغل فى علمنا هذا ، : ـ قال شيخنا الشاذلى ..مات مصرا على الكبائر ، وهو اليشعر

لم . أقبل على التصوف ، واالمتثال ألحواله ومواجيده صار لها . تعد األلفاظ عنده بال معنى ، أو بمعانيها الظاهرة

البسط الذوق والوجد والقبض و: فى نفسه مدلوالت أعمق والهيبة واألنس والغيبة والحضور والسكر والمحو والفناء

يشغلهم . والبقاء ، وغيرها من الكلمات التى ينطقها الناس معانيها الظاهرة ، دون أن يجاوزوا ذلك إلى عمق المعنى ،

لم يكن يستقر على حال ، فهو بين البسط . ودالالته الخفية يل إلى الكالم والعزوف والقبض ، والسرور واالكتئاب ، والم

..عنه ، واإلقبال على الناس واالبتعاد عنهم قال له الشيخ ، وهما يغادران أبو العباس عقب صالة

:العشاء ومقامك يعنى ركوب .. ـ أنت اآلن متوسط سالك

األهوال فى طلب المراد ، ومراعاة الصدق فى األحوال ، ..واستعمال األدب فى المقامات

لو ـ كل مساء ـ قل هو اهللا أحد ، إحدى نصحه بأن يت :وقال للتساؤل فى عينيه . عشرة مرة

..ـ من فعل ذلك ، بنى اهللا له قصرين فى الجنة :أردف فى تأكيد

ـ من قرأها ثالثين مرة ، بنى اهللا له ثالثة قصور فى ..الجنة

دعاه إلى أن يصقل مرآة قلبه ، يصفيها من الخبائث تراكم الصدأ داخل القلب والعقل ، يحسن يمنع . الطبيعية

..التلقى واألداء ، فال يقول حتى يعلم ، واليرد مالم يعلم حذره من أن يقصر همته على األفعال الظاهرة ، دون أن يرى ماهو عليه من هذه األفعال ، اليعرف األصول والالمقامات وال العلوم الوهبية اللدنية ، والاألسرار

. أنه اكتفى بذلك ، فسيظل فى مرتبة العباد لو . والالكشوف ..ها دون مايأمله منه ، ويتمناه لهمرتبة جليلة لها قدرها ، لكن

*** :تأخر عن المريدين ـ ليلة ـ وقال

..ـ لقد اخترت شيخى :قال يوسف بدوى

..ـ من ؟ :وهو يومئ ناحيته

..ـ موالى :قال الشيخ فى لهجة باترة

..ـ إذا أخذت العهد عليك ، فأنت ترتبط بى إلى األبد :هز رأسه

!ـ أعرف :قال الشيخ فى لهجته الباترة

وتقدمنى فى كل . ـ التخالفنى ، والتعترض على األمور على غيرى من المشايخ ، والتتردد على ولى من أهل العصر ، والصالح ، إال بإذنى ، والتحضر مجلس

..ن سواى غيرى ، والتسمع م :وهو يخفض نظره

!..أعرف !.. ـ أعرف :خالط صوت الشيخ حدة

. الحركة والكالم . ـ أنت معى على صورة الميت التتحدث بين يدى إال بإذنى ، والتعمل شيئا إال بإذنى ، من زواج أو سفر أو خروج أو دخول أو عزلة أو مخالطة أو

..اشتغال بعلم أو قرآن أو ذكر أو غير ذلك !..ـ تعلمته كله

:قال الشيخ فى استنكار األسرار ، وأنت لم تتب من ـ كيف تفهم دقائق

؟.هفواتك

أبوالعباس المرسى خلف . احتضن الصمت والمسكنة هل يحقق فى . من المعجزات ما جعله سلطان االسكندرية

نهاية الطريق ، مايجعله شيخا له استقالله وكراماته ..؟ومكاشفاته ومريدوه

عنترة يستــرد جــواده - ١ -

. رأيناه ـ للمرة األولى ـ يسير فى شوارع السيالة يختلف عن المارة ، فى سحنته المنمشة ، وعينيه الزرقاوين ، وقامته الطويلة ، وشعره األصفر المنسدل على قفاه ،

..لكل ماحوله وخطواته المتمهلة ، ونظرته المتأملة كان الوقت ظهرا ، والشمس تريق أشعتها الساخنة على

..أرض الطريق اختار أقرب . صعد إلى رصيف قهوة الزردونى

لم يلق السالم ، والعنى بنظراتنا المتطلعة . ترابيزة ، وجلس نادى على الجرسون ياقوت ، . ، أو المتسائلة ، أو المستريبة

..وطلب شايا عب الطاولة والكوتشينة والدومينو ، فلم ندر انشغلنا بل

لصق الولد بالجدار ، . كيف بدأ العراك بينه وبين ياقوت وانهال عليه بضربات قاسية ، موجعة ، حتى تهاوى تحت

خلص ساقيه من الجسد المتكوم ، ومضى ناحية . قدميه ..شارع السيالة

..فاجأنا ماحدث ، فعجزنا عن التصرف

- ٢ -

..لى القهوة ظهر اليوم التالى جاء إ ..جلس على ترابيزة خالية ، ونادى على ياقوت

:ترك المعلم أحمد الزردونى مكانه .. ـ انصرف من هنا

:تساءل فى صوت كالهمس ـ لماذا ؟

:وهو يزغده فى كتفه ..ـ القهوة ليست للفتوات

:لم يتحرك فى جلسته ..ـ لست فتوة

:ثم وهو يهز رأسه !.. ولن أنصرف ـ

فز الرجل وبيده . نادى المعلم على عماله بعينيه تناثرت ضرباته على رءوس المعلم والعمال ، . الكرسى

سكتت الصرخات ، أو تحولت إلى أنات . وفى أجسامهم

متقطعة ، فألقى ماتبقى من الكرسى ، ومضى ـ دون تلفت ..ـ ناحية شارع السيالة

- ٣ –

..كأن األمس لم يكن قدم ـ هذه المرة ـ من شارع العوامرى ، المفضى إلى

تجاهل آثار العراك ، واختار كرسيا سليما . الميناء الشرقية ..أسنده إلى جدار القهوة ، وجلس .

نقل المعلم الزردونى وعمال القهوة . لم نتوقع مجيئه صل البوليس بعد أن وو. الثالثة ، إلى مستشفى رأس التين ..اختفى الرجل فى انحناءة الطريق

أشعلنا . كنا قد أتينا بمفاتيح القهوة من بيت الزردونى المنقد ، ورصصنا الكراسى ، وأعدنا تشغيل القهوة قدر

..استطاعتنا القهوة لها ثالثة أبواب ، وإن أغلق بابان ، أحدهما يطل

المطلين على شارع على شارع العوامرى ، وفتح أحد البابين

أكلت ملوحة البحر . تقع أسفل بيت قديم من طابقين . السيالة القريب واجهته ، فبدت الثقوب فى األحجار البيضاء ،

.. وأطراف السقوف الخشبية ، الفاصلة بين الطوابق اخترنا الجلوس فيها ، ألنها وسط بيوت الصيادين ،

بالنسات ، وقريبة من شاطئ األنفوشى ، ومن مرسى الوالمراكب الصغيرة فى الميناء الشرقية ، وحلقة السمك ، وساحة نشر الغزل ، وورش المراكب ، وميدان المساجد ، باتساعه المفضى إلى أبو العباس والبوصيرى وشارع الميدان

وأمامها مسجد المسيرى الصغير ، يفتح أبوابه طيلة اليوم ، . ..فيسهل أداء الصلوات النغادرها إال إلى . هوة معظم أوقاتنا نقضى فى الق

ندخل الجوامع فى صالة الجمعة ، أو . بيوتنا ، أو إلى البحر . ألداء األوقات ، إذا تناهى األذان من مسجد المسيرى

لكن القهوة هى المكان .. ربماترددنا على حمام األنفوشى الذى نتحاسب فيه ، ندفع عربون شروة اليوم التالى ، نتفق

السفر فى البالنسات ، نتناقش فى الظروف واألحوال ، علىإذا غاب أحدنا ، فألنه . نلعب الطاولة والدومينو والكوتشينة

فى البحر ونحن نعلم ، أو ألنه مريض ويجب السؤال عنه

اعتدنا قهوتها وشايها وقرفتها وزنجبيلها ونداءات ياقوت ، . الملكى ، وقعدة وصوت الراديو منذ يبدأ إرساله إلى السالمحتى الكراسى . المعلم أحمد الزردونى بالقرب من الباب

التى بزت مساميرها ، أو تهالكت ، نعرفها فنتجنب الجلوس لم يعد يشغلنا إال النقاش . اعتدنا مافيها ، وماحولها . عليها

والفصال وإطالق صيحة التباهى عند الفوز فى أدوار اللعب ..وتقدمنا نحوه انتترنا من أماكننا ،

رفع كرسيه يتقى ضرباتنا ، . لم يبد أنه فوجئ بتصرفنا انبثق الدم والتأوهات والصراخ . ويوالى ضرباته كيفما اتفق

خال المكان فى دقائق ، إال من جلسته . والزياط والفوضى ..المستندة إلى الجدار

- ٤ –

اهد الرجل مرات كثيرة فى قال مختار زعبلة ، إنه شوأكد . الميناء ، يخلص أوراقا باستيراد بضائع من الخارج

قاسم الغريانى أنه لم يلتق بالرجل من قبل ، وإن بدت . وتناولت قعدات البيوت أصله وفصله . مالمحه مألوفة

وأكد البعض فى حسم ، أن الرجل ليس من االسكندرية أصال نة أجنبية ، فاستبدل زيه ، وظل ، وأنه جاء ضمن بحارة سفي

..فى المدينة

- ٥ - ..تذكرناه

كان قد مضى زمن طويل على لجوء الشيخ أمين عزب آخر معاركه خاضها ضد بحارة زرق . إلى زاوية خطاب

طاردهم فى شارع المسافرخانة ، بشومته التى لم . العيون الدكاكين والبيوت ، وماتت حركة أغلقت أبواب. تكن تفارقه

الطريق ، فيما عدا صرخات البحارة ، والصيحات المعجبة ..من النوافذ ، وضربات الشومة ترتطم باألجسام المتأوهة

كان قد لزم الزاوية ، اليغادرها منذ صالة الظهر ، إلى يتلو آيات القرآن ، ويؤذن للصالة فى . صالة العشاء

..خطب المصلين فى صالة الجمعة مواعيدها ، وربما سمع عن . لم يكن فتوة ، والخالط الفتوات من قبل المعارك . حكايات حميدو فارس والسكران وأبو خطوة

سطوة الفتوات واألبوحمدات . الدامية فى أحياء االسكندرية على التجار وأصحاب الدكاكين ، إتاواتهم من مواكب الزفاف

هم من معسكرات اإلنجليز فى فى ميدان المساجد ، سرقات ..رأس التين

بدا أبوه متأثرا ، وهو يقول فى عودته ـ ذات مساء ـ :إلى البيت

..ـ مات أبو خطوة :أضاف دون أن يبين عن هوية الرجل

.. ـ كان يفاصل على شروة سمك لبيته ، فى الحلقة ..أحس بالتعب ، ومات قبل أن يلحقه الطبيب

ا بعد ـ عن حميدو والسكران وأبو روى له أبوه ـ فيمأعلن إعجابه ، . خطوة وأبو احمدات االسكندرية وفتواتها

..وترك لخياله صورة معاركهم

لما خاض أولى معاركه ، فاجأه عبد الرحمن الصاوى :بالقول

!..ـ ذكرتنا بحميدو فارس عرف أن طرده للغرباء عن الحى هو من أفعال الفتونة

لفتوات ، والاألبوحمدات ، والشاهد أفعالهم ، وإن لم يصادق ا ..فى حياته

خلع . فاجأنا ـ عقب وفاة أبيه ـ بترك الدراسة وقف على طاوالت . البنطلون والقميص ، وارتدى الجالبية

أعانه معلمو الحلقة على فهم ماغاب . أبيه فى حلقة السمك زاد الطبالى لباعة الشروات. عنه من أصول البيع والشراء

عرف الجلوس فى القهاوى والدكاكين ، والتردد . والسريحة ـ مع الصيادين ـ على حمام األنفوشى ، والمشاركة فى

. الموالد ، وفى حلقات الذكر ، أمام أبو العباس والبوصيرى ..تجاهل المصمصة ، ونظرات اإلشفاق لصغر سنه

تلقف كرسيأ يتجه . فاجأته خناقة فى مولد أبو العباس . طاح فى الوجوه المنتوية الشر ، الغريبة عن بحرى . ه نحو

. طاردهم من الدحديرة الخلفية للجامع ، إلى الموازينى ..توقف عن المطاردة فى أول شارع الميدان

. ضرب ـ ذات أصيل ـ ثالثة شبان من خارج بحرى الحقوها حتى . ضايقوا فاطمة بنت الحاج توفيق الشمرلى

تنبه الناس ـ . ن مجلسه ، وتصدى لهم قام م. قهوة مخيمخ جعلوه حلقة فى سلسلة الفتوات ، . من يومها ـ إلى قوته

..الذين تصور الجميع أنه انتهى زمانهم قيل إن الشيخ عرفة األنصارى ظهر له فى رؤيا منامية

طالبه بأن يلزم جانب . حذره من مغبة االعتماد على قوته . . النهار ـ إلى زاوية خطاب اهللا ، فيترك الحلقة ـ آخر

..يغادرها إلى البيت لم يعد يتردد على قهاوى الحى ، أو يشارك فى مسابقات الحناطير والبنز ، أو يتردد على الحمام ، أو حتى

يبيع الشروة ، فيترك الحلقة إلى . يشارك فى موالد األولياء يتناول طعامه ، ويتوضأ ، . البيت ، قبالة مطحن شيمى بك

يتجه إلى زاوية خطاب ، . يستريح إلى ماقبل العصر وانقطع إلى اهللا . ثم اعتزل الناس . يلزمها إلى صالة العشاء

يغادر الزاوية إلى البيت ، عقب صالة العشاء ، أو لزيارة . يقوم بمهام الخادم والمؤذن واإلمام . أبنائه ساعات من النهار

اء الصالة ، زاوية ، ألد، ويتولى ـ بنفسه ـ فتح ال ..وإغالقها

أطلق لحيته ، فبدت بلونها الكستنائى ، إضافة إلى العينين البنيتين ، والبشرة البيضاء المشربة بحمرة ، والقامة

جسد ماارتسم فى تصورات الناس عن . الطويلة فى اعتدال الشاذلى وأبو العباس والبوصيرى ونصر الدين وكظمان

عشر ، وغيرهم من أولياء اهللا وعلى تمراز واألولياء اإلثنىثم زادت مهابته بالعباءة الجوخ ، يحرص على . الصالحين

ارتدائها فى الطريق ، وفى الزاوية ، وفى استقباله ..للمترددين على بيته

- ٦ -

:طوى صفحة القرآن على أصبعه ، وقال ..ـ عرفت كل ماحدث

:ئة ثم فى تقريرية هادـ لكى يعود الحى إلى سابق عهده ، فالبد من طرد

..الرجل :قلنا

..لكنه يتقن من أساليب العراك ماالنعرفه .. ـ حاولنا :وهو يهم بالعودة إلى قراءة القرآن

!..دعوه لى

- ٧ - ..ترك زاوية خطاب بعد صالة الفجر مال إلى شارع . ته سار فى المسافرخانة إلى نهاي

.أبو العباس ، حتى الميدان الفسيحالكنانى ، ومنه إلى شارع أخرج من الصديرى ـ فى بداية السيالة ـ مطواة ملتمعة النصل ، وسبق الجميع فى الجلوس على ترابيزة

..مالصقة لجدار القهوة لما تالشت الظالل الرمادية ، وارتفع الضحى ، كان

آخره بالعشرات من أبناء األنفوشى الشارع قد امتأل عن والسيالة ورأس التين ، تساندوا على أبواب البيوت والدكاكين المغلقة ، وأطلت العيون من خلف النوافذ المواربة ، واقترب

..البعض مستترا بعربات اليد الفارغة

ظهر الرجل فى الحارة الضيقة ، المالصقة لمسجد ، يعمقه نبش قطة فى حل صمت سادر ، غريب . المسيرى

..قمامة الطريق أسند ظهره إلى . فز الشيخ أمين عزب القتراب الرجل

..الحائط ، واستل سكينه :زوى الرجل عينيه فى دهشة حقيقية

..ـ لماذا ؟ :قال أمين عزب وهو يحرك السكين أمام عينى الرجل

..ـ المكان لك هنا :دون أن يجاوز هدوءه

..مشروب ـ إنى أدفع ثمن ال :عال صوته ، فبدا كالصراخ

!..انصرف حاال !.. ـ ولو بحركة مفاجئة ، لوى ذراعه ، وضغط بقبضته على

صرخ الشيخ بآخر ماعنده ، وقذف بنفسه إلى األرض . عنقه ظل . لكن الرجل لحقه ، وبرك عليه .. ، يحاول التملص

رتعاشات لم يتركه إال بعد أن هدأت ا. فوقه بقامته العمالقة ..يديه وقدميه ، فتصورنا أنه مات

- ٨ -

عاد إلى موضعه فى زاوية خطاب ، يقرأ القرآن ، وينصت إلى شكاوى الناس وأسئلتهم ، وإن لم يعد يستطيع

مد ساقه التى لفها . أداء األذان ، أو القيام إلمامة المصلين شاجرة واضحة فى انت آثار الموك. الجبس ، أمامه

..وجهه

- ٩ - يمضى . تابعناه وهو يترك موضعه فى زاوية خطاب

ثم يتجه من الحجارى إلى . فى المسافرخانة إلى نهايته يخلف الكبائن ، وورش المراكب ، ودار . شاطئ األنفوشى

ح يفت. يميل إلى الساحة الحجرية المطلة على البحر . السينما يفرد خناجر وبلط . حقيبة من القماش ، متوسطة الحجم

وسكاكين وجنازير وسالسل ، وأشياء أخرى يتالعب بها ، ويقذفها فى الهواء ، ويستعيدها ، ويصوبها إلى نصب خشبى

..، غرسه فى وسط الساحة

إذا حل به التعب ، أسند ظهره إلى صخرة هائلة فى ، بها رسوم وصور طرف المكان ، وانشغل بمطالعة كتب

!..ثم يعاود أداء تمريناته القاسية . وخرائط راعينا مشاعره ، فلم نسأله إن كان هجر مالزمة

..الزاوية ، وأنه سيعود إلى الفتونة

- ١٠ - . أنهى ـ ذات عصر ـ تدريباته فى الساحة الصخرية

لف . القماش لم يدس األدوات ـ ككل يوم ـ فى الحقيبة الجنزير حول وسطه ، ووزع الخناجر والسكاكين على

..جيوب الصديرى . لم يستكمل مشوار العودة اليومى فى طريق الكورنيش

..مال إلى داخل السيالة ، ونحن نتبعه كان يرتشف . بدا رصيف القهوة خاليا ، إال من الرجل

..ـ فى استرخاء ـ كوب الشاى

السائر إلى اهللا

السائر إلى اللــــهالعارف الدنيا له ، ألن دنياه آلخرته ، : قال أبو العباس

الزاهد جاء من الدنيا إلى اآلخرة ، والعارف : وقال . وآخرته لربه الزاهد غريب فى الدنيا ، ألن : قال و. جاء من اآلخرة إلى الدنيا

: وقال . اآلخرة وطنه ، والعارف غريب فى اآلخرة ، فإنه عند اهللا معرفة الولى أصعب من معرفة اهللا ، فإن اهللا معروف بكماله وجماله

. ومتى تعرف مخلوقا مثلك يأكل كما تأكل ، ويشرب كما تشرب . ، طوى عنك وجود بشريته وإذا أراد اهللا أن يعرفك بولى من أولئائه

الولى يكون مشحونا بالمعارف : وقال . ، وأشهدك وجود خصوصيته والعلوم والحقائق ، حتى إذا أعطى العبارة ، كان ذلك كاإلذن من اهللا فى الكالم ، كالم المأذون له يخرج من فمه ، وعليه كسوة وطالوة ،

ى أن الرجلين وكالم الذى لم يؤذن له يخرج مكسوف األنوار ، حت .ليتكلمان بالحقيقة الواحدة ، فتتقبل من أحدهما ، وترد على اآلخر

. غالب تردده وهو يقترب من الباب الحديدى الضخم

فتحت ضلفة واحدة على دنيا تشغى بالجالبيب والعمائم واألنوار المبهرة والخافتة والمذاكرة والمناقشات وروائح

..الطعام :سأل أقرب الواقفين

..ــ أين أجد الطالب زكى تعلب ؟

:قال الطالب وهو يتأمل سيالته ..ــ من أية مدينة ؟

:أظهر الحيرة ..لكنه فى السنة الثانية .. ــ الأعرف

:أشار الطالب إلى حجرة صغيرة على يمين المدخل إنه .. ــ إسأل عم ابراهيم القسط حارس المبنى

..يعرف كل الطلبة عرف سحنته ، . الشيخ يوسف بدوى جلسا إلى دروس

. توالت الدروس كل خميس ، بعد صالة العشاء . ألفها يرد بكلمات مقتضبة ، أو بما يمأل . تتجه األسئلة إلى الشيخ

ثم يدعوهم لتالوة آيات القرآن ، أو األوراد . مساحة الجلسة تلتصق األكتاف ، وإن انشغل الجميع بالمتابعة ، فال .

..فة السحن ، إلى التحدث والمعاشرة يجاوزوا أللما قدم إلى الشيخ آخر مانصحه بقراءته من كتب ، قال

:الشيخ فى ود ..فالجأ إلى أخيك زكى تعلب.. لة ــ كتب الزاوية قلي

شاب فى حوالى العشرين . نظر إلى حيث أشار الشيخ . نحيل القامة ، يرتدى جبة حال لونها ، فبدت بال لون .

يشوب . عن العمامة ، فظهر الصلع فى مقدمة رأسه استغنىشفته . عينيه آثار رمد قديم ، ويعانى تعثرا فى خطواته غادرا . السفلى المتدلية من أوسطها ، كأنها بزبوز إبريق

رحب زكى تعلب . الجامع ــ عقب الصالة ــ معا بإعارته ماعنده من الكتب ، وماعند زمالئه فى المعهد الدينى

:قال . ..ــ أنتظرك فى أى وقت بعد العشاء

أشار ، . هز الحارس رأسه بما يعنى عدم معرفة االسم فصعد الساللم العريضة ، ذات الدرابزين الحديدى ، إلى

فى نهايتها ردهة . غرف متالصقة ، تجاورت فيها األسرة واسعة ، تحلقت فيها مجموعات حول أدوار الشاى والمذاكرة

..ات والمناقش :لحق تردده فى السؤال ، صوت من آخر الردهة

!..ــ أهال على اليمين سرير حديدى صغير ، . الحجرة متوسطة

. فوقه مرتبة بال غطاء ، ومخدة ، يتوسطها آثار عرق وعلى اليسار مرتبة ، احتلت الزاوية ، تناثر فوقها كتب ،

مغطى بقطعة" سبت " بجوارها . وقطع من الخبز الجاف

" . قرص " خمن الراكشى أن به خبزا أو . قماش ملونة فى المنتصف ترابيزة خشبية متآكلة ، عليها كتب وبرطمانات

: وعلق مالبسه على الحائط . طعام وكيس ورقى ملفوف ولصق الجدار . جبة وكاكوال وقفطانا وحزاما عريضا

..المجاور للباب ، كرسيان من الخيرزان :قال زكى تعلب

..ــ تشرب شايا ؟ ..ــ سكر خفيف

لقمه ثالثة . أشعل وابور الجاز ، ووضع عليه البراد ..أكواب ماء ، وملعقتين من الشاى

:قال الراكشى ..ــ نحن اثنان فقط

:قال زكى تعلب ..ــ والفاقد ؟

*** البوابة : قاده زكى تعلب إلى الحياة داخل المعهد

من أمامها ــ تخفى عالما فسيحا الضخمة ــ طالما مر من المشايخ الصغار ، وتالوة القرآن ، والدروس فى علوم

الصرف والنحو والمعانى والتوحيد والتفسير والحديث والفقه الفول النابت بعد صالة الفجر ، : ، ورواتب الطعام اليومية

ربما أضيف إليها أنواع أخرى من . الفتة باللحم فى الغداء والفاكهة ، وأكواب الشاى ، وفناجين القهوة ، الخضر

..وأطباق الحلوى ، والنقل : قال زكى تعلب لنظراته المتسائلة

ــ المعهد يحيا على إيراد العقارات الموقوفة من ..تجار وأثرياء

تسبح فى المكان أصوات قرقعة األوانى فى المطابخ ، قراءات ، واندالق الماء من الحنفيات ، والنداءات ، وال

يبتسم . والدردشات الصاخبة ، والهامسة ، حتى يؤذن للفجر ..لتزاحم الطلبة على باب دورة المياه

ينصت . تعددت زياراته للمعهد ، ولقاءاته بزكى تعلب إلى تالوة الطلبة لسور القرآن ، فرادى فى ليالى األسبوع ،

عرفه زكى تعلب . ويشاركهم قراءاتها فى ليلة الجمعة أذهله أنهم لم . خرين ، صاروا ــ فيما بعد ــ أصدقاءه بآ

الحظ زكى تعلب . يكونوا جميعا من المؤمنين بما يدرسون

حيرته فيما يثيره الطلبة من قضايا الدين والسياسة ، ومن :قال فى لهجة مشفقة . السخط والرفض

فاكتف .. ــ أنت اآلن فى مرحلة التزود والمعرفة ..عاب باإلنصات واالستي

:وقال له بما ذكره بالشيخ يوسف بدوى ..ــ الترقى فى العلوم والمعارف النهاية له

:واحتضنه بنظرة دافئة أما . ــ ربما استغنى المرء عن هذا العلم أو ذاك

..التصوف ، فهو العلم الذى اليستغنى عنه أحد أبدا :ثم فى صوت مبطن بالود

الم يكملها التصوف ــ العلوم ناقصة أو ساقطة ، م ..ويحسنها

:وقال له وهو يدفع إليه بمجلد هائل الحجم فلن تعرف أحكام اهللا سبحانه .. ــ التصوف إال بفقه

..إال منه :استطرد موضحا

قال عنها شيخنا موالى . ــ هذه هى الحكم العطائية ولو .. إنها كادت أن تكون وحيا : ابن عربى رضى اهللا عنه

!..الصالة تجوز بغير القرآن ، لجازت بكالمها كانت :قال على الراكشى

..استعرتها من المكتبة الحجازية .. ــ قرأتها :قال زكى تعلب

. ــ إنها تحتاج إلى ماهو أكثر من قراءة االستعارة ..وتأمل المعانى .. اقرأ كل يوم بضع فقرات

:قال . الحظ زكى تعلب تأمله المشفق للحجرة ..ـ إنى أفيد من حفظ القرآن بتالوته فى البيوت ـ

:رفت على شفتيه ابتسامة ــ وهل تجيد األداء ؟

:ركب االعتذار صوته ــ أقلد مااستطعت مصطفى اسماعيل أو الشعشاعى

.. :أردف بالنبرة المعتذرة أمامى ــ بعد التخرج ــ . ــ هذه مهنة مؤقتة

..قضاء الشرعى إمامة المساجد أو التدريس أو ال

حدثه زكى تعلب عن بلدته الدلنجات ، التابعة لمديرية ثم انتقل إلى . تلقى تعليمه األولى فى دمنهور . البحيرة

اعتمد على نفسه منذ . المعهد الدينى بالورديان والمسافرخانة اليتردد على الدلنجات إال يوما أو . استقر فى االسكندرية ..صيفية ، وفى األعياد يومين ، فى اإلجازة ال

مع أنه أكبر من تعلب بسنوات كثيرة ، فإنه كان يتعامل يكتفى . معه كأستاذ ، يفيد من قراءاته ومالحظاته وتوجيهاته

..بتوجيه األسئلة ، ويعطى انتباهه لكل عبارة انقطع للتهجد ، وذكر اهللا ، وإقامة الصالة ، وقراءة

الع على مايقدمه له الشيخ األوراد ، وتالوة القرآن ، واالطيوسف بدوى ــ ثم زكى تعلب ، فيما بعد ــ من كتب

اختار . التصوف والعلوم الدينية ، والتأمل فى ملكوت اهللا المجاهدة ، وياضة النفس ، ومراقبتها ، ومخالفتها ، سعيا

عانى قلة الزاد ، وطول السفر . للخالص والنجاة والوصول ربما مضى عليه الليل . العقوبات ، وشدة األهوال ، وعظم

التدخل عليه زوجته وال . وهو يقرأ الورد الذى اختاره يتنبه ألهازيج السحر . ينعزل تماما عن كل ماحوله . األوالد

يذهب للصالة . تسابيح المنشدين والمؤذنين قبل أذان الفجر :

تعلم آداب الذكر ، مايسبقه ويصحبه ويلحقه . بوضوء العشاء لتوبة ، والتطهر ، والصالة ، وطريقة الجلوس ، والجو ا.

المحيط ، وحالة القلب والخاطر ، واختيار صيغة الذكر ، والتهيؤ الستقبال الوارد ، مع العزوف عنه ، وشرب الماء البارد ، وطريقة االهتزاز أثناء الذكر ، والناحية التى يتجه

اعتاد . إليها برأسه ، وأعلى جسمه ، عند نطق كل كلمة مشاهد الصعق والوجد والبكاء والنحيب وإلقاء العمائم ونزع

..الثياب والزحام :سأل زكى تعلب

..ــ لماذا تتعدد الطرق الصوفية ؟ :قال تعلب

..ــ كلهم من رسول اهللا ملتمس :خالط نبرته تشكك

..ــ ولماذا النكتفى بالسنة ؟ :استطرد فى نبرته المتشككة

..ق يطرح الخالف ــ تفرع الطر :قال زكى تعلب .. ثم اظهر اختيارك .. ــ اقرأ أوال

:وسأل ، ليلة ..ــ هل يغنى الورد عن قراءة القرآن ؟

:قال زكى تعلب ..ــ هذه اجتهادات الغالة

:ثم بلهجة باترة !..ــ لسنا منهم وسف بدوى ــ ذات مساء ــ وفاجأه الشيخ ي

:بالقولوهو مقام .. عتبة مقام المريد ــ أنت اآلن على

المجاهدات والمكابدات ، وتحمل المشاق ، وتجرع ..المرارات ، ومجانبة الحظوظ

تدفعه ، وتحدو به ، األشواق . سار فى طريقه ..والمجاهدات

أزمع أن يطهر نفسه من حب الدنيا ، ومن اإلقبال على بادة سلك طرق الع. عباد قطع المعاملة مع ال. الخلق ..والزهد

. الزم الخلوة ، وداوم الصالة والذكر والصوم والعبادة وإذا . إذا مل من الصالة ، انتقل إلى الذكر . لون طاعته هللا

ألف . مل من الذكر ، قرأ السير واألحزاب واألوراد رياضات النسك والصالة والصوم والسهر والمفاتحة

هدة والمطالعة والمواجهة والمجالسة والمحادثة والمشاوالمحبة والشوق واألنس والرجاء والتوكل والقرب وموارد

تشف الروح ، . تأتى وتذهب . وتفيض التجليات . القلوب تتصل الروح . تموت الشهوات . وتتخفف من قيود البدن

يسمع ــ . بالمأل األعلى ، تتكشف لها األنوار الربانية ف نبى حيث يذهب ويجئ ــ أكثر من ثالثة عشر أل

يتحدثون عن الوحى . يعانون ويقاسون التجربة . ورسول تتناغم أصواتهم مع أصوات األلوف من أولياء . والتنزيل

اهللا والصالحين والتابعين ، وأصوات الماليين من طالبى ..البرء والشفاعة والستر

:قال الشيخ يوسف بدوى إنما يؤخذ من أهل .. ــ هذا علم اليؤخذ من األوراق

..األذواق :قال على الراكشى

..ــ أنت الذى دفعتنى إلى القراءة :قال الشيخ كأنه لم يسمعه

ــ أتممت الجانب النظرى للبداية ، ويبقى عليك !..استكمال الدائرة

:استطرد موضحا ــ آن أوان االنتقال من عمل الظاهر إلى عمل

..الباطن :خرين إلى شقة الشيخ سبق فيه اآلوقال له ، ذات مساء

!..ــ المريد اليصل إلى شئ من مبتغاه ، دون شيخ ! .. المريد

هل أوشك على تخطى العتبة إلى دنيا الفيوضات ..الربانية ؟

:وقال يوسف بدوى ومن الشيخ له ، .. ــ البد لإلنسان من شيخ يرشده

!..فالشيطان شيخه لمه كان إذا جلس إلى الشيخ يوسف بدوى ، طوى ع

هو عار يطلب الكساء من فم الشيخ ونصائحه . ورؤية نفسه يمتثل لألوامر ، ويجتنب النواهى ، ويجتهد فى االبتعاد عن .

