مأساة ابليس

28
" ﻣﺄﺳﺎة إﺑﻠﻴﺲ" ﺻﺎدق ﺟﻼل اﻟﻌﻈﻢ“I am the spirit that ever denies” " ﻓﺎوﺳﺖ" ﻟﻐﻮﺗﮫ اﻟﻘﺴﻢ اﻷول ﺗﻤﮭﯿﺪ ﻟﻮ ﺣﺎوﻟﻨﺎ أن ﻧﺤﺪد اﻟﻤﺸﺎﻋﺮ اﻟﺮﺋﯿﺴﯿﺔ اﻟﺘﻲ ﻋﺒﺮت ﺑﮭﺎ اﻷدﯾﺎن اﻟﺴﺎﻣﯿﺔ اﻟﺜﻼﺛﺔ ﻋﻦ ﻋﻼﻗﺔّ ّ اﻻﻧﺴﺎن ﺑﺎﻹﻟﮫ ﻟﻮﺟﺪﻧﺎ أﻧﮭﺎ ﺗﻨﺤﺼﺮ ﻓﻲ اﻟﻤﺤﺒﺔ واﻟﺨﻮف واﻟﻜﺮاھﯿﺔ: ﻣﺤﺒﺔ ﷲ، واﻟﺨﻮف ﻣﻦ ﺟﺒﺮو ﺗﮫ وﻋﻘﺎﺑﮫ، وﻛﺮه ﻋﺪوه إﺑﻠﯿﺲ. ﻋﺎﻟﺞ اﻟﻤﻔﻜﺮون اﻟﺪﯾﻨﯿﻮن ھﺬه اﻟﻤﺸﺎﻋﺮ وأﻓﺮدوا ﻟﮭﺎ اﻟﺼﻔﺤﺎت واﻟﻜﺘﺐ، وﻛﺎﻧﺖ أﻗﻮاﻟﮭﻢ ﻋﻦ إﺑﻠﯿﺲ ﺗﺘﺮاوح ﺑﯿﻦ اﻟﻤﺤﺎوﻻت" اﻟﺠﺪﯾﺔ" ﻟﻤﻌﺮﻓﺔ اﻟﻤﻜﺎﻧﺔ اﻟﺘﻲ ﯾﺤﺘﻠﮭﺎ ﻓﻲ ﻧﻈﺎم اﻟﻜﻮن وﺗﺤﺪﯾﺪ ﻋﻼﻗﺘﮫ ﺑﺎﻹﻟﮫ، واﺳﺘﻘﺼﺎء اﻟﻐﺎﯾﺔ اﻟﺘﻲ وﺟﺪ ﻣﻦ أﺟﻠﮭﺎ، وﺑﯿﻦ ﻣﺠﺮد اﻻﺳ ﺘﻔﺎﺿﺔ ﻓﻲ ﺷﺮح ﺗﻠﺒﯿﺴﮫ ﻋﻠﻰ اﻟﺒﺸﺮ وﺗﻠﻘﯿﻨﮭﻢ اﻟﺘﻌﺎﻟﯿﻢ واﻟﺘﻌﺎوﯾﺬ اﻟﻤﻌﺮوﻓﺔ ﺑﻐﯿﺔ إﺑﻌﺎده، واﺗﻘﺎء ﺷﺮه. ﻻ ﺷﻚ أن ﻛﻞ واﺣﺪ ﻣﻨﺎ ﯾﺤﻤﻞ ﻓﻲ ﻣﺨﯿﻠﺘﮫ ﺻﻮرة ﻣﻌﯿﻨﺔ ﻋﻦ ﺷﺨﺼﯿﺔ إﺑﻠﯿﺲ ورﺛﮭﺎ ﻛﺠﺰء ﻻ ﯾﺘﺠﺰأ ﻣﻦ ﺛﻘﺎﻓﺘﮫ اﻟﺘﻘﻠﯿﺪﯾﺔ وﺗﺮﺑﯿﺘﮫ اﻟﺪﯾﻨﯿﺔ. وﻻ أﺟﺪﻧﻲ ﻣﻀﻄﺮاً ﻷن أﺳﺘﺮﺳﻞ طﻮﯾﻼ ﻓﻲ إﻋﺎدة ھً ﺬه اﻟﺼﻮرة إﻟﻰ اﻷذھﺎن، ﻷﻧﮭﺎ ﻣﻌﺮوﻓﺔ ﺟﯿﺪا ﻟﺪىً اﻟﺠﻤﯿﻊ. ﻛﺎن إﺑﻠﯿﺲ ﻣﻦ اﻟﻤﻘﺮﺑﯿﻦ ﺑﯿﻦ اﻟﻤﻼﺋﻜﺔ وﻛﺎن ﻟﮫ ﺷﺄن ﻋﻈﯿﻢ ﻓﻲ ﻧﻈﺎم اﻟﻤﻸ اﻷﻋﻠﻰ، إﻟﻰ أن ﻋﺼﻰ أﻣﺮ رﺑﮫ ﻓﻄﺮده ﻣﻦ اﻟﺠﻨﺔ، وﻟﻌﻨﮫ ﻟﻌﻨﺔ أﺑﺪﯾﺔ، ﻓﺄﺻﺒﺢ ﺑﺬﻟﻚ ﺗﺠﺴﯿﺪاً ﻟﻜﻞ ﻣﺎ ھﻮ ﺷﺮ، وﺟﻤﻊ ﻓﻲ ذاﺗﮫ ﻛﺎﻓﺔ اﻟﺨﺼﺎﺋﺺ اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺘﻔﻲ ﻋﻦ ﷲ. وﻧﻼﺣﻆ ھﻨﺎ أن اﺳﻤﮫ ﯾﺪل ﻋﻠﻰ ﺟﻮھﺮه وھﻮ" اﻹﺑﻼس" ، أي اﻟﯿﺄس اﻟﺘﺎم ﻣﻦ رﺣﻤﺔ رﺑﮫ، وﻣﻦ اﻟﻌﻮدة إﻟﻰ اﻟﺠﻨﺔ( وﻓﻘﺎ ﻟﻠﺘﻔﺴﯿﺮات اﻹﺳﻼﻣﯿﺔً اﻟﺘﻘﻠﯿﺪﯾﺔ ﻟﻤﻌﻨﻰ اﻹﺑﻼس.( وﻣﻦ ﻣﻨﺎ ﻻ ﯾﻌﺮف اﻟﻤﺜﻞ اﻟﺬي ﯾﻀﺮب ﺑﺄﻣﻞ إﺑﻠﯿﺲ ﻓﻲ اﻟﺠﻨﺔ، دﻻﻟﺔُ ﻋﻠﻰ اﻷﻣﻞ اﻟﻀﺎﺋﻊ ﻛﻞ اﻟﻀﯿﺎع. ﺗﺪل ﻛﻠﻤﺔ" إﺑﻠﯿ" ﻋﻨﺪ اﻟﺠﻤﯿﻊ ﻋﻠﻰ اﻟﺪس واﻟﻔﺘﻨﺔ واﻟﻮﺳﻮﺳﺔ واﻻﻓﺴﺎد واﻟﻌﺼﯿﺎن، وﻣﺎ إﻟﯿﮫ ﻣﻦ اﻟﺼﻔﺎت اﻟﺸﻨﯿﻌﺔ واﻟﻘﺒﯿﺤﺔ اﻟﺘﻲ ﺟﺴﺪھﺎ ﺧﯿﺎل اﻟﺒﺸﺮ ﻓﻲ ﺷﺨﺼﯿﺔ واﺣﺪة ھﻲ اﻟﺸﯿﻄﺎن. وﻋﻠﻰ ﻣﺮ اﻟﻌﺼﻮر أﺿﻔﺖ ﻣﺨﯿﻠﺔ اﻻﻧﺴﺎن ﻗﻮى ﻛﺒﯿﺮة، وﻗﺪرات ﻋﻈﯿﻤﺔ ﻋﻠﻰ إﺑﻠﯿﺲ: ﻣﻨﮭﺎ اﻟﻄﺎﻗﺎت اﻟﻔﻜﺮﯾﺔ اﻟﺨﻼﻗﺔ، واﻟﻘﻮى اﻟﻔﻨﯿﺔ اﻟﻤﺒﺪﻋﺔ، وﻣﻨﮭﺎ اﻟﻘﺪرة ﻋﻠﻰ