اليفعل ماتوبخه عليه نفسه حين يأتى الليل ، أو . المعاصى

يحرص أن يكون غده أفضل من اليوم الفائت . يقبل الصباح .. والمستحبات ، وعلى المحبة التى تدفع إلى النوافل

:وقال له الشيخ ، وهما يغادران أبو العباس ..ــ أنت فى حاجة إلى واصل موصل

:قال فى حيرته ..ــ كيف ؟ :قال الشيخ

وهى التكون إال على يد .. ــ ــ التوبة أوال ..شيخك

:فى محاولة للنفاذ من الحيرة ..ــ إختر لى شيخا

:قال الشيخ ..تار ــ أنت الذى تخ :فى نبرة متوسلة

!..ــ فلتكن شيخى :قال الشيخ

ــ اعرف أوال ماينبغى معرفته من اإلجراءات التى ..يجب أن ترقى عن طريقها

:ثم بلهجة تقطر محبة !..ــ كلما كانت البداية أحكم ، كانت النهاية أتم

:وهز أصبعه فى الهواء !..ــ حذار من فساد االبتداء

*** أذن اهللا ، فيصبح من أهل الحجاب ، أهل الدليل متى ي

. والبرهان ؟ يخلص قلبه هللا ، فيضئ طريقه بأنوار المعارف ينكشف الغطاء ، ويفتح الباب ، . يهبه علومه وأسراره

ويرفع الحجاب ، ويكشف نور الشريعة ظلمة البطالة والتقصير ، ويظهر نور المجاهدة ، وتشرق شموس العرفان

واتف الحقيقة ، وتتألق جواهر العلم المكتوب ، ، وتنادى هويتسع ضيق األكوان ، وتحصل أنوار المواجهة ، وتصير الروح سرا من أسرار اهللا ، ويقبل القلب على معرفة مواله

يصبح من أهل الخطوة ، يطير فى . تطوى له اآلفاق .. . الهواء ، يمشى على الماء ، مثل الشاذلى وأبو العباس

ل ــ إن أحسن ارتقاءها ــ تنتهى به إلى حيث المراحيخلص فى المقامات واألحوال ، فيصبح فى مقدوره . يريد

يكشف عالم الغيب المحجب ، . إتيان الخوارق والكرامات

يدرك . ومافى القلوب ، ويستشرف اآلتى وتوقعات المستقبل يتحدث . أسرار السمك والطير والحيوان والحشرات والنبات

يتصرف فى الكون . ، ويطوعها فى أشكال مختلفة إليها يدخل على الحاج قنديل فى الحلقة ، أو فى جلسة . بالهمة

العصر أمام دكان محمد صبرة ، أو فى درس إمام أبو يملى عليه شروطه ، فال يقوى على االحتجاج أو . العباس يحيل . يتلو أدعية ، فيحيل الظالم جمادا فى مكانه . الرفض

يقطف ثمار الجنة وهو . يتزوج الحور العين . راب ذهبا الت .. على األرض

ابتسم لرؤية الحاج قنديل وقدماه تتأرجحان فوق الصراط ، قبل أن يهوى إلى جهنم ، وجز أسنانه لتأوهات الرجل ، وهو يحاول اتقاء لسعات الكرابيج المشتعلة فى أيدى

ف عنى ، فالخلود فى إن لم تع: وقال الحاج فى تذلل . الجان وركب حصانا فى جلوة المولد يفوق جماله . النار مصيرى

حصان التميمى ، يحيط به المريدون واألتباع وأهل الطريقة ، يحملون األعالم ، ويدقون البازات ، ويبتلعون النار ، ويغرسون األسياخ فى الخدود ، وأعان الصيادين على

ى الشيخ طه مسعود ركوب البحر فى عز العاصفة ، وأحن

رأسه ــ تأدبا ــ فى مجلسه ، وأذنت له رئيسة الديوان بالحضور فى مجلسها ، جنبا إلى جنب ، مع الرفاعى

وانخرط صيادو الحلقة فى . والبدوى والشافعى والجيلى حضرة ، يتهدجون بالدعوة له ، والشفاعة ، والمدد ،

ألصوات وتضوع البخور ، وتعالت الزغاريد ، وترنمت ابحب النبى ، وباحت الطالسم بألغازها ، وتألقت الفيوضات

..بما يصعب تخيله

الحال يسبق المقـامأنكر ابن عطاء اهللا السكندرى ــ فى مقتبل شبابه ــ على

. التصوف ورجاله ، وذهب إلى أبو العباس المرسى لينظر ماذا يقول اهللا ، ومدى معرفتهم وجده يتكلم فى األنفاس ودرجات السالكين إلى

به ــ سبحانه ــ وقربهم وتقربهم إليه ، فمازال يتحدث ويتحدث عن اإلسالم واإليمان واإلحسان ، ومقامات الشريعة والحقيقة

إلى أن بهر عقلى وسلب لبى ، : .. قال ابن عطاء اهللا . والتحقق فعلمت أن الرجل يغترف من فيض بحر إلهى ومدد ربانى ، فأذهب اهللا

ولزم ابن عطاء اهللا ــ فيما بعد . اكان عندى من إنكار واعتراض م ..مريديه ــ أبو العباس ، وصار من

قرأ . أسند ركبتيه إلى األرض . جلس قبالة الشيخ

إن : " قرأ الشيخ . قرأها بعده . الشيخ الفاتحة ثالث مرات فمن. الذين يبايعونك إنما يبايعون اهللا ، يد اهللا فوق أيديهم

" ..نكث فإنما ينكث على نفسه :وقال الشيخ

..ــ استغفر اهللا :قال على الراكشى

ــ أستغفر اهللا العظيم ، الذى الإله إال هو الحى القيوم تبت إلى اهللا ، ورجعت إلى اهللا ، ونهيت . ، وأتوب إليه

نفسى عما نهى اهللا ، ورضيتك شيخا لى ، ومرشدا لطريقة ..الشاذلى : الشيخ يوسف بدوى قال

..ــ أنت اآلن تقف على باب األبواب :وتأمل مااليراه سواه ، فى الفراغ أمامه

ــ التوبة هى أول مايدخل به العبد حضرات القرب !..من جناب الرب

التوبة هى اإلعتراف ، والندم ، واإلقالع ، والتقوى ، واالستقامة ، والزهد ، والورع ، والخوف ، والرجاء ،

والرضا ، والتسليم ، واإلخالص ، والصدق ، والطمأنينة ، ..والمراقبة ، والمشاهدة ، والمعرفة

:قال الشيخ وعلى هذا .. ــ أقمتك مريدا بهذه الطريقة العلية

..العهد المبارك :أضاف فى ترفق

!..ــ قم مريدا فى هذه الطريقة

*** :قال الشيخ يوسف بدوى

إلى طريق اهللا بقدر ماتعرف ، ــ قبلتك ألوصلك من شروط : وقال . وإنى لن أبخل عليك بقدر ماعرفته

التلمذة أن يختار المريد الفقر على الغنى ، والذل على العز ، قد تورق . الشجرة بدون غارس : وقال . واهللا على غير اهللا

اسلك الطريق على هدى ماتلقاه عنى : وقال . ، لكنها التثمر المريد يجب أن يكون بين : وقال . وإرشادات من إشارات

..يدى شيخه كالميت بين يدى غاسله ، يقلبه كيف شاء :خالط صوته إشفاق . الحظ ارتجاف عينيه

ــ الأريد لعلمك أن يقتصر على الشريعة ، فتصبح ..من العامة ، والأحب لنفسى أن أصبح من علماء الرسوم

:وقال فى صوته المشفق ن تصل إلى المقام الذى أتمنى من اهللا أن ــ أملى أ

..أصله يوما :قال على الراكشى

ــ ماهو ؟ : قال يوسف بدوى

ليس بعده .. هو أعظم المقامات .. ــ مقام المحبة ..مقام آخر

يشاهد اللوامع بالحواس . حذره من ضعف النفس تتراءى له أنوار كأنوار الشمس والقمر والشهب ، . الظاهرة

تبهر أهل البدايات ، فيسيئون الرؤية والفهم . ضئ ماحوله فتتجتذبهم ، فيتبدى السراب واحة يتصور فيها . والتصور

..الضال غاية تعبه ألزم نفسه حسن االعتقاد فى الشيخ ، اإليمان بصدق

أجاد تربيته ، . أوقد فى قلبه مصابيح الهوى . واليته قتضيات الوصول إلى واإلشارة إليه بمستلزمات السلوك ، وم

آن األوان كى يجاوز العبادة الظاهرة من . قرب الخالق الخوف والرجاء : صالة وصوم وطهارة ، إلى العبادة الخفية ..والزهد والصبر والورع والرضا والتسليم

الجدل يفضى إلى المماراة ، . أوصاه الشيخ بأال يجادل . لحق وتغليظ القلب ، واالنتصار للنفس على حساب ا

. يصرفه عن مغالبة الشهوات ، والسمو إلى عالم الصفاء يشوش عليه ، فال يدخل العالم الذى ينتظره ، عالم الصادقين ، القانتين ، الخاشعين ، السائحين ، الموقنين ، المخلصين ،

المحسنين ، الخائفين ، العابدين ، المتوكلين ، المتقين ، .. األخيار األبرار ، المقربين ، المصطفين ،

:وقال له الشيخ ــ حفظ العهد يعنى أال تفقد حيث ماأمرت ، والتوجد

!..حيث مانهيت لمعات نورانية ، . أقبل القلب على بهجة األسرار

تضئ فى سماء حياته ، ثم ماتلبث أن تزول ، وتنطفئ ، بال مقدمات ، . تعود ثانية كما كانت . كأنها لم تكن

سماها الشيخ يوسف بدوى . تالبها والمحاولة منه الجلم يفهم المعنى على نحو محدد ، وإن . طرائق األحوال

..اعتاد التماعها بين لحظات وأخرى :قال الشيخ

. ــ البد أن تمر بطريق طويل قبل أن تصبح سالكا ..البد من صحوة وقيادة مرشد كى تصل إلى نهاية الطريق

وة سور القرآن قضى أيامه فى تأمل وصالة ، وتال. يأخذها من محمد كسبة . يادوب يبيع شروة . الكريم

الصالة ، . يمضى بعدها إلى أبو العباس ، أو إلى البيت . والصوم ، والتسابيح ، والقراءات ، قبل كل صالة وبعدها

مايستحب من الذكر والدعاء ، أوراد الليل والنهار ، محاسبة ..ة ، وعلوم الباطن النفس ، تعلم المقامات ، والغفل

أيقن أنه يحاول الدخول إلى الحضرة اإللهية من باب اعتاد تناوب المشاعر فى داخله مابين الحزن . القرب

يتبدل من حالة إلى . والوجد والفرح والشوق والرضا والندم ..أخرى ، بتبدل المقام وزواله ، باستمراره ودوامه

:صارح الشيخ بما فى نفسه ، فطمأنه ـ المريد يترقى من مقام إلى آخر ، حتى ينتهى إلى ـ

..وهى غاية السعادة .. التوحيد والمعرفة :ثم وهو يتأهب للصالة

..ــ المقامات درجات فى الصعود إلى الغاية العليا حدثه فى حل الرموز ، فهو لن يصل إلى منازل القربى

يفطم الجوارح عن المخالفات : ، حتى يجاوز ست عقبات يفطم النفس عن المألوفات العادية ، وعن . لشرعية ا

. يفطم القلب عن الرعونات البشرية . الكدورات الطبيعية يفطم العقل عن . يفطم الروح عن البخورات الحسية

..الخياالت :وقال يوسف بدوى

فأنت تبدأ بالتوبة ، ثم .. ــ المقامات أمامك كثيرة المريدين ، فالمطيعين ، الخوف ، فالرجاء ، فالصالحين ، ف

..فالمحبين ، فالمشتاقين ، فاألولياء ، فالمقربين :وقال

!..والخوف عليك .. ــ اخرج معى بدأ تمارين غيبية ، كتلك التى يمارسها الدراويش ، للوصول إلى حالة اإلشراق ، والحصول على الكرامات التى

..تمنحه قوى خارقة ***

:قال له الشيخ يوسف بدوى . ــ مادمت قد صدقت بهذا العلم ، فأنت من الخاصة

أما إذا عبرت عنه ، . فإذا فهمته ، فأنت من خاصة الخاصة وتكلمت فيه ، فأنت النجم الذى اليدرك ، والبحر الذى

..الينزف .. هل آن أوان ذلك ؟

هل يصبح حر نفسه ، ويتخلص من تسلط الحاج قنديل !..، ومن األيام الصعبة ؟

اإلمام يفض الحفــــلبدا الرجل ــ بقامته القصيرة ، وخطواته المهرولة ــ فى غير الصورة التى ألفوه فيها داخل المرسى أبو

يدس قدميه تحت فخذيه ، فينتهى جسده عند . العباس المصلون أمامه ــ فى نصف دائرة ــ . الركبتين

ينصتون إلى دروس المغرب ، يسألون ، يناقشون ، الطهارة والزكاة : توضحون ماغمض من الشريعة والفقه يس

والسنة والفرض وأحكام الطالق والسهو عن الصالة والصوم ..فى غير رمضان

لم يفطن المعلم عباس الخوالقة إلى اتجاهه ناحية السرادق ، المزدان باألنوار والرايات ، فى نهاية شارع

:والقة السيالة ، إال حين عال صوت محمود عباس الخ !تفضل ياموالنا .. ــ نورت المكان العمامة التى طوقت الرأس ، يتهدل : عرفه من ظهره

من تحتها شعره ، اختلط فيه السواد بالبياض ، والجبة ..الرمادية ال يكاد يغيرها

عرف عنه عزوفه عن . كأنما الرجل يحيا فى الجامع اليجول فى .اليغادر بيته إال للجامع . الزحام والمجالس

اليجالس . الميدان ، أو فى الشوارع والحوارى المحيطة صلته . الناس ، أو يتردد على البيوت ، أو ينزل األسواق

بالمصلين سماعهم له فى صالة الجمعة ، وتمام الصفوف فى . الصلوات الخمس ، والدروس التى تعقب صالة المغرب

جامع ويأتى إليه ، يثقون أن له بيتا وأسرة ، وأنه يغادر الفال يلحظ حتى دائمو التردد على الجامع ، حتى أصحاب الدكاكين القريبة ، متىيذهب ويجئ ، وإن روى الحاج محمد صبرة أن الشيخ طه مسعود إذا خال إلى أصدقاء ، صار من

. ألين الناس جانبا ، وأشدهم مودة ، وإقباال على اآلخرين . الناس صرامة مجلسه كأنه إنسان آخر غير الذى يخشى

وكان حافظا للنكات نفس حفظه لآليات واألحاديث والفتاوى ..واألحكام

قيل إنه كان يتشدد فى محاسبة عبد النبى شعرة ، خادم . يحصل عليها كلها لنفسه . الضريح ، على إيرادات النذور

يحصل كذلك على مايأتى به زوار الضريح من المدن مع ذلك ، فإنه . موع وأغنام وعجول والقرى المجاورة من ش

رأيه أنها أسواق للبدع وإلهاء . لم يكن يرى فى الموالد مايفيد وعاب على الذاكرين رفع أصواتهم . الناس عن أمور دينهم

..فى حلقات الذكر أمام الجامع الرجل ليس من أبناء بحرى ، والمن أبناء اإلسكندرية

غادر مدينته للتعلم فى . رود قيل إنه من مواليد إيتاى البا. حتى . المعهد الدينى الثانوى باإلسكندرية ، فاستوطن المدينة

وسط حمادة بك ، . بعد أن حصل على العالمية من األزهر فألحقته وزارة األوقاف بوظيفة إمام فى مسجد طاهر بك

ثم عمل مدرسا بالمعهد الدينى ، قبل أن . بشارع الحجارى يفة اإلمام بالمرسى أبو حمادة بك وظتتيح له وساطة

..العباسشقته الواسعة ، فى البيت المطل . اليزور واليزار

على شارع سوق السمك القديم ، لم يتعرف أحد إلى أهلها ، حتى الزبال وباعة الخبز واللبن ومحصل . والماذا تحوى

الكهرباء ، يستقبلهم الشيخ بنفسه من وراء الباب الموارب ، وى البعض أنه شاهد أكبر أبناء الشيخ ــ طالب فى وإن ر

التوجيهية ــ يصحب أمه فى عربة حانطور ، مضت بهما

إلى بيت قديم فى نهاية السيالة ، قبالة بيت المعلم عباس ..وعادت العربة قبل أن يحل الظالم . الخوالقة

أكدت رواية ثانية ، أن أشقاء الزوجة هم سكان البيت لم يأذن . ــ وأكبر أبنائها ـ نهارا بأكمله الذى أمضت فيه

لها الشيخ بزيارتهم منذ الزواج ، إال حين أبلغه ــ فى نفى عباس . الجامع ــ رسول ، باشتداد المرض على أمها

قال إن سكان البيت المقابل . الخوالقة الواقعة من أساسها وزوج اإلمام . زوجان من أصل تركى ، وأبناؤهما الثالثة

..حة من مدينته ، إيتاى البارود فالكان أوالده الخمسة يذهبون إلى مدارسهم ويعودون ، فال يغادرون البيت ، واليخالطون األوالد ، أو حتى يشترون

عبد النبى شعرة يشترى للبيت كل . احتياجات البيت أما البنتان اللتان اكتفى األب بتعليمهما االبتدائى ، . احتياجاته من يريد . رفض تزويجهما بمقدمات . ا البيت فقد ألزمهم

الزواج يدفع المهر ، يعقد قرانه ، فال يرى زوجه إال ليلة استهوى تشدده الحاج قنديل ، فوضع الشرط نفسه . الزفاف

..أمام المتقدمين لخطبة ابنته

وافقت أسر على شرط الشيخ ، وإن أتبعت موافقتها عروس ، فرفض الشيخ بطلب اإلذن ألهل الشاب بمشاهدة ال

.. ..ــ لن يكون بين الزوار رجال

!ــ ولو ..ــ رؤية العروس قبل الزواج أقرها اإلسالم

:قال فى لهجة باترة !..ــ ليس لدى بنات للزواج

*** هل ينادى عليه ، أو : قبل أن يقضى على تردده

كان زحام الصبية ، أمام السرادق ، قد .. يحاول اللحاق به ثم التصقت ــ من جديد ــ حدوة . له الطريق أفسح

..الزحام بعد أن أم المصلين فى صالة الظهر ، التفت ـ بتلقائية

يخلى يده للصغار . ـ وراءه ، يصافح ، ويسأل ، ويجيب يقبلونها ، يبدى مالحظات لخدم الجامع ، يتأمل كسوة الضريح ، يأمر بلم الكتب المتناثرة تحت األعمدة ، وصرف

..المستلقين بال صالة

الحظ وجود جابر برغوت خادم جامع ياقوت العرش شغله السؤال عن بواعث تركه العمل فى . بين المصلين

:قال من بعيد . الجامع ..ــ لماذا تركت مسجدك ؟

:اقترب الرجل ، بحيث يصل صوته الهامس ..ــ أريدك فى أمر مهم

على يسار الباب ثم اشار إلى حجرته ، . تردد لحظات :الرئيسى للجامع

..ــ اسبقنى إلى هناك أتته ــ فى . تداخلت كلمات الرجل ، بترقبه المنشغل

الصباح ـ رسالة وزارة األوقاف ، بالموعد الذى حدده الملك موالنا : قال عبد الرحمن الصاوى . فاروق لزيارة الجامع

مدن يحرص على أداء صالة الجمعة فى جوامع مختلفة فى يفد . مصر ، لتتسع دائرة شهرته بالصالح فى نفوس الناس

تلغى . ــ قبل الموعد بأيام ــ وزراء ومسئولون تراعى إجراءات األمن فى الزوايا . األجازات لنظافة الجامع

واألركان وخلف المنبر واألسطح والمئذنة والحجرات المغلقة وتغلق النوافذ يخلى ميدان المساجد ، والدحديرة الخلفية ، .

يقف العساكر بالعصى . والشرفات المطلة على الجامع والبنادق على النواصى ، وفوق األسطح ، وينتشر المخبرون

. هات من اآلخر ياجابر . بجالبيبهم وبالطيهم الميرى األبوان اليعرفان ماحدث ، لكن الجارة التى روت لى ،

رة الملك زيا. أكدت أن أم محمود أرضعت الولد والبنت .. ومادخلى ؟. للجامع توجب الظهور أمامه بأفضل صورة

المعلم الخوالقة من مريديك . لماذا لم ترو الحكاية إلمامك ؟تردد الجموع . اللهم احفظ البالد ومليكها المفدى . وصديقك

: يأمر بخلعة . يهش ــ عقب الصالة ــ ويبش . آمين : ث فى الزيارتين ذلك ماحد. جبة كشمير ومكافأة مالية

قيل إنه أضاف إلى هبة الشيخ عبد الحفيظ إمام . السابقتين وقيل إنه أهدى إلى الشيخ . جامع على تمراز صرة مال ألف جنيه من الذهب ، وساعة شحاتة الوكيل إمام البوصيرىأعمدة الضريح بهت لونها ، . ذهبية ، وشاال من الكشمير

تفرش الوزارة مقدمة الجامع . والحصير تآكلت أطرافه ماذا يكون األمر ، لو أن الملك حال له التمشى فى . بالسجاد

راقته النقوش والتهاويل والمقرنصات .. صحن الجامع ؟

ليتها رضعة أو اثنتين ، لكنها .. واألعمدة الرخامية ؟ ..أرضعته لشهر كامل

. كان الحفل ـ حتى الليلة السابقة ـ مهددا باإللغاء يدخل على . طلب العريس أن يكون الزفاف أفرنجيا

عروسه ، يغلقان بيتهما عليهما ، يفض بكارتها فى اللحظة . ربما فى الليلة نفسها أو بعد يوم أو يومين . التى يريدها

يدخل الشاب على . أصرت أم محمود أن يكون الزفاف بلديا لفه فى يلجأ إلى اصبعه ، ي. البنت أمام نساء األسرتين

إن خاف أو تردد ، قامت البالنة بإتمام . المنديل األبيض شرف البنت يخرق عين من يفكر فى النيل من . المهمة تلعلع الزغاريد ، ويطوف الموكب أمام البيوت . سمعتها

.. قولوا البوها ان كان جعان يتعشى : المتساندة ، المتصنتة ..بنت األكابر شرفتنا الليلة

همست . علت اآلراء والتعقيبات . ذ والرد طال األخ .. األفواه بكلمة الطالق ، وإن لم تعلنها

وافق المعلم عباس الخوالقة فى النهاية ــ بكلمات هذا شأنه مع زوجته ، . حاسمة ــ على ماأراده الشاب

..فاتركوهما

:لطمت أم محمود على صدرها ..ــ وشرف البنت ؟

:قال فى هدوئه الحاسم أما نحن ، فمجتمع .. ــ األرياف يصرون على ذلك

..مدينة :وهى تسبل عينيها

..ــ خواجات يعنى :خالط صوته غضب

!..ــ تهذرين ؟ :مصمصت

ــ من يملك ــ بعد ذلك ــ أن يدوس له على !..طرف ؟

:طقت عيناه بالشرر !..ــ جوازة أم خناقة ؟ :قال الشيخ طه مسعود

..ــ كالمك خطير :استطرد وهو يعطى انتباهه ..ــ قله فى عبارات محددة

:قال جابر برغوت مهجة بنت عباس الخوالقة .. ــ كما قلت لك ياموالنا

..يعقدون قرانها مساء غد على أخيها فى الرضاعة .. سالمة الدين تسبق . أهمل الشيخ ترتيبات الزيارة

!..عن الدين ؟هل ضل الناس ، فانشغلوا بالدنيا . ماعداها :حدج الرجل بنظرة متوجسة

..ــ متأكد من روايتك ؟ :وهو يضغط على الكلمات

..ــ مثلما أتأكد أنى جالس فى حضرتك هل اقترب يوم الهول ، فعلى الناس أن يرقبوا الدابة

المعلم .. والمسيخ الدجال وظهور الشمس فى المغرب ؟اه حب المال ، عباس الخوالقة من أفضل جلسائه ، فهل أغو

! ..فنسى الدين ، أو أنه اليعلم فعال ؟شقت له األجساد المتراصة طريقا بينها ، حتى انتهى

..إلى باب البيت فى نهاية السرادق عبس للفرحة التى مألت الوجوه . صعد يسبقه الغضب

استقبلته الزغاريد وساعدا الخوالقة المفتوحان فى أعلى . :السلم

!..رحة أعز من فرحة الزفاف ــ لقدومكم فتناثر الملح . كان عقد القران قد أوشك على نهايته

مالحة فى عين : على المدعوين ، ترافقه الكلمات المنغمة !..اللى مايصلى على النبى

استأذن خميس شعبان أن يرفق باالحتفال حفال بختان أصر أن يقتصر . رفض المعلم . طفلته ، توفيرا للنفقات

نالت الفتاة من قرص البنات ، وخطت أم . لى عقد القران عالعروس برجليها فوق العروسين ، وأفسحت المرأة بين ساقيها ، فزحف العروسان من تحتها ، ووضعت قطعة سكر

. تحت لسان ابنتها ، فيكون كالمها مع زوجها حلوا كالسكر ثم وضعتها فى كوب ماء ، إرتشفه الشاب ليدوم الوفاق ،

فتحت مقصا لمنع العين ، وأعدت تحويطة ، ورشت الملح ووالحمص واألرز والخميرة ، تدخل فى األعين الشريرة ، وتبعد الحسد ، وإن قيل إن الدبلة سقطت من يد الفتاة أثناء

..كتابة العقد ، فتشاءمت أمها من أال يتم الزواج سأل ، وأنكر ، . دخل فى الموضوع بال مقدمات

إتجه إلى عباس الخوالقة بقسمات مشتعلة . اض وشرح ، وأف:

!..ــ هذا الزواج باطل . التف الرجال ــ الذين أخلوا مقاعدهم ــ بالوجوم

حتى المعلم . بدوا متحيرين ، اليقوون على التدخل برأى عباس الخوالقة اكتفى بتحريك عينيه فى غير اتجاه ، وهو

..يعض سبابته :قال الخوالقة ليهدئه

..ـ اشرب القهوة أوال ـ :وهو يدفع يده فى الفراغ

..ــ يهمنى أن أقول ماعندى :اغتصب الخوالقة ابتسامة ، وقال فى محايلة

..عيب األ تشرب القهوة أوال .. ــ سأنصت جيدا ثم وهو يمسح . قذف بالقهوة فى حلقه دفعة واحدة

:شفتيه بظهر يده !وجان ؟كيف يتز.. ــ أخوان فى الرضاعة

تناهى صوت هامس بالقرب من النافذة المطلة على :الشارع الخلفى

..ربما الرواية كاذبة .. ــ نسأل أم محمود :قال اإلمام

..ــ قد تكذب إلتمام الزواج :أسعف الخوالقة صوته

!..ــ لن تخالف دينها ياموالنا :دون أن يجاوز الهدوء

!..ــ ناقصات عقل ودين :رأة أم محمود واتت الج

..ــ من حقنا أن نعرف المرأة المرضع :قال عباس الخوالقة

..ــ أو نسأل صاحب الرواية :قال اإلمام فى نبرة باترة

..وإذا تم هذا الزواج فهو باطل. .ــ الرواية صادقة طاف بعينين يغشاهما الغضب على الرجال الذين حاكوا

، وقطع السرادق إلى ثم هبط الساللم . المكان فى صمته ..نهايته ، ومضى فى اتجاه الميدان

كانت الزغاريد قد سكتت ، والفرقة الموسيقية أهملت ..آالتها ، وطلبت األسطى مواهب شاال ، تضعه على كتفيها

..ظلت اللمبات الملونة ــ وحدها ــ مضاءة

أزقــالم . أطلقت شهقة لغياب الحقيبة من ركن الحجرة الرمادية

كانت تدس فيها ماتحصل عليه من البيوت ، أو مايعن لها مفرش ، مالءة ، طقم مالعق أو سكاكين : شراؤه من السوق ..، حلل ، أطباق

لم تكن تعد نفسها للزواج ، والتصورت أنه سيتقدم لها من يعرض عليها الحياة كزوجة ، لكنها حرصت أن تضيف

لماذا ؟ والإلى متى : ها لم تناقش نفس. إلى مابداخل الحقيبة قلبت فيما تحويه ، . كلما حملت جديدا ، أعادت فتحها . ؟

ربما فردته على أرض الحجرة ، تطيل . تأملته ، ودققت فيه النظر إليه ، تسرح فى الالشئ ، تلملم األشياء داخل الحقيبة ،

..تسندها إلى زاوية الحجرة ، وتمضى ها ربما نقلتها إلى شكت أن. خال الركن من الحقيبة

..حجرة أخرى ، ونسيت

بظاهر كفيها ، مسحت . فص ملح وذاب . قلبت المكان . الدموع التى انبثقت ــ فى صمت ــ من عينيها

..تساقطت على خديها وذقنها ومالءتها يبدو كذلك أمام من تصحبهم إليه فى . البيت مهجور

..الليل :ارع السيالة قال لها سيد وهو يتركها فى بداية ش

ربما دخلوا ، فرأوا . ــ األوالد يلعبون فى الشارع ..الحقيبة ، وأخذوها

:اغتصبت ابتسامة لتطمينه يتصورونه مسكونا ..ــ إنهم يخشون البيت

..بالعفاريت :قال فى تنبه

..ــ قلت إنك لم تعودى تصحبين أحدا إلى البيت :وشى صوتها بغضب ..!ــ تشك فيما قلت ؟

:فوت مالحظتها ..ــ ربما أراد أحدهم مضايقتك ، أو إيذاءك

:قالت

..ــ أنا لم أضايق أحدا :هتفت متذكرة

..ــ هل تكون المعلمة أنصاف ؟لما عرضت عليها المعلمة أنصاف أن تعمل فى بيتها

..بكوم بكير ، رفضت بال تردد . يعرفها الناس ، وتعرفهم. اعتادت الحياة فى بحرى

ربما ترددت على . تنصت إلى العرض ، فتقبل أو ترفض .. بيت ، تعلم جيدا أنها لن تحصل فيه على قيمة مضاجعتها

لكن الحياة فى كوم بكير ، الوقوف أمام البيوت ، أو فى داخل الغرف ، ورفع الساقين لمن يدفع ، دون أن تلتقى به

سمه من قبل ، وينصرف دون أن يعرف اسمها ، أو تعرف ا، والحصول على ترخيص من الحكومة ، والتردد ــ كل

يلغى . أسبوع ــ على طبيب الصحة فى قسم اللبان . التصريح ، إذا ثبت أنها أصيبت بمرض جنسى ، أو يجدده

!..رحنا وجينا بالسالمة .. سالمة ياسالمة : تعود بالهتاف بحرى بيتها . لم تتصور أنها تفعل ذلك كله ، أو تحياه

اليشغلها حتى . تمشى فى شوارعه وحواريه وأزقته ، ..النظرات المتابعة ، أو المالحظات المستفزة

رآها محمود عباس الخوالقة ، وهى ترتدى فستانا يصل تلقفتها صيحته من أول . إلى ركبتيها ، مشجرا دون مالءة

:شارع أبو وردة ..ــ ماذا فعلت بنفسك ؟

:ان أخفضت رأسها تتأمل الفست ..ــ ماذا ؟

:قبل أطراف أصابعه !..ــ أنت مسخرة

:قالت محتجة !..ــ ألست مثل الستات ؟

:وهو يشملها بنظرة إشفاق ..لكن المالءة أليق بك .. ــ وست الستات

أدركت أنها لكى تحيا فى بحرى ، تمشى فى أزقة السيالة واألنفوشى ورأس التين ، فالبد أن ترتدى مثل نساء

. من ترتدى مثل النساء الغريبات ، فهى غريبة . ى الحالساكنات فى شوارع التتويج واسماعيل صبرى ورأس التين والحجارى وحسن عاصم وكورنيش الميناء الشرقية وغيرها

يتعرف . أما هى ، فأنسية . ، معروفات بالـتأكيد أو بالتذكر

وارع تسير فى الش. إليها الرجال بالمالءة التى تغطى جسمها ..، فال تلفت انتباها والتساؤال

ليلة ، . غلبها اليأس ، فوافقت على عرض المعلمة تصورت أنها . فتظل فى كوم بكير ، أو تعود إلى بحرى

..ستهدأ عن التنقل بين البيوت ركبها ــ فى ليال متتالية ــ صعايدة وأفندية

ت أرهقها خلع الفستان وارتداؤه ، فظل. وبحارة وطلبة اختلطت . الوقت لألخذ والعطاء والمؤانسة . بقميص النوم

اعتادت الضرب والقرص . المالمح ، فبدت شخصية واحدة والخمش والشتم والمالعبة والعض والتذلل واللعاب على

..كتفها العارى تسلم . لم تكن تناقش المصاحبين لها إلى داخل الحجرة

تتمدد بالقميص . ستان تنزع المالءة والف. نفسها فى آلية . يقبل جسدها ، يهصره ، يخمشه أحيانا ، يخترقها . الداخلى

. يخلو ذهنها إلى مالم تعد للقائه ، فى جزر قريبة وبعيدة تأخذ أجرها . التحادثه . تفيق على قومته ، وارتدائه ثيابه

عانت . اليشغلها مالمحه ، والماذا كان يرتدى . دون كالم

يحرك نفسها ، . لمتخلف على كتفها العارى من اللعاب ا ..فتجرى إلى الحمام ، تفرغ مابجوفها :قال لها صعيدى شحمى البدن ..ــ هل تكتفين بالبحلقة فى ؟

:ودفع لها ثالثة قروش !..ــ تحركى

:وصرخ فى الدهشة المتسائلة فى عينيها إفعلى أى شئ .. أصرخى .. أغنجى .. ــ إهتزى

..! فطنت إلى أن النوم غلبه ، . ف فيها ظل ساكنا لما قذ

..عندما فاجأها شخير متقطع ..تملصت منه ، فاستيقظ

حرصت ، فال تجعل ساعديها بين الذراعين حتى يسهل ..تملصها ، إذا غلب الرجل النوم

تغير عناقها لسيد ، منذ اليوم الذى صحبها فيه إلى يبة ، والبعيدة ، وذابت غابت الجزر القر. حدائق الشالالت

تغالب شعورا بالمتعة ، لم تكن عرفته ، والاعتادته من . فيه ..قبل

:قالت له مداعبة ــ أعدت لى اإلحساس بالرعشة إذا لمستنى يد رجل

..! :قال ليهون عليها

..ــ سأعوضك عن الحقيبة :وهى تتلفت فى تحير

..لماذا سرقوها ؟.. ــ لكن :ربت كتفها

..ــ أوالد الحرام كثيرون يثق فيها ، وأنها . أسعدها زوال لهجة الشك فى كالمه

..هجرت سيرتها القديمة :همست فى عدم تصديق

ــ هل يكون حمادة بك ؟ :هز رأسه بالنفى

..ــ وماشأنه بك ؟روت له ماجرى بينها وبين الرجل ، عندما صحبته إلى

نفسها لمضاجعته ، والداخلتها لم تعد. داخل البيت المهجور زادت . انتفض جسمها بمشاعر لم تحس بها من قبل . شهوة

فى الضربات ، وشتمته بما كانت تخشى أن تواجه به الذين ..عرفتهم

:قالت وهى تدارى ابتسامة بكفها !..ــ فعلت ماأرغبه ، وليس ماطلبه

!..حتى صاحب الفرن وصل إليك ؟!.. يابنت األبالسة :ال فى حيرة ق

..ــ ربما يمهد الرجل لطردك من البيت :لم تخف قلقها !..ماأراده فعلته .. ــ لماذا ؟

..ــ تعرفين سره :سألت فى قلقها ..ــ والحل ؟

:أغمض عينيه للحظات ، ثم قال ..ــ قلت إن الحاج محمد الحالق يعطف عليك

:وهى تخفض رأسها ..ان ــ إذا سرت أمامه ، دخل الدك

:فى استغراب ..ــ لماذا ؟

قال . نقل إليها محمود عباس الخوالقة ماسمعه ، وأثاره نساء كوم بكير يترددن على الطبيب ليوافق على :

استمرارهن فى العمل ، ويتردد الحاج محمد صبرة على !..أنسية ، ليمنحها البركة

لم تكن بينها وبينه عالقة من أى . أشفقت على الرجل تعلى من قيمتها ، . خشيت أن تنسب الشائعة إليها . نوع

..وتسئ إلى الرجل اعتادت المرور أمام دكانه ، منذ صحبها محمود عباس

خلفت وراءها الخدمة فى البيوت . الخوالقة إلى بحرى إذا توجست من بيت شارع سيدى داوود . وأهلها فى سحالى

بائن فى شاطئ ، تنقلت بين الشقق ، وحنيات الساللم ، والكصعبت على . وأمضت ليالى فى قهوة كشك . األنفوشى

المعلم كشك ، فأخلى لها تحت النصبة ، حتى اطمأنت إلى تدخله عندما يأتى . أزمعت أن تقيم فيه . البيت المهجور

..الليل ، وتغادره فى طلوع الصباح ***

يثق الحاج محمد صبرة أنه ليس فى ثراء والمكانة والحاج قنديل وعباس الخوالقة وعبد الرحمن حمادة بك

كان يحرص أن يلتقى اسمه . الصاوى والشيخ طه مسعود . بهم ، يفيد من اقترانه بأسماء الرجال المهمين فى بحرى

حجت أمه قبل . يعتز بأنه أدى فريضة الحج من قبل أن يولد وكان . والدته بأشهر ، فأصبح حاجا دون أن يرى العالم

ى جلسة العصر أمام الدكان ، وعلى درس يحرص عل ..المغرب

باب يمارس فيه الحالقة وعالج : كان لدكانه بابان .. المرضى ، واآلخر يفضى إلى داخل بيته

المصادفة وحدها هى التى دفعته للمزاوجة بين الحالقة شكا الحاج قنديل من صداع ينتابه بين فترة وأخرى : والطب

ألعشاب ، تسحق وتشرب على وصف له مجموعة من ا. تذكر الوصفة من كتاب فى مكتبة أبو العباس . ريق الصباح

..أفلح العالج ، كرره فى حاالت أخرى لرجال آخرين . كتاب ابن سينا ، وكتاب : أقبل على قراءة الكتب

الحاوى للرازى ، وشرح أسماء العقاقير للقرطبى ، واألغذية أللباب والجامع العجاب لداوود البن البيطار ، وتذكرة أولى ا

أهمها كتاب منزوع الغالف ، فى التعاويذ . األنطاكى . يتبين مواطن األلم . يستمع إلى شكوى المريض . السحرية

يتأكد من تطابق التعويذة مع الحالة التى . يعود إلى الكتاب . يضع الورقة فى إناء . يكتب التعويذة فى ورقة . يعالجها

..لمتخلف للمريض ، فيشفى بإذن اهللا يعطى الماء ايتردد على سوق الترك . وكان له ولع بتركيب األدوية

يصنع . يشير عليه العطارون بوصفات لألمراض المختلفة . ..من خليطها معاجين للحاالت التىتتردد على دكانه

الديتول والفنيك : مأل صيدلية الصالون بالمطهرات المقصات المعقمة والشاش والكولونيا والقطن الطبى وصف على األرفف أحقاق . والمسكنات وحقن المورفين

الصبر والمر والحنظل والكمون والحلبة وقشر الرمان وشواشى الذرة والبقدونس والنعناع والكراوية والشيح

جمع له خميس . والينسون والقرفة والدار صينى والمرارة جففها ، .شعبان األصداف والقواقع من ظهر الترسة

صارت مرهما . وطحنها ، وأضاف إليها بعض الزيوت يستخدمه . يستخدمه فى عالج الجروح ، وسرعة التئامها

ويحمل فى جيبه زجاجة صغيرة . كذلك فى حساسية الجلد ..يثق أنها تشفى من كل مرض . من زيت الحبة السوداء

تعلم الختان على يد عم جودة ، الحالق اليهودى أول قصر عمليات الختان فى المناسبات الدينية ، . ة الجديدة السك

. يعتذر عنها فى األوقات األخرى ، وفى األماكن البعيدة يجريها فى المولد النبوى ، وعيد الهجرة ، وذكرى اإلسراء والمعراج ، وليلة النصف من شعبان ، وذكرى مولد المرسى

.. قطن ، تضم قطعا من ال. اقتنى حقيبة جلدية صغيرة

وزجاجة ميكروكروم ، وأخرى للكحول ، ولفافة شاش ، وموسى مما يستعمله الحالقون ، ومقصات مختلفة األحجام

.. :قال له حمادة بك

..ــ الينقصك إال سماعة الطبيب :قال

!..إنها سماعة إلهية .. ــ إنى أكتفى بأذنى ذاع صيته فى شفاء المربوطين والمسحورين ،

وعالج . اع والحمى والنزيف ، ووجع الجنب ومرضى الصدلجأ إلى األعشاب . دود البطن والدوسنتاريا والبواسير

ربما أضاف إلى عالج . والوصفات والرقى واألحجبة ..مرضاه آية الكرسى ، يتلوها بطريقة منغمة

روى أمين عزب ، انه صحبه بنفسه إلى الطبيب . من البيت األرمنى مردروس ، جاره فى الطابق األول

. تزايد األلم فى بطنه ، فغاب التصور أنه مجرد عارض كشف عليه الطبيب ذى الجسد الممتلئ ، والشعر األبيض ،

..والعينين الزرقاوين ، والذقن المدببة :سأل

..ــ هل حاولت عالج نفسك ؟ :قال أمين عزب

..ــ عالجنى الحاج محمد ى البالطو األبيض وأشار إلى الرجل الطويل القامة ، ذ

..، والنظارة الطبية ، والحقيبة ، الواقف بجانبه :قال الطبيب متشككا

..ــ ماذا فعل ؟ ..عدد له محمد صبرة ماقدمه من عقاقير وأعشاب

. أطال تأملها . نقل الطبيب المسميات فى أجندة أمامه :ثم قال مؤكدا بنترأصابع يديه فى الهواء

..مما وصفه لمرضك ــ لن أصف لك أفضل :وأردف

!..ــ داوم على العالج زاد إلى مهنته ممارسات ، مثل التدليك وكاسات الهواء

فإذا . الفصد والحجامة والحمصة : والجراحات البسيطة أصيب شخص بتسمم ، لجأ إلى تشريط جلده بشفرة الحالقة ،

ربما لجأ ــ لشفاء مريض ــ إلى . فيخرج الدم المسموم :يغلبه اليأس من العالج ، فيعلن . بالنار كيه

رماه فى .. ــ لما غضب لقمان الحكيم من الدواء !..النار

ثم أعلن رفضه إلجراء الجراحات ، مهما كانت بسيطة قد تفيد قطعة الشبة فى . موسى الحالق غدار ، والأمان له .

ماذا . إيقاف النزيف ، إن أخطأ الموسى فى حالقة الوجه !..لو أخطأ الموسى موضع الفصد ؟يفعل

قيل إنه احتفظ فى ضلفة الدوالب بكفنه ، وزجاجة من وأوصى بأن يصلى عليه . ماء زمزم ، لغسله ، وتجهيزه

ــ عند وفاته ــ فى مسجد سيدى المسيرى القريب من ..الدكان ، والذى يصلى فيه معظم األوقات

*** :قال سيد ، يناوشها

..إلى أبو العباس إلجئى .. ــ إذن :فاجأته بالقول

..ــ وقفت على مقامه حتى تعبت تعددت زياراتها إلى ضريح السلطان ، تتحدث إليه ، تناجيه ، تشكو إليه ، تلتمس البركة ، تطلب النصفة

..كنست الضريح بمالءتها . والشفاعة والمدد لما قهرها اليأس من أن يستجيب أبو العباس لها ،

تضايقه . ، وضعت على ضريحه شمعة بالمقلوب وينصفها ..، فيتنبه لما تعانيه

:هتف سيد كالمتذكر ..ــ إذهبى إلى الشيخ أمين عزب

:أعادت اإلسم ..ــ الشيخ أمين عزب

:سألت للتأكد ..ــ تاجر السمك ؟

:وهو يشيح بيده

هو اآلن إمام زاوية .. ان ــ كان ذلك من زم ..خطاب

:محرضة أضاف بلهجة ــ كلميه ، فيطلب من حمادة بك أن يتركك فى

..يتالب :وشى صوتها بالتشكك

..ــ وإذا رفض :قال فى تأكيد يخشاه الجميع منذ طرد الرجل الغريب .. ــ سيقبل

..من قهوة الزردونى :وهى تلملم مالءتها حول جسمها

..وإن كنت الأطمئن إلى النتيجة .. ــ سأحاول :لى رأسه فى تذكر خبط سيد ع ..اكتشفت عين حمادة بك فى الفرن ..ــ أخيرا

:استطرد للتساؤل فى مالمحها ..ــ حكاية الخبز الرجوع

:قالت متنبهة ..ــ من ؟

..رئيس العمال .. ــ فؤاد أبو شنب :صمتت للحظات ، ثم قالت

..ــ هذا واجبه :قال سيد

!..ح لمن يشاء ــ صحيح لو أنه لم يهد الخبز الصاب ..ــ مسئوليته وهو حر :ثم وهى تربت صدره

!..ــ أغناها اهللا بالحالل ضم شفتيه . تبين المفارقة فيما قالت . هز رأسه مؤمنا

.، يخفى البسمة المتراقصة على شفتيه

ـقاب المغلالبــأذهلها الخوف من الجلوس فى حضرة الشيخ أمين

الكنانى ، والموازينى ، : جانبية اختارت الشوارع ال. عزب ..وسراى محسن باشا

ناوشها التردد حين واجهت ميدان الخمس فوانيس ، باتساعه ، والوجوه المطلة من النوافذ ، والمارة ، والجالسين

..على قهوة المهدى اللبان ، وبقايا سوق العيد . نفضت رأسها ، فال يشغلها التفكير ، أو يقهرها

ءة حول جسمها ، وتأكدت من وضع البرقع ، أحكمت المالورفعت ذيل المالءة بأصابع متوترة ، واكتفت بغمغمة التعنى شيئا ، وهى تواجه سؤال عم خلف البواب ، فى دخولها

:البيت ..ــ رايحة فين ؟

تابعت موعد انصرافه من زاوية خطاب ، بعد صالة الحجارى يمضى فى شارع المسافرخانة ، ومنه إلى. العشاء

يلقى السالم على رواد قهوة المهدى اللبان ، . ورأس التين

يضئ حجرته المطلة على الميناء الشرقية . ويصعد إلى بيته ثم يطفئ النور ، فال يضيئه ثانية إال مع . ، ساعة أو اثنتين

..تسابيح الفجر . سبقته إلى دخول الحجرة سيدة جاوزت الثالثين

ردية ، والذؤابات الحمراء فى شعرها ، خمنت من بشرتها الو ..داخل اإليشارب الحرير ، أنها أخته ، أو إحدى قريباته

*** من ناحية على شارع . البيت يطل على ثالث جهات

رأس التين ، فى امتداده إلى الموازينى والحجارى ، وعلى أما الواجهة ، فتطل على شارع . شارع فرنسا إلى المنشية

، يتجه ــ فى ناحية ــ إلى الميناء اسماعيل صبرىوأما النوافذ والشرفات الخلفية ، فتطل على الشارع . الشرقية يشغل جانبه ــ فى الناصية ــ جامع على . الخلفى

تمراز ، فبيتان من خمسة طوابق ، ينتهيان إلى فرن ضيق ، طويل . التمرازية ، واجهته على شارع الشوربجى

إلى الموازينى ، ويمثل ــ فى ، يفضى ــ من جهة ــ ..الجهة المقابلة ــ توازيا لشارع الميدان

. مع أن أفراد األسرة كانوا يمارسون العادى والمألوف ينصرفون إلى مدارسهم ، ويعودون منها ، ويطلون من النوافذ والشرفات ، يتابعون مواكب الملك ، والطرق

عة ، وينشرون الصوفية ، وسوق العيد ، وينادون على الباالغسيل ، ويفتحون الراديو ، فيصل صوته إلى بقية شقق البيت ، ويجلس الصغير طاهر ــ من العصر إلى قبل

مع ذلك ، فإنهم .. الغروب ــ على دكة عم خلف البواب اليتبادلون األحاديث مع الجيران ، . كانوا يميلون إلى العزلة

و جارة فى البيت لم تر. واليشجعون التزاور فى المناسبات صعب على األسرة أن تندمج . أنها شاهدت الشقة من الداخل

فى البيئة التى تحيا معها ، وصعب على البيئة أن تجتذبها ، فاكتفى الجميع بالحد الذى وضعه أمين عزب فى عالقة

..أسرته بجيرانها صنع لها . كانت له ــ فى بيته ــ مكتبة هائلة

. إلى السقف ، بسعة حجرة كاملة أرففا تمتد من األرض يترددون عليه ، . مبذولة لمن يريد االستعارة من أصدقائه

يلتمسون عنده النصح واإلرشاد والفتوى الصحيحة ، وكان يخلو إلى الكتابة والتأليف ، . مصادرها بطون الكتب

ينظم األوراق واألقالم . عقب عودته من زاوية خطاب . ب التى قد يحتاج الرجوع إليها والدواة والنشافة ، والكت

يسأل أهل البيت إن كانوا يحتاجونه فى شئ ، ثم يغلق عليه ينصرف إلى الكتابة ، حتى تغلبه الحاجة إلى . باب حجرته

..النوم عاش ــ منذ . لم يعد يغادر الزاوية إال إلى البيت

هجر حلقة السمك ــ على إيراد بيت قديم فى شارع حداية يحدد موعد . إيراد بالنس ترك أمره لعباس الخوالقة ، وعلى

يحاسبه . السفر ، والجهة التى يقصدها ، وأسعار السمك سبب نعمته ، . على نسبة ، ويوزع الباقى على الصيادين

فتح الباب ، . صحوه ــ ذات فجر ــ على دقات عالية اختارته دون العالمين ، لتلقى أمامه . فطالعته بغلة العشر

..خرج مملوء ذهبا بثم لم يعد يظهر . قل تردده على دروس أبو العباس

ــ إال نادرا ــ فىصحن الجامع ، والأمام أبوابه ، فلما أظهر ضيقه من المنكرات التى تسللت . والعند المقام

إلى حلقات الذكر ، ومن بدع الطرق الصوفية ، ران صمت وكان ذلك آخر . على مجلس اإلمام ، وإن غابت االستجابة

عهده بجامع المرسى ، فيما عدا مشاوير متباعدة لصالة ..الجمعة

وخرج ــ ذات ليلة ــ لجماعة كونوا حلقة ذكر ، فى الساحة المواجهة لزاوية خطاب ، وتعالت مدائحهم

..الممهدة ثم أعلن ــ . أمرهم أن يقيموا أذكارهم فى مكان آخر

ضه لألعالم والرايات فى خطبة الجمعة التالية ــ رفوالطبول والدفوف والرقص واالنجذاب والمواكب والتحلق

..حول شيوخ الجهل مع أن صديقيه عباس الخوالقة وعبد الرحمن الصاوى ظال حريصين على درس المغرب ، فإنه لم يعد يتردد عليه

إنما هى صالة الجمعة ، يؤديها ــ أحيانا ــ فال يظل . ..تى لزيارة مقام السلطان فى الجامع ، ح

وحين استوقفته امرأة ــ عقب صالة الجمعة ــ تحمل طفال مقيد الساقين ، ترجوه أن يفك القيد ، ليعينه على

:المشى ، انتهرها فى غضب اذهبى بالولد إلى الطبيب .. ــ هذه خزعبالت ياامرأة

..

:وأهمل مالحظة عبد الرحمن الصاوى امات شيخك عرفة األنصارى ــ أنت بهذا ترفض كر

..ومكاشفاته شاهده الكثيرون عندما جلس فى الموضع الذى خصص

أعلن أن الملك . لجلوس الملك فاروق بجامع على تمراز سيصلى فى الجامع ، واصطف العساكر فى ميدان الخمس فوانيس ، وتناثروا فى سطح الجامع ، وفوق مئذنته ، وفى

.. الميدان أسطح البيوت المطلة على :نبهه المعلم كشك إلى مافعل ، فظل جالسا

..ــ هذا بيت اهللا :خالط نصيحة المعلم كشك إشفاق

اختر موضعا .. ــ أنا لم أطلب منك ترك الجامع !..آخر

:قال فى إصرار !..ــ هذا هو الموضع الذى اخترته

يأبى أن يتركه ، لوال رجاء الشيخ . ظل فى المكان حفيظ ــ إمام الجامع ــ وكان يضمر ، ويعلن ، عبد ال

..له احتراما ــ فأخلى مكانه ، وجلس بين المصلين

أعلن سخطه لما عرض على الشيخ أحمد أبو دومة ، بشارع فرنسا ، أن يقدم جرسا " ولى العهد " صاحب كتاب اعتذر الشيخ بأن النبى حذر من أن الجرس . هدية للكتاب الموسيقية ، والمكان الذى يوضع به جرس البد آلة الشيطان

..أن يخلو من المالئكة ***

سحب يده ، لما همت بتقبيلها ، وأصر أن تجلس فى وفى الجانب ، . تحيط بها أرفف الكتب . الكرسى المقابل

. تطل الشرفة على األضواء المتناثرة فى الميناء الشرقية يات الفونوغراف ، وتتناهى من قهوة فاروق القريبة ، أغن

..ونداءات الجرسونات ، وصيحات الجالسين ذهب خوفها ، فى اللحظة التالية لجلوسه فى المقعد

سألها إن كانت من االسكندرية ، أم . الجلدى ، وراء المكتب لم يسألها عن اسمها ، والوظيفتها ، . من الوافدين إليها إسمها ، هو ــ بالتأكيد ــ يعرف. والأحوالها األسرية

..وماذا تعمل ، وإن أظهر عدم المعرفة ..دفعها ــ بنظرة حانية ــ إلى التحدث

روت مالم تكن تتصور أنها سترويه لرجل فى مثل سنه الحظت اختالج لحيته الكستنائية ، وارتعاش . ومكانته

أهدابه ، واحمرار أذنيه ، ونظرات حرج يرنو بها إلى المرأة يستحثها . لكنه ظل على هدوئه وصمته . األخرى ، الساكنة

..على المواصلة بصوت رتيب ، من فمه المغلق أعاد التأكد من انسدال العباءة فوق كتفيه ، واعتدل فى

..جلسته ، بحيث واجهتها عيناه :أخفضت رأسها للبريق الهادئ ، الملتمع فى العينين

..ــ أريد خدمة :وهو يتأمل التفاف المالءة حول جسمها

ــ ماذا تطلبين ؟ :فى لهفة

..ــ يتركنى حمادة بك فى البيت :عال صوته بالدهشة

..ــ هذا بيته :غالبت االرتباك

!..لكنه مهجور .. ــ أعرف :ثم قال . أغمض عينيه ، كمن أسلم نفسه لغفوة

ــ منذ لزمت زاوية خطاب ، لم أعد ألتقى بالرجل ، ..وال بسواه

:لم تتوقعها فى نفسها همست بجرأة ، ــ يتحدثون عن طردك للرجل الغريب فى قهوة

..الزردونى :أطلق ــ من أنفه ــ ضحكة مبتورة !ــ هل تريدين أن أضرب حمادة بك ؟

:وأردف بلهجة معتذرة ــ ماحدث فى قهوة الزردونى إلعادة األمان إلى

..الحى :وقال لالرتباك فى مالمحها

ره فى مكتبه ، أو فى دكان الحاج ــ سأحاول أن أزو ..محمد صبرة

:ثم فى صوت يفعمه التساؤل ــ قيل إنه لم يعد يحضر دروس المغرب فى أبو

..العباس توزعت نظراته بين أنسية . مضت لحظات صمت

:والمرأة الجالسة ، ثم انتزع الكلمات

..ــ عليك أوال أن تبتعدى عن هذه الـ وافترقت ، وتشابكت ، ثم وتشابكت أصابع يديه ،

.سكت فاجأها . استقباله الطيب أذهب كل الوساوس من نفسها

..بالقول ، فأطرقت رأسها :عال صوته مستطردا

ــ وعليك أيضا أن تبتعدى عن حياة الخفافيش فى .. البيوت المهجورة

..أخذتها المفاجأة ، فعصتها الكلمات :قال وهو يتأمل الكتب المرصوصة

ذلك .. ــ لماذا التعودين إلى الخدمة فى البيوت ؟ ..ويضمن لك المأوى .. أرحم

:أضاف فى تشاغله بتأمل الكتب إن لم تكن الخدمة فى .. ــ أثق أن لك أسرة طيبة

..البيوت تروقك ، عودى إليهم :ولون صوته ، بما يهب معنى يقصده

ولن يجبرك أحد على فعل .. رة ــ أنت اآلن كبي !شئ

تألقت عيناه ــ فى اللحظة التالية ــ بمودة واضحة :وهمست لنفسها ، وهى تميل فى شارع سليم البشرى .

ــ هل اكتفى بالبسملة والتكبير ، قبل أن يجز عنقى ! ..؟

بعيـــدا عن الشاطئ ..تك .. تك تك .. تك تك

سكنت الحركة فى اللنش . ثم وهن صخب الموتور ..توقف تماما . الصغير ، وماحوله

نظر ــ بتلقائية ــ حوله ، وهو يحاول معالجة أمامه المراكب الصغيرة . على اليمين قلعة قايتباى . العطل

يشاهد حركة العاملين فيها ، . ، فى نهاية الميناء الشرقية وعلى اليسار ــ من بعيد ــ . وإن لم تصله أصواتها

..لسان السلسلة يمتد إلى داخل البحر لم يكن يعرف فى اللنش إال أن يدير المفتاح ، فيدور

عرض . تابع الولد زعرب يفعل ذلك ، ففعل مثله . المحرك :الولد أن يدله على بقية الخطوات ، فرفض

..فسأدعوك للتصرف .. ــ إذا تعطل :أردف وهو يعبر بيديه

..ــ أنا الأبتعد عن الشاطئ كثيرا ح ، فأسكته بإشارة من الشرهم زعرب بالمزيد من

..يده

حرص ــ فى البداية ــ أال يجاوز المنطقة ، مابين نهاية الميناء الشرقية ، إلى حيث يطل على جامع البوصيرى

..وميدان أبو العباس أوامر أمه الصارمة لم تتح . لم يكن يعرف العوم أيضا

له مجرد الجلوس على شاطئ البحر ، أو اللعب فى الشارع ..فى الخل

القوارب . كان يتابع ــ من البر ــ سباق القوارب الفائز . الحمراء من السيالة ، والخضراء من رأس التين

يركبه ، يغطى قماش قاربه على . يسرق الريح من اآلخرين كلما كان الشراع كبيرا . يطلع فوق ريحه . القارب المجاور

. لغرق ، امتأل بالريح أكثر ، وإن تعرض غير الفاهم ل. الطريق المستقيمة خاطئة . القيادة لماسك الدفة . المقاديف

كلما كان سن المركب من أسفل ممدودا وحادا ورفيعا المصيبة لو أن . ومسحوبا ، كانت فرصة الفوز أكبر

يدور حول الشاطئ ، ثم يتجه ــ . الصارى التف بالشراع من . ودة بميل ــ إلى الجزيرة فى مدى الرؤية ، والع

يحمل مع أصدقائه قاربه ، يسيرون فى . يعود أوال هو الفائز الشوارع من رأس التين إلى مرسى القوارب والفاليك

يتجهون ــ فى مظاهرة الفرح ــ إلى . بالميناء الشرقية .. ميدان أبو العباس

:يغنى الفائزون من السيالة قفة رملة وقفة طيـــــن

التيـن على والد راس :ويغنون

وديتوا عشاشكـــوا فين لما الملـــك شحطتكــوا

:ويغنى الفائزون من السيالة سيـــــــالة ياسيالــة

يااللى مافيكــى رجالــة :ويغنون

عملوا حمام األنفوشى علشان نسوان السيالـــة

قلعة أحس بالوحدة ، فداخله خوف ، لم يقلل منه رؤيةقايتباى القريبة ، ومعهد األحياء المائية ، والأشرعة السفن الصغيرة ، تتماوج فى زاوية الميناء الشرقية ، وال األصوات

. المتالغطة ، البعيدة ، اليعرف ــ بالضبط ــ مصدرها

صعب . تمنى لو اقترب صوت ، أو مرت فلوكة بالقرب منه تغرق ، . ، أحد أن تموت ، فال يدرى بموتك ، والبمكانك

..تنتهى ، كأنك لم تكن ..نادى بأعلى صوته ، فتبدد النداء فى الفراغ

ارتفعت شمس الضحى ، فسال العرق على وجهه ، ..وأحس بالتصاق الثياب

يشاهد الجالسين فى . الزورق جزيرة اليراها أحد ..المراكب ، وعلى الشاطئ ، وغازلى الشباك

قفز ، فال يغادر السكون حوله ينادى ، ويلوح بيده ، وي .. حتى زوارق السواحل اختفت . مألوفه

..أبعد مكان سار إليه ، خلف قلعة قايتباى السور المرتفع لمساكن السواحل ، والهدوء أغراه

. قل لصاحبك : ضحك عباس الخوالقة من أعماقه . بالتلميح روى عن أنسية . الأقوى على القول إنى أنا صاحبى

آلمه . آخر ، أسعفه الخيال برواية ظروفه وشخص يتكلم ببساطة ، يناقش . اإلحساس بتفوق الخوالقة ، وضآلته

يكتم فى صدره . ، ويسأل ، ويعلق ، ويدهش ، ويسخر

الكلمات ، يقلبها ، فال يتحدث إال بما يحوم حول السر ، ..كره عباس الخوالقة ، وكره نفسه . واليكشفه

كره المكان أيضا ، فلم . ئا بالعودة اتخذ قرارا مفاج ..يذهب إليه ثانية

حتى جلوسه فى . أجهده السر ، والتطلع إلى المشتهى يختار موقعه فى مواجهة المقام ، للفرجة . صحن أبو العباس

على اللواذ بالسلطان ، الطواف حول الضريح ، الهمسات . يه اليحول عين. بطلب النصفة والبرء والشفاعة والمدد

ربما وجد استجابة ، فيخرج وراء اإليماءة إلى الدحديرة ينفض عن نفسه ماشغل أعوام . يروى مايعانيه . الخلفية .. عمره

أضناه السير فى الحوارى واألزقة ، والتطلع فى . اليكشف مايعانيه بغزل أو مخاطبة . النوافذ والبلكونات

وإطالة يكتفى ــ إذا كان المكان خاليا ــ بالتلصص .. النظر

أهمل ماروى عن قاسم الغريانى إنه عرض على نبوية زوجة توفيق مكوجى الرجل ، أن تضايق زوجها ، فيطلقها ،

ثار المكوجى ألول بادرة ، وألبسها جردل . ويتزوجها هو .. الماء ، فعادت إلى طبيعتها المستكينة

نسية أقلقه أن المعلم أحمد الزردونى شاهده وهو ينتظر أ، أمام بيت مهجور ، تطل عليه نافذة شقته بشارع سليم

أطفأ الزردونى النور ، وتطلع من خصاص الشيش . البشرى اصطحبها إلى داخل البيت ، ومضى . ، حتى قدمت أنسية

..وقت ، قبل أن تغادر أنسية البيت ، ويلحق بها هل روى الزردونى مارآه من النافذة المطلة على البيت

..ور ؟ وهل فضفضت أنسية لسيد الفران ؟المهجتعددت زياراته إلى قهوة الزردونى ، منذ اعتزم

الصيادون ــ كما وعده الحاج قنديل . الترشيح لالنتخابات لم يواجه إشارة . ــ ورقته الرابحة بين مرشحى األحزاب

. والتلميحا من المعلم الزردونى ، وال من رواد القهوة ..شاريب على حسابه ، ووعدوه خيرا رحبوا به ، وبالم

:سأل المعلم الزردونى ..ــ هل حددت الحكومة موعد االنتخابات ؟

!ــ ال :واستطرد بثقة العارف

ــ لكن األحوال السياسية تؤكد ضرورة إجراء .. انتخابات جديدة

.. تأمل سيد الفران ، وواجه عينيه يسرق الخبز . ه بدا مرتبكا للسر الذى يعرف أنه يعرف

.الرجوع ، ويعطيه ألنسية !.. أنسية

وهل ارتباك .. هل روت ماجرت فى البيت المهجور ؟سيد ــ هذه المرة ــ ألنه يخشى افتضاح ماقد تكون

!..أنسية ائتمنته عليه ؟لمح لزوجته ، فى لحظات االشتغال . أجهده كتم السر

:رفضت بما لم يتوقعه . !شيقة ــ أنا زوجة ولست ع :قلبت شفتها ، وأردفت

!..ــ المفروض أنى تزوجت رجال : تذكر ــ بينه وبين نفسه ــ قول المعلم التميمى

!..المضاجعة الحالل اللذة فيها اجتذبت األب دوامة . زوجه أبوه قبل أن يبلغ العشرين

اختار له نهى . المرض ، فأراد أن يطمئن عليه فى حياته

شغله النسب ، ولم يعن حتى بأن ترى . بنت سعيد النقيب حتى أعماله وأمالكه . وافق على شروط أبيها . زوجه الفتاة

تنازل عنها ــ فى حياته ــ شرطا لقبول سعيد النقيب ساعد على قبول الشرط فشل حمادة . تزويج ابنته من وحيده

مع ذلك ، شكا ألمه . أنجب منها بنتين وولدا . فى الدراسة يتعاشران ، . ته بزوجه ، أقرب إلى الجيرة أن عالق

لكن الحائط الغاللة قائم ، .. ويتحادثان ، وينعيان المشكالت ..ويصعب إغفاله

..تنبه لصوت محرك يقترب شابان يقودان لنشا ، مضى من : حدق النظر فيما حوله

اختفى اللنش بعيدا ، قبل أن . وراء القلعة فى اتجاه السلسلة ..يا يصيح مناد

أمواج عالية متوالية ، . أرهقه ابتعاد أمواج يتمناها تلطم وجهه ، تعلو بجسمه ، وتسلمه إلى األعماق ، تقذف

لكن .. بملوحة الماء فى فمه ، تحيط به أسماكها فتدميه الحياة تجتذبه من . السراب ظل على سكونه فى نهاية األفق

د أبو شنب ترك لفؤا. دوامة الترقب والجنون واالشتعال يسلمه الفراغ إلى الغابة . إدارة الفرن ، وتحصيل اإليجارات

. ينصت إلى أصوات الزئير والخوار والفحيح . الوحشية رد الفعل . يشقيه غياب الومضات واإليماءات المحرضة

يصخب فتقتله النظرات الشامتة . المغاير اليقوى على تحمله . ة المغرب يصعب أن يجلس فى قعدة العصر أو صال.

هده التطلع إلى مابعد . ربما عصته خطواته عن السير الوقفة أمام ترام الرمل ، ومالحقة النظرات لعابرات السبيل والنوافذ المفتوحة والمالمح المجهدة حول مقام أبو العباس ،

..واللف فى الحوارى واألزقة ، وترقب المفاجأة . اسى أنقذته كلمات الحاج قنديل من الحصار الق

. انفراجة الباب نبهته إلى دنيا لم يعرفها وال تصورها يشارك ــ بالمسايرة ــ فى أحاديث السياسة ، ويكتم الدهشة النفعاالت التأييد والمعارضة ، ويسكت ــ حتى

ى ماينقلونه من الراديو يخطئ ــ عن التعقيب عل ..والصحف

:حمل صوته نبرة اعتذار !ــ للسياسة رجالها

: الحاج قنديل قال !..ــ وهل أنجبتهم أمهاتهم ليدخلوا البرلمان ؟

:ثم وهو يشيح بيده !..ــ توكل على اهللا

:وحدجه بنظرة مستغربة ــ لماذا ننتخب فى كل مرة مرشحين من خارج

..بحرى ؟ :ثم وهو يجرى بباطن يده على مبسم الشيشة

..ــ أعدك بتأييد كل الصيادين إذا رشحت نفسك ..اجأه العرض ف

يشارك فى . لم تكن السياسة مما يدور له ببال االجتماعات الحزبية ، وأحاديث السياسة ، وفى مرافقة المرشحين ، وإن رفض كل الدعوات لالنضمام إلى أحد

يعرف أسماء سعد زغلول والنحاس وأحمد حسين . األحزاب واسماعيل صدقى والنقراشى وأحمد ماهر وابراهيم عبد

يعبر عن تعاطفه ، أو رفضه ــ . دى وحافظ عفيفى الهاهزته حادثة . من خالل الروايات ــ عما يفعله الزعماء

أمر النقراشى البوليس بفتح الكوبرى ، . كوبرى عباس كره النقراشى من . فغرق العشرات من الطلبة المتظاهرين

األساس " نسى حتى عبارته التى رددتها جريدة . يومها

شارك ــ بالمشاهدة . أخرجوا من بالدنا أيها القراصنة " :التشغله . ــ فى المظاهرات المتعاقبة لطالب المعهد الدينى

. إنما هو فضول المتابعة . الهتافات ، والماذا يطلبون وعندما يبدأ الصدام بين المتظاهرين والعساكر ، يسبق

ع ريب ، أو الفرار من شاراآلخرين فى اللواذ ببيت ق ..جانبى

سرب من . أجفل لصيحات متآلفة ، طارت فوقه ..النوارس ، قطع نصف دائرة ، ثم مضى بعيدا

أهدى قهوة الزردونى ثالث نرجيالت ، مبسم واحدة . من العاج ، والثانية من الكهرمان ، والثالثة من الفضة

حرص على أداء كل األوقات فى أبو العباس ، وفى جوامع ثم جرفته فكرة . ومساجده ، وزواياه الحى األخرى ،

قدم لزاوية . الترشيحلالنتخابات ، فلم يعد يدرى أين يذهب أدرك موقع . خطاب منبرا ، وفرش أرضياتها بالحصير

أمين عزب فى نفوس أبناء الحى ، منذ طرد الرجل الغريب انقطع الرجل عن درس المغرب فى . من قهوة الزردونى . جلسة أمام دكان الحاج محمد صبرة أبو العباس ، وعن ال

تحددت حياته بين الزاوية والبيت ، فال يكاد يلتقى إال ..بالمترددين عليه

أشار عليه الحاج قنديل ــ لتأكيد صداقته ، ولشراء الناخبين ــ أن يزود الزاوية بما تحتاجه ، ففعل ، وإن التقى بأمين عزب ، عقب صالة العشاء ، ليلة ، فى أبو

..لعباس ، فلم يشر إلى ماقدمه للزاوية االضحى أنسب األوقات لعودة البالنسات والفاليك

. تلقى مراسيها . والدناجل والقوارب الصغيرة إلى الشاطئ لكن الشمس اقتربت من وسط السماء ، . تعد للرحالت التالية

اختلط العرق والملح فى . وتموجت المرئيات باألشعة القاسية ليس إال األفق ، واألمواج الهادئة . التصقت بجسمه ثيابه ، ف

، والشمس ، والسماء ، وقلعة قايتباى ، والقوارب الساكنة فى ..المرساة

ماذا لو استطال الوقت ، دون أن يأتى : داخله القلق !..من ينقذه ؟

مائة متر ، . أقنع نفسه بمحاولة السباحة إلى الشاطئ لم يعد إال سرواله . يابه نزعت العصبية كل ث. أو أقل . يتذكر ماتعلمه ، ويسبح . أغمض عينيه ، وقفز . الداخلى

. يضربها بساقه وذراعه . المياه تحيط به . تالشى التردد اليسبح بطريقة محددة . يحرص أال يدخل الماء فمه أو أنفه

نزل إلى المياه ، . مايهمه هو الوصول إلى الشاطئ . تعلمها ..نزل إلى الشاطئ فالبد أن ي

. تتسلل إلى فمه وأنفه وأذنيه . أحس بالمياه تجتذبه ..أحس أنه يختنق ، وأنه يموت

..صرخ بآخر ماعنده

الحلقــــــةيـــــارب ياخــــــالق البرايـــــــــا

يامــــن تعالى على الشبيـــــــــــــهياكاشف الضـــر والباليـــــا يـامن إلـى

أرتجيــــــــــهالكــــــربــك ـــرانى والأراه أهل ـــن يــــ يـــام

عـــــدوى ومن يلـيـــــــــــــهيامجزل الفضـــل والعطـايا فى كــــــل

وقــــــــت لســـائليـــــهيامنفــــــذ الحكـــم والقضايــــــــا

والاعتــــــــــراض لنـــــــــــــا ــــــــــه ــ عليــــ

هجرها الصيادون . ، مسقوفة الحلقة واسعة ، مسورة

حتى باعة . والباعة إلى الرصيف ، قبالة الباب الضخم

الترسة ، وقفوا فى الساحة العارية ، المالصقة ، يتأكدون ــ قبل الذبح ــ من وجود زبائن ، يتقاسمون لحم الترسة

صفت الطبالى على األرض ، وفوق الترابيزات . قبل ذبحها الدنيس والقرموط والمرجان : أسماك يتخلل الثلج. الكبيرة

والمياس والبورى والبربون واإلنش والوقار واللوت والشرغوش والكحلة والطوبارة والقاروص والموزة والسبيط

..وسمك موسى والكابوريا والجمبرى تصور أنه منادى يعلن عن وفاة . ترامى نداء من بعيد

..أحد أبناء الحى . أنه إعالن عن ذبح ترسة لما اقتربت اللمة ، عرف

. التذبح إال إذا بيعت ــ مقدما ــ بما يساوى وزنها يخشون أن تكون . يرفض الناس شراء لحمها من الثالجة

أخليت عربة يد لترسة هائلة الحجم ، رقدت على . ميتة تداخلت ــ إتقاء للخطر ــ فال رأس والعنق . ظهرها

..واليدان والرجالن والذنب :بد الرحمن الصاوى للولد حنفى قال ع

..ــ التذبحها قبل أن تلم الفلوس :وتنهد

..ــ مشكلة الترسة أن لحمها البد أن يباع طازجا لما اطمأن حنفى إلى المبالغ المدفوعة ، دسها فى جيب

أمسك برأس الترسة الراقدة على ظهرها ، . المريلة الجلد ..كبيرة ثم ذبح زورها بسكين . وبسمل ، وكبر

فتحه ، . تدفق الدم من الشريان ، فخنقه بأصابعه عشرين كوبا وأكثر ، اندلقت . وأغلقه ، لملء توالى األكواب

يرون فى دم الترسة شفاء لمعظم . فى األفواه ، دفعة واحدة انتفضت . يهب الصحة والعافية ، ويلغى الدواء . األمراض

إلى موضعها فى أعادتها األيدى . قطع اللحم ، تقافزت اختلطت بالدم المتدفق ، تشبث يدا حنفى . منتصف العربة

كأنها حيوانات صغيرة ، والرأس . بها ، حتى التفلت إعتاد . المفصول ــ فى جردل ــ يحرك عينيه وفمه

تشاغلوا بتلقى الدم الفوار فى األكواب ، . الناس مارأوا ..وارتشافه

:قال للشيخ يوسف بدوى ز شرب دم إمام أبو العباس بعدم جواــ أفتى

..الترسة :قال يوسف بدوى

..فدم الترسة حالل .. ــ اجتهاد غير صحيح :أردف موضحا

أسماك البحر .. ــ الدم المحرم هو الدم المسفوح والترسة كلها ، لحمها . تحل ميتة دون حاجة إلى ذبح

ألن دمها ليس من نوع الدم .. وشحمها ودمها ، حالل ..المسفوح

..ــ من تريد ؟أهملها دون . ألفوا سحنته الجديدة ، بعد أن أطال ذقنه

..تصاعدت الشعيرات إلى قرب عينيه . تشذيب :قال لدياب أبو الفضل وهو يتجه إلى داخل الحلقة

..ــ الحاج قنديل كرسى جلس عليه . قعدة صغيرة فى زاوية الحلقة

ليها فنجان قهوة ، ومبسم أمامه طاولة ، ع. الحاج قنديل تناثر ــ فى األرض ــ قفف ومقاطف . الشيشة الفضى

وغلقان وطسوت وحلل هائلة الحجم وألواح مغطاة بالثلج المالئكة . يحرص على المحاسبة قبل العصر . المجروش

. الموكلة بقسمة األرزاق تختار بعد العصر لتجرى قسمتها

ن فى ضيق ، منحته ومن كا. من تراه على سعة ، زادته ..بما يحفظ عليه حياته

ميز الحاج بنظارته المقعرة ، وشاربه المنسدل على فمه ، وصوته المشروخ ، وعباءته البنية ، تبدو فضفاضة على جسمه الضئيل ، والشيشة التى اليؤذن بدخولها الحلقة

..لسواه رفض عبد الرحمن الصاوى أن يعطيه شروة ، ليسرح

..ور أنى أغضب الحاج قنديل ؟هل تتص. بها :ثم وهو يزغده فى كتفه

..ــ إذهب إليه ، وصالحه يفرش على . اكتفى بوقفته أمام حلقة السمك فريشا

فوقها . عربة صغيرة بضاعته من السمك البسارية والزريعة اعتذر عباس الخوالقة وعبد . مظلة تقى حرارة الشمس

باعة ، عن تزويده بما الرحمن الصاوى وبقية المعلمين وال ..نعوا هم الحاج قنديل ، وتجنبوا إغضابه . يحتاج إليه

لمجرد التنفيس ، . حكى للشيخ يوسف بدوى مايعانيه التوقعا أن الشيخ ربما تكلم مع الحاج قنديل ، والسعى له

عال صوته بكلمات معتذرة ، لما رأى . عند معلمين آخرين ..يد الشيخ تدخل جيب العباءة

:قال يوسف بدوى فرض عليه أن يشفق . ــ الشيخ مسئول عن مريده

..عليه من قسوة أحواله ، بما يكون جبرانا لتقصير المريد كان مستراحا لمريديه ، كهفا لهم ، مالذا ، خزانة

لم يستمع منه إلى غيبة والنميمة ، . وحرزا ألسرارهم قلبه بحر . والذكر مساوئ اآلخرين ، أو أفشى أسرارهم

..يبتلع األسرار والجيف ، اليعلن عما بداخله :رافقت هزة رأسه كلماته المعتذرة

..ــ إذا ساءت األحوال ، فلن ألجأ إال إليك رغم الذقن الكثة التى أحاطت بوجه يوسف بدوى ، فإن بريق عينيه كان يحدد سنه ، بما اليجاوز الخامسة والثالثين

بسبع سنوات ، وإن جاوزت العالقة ، فالراكشى أكبر منه تبدو أقرب إلى عالقة األب . بينهما صورة الشيخ والمريد

يسأل على الراكشى ، ويشكو الهموم ، ويتمنى الحل . وابنه ويوسف بدوى يجيد اإلصغاء ، ويضع للمشكلة إطارها ، .

..فتبدو واضحة ، والحل ممكنا

درسة راتب ألحق أبو بكر ثانى أبناء على الراكشى بموتوسط عند المشرفة التركية فى . باشا بشارع رأس التين

تنازلت عن مصاريف . مدرسة مصر الفتاة بصفر باشا وعندما أنجبت أم العيال طفلة . الدراسة لثالث أبنائه عثمان

خامسة على أربعة أوالد ، أهداه حلقا صغيرا من الذهب ، :وقال

!..ــ البنات أحباب اهللا السمك مهنته ، صيادا . ه بأن يرسو على بر نصح

صيد الطير له . المهن الطيارى التؤكل عيشا . وبائعا مواسم السمك بامتداد العام ، وهو مهنته التى عاشها . مواسم الوقفة . يعرف أحوالها ، ويعاشر المغموسين فيها . عمره

وراء مساكن السواحل ، تضعه فى جزيرة ، اليخالط ..ين ، والالباعة ، يعزل نفسه عن الجميع الصياد

:قال بنبرة تقطر حزنا ..ــ الحاج قنديل يرقص فى مركبى :حدجه يوسف بدوى بنظرة متسائلة ..ــ كيف إذن يعامل اآلخرين ؟

:صمت للحظة ، كأنه يستجمع الكلمات

..ــ يوافقون على ماال أوافق عليه :قال الشيخ فى صوته الهادئ

ربما غاب داخلنا عيب .. ل أن نناقش أنفسنا ــ أفض ..لم نفطن إليه

:علت كلماته بنرفزة !..ــ الحاج قنديل هو العيب نفسه

:دون أن يجاوز هدوءه ولن تخسر .. راجعها .. ــ حاول أن تناقش نفسك

!..شيئا لم يختلف عن سواه . قيل الكثير عن بداية الحاج قنديل

وتنقل بين الشواطئ ، أو " غلق " سنارة و. من الصيادينهو اآلن . يشترى مما تأتى به الجرافات فى حلقة السمك

الطعام والماء والشاى والسكر . يزود البالنس بكل مايحتاجه حتى السجاير يطمئن الحاج . والجاز والبنزين وألواح الثلج

يطوف صبيانه . إلى وجودها ، قبل أن يبدأ البالنس رحلته يسلمون كل بيت مايحتاجه . لصيادين أيام النوات على بيوت ا

يسجل لكل صياد . من المال والشاى والسكر والسجاير . يعود البالنس بعد أيام . يحاسبه عليه فيما بعد . ماأخذه

الحاج أول من . ربما امتدت غيبته أسبوعا ، أو أكثر ينتقى من الطبالى المرصوصة أفضل مافيها ، . يصعد إليه

كل أقتين بخمسة قروش . ثم يزن السمك باألقة . المعلم عشاثم يخصم ثمن . اليأخذ إال الطبلية . اليهم النوع والالحجم .

يرجئ ثمن الطعام والسجاير . البنزين والجاز والثلج يدفع صبيانه فى مزادات . والمعسل إلى بداية الرحلة التالية

يضطر الباعة . يزايدون على الباعة السريحة . بيع السمك ..إلى الشراء بأسعار ، يحددها الحاج قنديل

لزم الراكشى موضعه بعيدا عن مجلس الحاج ، يتوسل ..كى يعطيه أكثر من الكمية المحددة

حاسبنى .. واحدة دون بيع ــ إن عدت بسمكة ..عليها

:وهو يشيح بمبسم الشيشة ..ــ هل أعطيك من رزق اآلخرين ؟

:قال على الراكشى !..الخير كثير .. ــ الرزق باهللا

لن يزيد .. ــ عندما يتوزع هذا الخير على السماكين ..نصيبك على ماحصلت عليه

:عال صوته باالنفعال .. ــ كنت أحصل على نفس الكمية وأنا أب الثنين

..واآلن أنا أب لخمسة : صرخ الحاج

!..ــ تخمس على ؟ : وضغط على المبسم بعصبية

..ــ هذه مسئوليتك قيل الكثير عن العمارات التى يملكها الرجل فى الرمل وسموحة ، وشركات نقل القمح من الجمرك إلى شون الورديان ، والصفقات المشبوهة فى عرض البحر ، يتسلل

..الرجال ــ ليال ــ للعودة بها !.فهل يمتلك البحر أيضا ؟.. قة امتلك الحاج قنديل الحل

لجميع أن من يرضى عنه الحاج قنديل ، يدخل يتفق امن يغضب عليه ، اليدخل الحلقة ، . الحلقة ، يشترى ويبيع

..ويواجه المضايقات خارجها اليأذن للخالفات . كان يحرص على صداقة المعلمين

إذا أفلح الصيادون والسماكون فى تفتيت . أن تنفذ بينهم ن مأمور لقسم الجمرك وإذا عي. وحدتهم ، يدفع الجميع الثمن

، أو مفتش جديد للمباحث ، أو مأمور لنقطة األنفوشى ، بادر . اليحمل هدايا ، وإن لمح بما يأذن بانفراجة الباب . بزيارته

إذا ظل الباب موصدا ، اكتفى بالزيارة ، وعبارات المجاملة حين تتبدى انفراجة . ، والتحدث فيما يهبه الرجل انتباهه

وكان يعرف رجال . عث صبيانه بالهدايا لتوسيعها الباب ، يبحتى المخبرين كان يعرف . المباحث معرفة شخصية

أسماءهم ، وأين يقيمون ، وجلس مع غالبيتهم ، وسهر ، وقيل إنه خصص لمخبرى المباحث رواتب . وأكل ، وشرب

. شهرية لقاء إبالغهم له بتحركات حمالت الضبط قبل بدئها الحاج : سئول ، صحب معه من يقدمه وإذا دخل مكتب م

تتغير االستجابة ــ بالتقديم ــ فى عينى المسئول . قنديل ..وتصرفاته

هم الراكشى بترك الحلقة ، فال يواجه الحاج قنديل فى ..لحظة غضب

:لحقه صوت الحاج ..ــ ماذا تريد ياراكشى ؟

..لم يعد أمامه إال أن يشرح الحال ، ويطلب النصفة ..خدامك ياحاج ــ

:أشاح الحاج بمبسم الشيشة ..ماذا تريد ؟.. ــ ثم ماذا ؟

:وهو يظهر المسكنة ..ــ يرفض الجميع تقديم ماأسرح به

..ــ وأنا أيضا أرفض ..ــ لماذا ؟

:تقلقل الحاج فى جلسته !..أليس هذا ماتدعيه ؟.. ــ ألنى ظالم

ن ــ اسما اختار للرجل ــ فى نفسه ، وبين الصياديقنديل . ثانيا ، يعبر عن نظرته إليه ، ومايحس به نحوه

..لدغته بالسم الهارى . البحر :فى نبرة متذللة

..ــ أنا لم أجلس فى القهوة منذ أشهر :أطلق الحاج شخرة من قاع حلقه

!..ــ صار الشيطان درويشا :وعال صوته

ذ لن تأخ.. ــ حتى لو توسط شيخك يوسف بدوى ..بضاعتى

ضايقه ذكر اسم شيخه . بدل االنفعال مالمح الراكشى :زفر فى نفاد صبر . فيما الشأن له به

!ــ هذا حرام :رمقه بنظرة مشتعلة

!..بضاعتى أبيعها لمن أريد .. ــ هل أخذت مالك ؟ .ودس المبسم فى شفتيه

!التضق بى .. يامريدى

. أحب اهللا فقط ، تمت واليته من أحب اهللا ، و: قال أبو العباس والمحب على الحقيقة السلطان على قلبه لغير محبوبه ، والمشيئة له

من : وقال . غير مشيئته ، فإن من ثبتت واليته من اهللا اليكره الموت أجل مواهب اهللا تعالى ، الرضا بمواقع القضاء ، والصبر عند نزول

ائد ، والرجوع إليه عند البالء ، والتوكل على اهللا تعالى عند الشدفمن خرجت له هذه األربع من خزائن األعمال على بساط . النوائب

المجاهدة ، ومتابعة السنة ، واالقتداء باألئمة ، فقد صحت واليته هللا ، لو كشف عن نور المؤمن العاصى ، : وقال . ولرسوله ، وللمؤمنين

!المطيع ؟فما ظنك بنور المؤمن . لطبق مابين السماء واألرض

:قال على الراكشى ..ــ أنا عائد من الحلقة

: أردف للتساؤل فى عينى الشيخ يوسف بدوى ..ــ كنت أحاسب على شروة بعتها لحسابى

:قال يوسف بدوى ــ على التلميذ أال بشتغل بشئ سوى الحق سبحانه ،

..حتى ينفعه التعليم

:واتته جرأة ..ــ ومن أين أطعم أوالدى ؟

:قال الشيخ ولكن يجب أن .. ــ الأدعوك إلى هجر لقمة العيش

..تمشى فى طريق اهللا معظم خطواتك أذهله التغير فى مالمح الرجل ، وفى نبرة صوته

لم يعد ذلك األب الذى يلقى برأسه على . ،وطريقة كالمه استحال هما . يسأله ، ويناقشه ، ويشكو له همه . صدره

، وفى تقلصات الوجه ، وارتعاشة اليدين ، يطل فى العينين ..والنبرة الباترة

:ثم وهو يضرب الهواء بجانب يده !..اللقصد دنيا .. ــ أذكر ربك امتثاال

:وعال صوته بنبرة محذرة !..ــ إذا كان قلبك جنبا ، فانصرف

:تساءل بالدهشة ..ــ هل يجنب القلب ؟

:قال الشيخ ..ته عن خالقه ــ جنابة القلب غفل

. الحاج قنديل يحصى عليه أنفاسه فى قهوة الزردونى هل يكمل الشيخ الدائرة ، . عيونه وآذانه ينقلون إليه مايقوله !..فيحصى أنفاسه فى الحياة كلها ؟

..اشار الشيخ إلى صفى الرجال المنتظمين هسيس النخيل ، أو . بدأ الذكر بقرار مطمئن ، هادئ

ثم انتقلت الحركة إلى . بحر ساعات هدوئه تالحق أمواج الحمى . مقامات أخرى ، أكثر ارتفاعا ، حتى مقام األوج

الوطيس ، وبلغت حركة الذكر غايتها من القوة والسيطرة علت صيحات الوجد ، وصرخات التعبير . على الذاكرين

..عن األحوال :تناغم صوت الشيخ بالصيحة الممدودة

!..ــ اهللا ت الحركة ، وتمطى الهدوء ، واستقر الذاكرون سكن

ــ لدقائق ــ استعدادا لطبقة ثانية من الهتاف ، وترديد ..لفظ الجاللة

:قال الشيخ ..وهذا اليكفى .. ــ أنت تمتثل لرأيى فى الظاهر

:استطرد للعجب فى وجهه

..ــ المهم أال تعترض فى الباطن :وتأمله بنظرة مشفقة

تستطيع أن تدرك دقائق الطريقة إال ــ أنت لن ..بصحبة شيخ واحد

:قال على الراكشى ــ ولكن سيدى الشاذلى أكد ضرورة أن يأخذ المريد

..من كل شيخ يقابله :أشاح بيده فى استياء

الشيخ الواحد للمريد .. ــ من قال إنه أكد ذلك ؟ ..أعون له على سلوك الطريق

:وفاجأه بالقول نك تتردد على دروس المغرب فى أبو ــ عرفت أ

..العباس :قال الراكشى

..ــ هى محاولة لالستزادة من العلم :لم يخف الشيخ غضبه

ــ من آداب المريد أال يحضر مجلسا لغير شيخه ، ..واليسمع من سواه

:وتقلصت أصابعه على المسبحة هب ــ المريد الذى يذهب إلى غير أستاذه ، كاالبن الذى يذ

..إلى غير أبيه : وعال صوته

.. اهللا ، التكون إال بإذن من شيخكــ حتى زيارتك ألولياء :عاب ــ للمرة األولى أمامه ــ على الشيخ طه مسعود

ــ إذا أخذ العالم شيئا من الدنيا ، نقصت درجته عند اهللا ، وشيخنا شغل بحظه وحظ غيره . وإن كان كريما على اهللا

!.. ، فهو اليشبع من الدنياوعاب على اإلمام اشتغاله بجمع الدنيا ، وتزيين المالبس ، وتكبير العمة ، وتحسين المأكل والمسكن

..والمركب :وخالط صوته عصبية

..ــ هذا رجل تعبده فى الظاهر فقط اليأكل معه ، : كان قد تعلم آداب المريد مع شيخه يرفع صوته عليه ، والينام معه ، واليضحك بين يديه ، وال

والينام فى فراشه ، أو قريبا منه ، واليجلس فى موضع جلوسه ، واليتكلم فى مجلسه ، ولو كلمة واحدة ، حتى

عرف . يستدعيه للكالم ، ويلزم الوقار واألدب فى مكانه أن عليه أال يزور وليا والصالحا من الحى ، والمن

اليشارك فى ذكر اليكون اإلسكندرية كلها ، إال بإذنه ، وهو شيخه ، واليستمع إلى درس اليكون هو صاحبه ، والإلى كلمات ــ مهما بدت مهمة ــ إال إذا صدرت من الشيخ ،

..ومن فيض علمه . أنساه ماقرأه ، وتعلمه ، معاملة الشيخ لمريديه

يخاطبهم كأصدقاء ، يستمع منهم ، ويناقش مشكالتهم صلوا ببعض فى غير حضوره ، وأذن بأن يت. الشخصية

وربما . يتزاورون ، ويتبادلون الكتب ، ويتناقشون فيما قرأوا ..رافق أحدهم أخاه فى تمشية على الكورنيش

. منذ أعلن توبته ، اقتلع كل جذور التعلق بما سوى اهللا لم يشرئب للدنيا ، والجنح نحوها ، وصرف خاطره عن

ن الفضول والغيبة والنميمة ملك نفسه م. االشتغال بالخلق اجتهد فى ترحيل . أعد قلبه لحقائق الطريق التالية . والكذب

القلب من سالسل شهواته ، تطهيره من أخطائه وذنوبه وغفلته عن ربه ، وحفظ الحواس ، وصيانتها من الشوائب الظاهرة ، واألمراض الباطنة ، وتطهير الجوارح ، وتصفية

فارق مرتادى حمام األنفوشى ، . القلب ، ومسك اللسان والجالسين على قهوة الزردونى ، أو قهوة مخيمخ ، حتى

أصم أذنيه عن كل ماحوله ، . اليشوشوا على صحة عزمه وانطلق ــ بأفكاره وتصوراته ــ فى اآلفاق التى النهاية

استعد للموت مستغفرا من ذنوبه ، مجتهدا فى طاعة . لها ه بالمحاسبة والمراقبة ، فعرف المخاوف وكان يأخذ نفس. اهللا

..والمهالك والحدود أصبح الشيخ فى خاطره ــ بتقضى األشهر ــ قوة تهيمن على توجيهه وهدايته ، كأنه قوة عليا ، لها سيطرة

كان ــ فى لحظات انفعاله ــ يرطن بلغة ، . على إرادته خلة هى خليط من الحروف المتدا. أو لهجة ، اليفهمها محدثه

، التعبر عن معنى محدد ، وإن تبدى فى زعيقه ، وتغير لونه ، وتواصل الكلمات ، أنه قد غادر مألوف هدوئه ،

..واحتضن الغضب :فاجأه الشيخ بالقول

ــ هل أنت على ثقة من صحة مبايعتك ؟ :وأردف فى لهجة محذرة

ــ أنت حين بايعتنى شيخا لك ، بدأت السير فى ..وهى الطريق الوحيدة إلى الفردوس .. طريق الوراثة

:وتلون صوت الشيخ بإشفاق فما ربى أقطابنا ومشايخنا .. ــ التضايقك خشونتى

..الكبار إال الخشن :قال على الراكشى

ــ أية خشونة لن تصل إلى قسوة عبارات الحاج !..قنديل وتصرفاته :وقال للشيخ

آلخرين فى ــ كنت قد سألت عن حكم الذى يحارب ا ..أرزاقهم

:قال الشيخ !..اسأل واسكت .. ــ التصر على طلب الجواب

..ــ تهمنى اإلجابة :وشى صوت الشيخ بضيق

ك أن يجيب وقتما شاء ، أو ــ من حق شيخ ..اليجيب

راعه قول الشيخ لما شكا له . تيقظت فى نفسه األسئلة :قسوة الحاج قنديل

وت ألحد ماحل بك ، أنت إذا شك.. ــ التشك لى ..فكأنك تشكو اهللا ، والترضى بأحكامه

:استطرد كالمتنبه ــ الحزن ــ إن كنت التعلم ــ هو من مقامات

!..التطهير ، ومدرج من مدارج الوصول يفارق .. متى يتحقق مايريده من علم الشيخ وأدبه ؟

يسلك طريقه . الشيخ ، واسطة الفيض ، وواسطة المدد يبدأ سيره ــ بمفرده . يستغنى بربه عن الشيخ .الخاص

. يعرج إلى المقامات العالية . ــ فى الطريق الصوفى يتقرب إلى الذات اإللهية بمجاهدات خاصة ، تتعلق همته

يهديه اهللا إلى سبيله الخاص . وقصده بذات اهللا ، يهيم بجالله لب فى يتق. يمتلئ باألنوار والمواهب . يفهم دقائق األسرار .

أحوال الحب ، والوله ، والوجد ، والهيام ، والشرود ، يكثرمن الذكر حتى يحصل . والذهول ، والغيبة عن الوجود

له األنس ، فال يغفل قلبه ، ويشهد اهللا دوما بقلبه ، أو يرى التجلى اإللهى فى األوتاد والنقباء . نفسه فى حضرته

رحمة ، ورياح يتطلع إلى سحائب ال. واألبدال واألقطاب الهداية ، وأرض النفوس الطيبة ، وأدوية القلوب المنورة ،

يصبح من الصابرين ، . وخلجان األرواح المطهرة الصادقين ، القانتين ، المستغفرين باألسحار ، ومن خواص

.. أهل الحضرة ، اهل المشاهدة والمكاشفة الترقى يأتى بصعود درجات القرب ، إعطاء الظهر

تشرق عليه ــ فى النهاية . البعد والرسوم الخلفية لدركاتــ فيوض األسماء اإللهية ، والصفات الحسنى ، ويندرج األزل فى األبد ، فال صباح والمساء ، والماضى والحاضر

..يبين ماكان مخفيا ومختلطا من أهل الزمان . والمستقبل !متى يحزم بحزام المشيخة ؟

يلة ذات الذيل المرأة الجم المتهدل

. التدع المرأة ذات الذيل المتهدل تخدع حواسك " دع . إنها خادمة الموت . أطلق شراعك مبتعدا عن سطوتها

"وهكذا تتغلب على الهالك . إرادتك تتغلب على عواطفك كليمنت السكندرى

دخلها ــ . أذهله التغير الذى حدث فى قلعة قايتباى

ساللمها الضيقة ، وأطل من المزاغل من قبل ــ وارتقىتصطخب األمواج تحتها ، تصطدم . والنوافذ الحجرية

أبواب . بدت مظلمة ، موحشة ، ومتهدمة . بالصخور ..السرداب مفتوحة ، فال يدرى إلى أين تنتهى

بجوارها كرات من الحديد . أطل على المدافع الصدئة وصل إلى آخر . تسلق مئات السلمات. ، ملقاة بال انتظام

األمواج . تنتهى إلى شرفة حجرية ، تطل على البحر . سلمة النوة . ــ من تحتها ــ ترتطم بالصخور ، أسفل القلعة

قاسية ، والريح قوية ــ احتضن صدره بساعديه ، اتقاء برودتها الصاخبة ــ كنست قاع البحر ، ومخلفات الشاطئ

والمياه تتدفق من ، فاستحالت األمواج سوداء كالطين ، ..الفتحات والمزاغل ، فتمأل الغرف

فى طفولته ، كان يرفض إلحاح األوالد فى الدخول يغريهم بابها الكبير ، المفتوح ، وساحتها ، . إليها

يتذكر قصص . يتردد ، ويرفض . والسراديب المظلمة تتخذها مساكن . األشباح والعفاريت التى التفارق القلعة

ربما أودعته أذاها ، . وتؤذى من يجاسر بالدخول ومالعب ، ..فيعانى حتى الموت

شغلته حكاية الجد السخاوى عن عروس بحر ، ظهرت إنشقت المياه عن جسمها البشرى ، . ــ واختفت ــ فجأة

السمكى ، شعرها المنسدل على الكتفين ، صبغته الشمس عماق غاصت إلى األ. ابتسمت ، ولوحت بيدها . بلون ذهبى

أكد . جرى الخير فى ذلك اليوم بما لم يصادفه من قبل . . الجد السخاوى أن قلب عروس البحر يخفق للرجال

لكنها تضاجع .. يستهويها صورة الرجل ، وصوته ، وحديثه

الريح ، والتلد إال اإلناث ، وطعامها ثمار بعينها ، تنبت ..حيث تعيش

:قال الجد السخاوى البد أن يكون قد فعل الخير فى .. ــ من تظهر له

..حياته :استطرد وهو يزيح بقايا زعانف علقت بظهر يده

ــ إذا اطمأنت إلى مافعله من عمل طيب ، تأخذه إلى تدله على مافيه من ذهب وفضة ولؤلؤ ومعادن . قاع البحر

..نفيسة :ثم قال فى لهجة تحذير

. .ــ ليس كل عرائس البحر يضمرن نيات حسنة حتى التى قد تسحرك بجمال جسدها ، وبغنائها ، ربما تدفعك

تخضع لتأثير جمالها ، وعذوبة صوتها ، . إلى مصير مؤلم ..فتهمل قيادة قاربك ، واتجاهه ، حتى يرتطم بالصخور

:سأل حمودة هلول ..ــ هل يوجد رجال فى دنيا عروس البحر ؟

:قال الجد السخاوى

ماعدا .. ذكر وأنثى .. ــ لكل مخلوق زوجان ..عرائس البحر

:قال محيى قبطان ..ــ قال صيادون وبحارة إنهم شاهدوا ذكر البحر

:قال الجد السخاوى ــ عروس البحر وحدها ، هى التى ظهرت ــ

تجتذبك بجمال صوتها ، فال ترى . وتظهر ــ للناس ..الصخور حتى ترتطم بها ، فتأخذك إلى األعماق

:كدا وهز رأسه مؤبعض العرائس الأكثر من قاتالت ، عملهن .. ــ نعم

..الوحيد إغراق الرجال ، وسحب أجسامهم إلى القاع ..شغله األمر

أعاد مارواه الجد السخاوى على عم محجوب ، حارس ..حمام األنفوشى

:قال عم محجوب بلهجة مستخفة ..ــ مصيبتكم أنكم تصدقوا السخاوى فى كل مايرويه

:دف فى ضيق أر

.. ــ ماأعرفه من كثيرين أن العرائس ذكر وأنثى ..وأن األنثى ربما تأخذ إنسيا إلى قاع البحر ، وتتزوجه

:ثم فى لهفة ..ــ وتعطيه من كنوز البحر ؟

قال عم محجوب ، وهو يجرى باصبعين نحيلين على :ذقنه البيضاء ، الكثة

ثم تأذن .. نات ــ البد أوال أن تنجب منه البنين والب ..له فى العودة

إذا . فى األيام التالية ، ظل على مقربة من الشاطئ خفتت األصوات ، وحاصرته الوحدة ، جدف بساعده ،

وإذا كان بمفرده ، غادر الماء بال . فاليبتعد عن الشاطئ ناوشه فى الصحوة . ثم ملك عليه األمر تفكيره . تردد

اليقضى ليلة ، أو . ل إلى البحريبدو منفذا للنزو. والنوم ..ليلتين ، وإنما يغيب فى أعماقه العمر كله

تستحم . قيل إن عروس البحر تقطن الجزيرة البعيدة يتألق ثدياها العاريان . فى الشمس ، تسدل شعرها ، تمشطه

نصفها . ، ولعينيها بريق يعمى من يطيل النظر إليهما ن األرداف حتى نهاية النصف السفلى ، م. العلوى المرأة

تخرج من الماء إلى منتصف . الجسد ، لسمكة لها ذيل تنظر يمينا وشماال ، وإلى فوق ، وفى تكسرات . جسمها إذا أحست باقتراب إنسان ، غطست فى البحر ، . األمواج

وإذا حاول أحد أن يقترب . ومن المستحيل صيدها بالحيلة والعواصف واألمواج ، بمركبه من الحظيرة ، أثارت الرياح

. الجزيرة عالمها الخاص . فأبعدتها عن طريق الجزيرة من يضل طريقه بالقرب منها ، تناوشته . اليصل إليها الناس

ربما حملته إلى داخلها ، فيأكله . األسماك الهائلة فى مياهها ..ناسها ، اليفرقون ــ فى طعامهم ــ بين إنس وحيوان

الريح ، وانهمر المطر كالسيل أبرق الرعد ، وصفرت عروس الخير تظهر فى . عاد برأسه إلى مدخل القلعة .

تحمى نفسها من أطماع البشر بالعواصف . أوقات العاصفة للتردد على " العوة " اختار نوة . الشديدة المصاحبة لها

يطيل الجلوس لساعات ، حتى تجهده البرودة ، أو . القلعة ..التعب

..فانتبه لمح ضوءا ، :قال الجد السخاوى

..ــ إنها تطفو وتغطس فى ثانية ، أو أقل

عشقته جنية من . تحدث عم محجوب عن حودة التيتى لم يهدأ لها بال حتى أغرته على . البحر ، عروس لها ذيل

أنجبا العديد . البناء بها ، والغوص معها فى أعماق البحر من األوالد والبنات ، وإن لم يعد إلى األنفوشى ــ ولو

..صار أبناؤه من أبناء البحر . للزيارة ــ من يومها سحبت شبكته . وروى عم محجوب عن سباعى سويلم ظل فى أعماق . عروس البحر ، فاجتذبته المرأة ذات الذيل

ثم عاد إلى األنفوشى فى ليلة شتاء ، . البحر أعواما طويلة أيام كان سالمة حجازى يؤذن للفجر فى أبو العباس ، محمال

ء ابتنى قصرا فى أرض خال. بأثقال من الذهب والجواهر بالقرب من الحجارى ــ زال فيما بعد ، وأقيمت مكانه مدرسة ابتدائية وزاوية فى وكالة الليمون ــ تهدمت فيما بعد ، وماتزال خرابة ــ وأمر بتوزيع الصدقات والزكاة

لزم قصره ، فلم يغادره ، . على أبناء بحرى من المصريين وى وإن خصص قاعة فسيحة فى الطابق األول ، الستقبال ذ

الحاجات ، حتى أدركه السر اإللهى ، فى العشرة األواخر صلوا على . سار فى جنازته خلق كثير . من رمضان

جثمانه فى أبو العباس ، وضاق الميدان الواسع ــ أمام ..الجامع ــ بمن قدموا لوداعه

:أعاد الحكاية ــ هل صحيح مايقال إن عروس البحر غابت بأحد

..ه فى أعماق البحر الصيادين ، وتزوجت :قال قاسم الغريانى حتى المرحوم جمعة العدوى قيل .. ــ سمعنا الكثير ..واستقرا فى األعماق .. إنه تزوج عروس بحر :وسرح فى تذكر

ــ حسان عبد الدايم شاهدها تنفض الماء من حولها ، افتتن بها جمعة .. وتبدت مجلوة ساحرة على جانب البالنس

.. وقذف بنفسه وراءها العدوى ، :وسأل ، يطمئن على ماصدقه بالفعل

..ــ معقول أن عروس البحر تنجب أطفاال ؟ :قال الجد السخاوى ..ألم تكن طفلة ؟.. ــ ألم تولد نفسها

تأخذه ، .. هل تخرج له من البحر حورية ، عروس ؟. يتزوجان ، ينجبان البنين والبنات . تهبط به إلى األعماق

د ــ بعد أعوام ــ إلى الشاطئ ، محمال بخيرات يعو ..األعماق من نفائس وجواهر ، ومااليخطر ببال

العروس تضع كحال . الخشية من الغوص فى الماء سحريا فى عينيه ، فيستطيع ــ بحول اهللا ــ أن يعيش

..كاألسماك فى أعماق البحر س استهوته حكايات البالد المسحورة من الحجر والنحا

ومدن المغناطيس ، واألبواب المرصعة بالذهب والفضة ، والقاعات المفروشة ، والجدران المنقوشة ، واألسقف المعقودة ، وقوائم البيوت من الياقوت األحمر واللؤلؤ

جدرانها طوبة من ذهب ، وطوبة من . والزبرجد األحمر واألنهار تجرى فى قنوات مرصعة بالدرر والجواهر . فضة نة ، تحيط بها غابات من المسك والعنبر والكافور ، وكل الثمي

األشياء ــ ماعدا الطعام ــ من الذهب والياقوت والزمرد التزاحم على العيش والكسب ، والتفاوت بين . والكهرمان

كل رجالها طوال القدود . كبير وصغير ، والحاكم ومحكوم ت الحسن ، مسدلة شعورهم إلى مابعد الكتفين ، نساؤها فائقا

صالتهم ليست كالصالة التى نعرفها ، فال تكبير . والجمال

إنما هى ألحان وغناء تصفيق باألكف ، . والركوع والسجود ..وأصوات متناغمة كأنها السحر

كان يحرص على التوضؤ ، وأداء ركعتين ، قبل أن ، اليقبل إال النفوس فالماء طاهر. يقف فى موضعه

..الطاهرةكأنها النداء البعيد ، أو . ه أصوات غريبة ترامت إلي

واختلطت فى أنفه روائح اليود واألعشاب . االستغاثة ..والياسمين والقرنفل والقرفة والزنجبيل

..ميز فى النداء اسمه ..ثم أنصت من جديد . غالب ارتجافة للنداء المفاجئ

عرف أنه . عال الصوت ، النداء ، بوضوح أكثر ..م يكن قد رآها ، والاستمع إليها من قبل صوتها ، وإن ل

..تلفت حوله ، يبحث عن مصدر النداء سكنت األصوات ، فيما عدا ارتطام األمواج بجدران

..القلعة ، وصوصوة فأر يتقافز بين أحجار الشاطئ غلبه اليأس من عودة الصوت النداء ، فعاد إلى البيت ،

..وصورتها التى رسمها خياله تمأل نفسه ***

صحت السيالة ــ ذات صباح ــ على اختفاء ..المليجى عطية

ومتى حدث .. وكيف تبينه ؟.. من أعلن الخبر ؟ ..ماحدث ؟

أغرته أن يتبعها إلى . قيل إن عروس البحر أغرقته عالم كأنه الجنة ، لن يندم على أنه . حيث تعيش تحت الماء يأكلون من الحياة سهلة ، والجميع. فارق األرض من أجله

خيرات األعماق ، دون أن يشقيهم العمل ، وأذية مشايخ الصيادين وعساكر السواحل ، والظروف الصعبة ، والجواهر الغالية بال قيمة ، ألنها الطريق التى يمشون فيها ، والبيوت التى يسكنونها ، والملل اليعرفونه ، ومجرد

إلى أحد الضيق باآلخرين ، أو مضايقتهم ، عقابه الطرديالحقه تذكر مافعل ، حتى يدركه الكبر ، . الشواطئ البعيدة

.أو الموت

البحــــرتدحرجت على . شاط بحذائه الكاوتش زلطة صغيرة

ألقى . رصيف الكورنيش ، حتى استقرت فى كومة زبالة السالم على العاملين فى ورش المراكب ، واخترق شارع

..ا الحجارى ، إلى شارع حافظ باشواجهه ميدان أبو العباس ، باتساعه وزحامه والباعة السريحة والمستندين إلى الجدران ، والداخلين ، والخارجين

..، من األبواب التى فتحت على آخرها يغسل وجهه ، ويتمدد فى . فكر أن يصعد إلى الميضة

آخر مرة ، أيقظه عبد النبى شعرة ، وشتمه . الناحية البحرية ..هره للجامع ، ومضى أولى ظ.

لم يكن فى طريقه إلى مكان بالذات ، والحتى إلى قهوة لم يعد يتردد عليها منذ اشترط المعلم أحمد . الزردونى

مشاريب " الزردونى أن يدفع الحساب القديم ، قبل أن يطلب ..جديدة "

. حتى قهوة البحارة بالمنشية ، لم يعد يتردد عليها و بحارة ، تركوا العمل فى سفنهم ، أو الرواد عمال بحر ، أ

ليسوا جميعا من االسكندرية ، . فصلوا منها ألى سبب . الرطانة بلغات ولهجات مختلفة . والحتى من أوالد العرب

من يعجز ، . يأتون أليام ، ويغيبون ألشهر ، والدفع حاال تتغير السحن بتغير السفن الراحلة والوافدة . يدفع له زمالؤه

بما طال التردد على القهوة حتى تصل السفينة المطلوبة ر. ..

هز رأسه لكل العروض التى قدمت إليه ، بعيدا عن ..حتى العروض التى قبلها ، مالبث أن اعتذر عنها . البحر

:قال لقاسم الغريانى لكننى .. أبتعد عن البحر قليال .. ــ أنا مثل النورس

..الأبتعد عنه إطالقا :صوته بحماسة مفاجئة وعال

!..ــ البحر هو أنا يكتفى بالتحليق . تذكر أنه أصبح مثل النورس ، بالفعل

وهو قد . اليبتعد إلى أكثر من مدى البصر . فوق الشاطئ اكتفى بالوقوف على الشاطئ ، وإن ركب فلوكة ، فهو

اليجدف بها إلى أبعد من الجزيرة ، فى نهاية األفق القريب ..

تمضى قدماه إلى غير . التمشى فى الميناء كان يحبيتأمل . يتنقل بين الحاويات وبلوطات البضائع . هدف

البواخر الضخمة فى المرساة ، اللون األخضر الطافى فوق الماء ، أصوات المحركات والروافع وصفير البواخر وصيحات النوارس وهتافات الشيالين ، ينقلون أجولة القمح

..إلى سيارات النقلحاول أبوه أن يعيده إلى المدرسة ، لكنه كان قد نزل

ركب البالنس واللنش والفلوكة والدنجل ، وغطس ، . البحر واصطاد بالسنارة والجرافة والطراحة ، فهرب من المدرسة

راق له العمل فى بالنسات الحاج قنديل ، . إلى البحر قنديل رحلتين أو ثالثا ، ثم غلبه طبعه ، فرد إلى الحاج

ضربه صبيان الحاج ــ من بينهم أصدقاء له ــ . شتيمته . لم يجد بعدها من يقبله على مركبه . وطردوه من الحلقة

..راعوا خاطر الحاج قنديل وضعها . أعطاه على الراكشى حصيلة صيد السنارة

ــ أمام باب الحلقة ــ " الفريشة " فى مشنة ، ووقف مع

قلب صبيان . عفشة والزريعة نادى على مالديه بأنه ليس ..الحاج قنديل فرشته ، وطردوه بعيدا يبحث عن األشياء التى . اشتغل ــ لفترة ــ رفاصا

أخذ . لسعه قنديل البحر . تسقط من الناس فى مياه البحر ..ثم لم يعد إلى وظيفة الرفاص . أياما حتى شفى

لمها تنقل بين المهن المتصلة بصيد األسفنج ، حتى تعدوس األسفنج باألقدام ، أو عصره ، لقتل الحيوان ، . جيدا

تجميعه فى كومات ، . وطرد المادة الحية والسوائل اللزجة . انتظاره حتى يتحلل بأشعة الشمس . وتغطيته بأكياس مبللة

حمله ــ مغسوال ــ إلى البالنس األم . غسله بمياه البحر ف ، فيخلو األسفنج من يواصل ــ فوقه ــ عملية التنظي.

قص الجذور . الحصى والرمال واألصداف واألعشاب ..صبغ األسفنج باللون البنى . والتفريعات والزوائد

حين تحدث الناس فى األنفوشى عن قيام بعثة آثار أجنبية باستخراج أجزاء من تماثيل ، وقطع من سفن رومانية

الغوص ، ليبحث قديمة ، قبالة قلعة قايتباى ، قرر أن يتعلم وعاش بأمل العثور على حطام . عن آثار جديدة فى المنطقة

. اشترى القناع والزعانف وأنبوبة التنفس . سفينة غارقة

تركوه بال تعليم ، حتى . أهمل القسوة فى المعاملة كى يتعلم يخطئ ، فال يعود إلى الغوص ، ويخلو لليونانيين جو الصيد

..، فنسى األمر كله ظلت األدوات فى موضعها . دخل قهوة مخيمخ ــ ذات أصيل ــ خواجة ، فى

اكتفى بالنظر إلى الرجال الجالسين ، وهمس . نحو الخمسين ابن عرب ، يرتدى بدلة . بما لم يتبينه أحد ، فى أذن صاحبه ..كاملة ، وإن بدت عليه رقة الحال

..سأل الخواجة كل واحد عن تخصصه ..بعة اختار ستة ، وربما س

:قال مختار زعبلة ..ــ أى حاجة

:قال المرافق ، دون أن يعطى أذنه للخواجة ..أى حاجة .. ــ فهلوة المصريين

:أضاف وهو يتجه إلى داخل القهوة ..ــ نحن نطلب مهنا محددة

قدم نفسه للخواجة ، . تم األمر فى بساطة لم يتوقعها ..أسه بالموافقة تأمله طويال ، وهز ر. وعرض خدماته

ينظف الغرف . بدأ مساحا ، يمسح أرضية الباخرة لم يصدق البحارة أنه ــ فى . والقمرات ودورات المياه

لم يؤثر فيه دوار . رحلته األولى ــ لم يفرغ مابجوفه ثم لزم االسكندرية عندما . البحر ، والظهر عليه أنه شغل به

ثر من مهنة ، فلم جرب العمل فى أك. مرت الباخرة عليها عمل فى قسم الغاليات بباخرة . عاد إلى البحر . يوفق

تنقل بين المهن . كأنما اليونانيون قدره . يونانية أيضا التبريد ، النجارة ، التزييت ، التشحيم ، الميكانيكا : المختلفة

. ، الكهرباء ، الترشيم ، الخدمة فى المطبخ ، تقديم الطعام . نواء بالباخرة ، ويبين الخوف فى المالمح وحين تلعب األ

يتذكر مارواه الجد السخاوى عن الباخرة التى هبطت إلى أعماق البحر ، أو قذفت بها األمواج إلى جزر بعيدة ، حيث

. الكنوز بال حصر ، من الذهب والفضة واألحجار الكريمة اليصارح . يتمنى أن تعيد األنواء حكايات الجد السخاوى

ل بما فى نفسه ، وهم يعانون النجاة من حصار الرجا ..العاصفة

سقط ــ يوما ــ فى منطقة البريدج ، المنطقة لزم الفراش ــ فى الباخرة ، . األمامية قرب قمرة القبطان

وفى البيت ــ ثالثة أشهر ، حتى استعاد عافيته ، وإن لم ..يغب األلم ــ فيما بعد ــ عن أسفل ظهره

مستشفى األميرى ، وعلى عيادات األطباء تردد على ال، وجرب وصفات شعبية ، أشار بها الجد السخاوى والحاج محمد الحالق ، لكن األلم ظل يناوشه ، فهو اليقوى على

..الوقوف ، أو الجلوس ، ويظل غالب وقته ماشيا وضع أمام دكان عزت باسين ، تاجر المنيفاتورة

خلف . ، متساوية األضالع بشارع الميدان ، فاترينة صغيرةفاترينة الزجاج صفوف من البسكويت والشيكوالتة وعلب

مهنته الحقيقية كانت تغيير العمالت األجنبية . السجاير سحن مختلفة ، . للبحارة ، القادمين على البواخر األجنبية

يندلق . يجيد تبين الفارق بين كل عملة أخرى . وعمالت إلى قلب المدينة ، يعرضون ٦رقم البحارة والسياح من باب

استبدال عمالت ، يعرف بعضها ، فيسهل استبدالها ، أو مع أنه اليعرف . يراجع أسعار العمالت فى جريدة البصير

القراءة والكتابة ، فإنه يجيد التحدث باإلنجليزية والفرنسية تعلمها من اختالطه بالجاليات األجنبية . واإليطالية واليونانية

لبحر ، وداخل المدينة ، وبالبحارة الذين تقذف بهم فى ا

البواخر األجنبية فى الميناء ، وإن كان اليعرف من بالد العالم سوى انجلترا التى تحتلنا قواتها ، واليمن التى يأتى

..منها البن شارك فىالسرقة من لوريات الجيش اإلنجليزى ، فى

فى سيرها بشوارع بحرى ، ومن البضائع المرصوصةيجذبه بسرعة ، . يقذف بالمخطاف داخل البلوط . الميناء

تتخطفها أيدى الرجال قبل . بشدة ، يتمزق ، وتتناثر البضائع فى . يكرر العمل نفسه فى بلوط آخر . أن يفطن الحراس

..مغيب النهار ، يتقاسم الرجال حصيلة ماجمعوه . قبض عليه ــ ذات ظهر ــ عساكر الميناء

قضى ليلتين ، حتى توسط له . إلى قسم الجمرك اقتادوهحمادة بك ، فغادر القسم ، وإن لم يعد مأذونا له بدخول

..الدائرة الجمركية عايره قاسم الغريانى بأنه يستمع من ثروت زالبية ،

يجلس فى . ومن بحارة البواخر التجارية إلى حكايات البحر أهمل . نسبها لنفسه القهوة ، يسند ظهره بيده ، ويرويها ، ي

المعايرة ، وتواصلت أحاديثه فى البحر والمراكب والبالنسات صداقة البحر . والعاصفة والنوة واألسماك والمدن البعيدة

من يعمل فى البحر ، يتسرب حبه . ليست ككل الصداقات يظل فى خاطره حتى . اليقوى على االبتعاد عنه . إلى دمه ..يعود إليه :قال ..ماذا يحدث لها ؟.. ذا خرجت السمكة من الماء ــ إ

:قال حمودة هلول ..ــ تموت

:قال مختار زعبلة !..ابتعادى عن البحر معناه الموت .. ــ هكذا أنا

:قال محيى قبطان ..ــ لكنك لم تمت :قال مختار زعبلة

..ــ هذا مايبدو لك :قال قاسم الغريانى

!.. الرائحة المقبضة ؟ماسر تلك: ــ وأنا أسأل :فوت مختار المعنى

التنعى .. حر نفسك .. ــ أنت فى البحر سيد نفسك هم الحاج قنديل ، والمشايخ الصيادين ، والالحكومة نفسها

.. الأحد يجازف بنفسه فى . كان ينزل البحر فى الشتاء

يخوض . يقل عرض السمك ، فتزيد أسعاره . تلك األيام سماه الجد السخاوى كلب . د بالسمك الغالى المخاطر ، ويعو

البحر ، فلم تكن تشغله األنواء ، حتى التى تقف بالسفن ..خارج البوغاز

..التقى بمحمود عباس الخوالقة أمام مطحن شيمى بك . دعاه إلى حفلة العاشرة صباحا فى سينما األنفوشى

لفيلم ، تابع المشاهد بال اهتمام ، فلم يأخذ باله من انتهاء ا ..حتى نبهه محمود

..سارا إلى نهاية الحجارى ، ثم فارقه بال هدف البيوت . الشوارع الضيقة ، المليئة باألوساخ

. المتالصقة ، ذات األبواب التى تفوح منها رائحة البول . الشرفات المتقابلة تكاد تتماس . الساللم المتآكلة ، المظلمة

هار ، ماعدا ساعة الظهيرة يسقط عليها ظل البيوت أغلب الن ..، عندما تتوسط الشمس النهار

قربها من . انحنى على قطعة خبز بجوار الرصيف قبلها ، وأعادها لصق الرصيف تماما ، فال تدوسها . شفتيه

..قدم تلفت ــ بتلقائية . اقتحمت أنفه رائحة بن محترق

..ــ بحثا عن المطحنة القريبة القادمون من الناحية الخلفية غاب عن باله العشرات

للمرسى أبو العباس ، الموازينى والحجارى وابو وردة غالبيتهم يرتدون البنطلونات والقمصان ، . وشارع الميدان

واألحذية أيضا ، وإن تناثر بينهم من يرتدون الجالبيب وحفاة الشاب الذى حملوه على أكتافهم يهتف ، ويرددون . األقدام

أن يكونوا من الطرق الصوفية ، البيارق وراءه ، ينفىيبدو تمازج األصوات . والأعالم والألعاب حواة والأناشيد

..ــ فى لحظة واحدة ــ كأنه الرعد ..اقتربوا

..صرخ الشاب بهتافه ، وردده المحتشدون حوله ليست غريبة عنه ، . عرف مختار انها مظاهرة

عشرات أو . كندرية يلتقى بها فى شوارع اإلس. والمفاجئة يهتفون ضد اإلنجليز واألمريكان والملك والسراى . مئات

يتابعها ــ بعين متشوفة ــ حتى . والزعماء السياسيين ربما ثارت حولها المناقشات فى قهوة مخيمخ ، أو . تبتعد

..قهوة الزردونى لم يدر كيف أصبح واحدا من المتظاهرين ، والمتى بدأ

راء الشاب ، لكنه ــ فى لحظة ما ــ يردد الهتافات وكأنه بدأ معهم ، . أحس أنه أصبح واحدا من المتظاهرين

جزء . الصلة له بما قبل والبعد . وينتهى إلى حيث ينتهون ..من قطعة نسيج يصعب تمزيقها

لكنه أصبح ــ .. من بدأ التحطيم ؟: لم يلحظ البداية ، تسبقها موجات ، وسط المتظاهرين ــ مثل الموجة التالية

..تليها موجات أخرى انهال الطوب ــ فجأة ــ على دكان الشبكشى

انتزع . حدق تحت قدميه ، والتقط طوبة . بشارع الحجارى كسر الفاترينة . شجرة صغيرة من األرض وإطارها الحديدى

..بضربة واحدة لم بعد . لفه غضب ، فنسى حتى المتظاهرين حوله

والالصخب المتالغط ، وعصاه تحطم كل يشغله الهتافات ،تشتعل فى داخله نيران ، تملى عليه تصرفاته . ماأمامها

لم يلحظ حتى . ،فهو اليدرى أين ، واللماذا ، تتجه عصاه الخدوش التى أحدثها فى وجهه وعنقه ويديه ، شظايا الزجاج

.. !..ــ بوليس

..أيقظته الصرخة .. يده تهاوت العصا ــ بتلقائية ــ من

بدا اللورى ــ أول شارع اسماعيل صبرى ــ أوقفوا الترام ، . نزلوا إلى الطريق . محمال بالعساكر

زهرة " وشكلوا حائطا من صفين بين قهوة فاروق وحلوانى أعطوا ظهورهم . فى الناحية األخرى من الشارع " القرنفل

..للبحر ، وواجهوا المتظاهرين ها ، واهتزت األكتاف بالشاب ترددت المظاهرة فى سير

الذى يهتف ، وخفتت الهتافات ، وتداخلت ، فلم تعبر عن ..معنى محدد

خلفوا شارع التتويج وراءهم ، . اقترب العساكر تفرقت المظاهرة تماما . وتقدموا فى شارع اسماعيل صبرى

تحولت إلى مايشبه الهمهمات . ، وأنزل المتظاهرون الشاب ..اخلها غضب واضح الفردية ، وإن د

اندفعوا . اندفع العساكر بالعصى ، فتوزع المتظاهرون إلى البيوت والدكاكين القريبة ، وإلى شوارع فرنسا ورأس التين والبوصيرى وسراى محسن باشا ، والحوارى المتفرعة

.. ..داخله خوف ، فجرى

.. أين تقودانه ؟: لم يتنبه إلى قدميه ى اطمأن إلى غياب جرى ، وجرى ، وجرى ، حت

بدت الحياة فى نهاية شارع أبو وردة . المتظاهرين والعساكر ..، على غير الصورة التى كان فيها

..هدأت نفسه ، فلم يعد يتلفت وراءه نزل إلى شاطئ . عبر قضبان الترام إلى الكورنيش

سار فى الرمال ــ بصعوبة ــ إلى قارب . األنفوشى لرمال ، وغطت الطحالب صغير ، غاب معظمه فى ا

..واألعشاب جوانبه أسند صدغه . صعد فوق القارب ، واستقر فى مجلسه

. تطلع إلى نورسة حلقت عاليا ، ثم هبطت . إلى قبضة يده ثم انقضت . حامت فى دائرة فوق المياه ، كأنها ترقب صيدا

فى سرعة خاطفة على سمكة تلتقط أكال من سطح الماء ، ..دا وطارت بعي

..أطال النظر فى نهاية األفق

ارتحـال ميادينه وشوارعه وحاراته : مع أنه كان يعرف بحرى

وأزقته وبيوته وقهاويه ، وسراى رأس التين وقلعة قايتباى والحلقة والجمرك والميناء والبحر والمساجد والموالد وحلقات

األخرى الذكر ، فإنه كان قليل التردد على أحياء االسكندرية ..

بدا له سوق الجمعة فى غير الصورة التى رآها فى األثاث القديم ، والمالبس . زيارته األولى ، منذ سنوات بعيدة

..والمساومات ، والصفقات الهامسةالمستعملة ، والنداءات ، ..تاه فى الزحام الصاخب

أفسح لنفسه مكانا . سأل شيخا يعرض إبريقا من الفضة كانت تعيد ترتيب العدة . ، بالقرب من المرأة على الرصيف

فى حوالى الستين ، بشرة داكنة . على قفص من الجريد السمرة ، لها عينان بنيتان تطل منهما طيبة واضحة ، وشفتان ممتلئتان ، يعلوهما شارب خفيف ، وأنف أفطس ،

وصدغان متهدالن ، ترتدى . مخزوم بقرط ذهبى مستدير

للون ، تآكل طرفا كميه ، ولفت رأسها بمنديل جلبابا حائل ا ..بأويه ، حوافه من الترتر الالمع

أبدى إعجابه للرسومات الموشومة على صدر البحار ..األجنبى ، فى جلسته على قهوة مخيمخ

:قال قاسم الغريانى لنظرته المحدقة ــ أردت أن أرسم سمكتين وثعبانا ، فحذرنى الجد

.. الوشم حرام قال إن.. السخاوى :قال مختار زعبلة

..ــ ولماذا السمكتين والثعبان ؟ :قال الغريانى

. ــ السمكة دليل الرخاء والخير والذرية الصالحة !..أما رسم الثعبان ، فليجنبك اهللا شروره

:عال صوت مختار بالدهشة !..ــ كيف تنجب الذرية الصالحة دون أن تتزوج ؟

..ن عزب عرض األمر على أمي :نطقت مالمح الرجل بانزعاج

لعن اهللا الواشمات : ــ أذكرك بحديث الرسول ..والمستوشحات والمتفلجات الحسن ، المغيرات خلق اهللا

:قال مختار زعبلة !..ــ أنا رجل ياموالنا ، ولست امرأة

عرف ــ للمرة األولى ــ موضع الوشامين فى ، فال يسلم جسمه لعابرات دله قاسم الغريانى. سوق الجمعة

. الثابت فى مكانه تستطيع أن تعود إليه ، وتحاسبه . الطريق ..أما العابر ، فهو قد بؤذيك ، ويختفى

:قالت المرأة ..ــ هل تريد عصفورة ؟

حدجها . بدا من لهجتها أنها صعيدية ، أو من النوبة :بنظرة متأملة

ــ ماذا تظنيننى ؟انب يدها ، ثم تنتر العرق ، وهى تمسح جبهتها بج

:حقيقة أو وهما ..ــ تريد نخلة إذن ؟

: كرر الكلمة ..ــ نخلة ؟ :قالت المرأة

..ــ إنها تدل على الخصوبة والوفرة

الحظ أنها ضغطت على الحروف األخيرة فى الكلمات ..، كأنها تؤكد المعنى

:أغمض عينيه ، وهز رأسه ..من بحرى وأنا .. ــ قد تصح لفالح

:ثم وهو يسلمها ساعده ..ــ إرسمى سمكة

:عال حاجبا المرأة بالدهشة ..ــ دع وشم السمكة للنساء

..ــ السمكة فأل حسن :قالت فى دهشتها

..وهو ماتطلبه النساء .. ــ لكنها ترمز لكثرة النسل ..مثل السمك .. ــ أنا أحب الحياة فى البحر

طلبت زوجة . ه محيى قبطان ابتسم لما تذكر ماروافاجأها بوشم السم فتاة . حمودة هلول الطالق ليلة زفافها

أصرت ، فلم تسلمه ساقيها . ــ التعرفها ــ على صدره ..إال بعد أن أزال اإلسم من صدره ، ولحق الموضع تشوه

تناولت المرأة من الصندوق الخشبى ، فوق القفص ، غمست .. عضها خيط رفيع ثالث إبر صغيرة ، يشدها إلى ب

اختلط به بخار . اإلبر الثالث فى إناء من الكحل األسود ..سمن ذائب ، وبخار فتيلة محترقة

ثم ضربت الساعد . مسحت بظاهر كفها على ساعده ..ــ بسرعة ــ باإلبر الثالث

..حتى اليفسد الوشم .. ــ التتحرك :انتزع الكلمات !..ــ ألم فظيع :شوحت بيدها

!..ــ مهارتى يشهد بها الجميع :لحقه صوت المرأة وهو ينصرف

!..ــ ال تطمس الجزء الموشوم حتى اليتورم ***

قال له الجد السخاوى فى قهوة الزردونى ، وهو يتأمل :ساعده الموشوم

..ــ ماذا فعلت ياحمار ؟ :فى تأمله للوشم

..ــ حبى للبحر رسمته على ساعدى :قال السخاوى

..ــ أنت بهذا تغير ماصنعه اهللا ..ــ هذا مجرد وشم سمكة

:عال صوت السخاوى بنبرة متوعدة ــ كل وخزة من هذه الوخزات ، ستكون يوم القيامة

!..مسمارا مثبتا فى مكان الوشم نفسه

الظـلتنبه ــ قبلها . مال به الحانطور إلى حلقة السمك

المنشود ، بعشرات المراكب ــ القترابه من المكانالصغيرة فى الميناء الشرقية ، والغزل الملقى على امتداد الشاطئ ، وكومات الفلين ، واألسماك الميتة ، المتناثرة ، والطريق المفضى إلى قلعة قايتباى ومعهد األحياء المائية ،

..ونقطة األنفوشى ة أهمل األفكار التى ظلت تناوشه ، منذ واجهته سكين

ماذا لو لم يعرفنى : ال شغله السؤ. بالكلمات القاسية .؟الرجل

فى اقترابه من حلقة السمك ، هدأ الحانطور من سرعته ..ثم توقف تماما ، قبالة الباب المغلق .

:ثنى إليه الحوذى مالمح متسائلة ..ــ الشارع متفرع من السيالة

..ــ نعم :لوح بالكرباج ناحية اليسار

..ا الشارع يؤدى إلى السيالة ــ هذلم يكد يهبط أرض الطريق ، حتى تماوجت ــ فى داخله ــ مشاعر مبهمة ، تختلف عن التى أملت عليه

..قراره غادر البيت فى بوالق الدكرور إلى المصلحة فى

لكنه ترك األوتوبيس فى محطته النهائية بباب . الدواوين ة التى التصقت بلحمه ــ الحديد ، واتجه ــ منقادا للفكر

ألقى بنفسه فى السيل المتدافع داخل . إلى شباك التذاكر بادل المحيطين به أحاديثهم . حاول قراءة جريدة . القطار

تشاغل ــ . تطلع إلى الحقول والسيارات العابرة والمارة . لكن .. أغفى قليال . بعفوية ــ بإحصاء أعمدة التليفونات

قلب األمر تماما ، وتوصل إلى . رأسه الفكرة عششت فىيذهب إلى الرجل الغائب ، يسأله فى الدعوى : القرار

الظالمة ــ البد أن تكون كذلك ــ يصحب الرجل فى يعلن أمام سكينة ــ والجميع ــ سخف االدعاء ، . العودة

..ويواجههم بالحقيقة لما جاوز القطار سيدى جابر ، استدعى إلى الذاكرة

على ناصيته قهوة . ة الشارع الضيق ، المتعرج صور

صغيرة ، وعلى الناصية المقابلة دكان عالفة ، والبيت ذى الطابقين ، والنداءات ، واألحاديث المتالغطة ، تتصاعد من

..القهوة ، ومن شارع السيالة ربما . حاول أن يضيف إلى الصورة بعض المالمح

أن يتذكر الجيران حاول. تساعده فى الوصول إلى البيت الذين البد أن يلتقى بهم ، ويعرفهم بنفسه ، ويسألهم عن أبيه

لكن األعوام العشرين أحدثت تأثيرها المؤكد ، فلم يرتسم .. فى الذهن إالصورة الرجل وحده ، بقامته الضئيلة ،

..وخطواته المتطوحة ..هل يعرفنى الرجل ؟: عاوده السؤال فى إلحاح

اعتاد غيابه منذ رفض هجر . ئبا عن باله ظل األمر غايذكر زياراته المتباعدة فى . مهنته ، أو مغادرة األنفوشى

الوجوم الذى . بكاء أمه الصامت عقب انصرافه . طفولته يلف أخوته ، نظراتهم ، يطيلون بها التحديق إليه ــ فسرها

حياة ، فيما بعد ، بأنها كانت إشفاقا على اليتم الذى فاجأه فى أبيه ــ توزعوا فى وظائف شتى ، وإن جمعتهم الشقة

تحددت صورة األب الغائب . الصغيرة فى بوالق الدكرور ..فى إطار الذكرى

. سافر حسنين ــ يوما ــ فى مهمة إلى اإلسكندرية بات . عاد ، فلم يشر إلى أنه التقى بالرجل ، أو حاول لقاءه

.. ن كل واحد أخا وأبا وأما لآلخريحين قذفته سكينة باتهامها ، توارى الغضب فى الذهول

إكتفى حسنين بنظرة . ، للهدوء الذى سيطر على الجلسة مؤنبة ، بينما تشاغل طه بالتشديد على مصطفى أن يصغر

..لقمته خطواته . لم يجد صعوبة فى الوصول إلى البيت

..عرفت طريقها ، دون سؤال ..الظهيرة

. خلت ــ أو كادت ــ من المارة قطع حوارى الشارع الضيق المتعرج ــ . القهوة تتمطى فى التثاؤب

أكثر ضيقا من صورة ذاكرته ــ البيت ذو الطابقين ، الشجرة المتطاولة إلى النافذة الشرقية ، وإن عراها الخريف

.. غالب االرتباك للنظرات المتسائلة ، دون أن يتعرف

ذهب السنوات الخمسة عشرة بهم من إليه هؤالء الذين لم ت ..ذاكرته

فاجأه باب البيت الموصد ــ هل خال من ساكنيه ؟ ..ــ فعاد يخطوات متثاقلة

قبل أن يجاوز الشارع ، لمح ــ داخل القهوة ــ ..أعاد النظر ، ثم أطال التحديق . وجها مألوفا

..كأنه كان ينتظره . كن القهوة كان يحتسى الشاى ــ بمفرده ــ فى ر

تبددت مخاوف التوقع لما عبر الرجل المفاجأة ، بنظرة ..تعرفت إليه حاال

:قال عبد الرحمن فى بساطة ..ــ كيف حالك ياسالمة ؟

:وهو يسلم جسده المتعب إلى الكرسى المجاور !..ــ الحمد هللا

:تأمله الصاوى بنظرة مشفقة ..ــ ماذا تشرب ؟

:قال سالمة ..ايا فى القطار ــ شربت ش

..ــ قهوة إذن ؟ !..ــ البأس

:قال عبد الرحمن الصاوى وهو يحيط المكان بساعديه ..تغيرت السيالة .. ــ كما ترى

:قال سالمة ..ــ عرفت الطريق من الحلقة إلى هنا بسهولة

..ــ لماذا التزور أبناءك ؟ هل فطن عباس الخوالقة إلى مايعانيه. فاجأه السؤال

هل يفطنون إلى السر الذى حرص على كتمه ، لم .. ؟ ..يصارح به حتى أقرب األصدقاء ؟

..ــ المشغوليات كثيرة كما ترى :عاود الخوالقة إلحاح السؤال

..ــ فلماذا اليزورونك ؟هل يصحبه إلى الحلقة وقعدة . هاهو سالمة أتى

يرى الناس أن الصلة على . العصر وجلسة أبو العباس ..ها بينه وبين أبنائه ؟حال

:عاود سؤاله ..ــ كيف حالك ؟

!..ــ الحمد هللا ..كيف حالهم ؟.. ــ سكينة وأخوتك

:أغمض عينيه فى تأثر !..ــ الأخوة لى

:ثم وهو يضغط على الكلمات ..وبقية اإلسم الأعرفه .. ــ اسمى سالمة

:ارتعشت أهداب الرجل ..اوى ــ اسمك سالمة عبد الرحمن الص

:وهو يواجهه بنظرة مشتعلة !..ــ عرفت كل شئ

:سكنت مالمحه بالدهشة ..ــ أنت هكذا تحيرنى

الحظ سالمة بركن عينه ، نظرة متطفلة من الواقف ..وراء النصبة

:قال عبد الرحمن الصاوى وهو يتهيأ للقيام ..ــ أفضل أن نتكلم فى البيت

صراخ سكينة ، اعتاد الجميع. البداية اليذكرها الحمل ثقيل بغياب األب ، ورحيل األم . واحتجاجها الدائم

..ــ فيما بعد ــ فى نوبة قلبية :قال لها حسنين ــ ذات يوم ــ ممازحا

لوكان بيدى إيقاف قطار الزواج ، .. ــ صدقينى !..ألوقفته

ربما كان الحديث فى نفقات البيت ، أو المشكالت . تصاعد الحوار ، وامتد ، وتشابك . ن الدائمة مع الجيرا

توقفت أصابعه باللقمة . اعتاد كلماتها المستفزة ، فلم يغضب ..فى الطبق ، لما فاجأته بالكلمات القاسية

:رمقها بنظرة غير مصدقة !..ــ تكرهيننى لهذا الحد ؟

:وهى تشيح بوجهها ..ــ هذه هى الحقيقة

:أعاد السؤال !..ــ تكرهيننى ؟

:صرخت ..لست أخانا .. ــ بل إنك لست أخى :أضافت من بين أسنانها

!..ــ أنت ابن حرام :وهو ينفض رأسه فى غضب ..ــ تعرفين معنى ماقلت ؟

:أشارت إلى األخوة المتشاغلين بما فى أيديهم ..ــ ويعرفه هؤالء أيضا

حل صمت ، عمقه أصوات احتكاك المالعق باألطباق طباق ، ورنين األكواب ، والتمطق والمضغ ، وقلقلة األ

..والبلع :قلب الطبلية بأصابع مشنجة

!..وتواصلون األكل ؟.. ــ تقتلنى أسند عبد الرحمن الصاوى ظهره إلى الكنبة

:االستامبولى ..ــ لم أعد أقوى على الحركة

:فوت المالحظة ..ــ لكنك اآلن ستأتى معى

:حدجه بدهشة متسائلة !..أنا ؟.. من ؟ــ

:زفر يؤكد غضبه ــ لن تهدأ نفسى قبل أن تؤكد أمام الجميع أبوتك لى

.. ..ــ وهل أنكرت ذلك ؟

:عال صوته !..ــ أبناؤك ينكرون

:همس الرجل فى نفاد صبر ..التعذب نفسك ، والتعذبنى .. ــ سالمة

تكومت ــ فجأة . تلقفته أمواج تعرف المد وجزره سرى فى جسمه . ظالم ، فلم يعد يبصر ــ غالالت

احتواه إرهاق ، فقرر أن يقتعد األرض . مايشبه اإلغماء انثالت ــ بال رابط ــ مئات الذكريات . حيث يقف

حتى لو أعلن الرجل ــ أمام . والصور والرؤى واألسئلة !.. فهل يغير ذلك من الحقيقة شيئا ؟.. الجميع ــ أبوته

فال سبيل ــ منذ لحظة الطعام التى كلمات سكينة مزقته ، ..التنسى ــ إلى استعادة ماكان

..ــ إذن ..والأريد التكلم فيه .. ــ الموضوع قديم

:ارتمى على كتفى الرجل بأصابع متقلصة ..وإال .. ــ صارحنى

:اغتصب عبد الرحمن الصاوى ضحكة من أنفه !ــ تقتلنى ؟

:ثم وهو يهز رأسه .. !ــ تريحنى

:وفرد يده فى وجهه ..ــ أنتظر الموت منذ سنوات

:تهاوى ذراعا سالمة ..ــ لست إبنك إذن ؟

:نفض الصاوى رأسه بشدة ..ــ أسأت فهمى

أدرك أنهما . أمسك فنجان القهوة ، فالمست يده يد أبيه . ــ ربما منذ مولده ــ يجلسان معا ، وقريبان للغاية

توقفت يده . لطاولة الرخامية الصغيرة التفصل بينهما سوى ااهل هو أبوه ، أو أن سكينة : ، وأطال النظر إلى وجه الرجل وأين يجد مالمحه فى مالمح .. صارحته بما لم يكن يعرفه ؟

أكد . تداخلت التجاعيد ، فغابت الصورة القديمة .. الرجل ؟غيابها سمرة ، واضح أنها من الوقوف فى الشمس ، وليست

..الحقيقى لبشرته اللون :قال بتذلل

..ــ صارحنى

:أغمض عينيه كمن يتهيأ للنوم لم أصل ــ .. ــ عالقة مع توفيق مكوجى الرجل

..حتى اآلن ــ إلى حقيقتها :انتزع الكلمات ..ــ ولماذا أنا ؟

..ــ كان ذلك قبل والدتك بأشهر :وهو يسلم نفسه إلى موجة اليأس

..ــ لست أبى إذن : قال عبد الرحمن الصاوى

..ــ لم أقل ذلك :التمعت عيناه بأمل

..ــ فهل تأتى معى ؟ :فى نبرة متباطئة

..ــ الأقوى على الحركة أهمل ذقنه ، فاستطالت . داخله إشفاق لهيئة الرجل

وخال الصديرى من . شعيراتها بال تهذيب ، وثيابه متسخة الصدر فى الشعر الزرارين العلويين ، فتداخلت عظام

..األشعث

..ــ كيف أواجه الناس ؟ ..ــ المخلوق يعلم

..ــ وكيف أتصرف ؟ ..ــ مثلما تصرفت فى الفائت من حياتك

..ــ الفارق أنى لم أكن أعرف ــ هل زدت أو نقصت شيئا ، بما قالته الملعونة

!..سكينة ؟ :همس

!ــ سأقتل نفسى :أمسكه من كتفه

..تموت كافرا ؟ــ تريد أن :وهو يضرب راحة يده بقبضة اليد األخرى

..ــ أفضل من مواجهة نظرات الناس :لون الصاوى نبرة صوته بتهوين

..ــ مايهمك نظرتك إلى نفسك :مال بعينيه إلى الفراغ جانبه ..ــ أشعر بالضياع والخوف

..ــ وماذنبك ؟

:فى سخرية يائسة ..ــ كان مجرد شك

..تك تضع كلماتى فى حدود ماتقصده ــ لي ..بدا الشيخ كأنه يسلم نفسه إلغفاءة

:قال سالمة ليحرك الصمت الذى كاد يخنقه ..ــ بماذا تنصحنى ؟

:انتزع ابتسامة ــ لم تكن فى حاجة إلى أبيك خالل السنوات

..فماحاجتك إليه اآلن ؟.. العشرين الماضية :ثم تساند على نفسه

..أخوتك قبل أن يقلقهم غيابك ــ عد إلى تمنى سالمة لو أن أباه وبخه ، أو شتمه ، أو طرده من

لماذا يتركه فى وظيفته : يجد سببا إلفراغ مابنفسه . البيت الصغيرة ، واليكلفه بعمل فى الحلقة ، أعد نفسه له قبل أن

هو شيخ صيادين ، له . يسافر ــ وأخوته ــ إلى القاهرة بيانه ، والتعب الذى يبديه يستطيع أن يريحه منه بالنساته وص

هل يذكره بما ينفيه .. هل ألنه يحرص على عدم رؤيته ؟. ..فى بساطة البصقة ؟

..التفت إلى النافذة المطلة على شارع العوامرى وكانت الشجرة الجرداء . كان النهار اليزال فى أوجه

.قد توهجت فى ذؤابات األصيل

حنيــــن

نوة الكرم دفعت . تطول وقفتك على شاطئ األنفوشى الشاطئ خال ، والنوافذ ــ بامتداد . الناس إلى البيوت

البيوت المقابلة ــ مغلقة ، وضوء النهار تقلص على والسحب متراكمة ، . رانت ظلمة رمادية شفيفة . الجدران

تتصور الكشك . فأنت تتوقع هطول األمطار . محملة بالمياه لمالصق للسور فى ورش المراكب ، مالذا من األمطار ا

المتوقعة ، والموج يالطم المراكب المكومة على رمال تتناثر خيوط المياه والرذاذ إلى منتصف الطريق . الشاطئ

عيناك التتحوالن عن السطح ذى . لكنك تظل فى وقفتك . ها السور المتآكل ، ومناشر الغسيل ، والحجرة التى يبدو أعال

تعطيك اإلشارة . فى الناحية المطلة على شارع العوامرى . التعبأ بالبرد ، وتكتفى بقميص النوم . فى وقت تطمئن إليه

تجرى على الحبال . تسند مشنة الغسيل على سور السطح تضع المشابك فى فمها . معنى تعيه ، ويثير أعماقك . بخرقة

تنشرها على . اب ، ثم تبدأ فى التقاطها ، والتقاط قطع الثيتتابع حركتها بعينين قلقتين ، تغيبان . الحبال بعرض السور

. عن الشاطئ ، والبرد ، والنظرات العابرة ، المتوجسة تنهى نشر الثياب . يتركز اهتمامك فى اإلشارة التى تتوقعها

تضع المشنة الخالية على رأسها ، وتدفع باب الحجرة . تعرف أن . ناحية باب السلم المغلق بأعلى كتفها ، وتمضى

تعود إلى العاصفة الصاخبة من . هذه هى إشارة تحركك تمسح ورش المراكب ، والشاطئ ، وطريق . حولك

الكورنيش ، ونواصى الشوارع الجانبية ، والنوافذ المغلقة ، والمرأة . الأحد . تطمئن إلى إحكام النوة قبضتها . واألسطح

. ال من النزول إلى داخل البيت تميل إلى داخل الحجرة ، بدتخطو فى . تعبر الطريق وقضبان الترام إلى الناحية المقابلة

إلى اليمين دكان الحاج محمد صبرة ، أغلق أبوابه . الوسعاية اتقاء البرد ، وإن وشى الضوء ــ خلف األبواب الزجاجية

تعانى النظرات المتطلعة من . ــ بالحركة فى الداخل حاج محمد ، إذا طالت جلستهم أمام الدكان فى أيام أصدقاء ال

الصفو ، أو تضطر إلى السير حتى الحجارى ، والمضى تحاذر المشى على أرض . عبر الشوارع الضيقة ، الملتوية

موحلة ، لزجة ، والريح تصفر من األبواب المواربة ، حتى تدخل ــ دون تلفت ــ فال تفطن إلى . باب البيت

ترفع . تغوص فى الظلمة المتكاثفة . متشككة ارتباكك عينثالث درجات حتى تصل . خطواتك وتخفضهما بالعد وحده

آخرها باب . سلمة ٨٧تدور مع السلم . البسطة األولى تدفع الباب . تنفذ منه بقايا ضوء النهار . السطح الموارب

تطمئن إلى غياب الصرير ، فال يتنبه أحد من . بيد مترفقة فى الطابق األول ــ كما أخبرتك . الطوابق التحتية سكان

تقضى أشهر الشتاء . ــ أسرة موظف فى التعليم اإللزامى شقة الطابق . بالقرب من مدارس األوالد فى محرم بك

الثانى ، تخلو إال من عجوزين تزوج أبناؤهما ، وانتقلوا لسطح أسرتها فى الطابق الثالث ، يعلوها ا. إلى أحياء أخرى

تقيم مع زوجها وابنتها ذات األعوام السبعة ، وأمها . مباشرة التى اكتفت بأعوام عملها الطويلة فى حلقة السمك ، ولزمت

الزوج . تهمس الخطوات حتى التفطن األم أو اإلبنة . البيت غائب ــ منذ عشرة أعوام ــ فى البحار والبالد البعيدة

.. :تتلقاك بسؤال التبدله

.. رآك أحد ؟ــ هل :تجيب فى همس يصل ــ بالكاد ــ إليها

!..ــ الأحد قميص النوم األسود ، المزين . فى الخامسة والعشرين

بالترتر ، ينسدل على جسم ممتلئ ، يتناقض مع خصرها وشعرها أسود ناعم ، عقصته فى ضفيرتين . البادى النحافة

ى خديها وعل. ، أسدلتهما على جيدها األبيض ، العارى يمتد . غمازتان ، تكسبانها ــ إذا ابتسمت ــ براءة طفلة

ربما . هى أدرى بالظروف . الصمت ، ولحظات التوقع تكتفى ــ لخطر تخشاه ــ بالكالم معك ، حتى ينتهى

..الوقت ، فتطالبك باإلنصراف :تفجأك بالسؤال

..ــ ماهذا الوشم ؟ ..وتشير إلى الوشم على ساعدك

:ارتباكك تغالب !..سمكة .. ــ أبدا

..ــ لماذا ؟ ..ــ أردت التعبير عن حبى للبحر

:تمصمص شفتيها !..ــ أنا الأفهمك

:تهمس فى تخاذل !..ــ وأنا الأفهم نفسى

:تضيف ، لتجاوز ارتباكك .. متى يعود ثروت هذه المرة ؟-

:فى صوت تشوبه استهانة واضحة ..أسبوعين أو ثالثة ربما بعد !.. ــ الأعرف

:وتتنهد !..ــ اعتدت غيابه ..ــ أين هو اآلن ؟

:وهى تسوى المالءة ــ بتلقائية ــ تحتها ..ــ قال إن المركب ستذهب إلى قرب الحبشة

:تزوى مابين حاجبيك !..ــ بعيد

:فى لهجتها المستهينة !..ــ أنا الأعرف إال أن أهلها سود البشرة

:سبب مجيئك تنبهها إلى ..ــ أنت أجمل من أية بيضاء أو سوداء

تترك يدها لتسلل . تطلق من أنفها ضحكة مبتورة تستكين ، فتنزع . تتلمس حماالت صدرها . أصابعك تساعدك ــ . تدرك أنها أعدت نفسها لعناقك . الحماالت

تخلى نفسها للفعل . برفع يديها ــ فى خلع قميص النوم ..لرجفة ، فتستكين برأسك على صدرها تتحقق ا. اآلتى

:تهمس !..ــ هل اعتبرتنى سريرك ؟

:كالمتنبه !..ــ أنت أجمل من كل شئ فى الدنيا

:يعود إليها صوتها المستهين ..ــ من قال لك ؟

:بلهفة ..ــ جنتك التى أعشقها

:تشيح برأسها ..ــ كالم الليل

!..فسأظل أعبدك.. ــ لو طلع مليون نهار :يخالط صوتها حدة

..وأوالدك ؟.. ــ وامرأتك

:تبدو الدوامة قريبة ..أما أنت ، فدنياى كلها .. ــ هؤالء ظروف :فى نبرة مشروخة

لكنه يهجرنى إلى الدنيا .. ــ وأنا دنيا زوجى أيضا ..الواسعة

التحدثك ــ هذه المرة ــ عن رحالت زوجها إلى . ى داخلك مشاعر صعبة ، ومعقدة تثير ف. البالد البعيدة

البحر : تريد أن تقول لها . تدرك أنك ستبرئه ، وتغضبها . الأحس بالغربة إال وأنا على األرض : وتقول . حياتى تفتش عن . لو مت ، أتمنى أن أموت فى البحر : وتقول

. تسرح فيما لم تتبينه . كلمات ترضيها ، ثم تكتفى بالصمت :بعها تدفعك بأطراف أصا

..ــ هل تنوى المبيت هنا ؟ !..ــ ياريت

:بلهجة تقطر جفوة !..ــ نم فى حضن امرأتك أحسن

:ثم وهى تدفع الضفيرتين وراء كتفيها ..ــ أو اكمل السهرة عند عشيقة أخرى

..تثنى إليها نظرات متسائلة ، مستغربة :يداخل صوتها بحة

لوحيدة التى ــ أكون حمارة لو تصورت أنى المرأة ا ..تخون بيتك معها

:تهتف بانفعال ..ــ والمرسى

:تضغط على ساعدك بأصابعها ..ــ التدخل األولياء بيننا

:تهمس بالقلق ..ــ ماذا جرى لك ؟ :وهى تغمض عينيها

!..لكننى أكره النفاق .. أنا كما أنا .. ــ الشئ :تهتف باسمها !..ــ يسرية

..ــ الشئ يامختار :وتعاود التنهد

!..ــ ثروت وحشنى

تسبقك . تسدل المالءة حول جسمها . تفز دون توقع تتأمل قطع الغسيل المنشورة على الحبال . إلى باب الحجرة

تبدو كاألشباح المتطايرة فى غياب القمر وراء السحب . . تلحقها ، وتعد السلمات إلى البسطة األولى . المتكاثفة

تغالب . حتى باب شقتها تغلقه فور دخولها . ت التحاول التلفتمضى فى . اليشغلك إال أن يحتويك الطريق . ارتباكك

الضوء الشفيف ، يصنعه مصباح الغاز فى ناحية شارع تميل فى . العوامرى ، والنور المتسلل من النوافذ المغلقة

تمضى . انحناءة شارع فهمى الناضورى إلى شارع السيالة تطالعك الصيحات المهللة ، المتسائلة ، . لزردونى إلى قهوة ا

تجلس ، وتستمع ، وتتكلم ، وتسأل ، وترد ، وتطلق . العابثة . لكن كلمات المرأة فى حجرة السطح تظل تشغلك .. النكات ترى السؤال معلقا فى اللمبة الوحيدة . يمتد الليل .. لماذا ؟

.تظل مضاءة ، حتى آخر الليل . خارج القهوة

الغـــوثقدم أبو العباس على مريده أبو عبد اهللا الحكيم بأشموم

دنا الرجل منه ، فوضع . فلما جاء الليل ، دعاه أبو العباس . وفعل أبو عبد اهللا األمر نفسه ، . أبو العباس يده خلف ظهره

بكى أبو العباس ، وبكى الرجل لبكائه ، دون أن . وتعانقا ياحكيم ، ماجئتكم إال مودعا : بو العباس قال أ. يدرى السبب

ياحكيم ، سأذهب إلى المقسم ألودع أخى ، ثم أعود إلى . م التالى اإلسكندرية ، أقضى بها ليلتى ، وأدخل فى اليو

..قبرىثم . أقام عنده أياما قليلة . وسافر أبو العباس إلى أخيه

. اة فيها رحل إلى اإلسكندرية ، فأقام بها ليلة ، لحقته الوف ..وشيع إلى قبره فى اليوم التالى

. أسندت أصابعها إلى الباب ، قبل أن تلتقى ضلفتاه ..أغلقته برفق ، حتى اليثير السكون السادر من حولها

لم تكن هذه هى المرة األولى التى يغادر البيت ، حين مع ذلك ، فقد داخلها . يختلط طلوع الصباح بظلمة الليل

العتزامها السير فى غير الطريق التى اعتادتها ربما. خوف نصحها جابر برغوت بأن تكون زيارتها للسلطان ليلة .

..األحد ، قبل طلوع الفجر ، فإنه يكون حاضرا ..فظ إلى شارع أبو العباس المرسىمالت من شارع حا

أحكمت المالءة حول جسمها ، وهى تهبط الميدان ميزت . ، فبدت الكائنات كأشباح الواسع ، لفته غاللة رمادية

الكسوة الخضراء غابت فى . أضرحة األولياء أوسط الميدان المارة ، ولصق . مظلة رمادية ، التفت بها األشياء حولها

..أبو العباس أجساد غيبها النوم ..جالت ــ بنظرة ساهمة ــ فى الميدان الساكن

سحت م. اقتربت من شباك الضريح األول من اليمين فعلت األمر . بيدها على أعمدته الحديدية ، وقرأت الفاتحة

. إثنا عشر ضريحا . نفسه أمام شبابيك األضرحة األخرى األولياء أصحاب الدرك ، يخضعون إلمرة القطب األعظم ،

يقضى بالصالح ، فيمتثلون . سيدى المرسى ، ونواهيه نشغال عذر تأخر النصفة ، فى ا. لقراره ، وينفذون ماقضى

أصحاب الدرك ــ والقطب من فوقهم ــ بآالف تعطى . االلتماسات من طالبى البرء والشفاعة والمدد

. يقضون بما يفيض عن الحد . لألولياء الميامين عذرهم الولى ــ له التوقير واالحترام ــ بشر ، ينام ويأكل

..اإلثقال عليه حرام . ويطلب الراحة ، تعاود االلتجاء إلى القطب وقفت فى الميدان الواسع

الكبير ، سلطان اإلسكندرية وحاميها ، بعد أن أكثرت من يحنن قلب سيد الفران ، . تهدأ وتستريح . اللجوء إلى مريديه

ينسى ماكان من عالقتهما القديمة ، يصبح كأنه . فيتزوجها إذا لم يتحقق األمر ، . يبعد عنها شر أوالد الحرام . لم يكن تسافر إلى القاهرة ، . فع المظلمة إلى رئيسة الديوان فستر

..فتقضى أم العواجز بما تشاء ، فى مجلسها كل خميس صعدت ــ بخطوات متلهفة ــ إلى باب الحريم ،

تطوى . تكررت زياراتها إلى المكان . فى جامع أبو العباس يكتب عرضحالجى . الرقعة الصغيرة ، فى صورة حجاب

تدس . ة بشارع فرنسا ، ماتمليه عليه المحكمة الشرعي

الحجاب فى ثنايا الكسوة الخضراء ، أو تقذف بها خلل أسوار وربما وضعتها على الطرف المقابل من النافذة . الضريح ..الحديدية

قال لها العرضحالجى ، وهو يلف الدوبارة المربوطة :بالنظارة الطبية حول أذنيه

..د الثالثين ــ هذه هى الرسالة الثانية بع :وطوى الرسالة كالحجاب

..ــ يبدو أن األولياء يرفضون ابتعادك عن الكار :هتفت وهى تطوح الهواء باصبعها ..ــ حتى الهزار اليصح فى هذا

:وتغلف صوتهابمسحة إشفاق ..ــ ربما نالك عقابهم

... ... ...

... ... ... رسى أبو العباس ، لحضرة صاحب الفضيلة ، اإلمام الم

سلطان اإلسكندرية ، ومنصف الغالبة . رضى اهللا عنه ..والمنكسرين ، ومغيث طالبى الشفاعة والمدد

بسم اهللا الرحمن الرحيم ، والصالة والسالم على رسوله الكريم ، سيدنا محمد صلى اهللا عليه وسلم ، وآله

..أجمعين ب حضرة سلطان اإلسكندرية ، شيخنا الكبير ، قط

الطريقة الشاذلية ، صاحب المقام الرفيع ، صاحب السيادة والفضيلة ، صاحب المجد والشرف ، سيدى اإلمام أبو

..العباس المرسى ، رضى اهللا عنه وأرضاه ! ياإمامى ! ياشيخى ! ياسيدى ! ياإمام العارفين

!..ياقطب األولياء ! ياحاضر المريدين ت ، بنت أنور المدفع تتظلم إليكم بهذا أنسية بنت جماال ..، المقيمة فى حماكم بمدينة اإلسكندرية

توسلت إليكم بجاه سيدنا محمد الحبيب ، أن تقضى ..حاجتى ، وتزيل شدتى ، ياحاضرا اليغيب

..سيدى اإلمام أتوسل بك إلى اهللا . أنا فى عرض اهللا وعرضك

ونى سبحانه وتعالى ، أن تنتقم عاجال ، مستعجال ، ممن ظلم، وأساءوا إلى ، وأن يورينى اهللا فيهم بقدرته ــ سبحانه

..ــ مايسر خاطرى

أنا أرفع شكواى إلى أهل الباطن ضد من ظلمونى ، ..واستحلوا ماحرم اهللا ، وتعدوا على بكل شئ

إجعلهم . أحكم بعدلك على هؤالء القوم الظالمين ..موعظة لمن يتعظ ، وعبرة لمن يعتبر

اليعلم . قد سبنى إمام جامعك بما يمنعه اهللا ويحرمه ل ..أنى ابتعدت عن كل مايسئ إلى دين اإلسالم

ولما ساعدنى المعلم عبد الرحمن الصاوى ، عاب عليه قال له كالما فصيحا ، معناه أن الصدقة . حمادة بك ذلك

ألمثالى حرام ، مع أنى ــ يشهد اهللا ــ أريد أن أبتعد .. اهللا ورسوله ، ويغضبك عما يغضب

لقد ظلمنى هؤالء الناس كثيرا ، ودائما يتعرضون لى ..باألذى

..أنا الأحد لى خالفكم ، الفى الدنيا ، والفى اآلخرة لقد حرم اهللا على نفسه الظلم ، وهؤالء الناس ظلمونى

.. فهو يضايقنى ، .. أتوسل إليك أن تمنع عنى حمادة بك

ه لى كلمات قاسية ، ويعرض على ويتعرض لى ، ويوج

أمورا معيبة ، أنت أعلم بها ، وقررت أن أبتعد عنها ، ..وأخلص لعبادة اهللا

إن حمادة بك يريد أن أظل مخلوقة فاسدة ، والأعود فهو يدعونى إلى الفعل . مثل بقية الناس مخلوقة صالحة

..وهذا اليرضى اهللا ، والالرسول ، والأنتم أيضا . الحرام فاحكم بما يرضى اهللا ، ورسوله ، ويرضى فضيلتكم ، ويكون الحكم مشموال بحضرة النبى المصطفى صلى اهللا عليه وسلم ، وخلفائه الكرام ، واألقطاب األربعة ، واألنبياء ، والمرسلين ، والمقلدين ، والمجتهدين ، والشهداء ،

..والصالحين من أرجو سرعة الحكم فى بحر أيام ، آلخذ حقى

..هؤالء المعتدين ، ألنى امرأة مسكينة ، الجاه لى ، والسند أجرنى ياسيدى أبو العباس ، وانتقم ممن ظلمنى ،

..واظهر لى كرامتك فيهم أعرفك لما ربنا يبلغ المقصود ، لك الحالوة إن شاء اهللا

أعمل لك خاتمة لوجه اهللا ، وأنفق على المحتاجين والفقراء . ..ى ، وأقبل عتبة مقامك ، على قدر طاقت

أنا متعشمة فى بطل . الح اهللا يقدرك للعمل الص ..منصان

أرجو أن تظهر لى ، وتبين لى بيانك ، وتنتقم من الذين ..تعدوا على بإذن اهللا

..يامرسى .. مددك مددك مددك ياسلطان أنا محسوبة عليك ، والمحسوب منسوب ، ياأبا مقام

..عال ..ه شئ ، وأنتم من عباد اهللا الصالحين العبد ليس بيد

... ... ...

... ... ... ثم لجأت إلى قطب . بدأت باألولياء اإلثنى عشر

إذا حدثت النصفة ، . يبحث األمر ، ويقضى فيه . األولياء أما إذا ظهرت المسألة أكبر من همته ، . فقد نالت ماتتمنى

. وابتهلت ، إلى الديوان فإنه يرفعها بكل ماباحت ، ودعت ،يحضره األئمة الرفاعى والشافعى . تتصدره الست الرئيسة

يناقشون األمر ، يقلبونه على كل وجه . والبدوى والجيالنى ، يقضون بالقرار الذى يسعد أيامها ، مع سيد الفران ، أو

أرهقتها األيام ، والبد لكل شئ . فهم أدرى بصالحها . بدونه

طالعها المقام بنور غائب المصدر ، وتضوع . من نهاية ..بخور برائحة جميلة

تأكدت من التفاف المالءة حول رأسها ، فال يبين من قد يغضبه . السلطان يراها ، ويعاين هيئتها . شعرها شئ أخرجت من عبها منديال ، مسحت به على . ماتراه عاديا

من البركة تسرى. المقصورة ، ثم مسحت على رأسها ..السلطان إلى المقصورة ، فإلى المنديل ، فإلى حياتها

وحياتك . ثبتت يدها على القضبان النحاسية ، الالمعة أنا ولية . وحياة من أماتك ، ووضع فيك البركة .. ياسلطان

الأريد إال أن يتركنى الناس فى . مسكينة ، الأهل لها والبيت وإذا كنت مظلومة ، فال .إذا كنت غلطانة ، عاقبنى . حالى

..تجعل الظلم يستمر ألصقت شفتيها بالشبابيك ، كى يستمع السلطان إلى

يقضى فيه إن تيسر القضاء ، أو يرفعه إلى . ماتهمس به يتحقق . أولياء الديوان ، يقضون بما لهم من حول وقوة

..مطلبها ، فتطلق الزغاريد فى أنحاء المقام ، إعالنا للفرحة

إنحنت ، فكنست باليد . من التفاف المالءة بيد تأكدت. ثم قلبت السجاجيد المحيطة به . األخرى أرضية المقام ..مقلوبة عليهم إن شاء اهللا

..وانصرفت ***

..قبل أن تميل إلى الميدان ، شهقت لرؤيته لم تتبين فى الغاللة الرمادية ، سوى هالة الشعر التى

..منهما بريق غريب غطت وجهه ، والعينين يطل :قال لتراجعها المذعور

..ــ مم تخافين ؟الناس ــ . تعرف أن القطب يظهر لزائريه أحيانا

اآلن ، وفى كل وقت ــ يتحلقون ضريحه ، ومقامه ، هاجس يحدثها بأن . يبثون شكاياتهم ودعواتهم وابتهاالتهم

..الشيخ الواقف أمامها ، هو القطب األعظم ، السواه :اولت انتزاع الكلمات ح

..ــ أنا :قاطعها

..ــ أنسية

:أضاف لنظرتها الذاهلة ..ــ مشكلتك لها حل

:فى توسل ..ــ أستريح

..ــ يقضى اهللا بالصالح :استجمعت جرأتها ..ــ هل أنت ؟

:قاطعها ..ــ سبحانه سيد الخلق

..وذهب متالشيا ، كأنه لم يكن تكشف رأسها ، وتنحنى . م تعلق به خامرها ندم ألنها ل

تعلن ــ بما وسعها ــ استغاثتها . على قدميه تقبلهما مفاجأة اللحظة أنستها ماكان عليها أن تفعله . بكراماته ومدده

..، وإن تعزت باالبتسامة التى لم تفارقه

الليلــةالكبيــرةإلهى قد خلقت لـنــا محــمـــد لك الفضل

لى محمــــدوالجميل عونشهد أنك المولـــى إلهــــى والموصـول

كالهـــادى محمــــــــدوقل ماشئت تمــــدح محمـــد مـن البيـت

الحــرام ترى محمـــــــد

..الليلة األخيرة فى مولد السلطان . الليلة التاسعة امتأل الميدان الواسع بالناس واألعالم واألكشاك والخيام

ذكار ونصبات القهاوى والغرز والوشامين وسرادقات األوالمالهى وألعاب النشان ، وباعة المصاحف وصحيح البخارى وكتب السير الشعبية وتراجم الصحابة وأولياء اهللا والصالحين ، والصور الدينية وعربات األكل والحلوى وباعة الفول والفالفل والمخلل والترمس والخروب والعرقسوس

يز وحالوة دمياط وألعاب الثالث والحمص وحب العزورقات ، والسجاجيد والحصر والكلوبات ولمبات الكهرباء والميكروفونات وأكشاك الختان ، وحلقات الذكر والفرق

الموسيقية وعساكر سوارى البوليس ، والدخان الباهت ..يتصاعد من مداخن عربات اللب والسودانى

ة ، وأصوات تعالت البيارق واألشاير والخرق الملونالمزامير والدفوف والطبول والمزاهر ودقات الكؤوس ، واألدعية واالبتهاالت والصياح والصراخ والمالغية والتوسالت ومناداة األولياء ، والنداء يطغى على كل

!..اهللا حى !.. اهللا حى : األصوات اآلالف وفدوا من اإلسكندرية ، والمدن ــ والقرى

ام الخيش ، وأكشاك الكارتون ، نصبت خي. ــ المحيطة والقعدات التى بال غطاء ، فى زوايا الميدان ، وفى الدحديرة الخلفية ، وفى امتداد الطريق إلى الموازينى والسيالة

. شغل القادمون مداخل البيوت ، وحنايا الساللم . والحجارى وصفت أوانى الطعام . وفرشت الحصر واألكلمة والسجاجيد

..ى والسكر ، وتعالى وشيش البريموس ، وعلب الشاالشاذلية : علت الفتات الطرق الرئيسية ، والفرعية

أعالم الشاذلية . واألحمدية والرفاعية والقادرية والبرهامية مختلفة األلوان ، عكس أعالم الفرق األخرى ذات اللون

..الواحد

ازدحمت الساحة الواسعة ، المطلة على الميناء الشرقية بالبشر واأللعاب والبشاير والنايات والموشحات والمواويل ،

والضحكات والهمسات والهذيان والصراخ واالنجذاب ورشفات الشاى وأنفاس الحشيش وحبش إيطاليا والكرملة وعصاية على افندى واألغنيات واألناشيد وزعيق المكروفونات واللبد والطرابيش والجالبيب والسياالت

البلغ واألقدام الحافية والمالحف والسراويل والمالءات اللف ووالمسابح والعمائم والالسات والسيوف الخشبية واألذرع والسواعد وبقايا الطعام وروائح البخور والقئ والعطن والمجاذيب والمصروعين ورجال الطريق والفتاة الكهربائية وفرقة على الكسار وفرقة المسيرى وشاعر الربابة ولعبة

ركان المظلمة واأللعاب النارية وألعاب الحظ القوة واألوالمراجيح والدويخة والعرائس واألراجوز وخيال الظل وصندوق الدنيا والحواة ورقصات الغوازى من صحراء

..المتراس ، ومن خارج المدينة نصباتها من الخشب . القهاوى مفتوحة إلى الصباح

ضواء ملونة والصفيح والخيش ، ومئذنة أبو العباس التفت بأوتالغط من مدائح الرسول ، وأذكار الشاذلى ، واألوراد ، .

ودالئل الخيرات ، والدعوات ، وصيحات المنشدين ، وحشرجات أهل الذكر ، وطالبى البرء والشفاعة والنصفة

جماعات يتلون آيات القرآن الكريم ، وأناشيد الترنم . والمدد أجسام . بى بحب الرسول ، والصالة والسالم على الن

يطيب لهم الذكر ، . الذاكرين تتمايل ، وتتهدج أصواتهم يتواجدون ، يضطربون ، . وترديد أسماء اهللا الحسنى

يشحطون ، يساقطون على األرض ، يظلون بال حراك حتى . يكبس الشيخ أيديهم وأرجلهم ، وإنهاضهم على بركة اهللا

لقاء العمائم تتعدد حاالت الصعق والوجد والبكاء والنحيب وإ ..والطرابيش واللبد ، ونزع الثياب ، أو تمزيقها

ــدد ــدد م ـــدد .. م ــى مـــــ ــيدنا النب س مـدد سيدنا الحسين مــــــــــــــدد

ــدد ــدد م ـــدد .. م ــاهره مـــــــــ ياط مدد مــدد ياشاذلـــــى مــــــــــدد

ى ياراضى يارفـاعى ياحنف.. يامرسى .. ويابدوى سيدى ابراهيم

مــــدد.. ياشاذلى .. مدد مدد

العشرات يعزمون ، ثم يبتلعون الجمرات المشتعلة ، يزردون الزجاج ، يضعون فى األفواه ثعابين تتلوى ، يلتهمون الثعابين الحية ، يطعنون الصور بالمدى ، يقبضون

، يدخلون على الحديد المحمى ، يضعون األصابع فى النار النيران ، يرتدون األطواق الحديدية فى األعناق ، يلفون األجسام السالسل ، يوخزون الوجنات باإلبر الطويلة ، تخترق الفم إلى الوجنة األخرى ، يلفون الشعور ويلبدونها ، يرتدون طواقى السعف والطراطير المزدانة بالريش والخرق

لسبح الهائلة ، الملونة ، يحملون مزاريق الجريد ، وا ..والشموع

ثم لم يعد . اعتاد رؤية ليلة المولد ، حتى أعوام قريبة ..يذهب إليها

يتلذذ . يغرق فى بحر الناس . كان الزحام يسعده بالتصاق األيدى واألكتاف ، ورائحة العرق ، والصراخ ،

. ربما اندس فى زحام الترام ، أو األوتوبيس . والشتائم يلتذ بالضغط . ملتصق ، واألنفاس ، والعرق ينغرز اللحم ال

وكانت . يغمض عينيه ، ويسرح فيما اليتبينه . من حوله ثم حرص جلساء . االحتكاكات تضيف إلى صراخ أعماقه

قعدة الحاج محمد صبرة ــ اليذكر لم والمتى ــ أن . يذوب فى البحر الواسع . يصحبوه فى جوالته داخل المولد

يتدخل الجلساء ــ لم ؟ ــ . اليعرفهم من يعرفهم ، ومن ..يبعدون الزحام عنه ، حتى يغادر المكان

:قال له المعلم أحمد الزردونى .. ولد السلطان ــ غدا الليلة التاسعة لم

..الليلةالختامية :أردف لمالمحه المتسائلة

..ابات يفرض أن تحضر ليلة المولدــ دخولك االنتخ :قال عباس الخوالقة

وغدا يبدأ مولد سيدى .. ــ هذه هى الليلة الكبيرة ..جابر

:قال المعلم الزردونى أبو : ــ الحاج محمد يملك قائمة بموالد األولياء

..ثم سيدى محمد الرحال .. فسيدى بشر ..العباس :وأضاف

..ــ أكل عيشه فى هذه الموالد :قال عباس الخوالقة

يدا عن مولد أبو ــ لم يعد محمد صبرة يذهب بع !..ترك بقية الموالد لصبيانه .. العباس

:قال الحاج قنديل ..فنجاحه مضمون .. ــ التتعبوا الرجل :قال المعلم الزردونى

ــ النتيجة الوحيدة المضمونة ، هى فوز مرشحى ..الوفد

:قال عباس الخوالقة ــ نحن النعرف متى تجرى االنتخابات ، والمن

..فد ؟سيرشح الو :قال الزردونى

!..لو رشح الوفد حجرا النتخبناه : ــ قيل :قال الحاج قنديل

..ــ حمادة بك يستطيع الفوز مستقال اعتاد أهل الحى مناداته بلقب بك ، منذ صاهر أسرة

ناداه الحاج قنديل باللقب ــ أول مرة ــ . سعيد النقيب ..تقديرا لمكانته الجديدة :لخوالقة مهونا أضاف عباس ا

ــ إنه فى قلوبنا نحن ، ولن تذهب أصوات دائرة ..الجمرك إلى سواه

م الشيشة ، ومسح عليه بباطن نزع الحاج قنديل مبس :يده

نضمن أن يكون لنا فى .. ــ إذا فاز حمادة بك ..البرلمان سند قوى

:قال حمادة بك ــ بل تضمن أنك أنت نفسك قد أصبحت عضوا فى

!..مان البرل :قال المعلم الزردونى

البد أن يتحرك .. ــ األمنيات الطيبة وحدها لن تكفى ..حمادة بك بين ناخبيه

شرب ماالحصر له من . كان قد صافح آالف األيدى لم . سار فى حوارى وأزقة . أكواب الشاى ، وفناجين القهوة

يكن يتصور أنها تابعة لحى الجمرك ، أو أن ناسها يسكنون تحمل المساومات ، واالبتزاز ، والمالحظات . بحرى

..المتسائلة عن االنتخابات التى لم يبد أفقها ..علت األصوات المؤيدة

:قال عبد الرحمن الصاوى جولة فى قلب الليلة .. ــ هذا هو مايجب أن نفعله

..الختامية :قال حمادة بك

..ــ لكنها ستكون ليلة زحام :قال الخوالقة

..ــ هذه افضل دعاية : قال الزردونى

..ــ نحن النعرف متى تجرى االنتخابات :جاوز حمادة بك المالحظة

..كيف نسير وسط الجلوة ؟.. ــ المهم :قال الحاج قنديل

ثالثة عساكر يفسحون .. ــ دعوا لى هذه المسألة !..الطريق إلى داخل الضريح ، لوشئنا

مترفقا ــ بعيدا عن موكب دفعه الحاج قنديل ــ كل واحد ممسك بمنديل . يركب األوالد حميرا . المطاهر

يقيه من الشيطان ، ويحفظه من . يضعه على فمه . أبيض أضاءها ــ . يتوقف أمام الخيمة الصغيرة . العين الحاسدة

إلى . جلس الحاج محمد صبرة . من الداخل ــ كلوب أمامه . الختان ، ومايعقبه جانبه ترابيزة ، عليها أدوات

يتولى الصبى رخا . كرسى صغير ، يضع األهل طفلهم عليه يجرى الحاج محمد . نزع أسفل جلبابه ، وإفساح مابين ساقيه

. بالموسى ، فينتزع قطعة الجلد ، قبل أن يبدأ صراخ الطفل يكتم رخا بيده تواصل الصرخات ، فاليخاف من ينتظر

..دوره من األطفال فى أيام مولد السلطان ، يفرغ الحاج محمد لعمليات

يظل فى الكشك الخشبى الصغير . يغيب عن دكانه . الختان . التكف فيه عمليات الختان . ، قبالة الباب الخلفى للجامع

للسلطان بركته فى الذكورة ، وعدم الربط ، وسرعة التئام والم يستعين بشطورة ، ضارب الطبلة من قهوة الع. الجروح

..، كى يغطى على بكاء األطفال ، وصراخهم ..موجات من البشر .. بدت الجلوة من بعيد

: أبطأ حمادة بك من خطواته ، فأبطأ من كانوا معه ..كيف ينفذ وسط بحر البشر، إلى ضريح أبو العباس ؟

:قال الحاج قنديل

العساكر أمامنا يفسحون ..ــ التخشوا شيئا ..الطريق

..األكتاف بعفوية ، وظلوا فى أماكنهم التصقت :همس حمادة بك

..األفضل أن نعود .. ــ المعنى لذلك كله :قال الحاج قنديل

!..ــ ويقول الخصوم إنه خشى السير وسط الناس ؟تالحمت الموجات . أرفق الحاج كلماته بدفعه بيده

شكلت موجة عالية ، قاسية ، . الصغيرة ، المتالحقة وجد نفسه ــ فجأة ــ . اجتذبته فى قلبها ضاغطة ،

الصراخ والزعيق واأليدى . قطرة فى البحرالصاخب واألرجل والرءوس واألنفاس ورائحة العرق والعصى

لمح ــ وسط الموج البشرى . والقوايش واألزرار النحاسية ثانية أو . ، المندفع ، اإلفريز العلوى لواجهة أبو العباس

.. لم يعد إال الموج الضاغط ، المتالطم .أقل ، ثم اختفى أحس أنه يختنق ، . تالصقت . تدافعت الجموع يختلف عن الضغط الذى يحبه فى . ينضغط بتدافع األجسام

. وقفته أمام باب الترام ، أو مايتطلع إليه فى سره المحير

يعانى الدفع ، واللكزات ، وقبضات األيدى ، وركالت األقدام لم تفلح . البس ، وصعوبة التقاط األنفاس ، وتمزق الم

ضربات العصى ، والالقوايش ، فى فك األجسام التى تالحمت ، وذابت ، فبدت جسما واحدا ، ينتفض واليتحرك ، أو أن تحركه اليكاد يبين ، اعتصره التالصق ، واختالط األنفاس والرائحة النافذة والعرق والنداءات والصيحات

..افع الثابت فى مكانه والصرخات والتدثم . ابتعدت عن العساكر . تداخلت مجموعة الرجال . األمواج أقوى من تفاديها . انفصلت بضغط الزحام الهائل

ذابوا فى مياه البحر . دفعت بالرجال ، كل فى ناحية تساقطت الدموع . بكى الحاج قنديل بال إرادة . الصاخب

. لحصار الضاغط على خديه ، دون أن يجد منفذا فى اتالشت فى الصخب العنيف . وخانت الصرخات حمادة بك

وأسلم بقية الرجال أنفسهم إلى الموجات المتدافعة ، . حوله اليقوون على التملص ، أوالتقاط . المتالحقة ، القاسية

األنفاس ، وتحول النظرات عن السواعد واأليدى والرءوس . تضوى وتختفى .إختلطت المشاهد . والوجوه واألقفية

بدأت ، وهى . غاب الزمان والمكان ، فلم تعد إال اللحظة

التى تحدد ــ إذا انحسرت األمواج البشرية ، المتالحمة ، ..المتدافعة ــ متى تنتهى

اليقيــنمتى تنزل أمطار المدد على أرض النفوس الطيبة ،

والقلوب المطهرة ، واألرواح المضيئة ، واألسرار ..المقدسة ؟

*** بدنـا حللنا روحان نحن أنا أهوى ومـن أهوى من أنا أبصرتنـــا أبصــرته وإذا هرتأبص أبصرتنى فإذا

لما غادر الحضرة ، كانت تهب على ميدان المساجد نسمات خريفية ، تماوجت فى نفسه مشاعر متباينة ، كأنها

رحة ، أو اللذة ، أو االنبساط ، ففتح قلبه لكل من حوله ، الفأحس أنه يطير فوق األرض ، فليس لقدميه وقع . وماحوله

، تسيران والتسيران ، قوة غريبة تحمله ، تمضى به إلى ..األمام ، وإن بدا له كأنه ينقل خطواته

حتى الكالب . كان الطريق خاليا ، اليرى شيئا يكرهه تاد رؤيتها ــ وتجنبها ــ بالقرب من دكان شبيرو التى اع

استغرق فى . طابت له نفسه . الجزار ، لم يعد يخشاها ..النشوة ، فغمرته تماما

:قال له الشيخ يوسف بدوى ، وهو يغادره مقام الصحو والتمكين ، . ــ أنت اآلن منته واصل

وإجابة الحق من حيث دعاه ، وإن كنت جاوزت ــ فى ..يقة ــ كل المقامات الحق

جاوز حجب التردد . زالت العادة ، وحلت العبادة جعل من المجاهدة سبيال وحيدا ألنوار . والشك والخوف

التجلى واالنكشاف ، أوجبا عليه الصمت . المشاهدة صمت حتى عن ذكر اهللا ، خشية أال تفد الرؤيا . والمشاهدة

اهرة ، وتفتح يغمض عينيه ، فتنسد طرق الحواس الظ. يهبه اهللا علم أسرار المفاتيح على . األبواب لحواس القلب

يفتح به الخصومات والمغالق والمعضالت . اختالفها يحميها . مال إلى جانب اآلخرة . زهد فى الدنيا . والمضايق تكتمل . التغفل عنها عينه . يشرف عليها بعدله . حرس اهللا

عالئق كلها ، وأقبل بكنه الهمة قطع ال. لإلنسان فيها طمأنينته

شغله التعرف إلى جواهر العلوم واألنباء . على اهللا والمعارف ، الحقائق التى التتبدل والتتغير باختالف الشرائع

تطلع إلى األفق المبين ، نهاية مقام القلب . واألمم واألزمنة تنزه . جال مرآة قلبه ، فال ينطبع فيها إال وجه المحبوب .

لم يعد يشارك فى حلقات الذكر . أن يشغله أى شئ عنه عن انصرف بفكره إلى قدس . الذ بالحضرة الواحدية .

يرى . الجبروت ، واستدام لشروق نور الحق فى سره كل شئ موجود . اتصال مدد الوجود ، ويخشع لذكر األلف

.. به ، معدوم بنفسه عظمت المحبة ، وكثر العطش ، وغرق فى بحار المنن

واآلالء ، واستحقت الروح رفع الحجاب ، وتأهب لورود تناهت أصوات . سافر إلى جزر قريبة ، وبعيدة . اإلمداد ..رقصت ــ فى ضوء القمر ــ بنات الحور . موسيقا

كان يحس ــ وهو يصلى ــ أنه بين يدى اهللا عن يمينه الجنة ، وعن شماله النار ، وخلفه . العظيم

. يصلون ، ويدعون له بحسن القبول المالئكة ألوف ، اليحصره الكون ، فال تقله األرض ، والتظله السماء ،

..والبحار الساحل لها ، والغوص بال حد والمنتهى

الحت ، فاطلع على ماكان . لمح أنوارا فى أفق قلبه . تكشفت له األسرار . أغرقته سحائب الرحمة . خافيا

برئت من . وس الخفية تطهرت نفسه من الهواجس والوسااستحالت إلى روح لطيفة . صفت ، وسمت . شوائبها

. خالصة ، تهفو للوصول إلى المأل األعلى ، والمبدأ األسمى تشهد من الجمال المطلق ماال رأت عين ، والسمعت أذن ،

عالم يتوق إليه ، فال يبلغ معرفته . والخطر على قلب بشر ..إال بالكشف

فى جميع مافى الدنيا ، فى كل ترك حظوظ النفسانخلع عن كل مايمت لألرض بسبب ، . مايشغله عن اهللا

صبر على المجاهدات . وتحير فى ميادين القرب أطال . والرياضات ، وغلب عليه الشوق إلى المشاهدة

. العكوف على باب الحضرة اإللهية ، يتطلع إلى انفراجه نازل والترقى فى قطع الم. يترصد للشرارة حتى يلتقطها

المقامات ، فشفت الحجب الكثيفة ، وتقطعت أستار الجالل ، وأشرقت شموس العرفان ، وصفت البواطن من الشواغل

. والشواغب ، وشعر أنه قد بلغ غاية مقام القرب والتمكن ..حتى السماء السوداء ، استحالت قبة من نور أسود

عبر حلقة .مال من الميناء الشرقية إلى األنفوشى غاب عن سمعه تالغط البيع والشراء ، . السمك ، فلم يرها

انشغل عن نفسه ، . والصيحات التى ناداه بعضها باسمه وعما حوله ، بالدفقات والنفحات ، تهب عليه ، تكشف له عن

..حقائق األمور اإللهية لم تعد تشغله تصرفات الحاج قنديل ، . استقر إيمانه لة ، أو كثرة ، مايصطاده ، وإن كان المزاد والشتائمه ، والق

أحس أنه قد . فى الحلقة يتوقف عنده ، أم يفوز به غيره انتقل من ضيق األكوان ، ورحل إلى سماء المعرفة ، وأنه

تهيأ باطنه لتلقى اإللهامات . على أعتاب الحضرة اإللهية حد الربانية ، أنوار اهللا واسراره ، يتلقى المدد من الواحد األ

.. أحس أن . تأمل أمواج البحر المتالطمة فى صخب

فاض ماء المدد ، فغسل . مايمور فى أعماقه أشد صخبا فتح باب . حلت المناجاة . تمت المصافاة . أوساخ الوهم

جالت فى دنيا . تنزهت الروح فى عالم الملكوت . القدرة أشرقت عليه شوارق األنوار ، ومقامات اإليمان باهللا. الحق

..، وغرقت الروح فى بحر التوحيد

تكامل إشراق نور اليقين ، فغطى الوجود ، وارتوى العظمة ، : تبدت أمامه صفات اهللا . من الخمرة األزلية

انتهى . والعزة ، والجالل ، والجمال ، والكبرياء ، والكمال استمرت ذاته فى ذاته ، وصفاته فى . إلى اهللا ، وفى اهللا

لم ير فى الوجود . عن كل ماسوى اهللا تعالى غاب. صفاته يترقى فى مراتب األسماء : استكان لتصورات اآلتى . غيره

يتلفت إلى . يصعد سماء بعد سماء . يترجل فى معراجه . يهمس له المالئكة . عجائب اهللا وآياته فى الكون المحيط

تنفتح . إن السفر طويل .. التتلفت فتتعثر : الملتفون حوله يصل إلى السماء . لسماء واحدة بعد أخرى ، وترفع الحجب ا

السابعة ، حيث الملكوت اإللهى ، ويواصل السير بال انتهاء يبين التألق فى . يضاعف من األوراد والذكر واألحزاب .

يخطو منها . سدرة المنتهى ، جنة المأوى والمالذ السرمدى ، ويمضى إلى حضرة العرش ، والرحمن الرحيم قد استوى

ــ بخطوات الفرحة ــ إلى مقعد صدق عند مليك مقتدر ..

فاجأه عجوز يستند إلى جدار أبو العباس ، لم يعرفه ، والرآه من قبل ، وهو يغادر الباب المطل على ميدان

:المساجد والصوفى الحقيقى .. ــ فيما أرى ، فأنت تريد الجنة

!..يريد رب الجنة لم يشر الشيخ يوسف . يرته ح. تأمل العبارة أليام

هل يخلص فى عبادة ربه ، فال . بدوى إلى المعنى فيما قاله !..يجد فى نهاية المسعى إال السراب ؟

راعه أن خليفة الشاذلية حين ركب حصانه فى مولد أبو العباس ، لم يقبل على الشيخ يوسف بدوى ، وهو واقف

ارع وسط مريديه ، والجلوة تميل من الميدان إلى شضايقه أن الخليفة يتجاهل . البوصيرى ، والألقى عليه التحية فعلى من أخذ .. الشاذلية شيخه ، كأنه ليس من رجال

!؟العهد. شغلته القراءة . مال إلى الوحدة ، واءتنس باإلنفراد

أقبلت نفحات الصبا . عرف الطريق الواحدة ، طريق األلف حانيات ، والدواعى الرحمانية ، اآلتية من جهة شروق الرو

إن لم يكن قد ملك ــ فى هذه الحياة . الباعثة على الخير

الفانية ــ قليال والكثيرا ، فإن دولة الفقراء ذات السلطان . الواسع النطاق ، الممدود الرحاب ، فى جنة اهللا يوم الدين

عليها . يخرج من قبره ، فتستقبله نوق بيض ، لها أجنحة نعالهم نور يتألأل كل خطوة منها كمد رجال الذهب ، شرك

يدخل عليه أهل الجنة . البصر ، فينتهون إلى باب الجنة يخبرونه أنه قد . مهنئين ، حاملين الهدايا والمواهب والخلع

يأتى المؤمنون رب الحق فى حلل خضر . بدأ حياته األبدية ، ووجوه مشرقة ، وأساور من ذهب ، مكللة بالدر والزمرد

تزول اللحى والشوارب ، وشعر . هم أكاليل الذهب ، وعليليس لهم شعر إال فى الرأس . اإلبط ، وشعر العورة والبطن اليبولون ، واليتغوطون ، . والحاجبين وأهداب العينين أمشاطهم الذهب ، ومجامرهم . واليبصقون ، واليمخطون

عود الجنة ، ورشحهم المسك ، وأخالقهم على خلق رجل يعطى كل واحد منهم قوة مائة رجل فى الطعام .واحد

تتدفق . يجد لذة شهوته قدر أربعين سنة . والشراب والشهوة األنهار ، وتصطف األشجار ، وتهب النسائم ، وتغرد الطيور ، وتضوع فى قصور األبدية روائح المسك والكافور

يغتسل . وثمة شجرة يخرج من ساقها عينان . والزعفران

لعين األولى ، فال يشعث رأسه بعدها أبدا ، المرء من ا ..واليتغير جلده ، ويشرب من العين الثانية ، فيتطهر جوفه

..ــ أين أنت ؟نظرة الشيخ يوسف بدوى الثاقبة الحظت انعزاله عن

بدا منعزال فى مكان ، . الجماعة ، وعن كلمات الشيخ نفسه ..يعرف هو ــ وحده ــ مالمحه

..لم يجب على السؤال إعتذر ، وإن نقله حديث الشيخ إلى دنيا يحلم بها ، عوالم سحرية يراها ويحيا فى قلبها ، وإن تشوف إلى تفصيالتها ومالمحها

..آفاق بال نهاية من النورانية والروحانية والحقيقة المطلقة . الكلمة تنطلق فى . سرح به الخيال فى معانى المفردات

..ى والتكوينات واأللوان والظالل الرؤ. آفاق الالنهاية :فاجأه الشيخ حماد ، المستند إلى جدار أبو العباس

.. ــ العلم والعمل ، إال بصدق التوجه إلى اهللا !..اإلخالص مطلوب

:أضاف بلهجة مشفقة فنعيمها ــ كما قال شيوخنا .. ــ التشغلك الجنة

!ــ حجاب عن اهللا

يصحو فيجد نفسه شديد هل : تذكر ماقاله أمين عزب !..القرب من نورانية المكاشفة ؟

الحقائق ، واألوصاف : كان القلب مغمورا بالمشاهدات ينادى . ، والخواص ، واألحكام ، والكرامات ، واألسرار

وآن لك أن تحيا . آن لك أن تصح ، فال تسقم أبدا : المنادى آدم ، يتحول ظاهره وباطنه إلى مسحة. ، فال تموت أبدا

يتزوج خمسمائة حوراء ، . وصورة يوسف ، وقلب أيوب يعانق كل واحدة . وأربعة آالف بكر ، وثمانية آالف ثيب

يمشى فى . ينزل عن سرير الياقوت . منهن قدر عمر الدنيا يمر . يخرج إلى صحارى الزعفران . رياض الزبرجد

حر ، ال. على مروج العنبر وآكام القرنفل وميادين الصندل األطيار تغمس أجنحتها فى . والبرد ، والشمس ، والقمر

بحر المسك والكافور ، وتجوز فوق الرءوس بأجنحتها ، يركب الرجال . فيطيب المؤمنون عن آخرهم بريشة واحدة

لكل فرس جناحان من فضة ، . على خيل من ياقوتة حمراء وعلى. خيل مسرجة التغوط والتبول . وجناحان من ذهب

والنساء على نجائب أقتابها من . خيل بلق أجنحتها خضر رأسه من الذهب األصفر ، وعيناه من : وبها البراق . ذهب

المرجان ، وجوانبه من الدر ، وذيله من اللؤلؤ ، وقوائمه من الكافور األبيض ، وحوافره من اللجين ، وسرجه من الزمرد

ير األخضر األخضر ، وركابه من النور ، ولجامه من الحر..

وبدا . الحيطان تآكلت . دهمته الرائحة الغريبة ، ألفها الطوب األحمر من المصيص المتساقط ، والبيوت الواطئة ،

..القديمة ، تستند إلى كمرات الخشب ثمة روح مهيب يمأل جوانبه ، وأطياف تتراءى من بعد

أشعة ضوء تخترق الظلمة المتكاثفة ، تعكس شفقا شفيفا ،. ثم انعكست آثاره كلية . يضئ المرئيات حوله ، ويضئ نفسه

..فى نور األنوار هل وصل إلى الغاية القصوى ، وتمت له معرفة اهللا ؟ هل كشف عنه الحجاب ، وانفتح له علم الغيب ؟ وهل تفتح أبواب السماء بقدرة اهللا ، وتظهر طاقة القدر صافية البياض

يا التعرف الظالم ؟ يسعد هل تنعكس على مرآة القلب دن..؟يتلقى فيض التجليات . بمشاهدة اهللا ، وتفيض عليه أنواره

اليلتفت . على قلبه ، وتنزل أمطارالمدد على أرضه الظمأى يدخل الجنة ، فيتمتع بمجامعة . يمنة واليسرة ، والإلى وراء

الحور العين ، ويفاكه األبكار ، ويتكئ على األرائك ، دان المخلدون بأصناف الطعام ، وألوان ويسعى عليه الول

الشراب ، وطرائف الثمار ، والحدائق الوارفة الظالل ، والخضرة ، واألريج ، وأفنان الريحان والياسمين والورد ، وأشجار البرتقال والرمان ، واللبن ، والعسل ، والخمر ، والموسيقا الحالمة ، والغناء الشجى ، واألطيار ، والحمائم ،

، شجرة " التوبة " يجلس تحت شجرة . حيق المختوم والرتمتد أغصانها . الجنة الوارفة ، تتوالد بما اليتصوره أحد

عاليا ، ثم تعود إلى األرض ، تتجذر فيها ، تصبح جذعا يتغطى المكان بظالل النباتات المتسلقة والورود . جديدا

شغل ال. تتوقف فوق رءوس المؤمنين . واألزهار المثمرة . يعم السكون والطمأنينة والهدوء والسالم . والمرض

حتى لو بلغ . ينمحى الخوف ، وينال المؤمن جزاء إيمانه ينشغل . مرتبة الوالية ، فسيظل يأخذ نفسه بالتستر واإلخفاء

يبيع ويشترى ، ويساوم . ــ ولو ظاهريا ــ بشئون الدنيا حقيقة أمره ، يحرص أال يعرف الناس . ، ويعقد الصفقات

فهو واحد من التجار ، واحد من الصيادين ، واحد من المترددين على السلطان ، المريدين له ، الساعين فى طريقه

، المؤمنين بأقواله ، وبمعجزاته ومكاشفاته ، المتطلعين إلى ربما سكت عن . فيض بركته ، إلى الشفاعة والنصفة والمدد

الجامع ، فى سؤال ألحد إجابة يعلمها ، ويعجز عنها إمام ..المصلين

ارتفعت القلوع ، وامتألت الصوارى بالهواء البارد ، ومضى القارب إلى الشاطئ البعيد ، الغامض ، المحمل

..باألسرار الحت األسرار من أكنتها ، وظهرت األنوار من سبحاتها ، وارتفعت الحجب عن القلب ، وظهرت المعنى

. ة الخيال ، فرأتها عين البصيرة تجلت فى مرآ. اإللهية ..إنكشف لها مافى غيابات الموجود

مكاشفــةانتهت صالة المغرب ، وبدأت نصف الدائرة فى

..االلتفاف حول مجلس اإلمام لزم . حضر الجلسة ــ بعد غيبة ــ حمادة بك

. البيت ــ ألسابيع ــ منذ الليلة الكبيرة لمولد السلطان لزم . اده أصدقاؤه ومعارفه وجيرانه زاره أطباء ، وع

.. اآلخرون بيوتهم ــ أليام ــ حتى استردوا عافيتهم تناولوه بالحزن ، ثم . ظل ماحدث محور أحاديثهم

ضمنوه نكاتا ومفارقات ، فى زياراتهم . غلفوه بالسخرية . لحمادة بك ، وفى جلستهم أمام دكان الحاج محمد صبرة

بأنهم نسوا ــ عند الفرار بحياتهم ذكرهم عباس الخوالقة ــ زيارة مقصورة السلطان ، وطلب اإلذن بمغادرة المولد

عودة يارب : ، والدعاء بأن يدعوهم إلى مولد العام القادم ..!

:قال حمادة بك ..ــ نجوت من الموت مرتين فى الفترة الماضية

:سرح بعينيه

الغريانى ــ فى المرة األولى ، أنقذنى الصياد قاسم ..من الغرق فى الميناء الغربية

:قاطعه الحاج قنديل ..وخادمك .. ــ إنه أحد صبيانى

:قال حمادة بك ــ أما فى المرة الثانية ، فلست أدرى ــ حتى اآلن

..ــ كيف نجوت :قال الحاج قنديل

..ــ هذه بركات موالنا السلطان :أردف عباس الخوالقة !..سادة حينا .. هللا الصالحين ــ وبركات أولياء ا

: قال الحاج محمد صبرة فهو .. ــ نصيحتى أن تأخذ تعويضا من الحاج قنديل

..الذى دفعك إلى ترشيح نفسك :قال عباس الخوالقة

ــ لكن المعلم الزردونى هو الذى دفعه إلى حضور ..الليلة الختامية

:قال الحاج قنديل

فأراد .. وفديته القديمة ــ فى رواية ، أنه عاد إلى ..إثناء حمادة بك عن الترشيح بوسيلة مبتكرة

:اغتصب حمادة بك ضحكة !..ــ أصدق لو أنه لم يكن معى يوم الهول العظيم

:قال المعلم الزردونى وستشهدون تأثير مشاركة .. ــ االنتخابات قادمة

..حمادة بك فى الليلة الكبيرة :ن يتقى خطرا رفع حمادة بك يديه ، كم

!..ــ توبة :اهتزت النظارة الطبية على منخار الحاج قنديل

..ــ ألن ترشح نفسك ؟ :قال حمادة بك

..الأجيد العوم فيه .. ــ السياسة بحر :قال الحاج قنديل

..إنتظر حتى تبرأ .. ــ أوجاعك هى التى تتكلم :قال وهو يهز رأسه فى تالحق

..!ــ للسياسة رجالها

أطال الصالة ــ لحضورهما متأخرين ــ الحاج روى اإلمام ــ حتى يأتيا . قنديل وعبد الرحمن الصاوى

ــ حلما ، استيقظ فى نهايته ــ وربما قبل أن ينتهى ــ ..على أذان الفجر

لم يكد يلتقط منه طرف خيط البداية ، حتى فوجئ القة وحمادة بالبداية نفسها فى أفواه الحاج قنديل وعباس الخو

هل من المعقول أن يشاهدوا حلما واحدا ــ : تساءلوا . بك وإن اختلفت تفصيالته ــ فى لحظات متقاربة ، فال يوقفهم

..إال آذان الفجر ، يتصورون مارأوه حلما وانقضى .. تراوحت التفسيرات ، داخل الذات ، أو مع اآلخرين

: ى اإلمام ماروى لكن السؤال الذى بدا ملحا ، بعد أن روهل كان ماجرى حلما ، أو أنه شئ آخر ينتسب إلى معجزات

..سلطان اإلسكندرية وحاميها ؟روى مريدوه الكثير من مواجيده وأحواله ومكاشفاته

كان يأخذ علمه من ربه ، أى وقت يشاء ، بال . وكراماته يأخذ عن الكون ، ويمشى على . تحفيظ من كتاب ، والدرس

، ويطير ، ويمسك النار ، ويحتجب عن األبصار ، الماء ويطوى األرض ، وربما قطع المسافات البعيدة فى غمضة

وكان يرى الكعبة من موضعه ، أينما كان ذلك . عين الموضع ، حتى يتجه إليه فى صالته ، ويتكلم عن مكة

ويشاهد ــ . والمدينة وسائر أرض الحجاز ، كأنه نشأ فيها عالم الملكوتى الروحانى ، والترابى ، يحيا من داخله ــ ال

مع المالئكة والمأل األعلى والجن والخضر واألبدال ، ويتحدث إلى الراحلين عن دنيانا ، ويطلع على الخواطر ،

ويعرف الزائر . فيخاطب كل واحد من مريديه بشرح حاله وكان يدخل عليه شخص . له قبل قدومه على مسافة بعيدة

دون من هو ، فيحادثه لحظات ، ثم يخرج عنه اليعرف المريفإذا وقف المرء . ، اليتكلم عما جرى أمامهم ، واليشير إليه

أمامه ، وظل صامتا ، أخبره بما فى نفسه ، ونصحه فيما قدم كان . وعرف عنه إعالمه بكوامن فى المستقبل . للبوح به

ن أن يتوجه إلى البحر ، يمشى على الماء ، ويراه الناس ، دوتبتل ثيابه ، كأنه يمشى فى األرض تماما ، اليشغله عما

وكثيرا مارآه الناس يدخل بحر . حوله شئ ، واليتلفت معظم . األنفوشى بثيابه ، يظل ساعة طويلة ، ثم يخرج

ماكانت رؤيته وهو فى هذه الحال ، عندما يكون القمر فى ى مياه وكان يطير بال جناحين ، ويغطس ف. السماء بدرا

. الميناء الشرقية ، فال يظهر إال فى المنتزة أو أبو قير وربما طار إلى مكة ، يطوف حول البيت الحرام ، ويزور

وأقسم . قبر الرسول ، ثم يعود إلى مجلسه ، كأنه لم يغادره : مريدوه أنه كان يزور ــ بجسده ــ أضرحة أولياء اهللا

اطمة النبوية والشهيد السيدة زينب والسيدة نفيسة والسيدة ف. الحسين وغيرهم ، دون أن يبرح مجلسه وسط المريدين

من بين . وكان اليغيب عن اهللا ، ولو فى حالة الجماع علوم الشريعة كلها ، وعلوم الحقيقة كلها ، وعلم : ماأحصاه

لغات اإلنس والمالئكة والجن والطير والوحوش والهوام ، وكان يتفرس . اإلفالك وعلم ضرب الرمل والتنجيم ورصد

فى لغات الحيوان ، يعرف ماتقوله وماتريده ، فيعيد حكايته وكان يسمع . وكان يسخر الجن ، وتطيعه . على الناس

وروى أنه ألقى على األرض ــ . تسابيح السمك فى البحر ذات يوم ــ رءوس فجل ، تناثرت ، وتحولت إلى ثعابين

ين ، فلم يلحظ أحد أين وحيات ، تفرقت وسط ذهول المريدوعرف عنه تبحره فى علم السميا ، يسهل عليه به . ذهبت

أن يتصرف على مابالكائنات من خير وشر ، وجلب وطرد ، . أعماله فى الخير كالترياق ، وأعماله فى الشر كالسم االقع

. وكان يأتى للحوامل والمرضى بالفاكهة ، فى غير أوانها ه فى الهواء ، فتلتقط الثمار المرجوة ، يتمتم بكلمات ، ويمد يد

كان يعرف . يدفع بها إلى من يطلبها ، فيرضى بها رغبته أشياء تخفى على البشر العاديين ، ويكاشف الناس بما فى

حتى األفعال التى يكتمونها ، ويحرصون على . صدورهم يكاشف كل واحد من . عدم البوح بها ، يرويها كأنه يراها

دث له فى يومه وليلته ، ويتصرف ــ فى مريديه بما حمجلسه ، وبين مريديه ــ بإلهام يشبه الوحى ، يخاطب من التراه عيونهم ، يأخذ ويعطى ، يسأل ويجيب ، ثم يتجه إلى

وعرف عنه المقدرة على الكشف . المريدين بالرأى الصواب وقد يستطيع ــ بقدرة . عن حال الموتى ، وسماع كالمهم

..حيائهم اهللا ــ إلم ينقطع المدد بوفاة السلطان ، والانتهت كراماته

أمكن له ــ داخل قبره ــ أن يرعى مريديه . ومكاشفاته الينام ــ كل ليلة ــ قبل أن . وأتباعه وقصاد مقامه

يغادر قبره ، يسير ــ بمفرده ــ فى األنفوشى ورأس ع على التين ، والشوارع والحوارى واألزقة المحيطة ، يطل

أحوال الناس ، ينصت إلى مايعانون ، فيلبى الخير مما ..طلبوا

:قال اإلمــــام

التف المكان ــ حول مقام سيدنا المرسى ــ تصاعدت رائحة نفاذة ، كأنها األريج العبق . بغالالت رقيقة

إنشق الضريح عن سيدنا ، بقامته المربوعة ، المهيبة ، . ة ، وعينيه اللتين تشعان طهرا ووجهه المضئ ، ولحيته الكث

..وقداسة بدا الخوف ــ بتأثير المفاجأة ــ على وجوه النساء

همت أكثر من واحدة بالفرار ، لكن النظرة . القريبات ..الوادعة ، المسيطرة ، ألزمت الجميع بالبقاء فى أماكنهن

تجرأت المرأة أنسية ــ الأدرى متى والكيف تسللت ..تتظاهر بالرغبة فى تقبيل قدميه . فاقتربت إلى المقام ــ

زجرتها ، لكن سيد المتواضعين أحنى قامته ، وساعد :المرأة على النهوض ، وأحاط كتفيها بأصابع مترفقة

..ــ من احتمى بمقامى اليقدر أحد أن يبعده عنه :ثم وهو يضغط على الكلمات

إحرص أن تصبح: ــ قال شيخنا أبو الحسن الشاذلى ..لعله ينظر إليك .. وتمسى مفوضا ، مستسلما

:استطرد فى صوت مترقق ــ زادت هموم الناس ، فخرجت ألحمل منها

..مااستطعت أقبلن على . زالت الدهشة من نفوس المتحلقات بالمقام

السلطان ، يمسحن أدرانه ، يأخذن تراب قدميه ، يتشممنه ، ..يجرين به على وجوههن

:ك قال حمادة ب ..ــ هل كان السلطان بمفرده ؟

هل عرف اإلمام ماخشى أن ترويه أنسية لسيد الفران وهل عرف بقية الجالسين ، فى الحلم القريب ، ماحرص .. ؟

هل ألنه يرفض إقامتها فيه ، .. على كتمانه بأعوام عمره ؟الليلة الختامية أبعدته .. أو ألنها صحبته إليه فى ليلة الجنون ؟

رار ــ عن الوقوف أمام النازلين من ترام ــ دون قحتى الصالة فى . مجرد االحتكاكات العفوية تربكه . الرمل

أبو العباس ، حرص أن يصلى بجوار العمود الرخامى الهائل ..، ويترك بينه وبين مجاوره مسافة

:قال اإلمام ..وقفوا بالقرب منه .. ــ تبعه آخرون :استطرد كالمتذكر

إكتفوا بمتابعة السلطان ، وإن .. غرباء ــ بدوا: وقال السلطان . ميزت من بينهم الصياد على الراكشى

جميع األنبياء خلقوا من الرحمة ، ونبينا صلى اهللا عليه وسلم رجال الليل الرجال ، وإن أولياء : وقال . هو عين الرحمة

هذا الوقت ليؤيدون بشئ من الغنى واليقين ، فالغنى لكثرة ماعند الناس من اإلفالس ، واليقين لكثرة ماعند الناس من

الصوفى منسوب لفعل اهللا تعالى به ، أى : وقال . الشكوك الولى إذا : وقال . صافاه اهللا تعالى فصوفنى ، فسمى صوفيا

واهللا مابينى وبين الرجل إال أن أنظر إليه نظرة . أراد أغنى عنى رسول اهللا ، واهللا لو حجب: وقال . وقد أغنيته

لو فاتنى الوقوف : وقال . ماعددت نفسى من المسلمين واهللا لو : وقال . بعرفة ، ماعددت نفسى من المسلمين

حجبت عنى جنة الفردوس طرفة عين ، ماعددت نفسى من الدنيا كالنار ، وهى قائلة للمؤمن جريا : وقال . المسلمين

من أحب : وقال . يامؤمن ، فقد أطفأ نور قناعتك لهبى

الظهور ، فهو عبد الظهور ، ومن أحب الخفا ، فهو عبد رأيت عمر بن الخطاب رضى اهللا عنه فى : وقال . الخفا قال . ياأمير المؤمنين ، ماعالمة حب الدنيا ؟: فقلت . المنام

فإذا كان عالمة حبها خوف . خوف المذمة ، وحب الثناء : زهد فيها وبغضها ، أال يخاف المذمة وحب الثناء ، فعالمة ال

. مادخل بطنى حرام قط : وقال . المذمة ، واليحب الثناء الطمع ثالثة أحرف ، : وقال . الورع من ورعه اهللا : وقال

. كلها مجوفة ، فهو بطر كله ، فلذلك صاحبه اليشبع أبدا العلم هو الذى يتطبع فى القلب ، كالبياض فى : وقال

أوقات العبد أربعة : وقال . فى األسود األبيض ، والسواد وهللا . النعمة ، والبلية ، والطاعة ، والمعصية : الخامس لها

عليك فى كل وقت منها سهم من العبودية ، يقتضيه الحق فمن كان وقته الطاعة ، فسبيله شهود . منك بحكم الربوبية

ومن . المنة من اهللا عليه ، إذ هداه اهللا لها ، ووفقه للقيام بها ومن كان . كان وقته المعصية ، فسبيله االستغفار والتوبة

وقته النعمة ، فسبيله الرضا بالقضاء والصبر ، والرضا رضا النفس عن الشهوات ، والصبر مشتق من األصبار ،

وكذلك الصابر ينصب نفسه غرضا . وهو الفرض للسهام

بات لسهام القضاء ، فإن ثبت لها ، فهو صابر ، والصبر ثالعامة إذا خوفوا خافوا ، وإذا : وقال . القلب بين يدى الرب

رجوا رجوا ، والخاصة متى خوفوا رجوا ، ومتى رجوا الفرق بين معصية المؤمن ومعصية الفاجر : وقال . خافوا

المؤمن اليعتزم عليها قبل فعلها ، واليفرح : من ثالثة أوجه ل ، والفاجر ليس بها وقت الفعل ، واليصر عليها بعد الفع

لسانه : خلق اهللا اآلدمى وقسمه ثالثة أقسام : وقال . كذلك الناس على : وقال . جزء ، وجوارحه جزء ، وقلبه جزء

عبد هو بشهود مامنه إلى اهللا ، وعبد هو بشهود : ثالثة أقسام الناس : وقال . ما من اهللا إليه ، وعبد هو مامن اهللا إلى اهللا

قوم غلبت حسناتهم سيئاتهم ، فهم فى على ثالثة أقسام ،الجنة قطعا ، وقوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم ، فال يدخلون النار قطعا ، وقوم غلبت سيئاتهم حسناتهم ، فيخلدون فى

معرفة اهللا : صالح العبد فى ثالثة أشياء : وقال . النار قطعا ، ومعرفة النفس ، ومعرفة الدنيا ، فمن عرف اهللا خاف

دنيا ، ومن عرف النفس تواضع لعباد اهللا ، ومن عرف الالمؤمن اليرضى لنفسه بالخير إذا : وقال . الدنيا زهد فيها

. أتراه يرضى بالشر ؟. كان فيه ، ألن فوق الخير خيرات

، أى دلوهم على اهللا ، " يسروا والتعسروا : " وقال قد غرك ، والتدلوهم على غيره ، فإن من دلك على الدنيا ، ف

ومن دلك على األعمال فقد أتعبك ، ومن دلك على اهللا فقد أنا الأتشفى من أحد ، والأحمل أتباعى على : وقال . نصحك

إذا علمت أنه لم يخرجك إلى : وقال . التشفى من أحد مملكته إال وقد كفاك ومنحك وأعطاك ، ولم يبق لك حاجة

ك ، وتترك الطلب عند غيره ، فال تطلب ممن هو بعيد عنالسالمة فى : وقال . ممن هو أقرب إليك من حبل الوريد الدخول فى : وقال . الدين ، بترك الطمع فى المخلوقين

والدرجات فيها . الجنة باإليمان ، والخلود فيها بالنية باألعمال ، والدخول فى النار بالشرك ، والخلود فيها بالنية

ثم مسح السلطان على جبهته . .، والدركات فيها باألعمال اللهم إنا نسألك الخوف منك ، والرجاء فيك : براحته ودعا

، والمحبة لك ، والشوق إليك ، واألنس بك ، والرضا عنك ، والطاعة ألمرك على بساط مشاهدتك ، ناظرين منك إليك ،

ربنا ظلمنا . الإله إال أنت سبحانك . وناطقين بك عندك نا إليك قوال وعقدا ، فتب علينا جودا وعطفا ، أنفسنا ، وقد تب

إنا تبنا . واستعملنا بعمل ترضاه ، وأصلح لنا فى ذرياتنا ..إليك ، وإنا من المسلمين

. أشار بيده إلى جدار الجامع ، من ناحية ميدان األئمة ..إنفرج الحائط ، فمضى من خالله إلى الميدان

:قال الحاج قنديل

جلستى المعتادة ، أمام دكان الحاج محمد فاجأنى فىكنت قد اعتذرت ــ قبلها ــ عن عدم التوسط . صبرة

لدى نبيل افندى قرة ، ضابط نقطة األنفوشى ، فيفرج عن كان قد أسرف فى التطاول ، فأعفيته من . على الراكشى

اقتعد سيدنا الكرسى . عقابى ، واستدعيت له البوليس :ر عن ساعديه ، فظهر عليهما النورشم. المجاور فى هدوء

..ــ والعافين عن الناس :قلت

..ــ من تقصد ياسيدنا ؟ :حدجنى المرسى بنظرة معاتبة

..لماذا التعفو عنه ؟.. ــ على الراكشى ..ــ لقد رمانى بالباطل

..ــ ربما أنت المخطئ :ثم فى تساؤل غاضب

!..ــ لماذا تحاربه فى رزقه ؟ ..ومضى

:قاطعه اإلمام ــ هل رويت كل ماجرى ؟

:قال الحاج قنديل :ــ عال صوت السلطان ، فسمعه العابرون

ــ لم يعد للبلطجة موضع ــ منذ اآلن ــ فى ..بحرى

:وفى صوت تخالطه نبرة اعتذار ..ــ كل إساءة أدب تثمر أدبا ، فليست إساءة أدب

ء النظارة تطلع الحاج قنديل إلى األمام ــ من ورا :الطبية ــ بعينين خائفتين

..ــ هل يعاقبنى السلطان ؟ :قال اإلمام

!..ــ عامل الراكشى بالحسنى ، فينتهى كل شئ :قال الحاج قنديل

وأرضيت كل الصيادين .. ــ أرضيته ياموالنا .. والسماكين

: ثم بنبرة مستعطفة !..ــ يبقى رضاء سيدنا السلطان

:ك قال حمادة ببدا السلطان كأنه ينتظرنى على ناصية شارع سيدى

كان الوقت ليال ، والبرد . داوود ، والتقائه بالمسافرخانة . وخلت الطريق من المارة . القارس أغلق األبواب والنوافذ

نزلت الرهبة فى . خمنت أنه المرسى من قبل أن يحدثنى ..نفسى ، فلم أقو على الحركة والالكالم

رسى وهويشير إلى البيت المهجور أوسط شارع قال الم :سيدى داوود

..ــ المرأة أنسية أولى بأن تسكن هذا البيت :سأل الحاج قنديل ..ــ أى بيت ؟

:قال اإلمام

..ــ لماذا التتركها فى البيت ؟خشى ــ إذا . سرق حاجياتها لتبعد . لم يطرد أنسية

..واجهها بالطرد ــ أن تفضح سره :حمادة بك هتف

!..ــ إنها أنسية ياموالنا :قال اإلمام

وعرفت عن البيت مالم . ــ لقد رأيت الحلم بنفسى ..تذكره من حلمك :ثم بتسليم

!..ــ نفذ مايقضى به موالنا السلطان

:قال عباس الخوالقة كنت واحدا من العشرات الذين الزمت . تابعته عن بعد فى البداية ــ بأرجاء طاف ــ. خطواتهم خطواته

تأمل التجاويف والمحارات والمقرنصات الصغيرة . الجامع والصنج المعتقة والزخارف النباتية والعقد المخفف والقباب

إتجه إلى الباب الرئيسى ، . الصغيرة فى األركان األربعة . دخل جامع البوصيرى من بابه الخلفى . وهبط الدرجات

لى الجدران ، واإلزارات الزرقاء تأمل البردة المحيطة بأعأبطأت خطواته لما اقترب من الضريح . فى حوائط الصحن :، وقال كالمتوسل

..ــ واهللا مارأيت العز إال فى رفع الهمة عن الخلق األنوار تمأل بدنه ، . إخترق الحائط المجاور للضريح

مضى ناحية . هبط فى ميدان المساجد . وتنبعث من وجوده . قرأ الفاتحة على أرواح أولياء اهللا . ة اإلثنى عشر األئم

..فرق بيده من الهواء المحيط ، يضعه فى جيب عباءته أحاطت بالناس والبيوت . طاف بنظرته فى المكان

واألشياء ، تكاد تنفذ داخل الجدران ، وماوراء النوافذ فى نهاية . تصل إلى الشوارع واألزقة البعيدة . والشرفات

الة ، أول الحوارى الضيقة ، الملتوية ، المفضية إلى السي ..حلقة السمك ، ارتفع السلطان فى الهواء ، حتى اختفى

*** غادر الرجال الجامع ــ فى هدأة الليل ــ بعد أن استكانوا إلى رأى اإلمام ، بأن ماجرى كان حلما ، توزع فى

الء الليلة ذاتها ــ بكرامات والية المرسى ــ على الفضيجمعهم هدى اهللا فى درس المغرب ، . من أبناء الحى

يزيدهم ــ . وجلسات المحبة أمام دكان الحاج محمد صبرة ..بإرشاده ــ إيمانا وتقوى

لكن السؤال ــ بما فاجأتهم به األيام التالية ــ عاود هل كان ماجرى حلما ، أو أنه شئ آخر ، ينتسب : إلحاحه

!..لطان ؟إلى معجزات سيدنا الس “محمد جبريـــل “