Upload: ibookletarabic

Post on 16-Aug-2015

120 views

Category:

Documents


20 download

TRANSCRIPT

Page 1: مأساة ابليس

"مأساة إبليس"

صادق جالل العظم

“I am the spirit that ever denies” لغوتھ "فاوست"

القسم األول

تمھید

التي عبرت بھا األدیان السامیة الثالثة عن عالقة لو حاولنا أن نحدد المشاعر الرئیسیة محبة هللا، والخوف من : تنحصر في المحبة والخوف والكراھیة االنسان باإللھ لوجدنا أنھا

عالج المفكرون الدینیون ھذه المشاعر وأفردوا لھا . إبلیس تھ وعقابھ، وكره عدوهجبرولمعرفة " الجدیة"أقوالھم عن إبلیس تتراوح بین المحاوالت الصفحات والكتب، وكانت

نظام الكون وتحدید عالقتھ باإللھ، واستقصاء الغایة التي وجد من المكانة التي یحتلھا فيتفاضة في شرح تلبیسھ على البشر وتلقینھم التعالیم والتعاویذ االس أجلھا، وبین مجرد

ال شك أن كل واحد منا یحمل في مخیلتھ صورة معینة عن . إبعاده، واتقاء شره المعروفة بغیة وال أجدني مضطرا. إبلیس ورثھا كجزء ال یتجزأ من ثقافتھ التقلیدیة وتربیتھ الدینیة شخصیة

كان . الجمیع ذه الصورة إلى األذھان، ألنھا معروفة جیدا لدىألن أسترسل طویال في إعادة ھاألعلى، إلى أن عصى إبلیس من المقربین بین المالئكة وكان لھ شأن عظیم في نظام المأل

لكل ما ھو شر، وجمع في أمر ربھ فطرده من الجنة، ولعنھ لعنة أبدیة، فأصبح بذلك تجسیدایدل على جوھره وھو ونالحظ ھنا أن اسمھ. ذاتھ كافة الخصائص التي تنتفي عن هللا

وفقا للتفسیرات اإلسالمیة ) ، أي الیأس التام من رحمة ربھ، ومن العودة إلى الجنة"اإلبالس"یضرب بأمل إبلیس في الجنة، داللة ومن منا ال یعرف المثل الذي). التقلیدیة لمعنى اإلبالس

عند الجمیع على الدس والفتنة والوسوسة "سإبلی"تدل كلمة . على األمل الضائع كل الضیاعالشنیعة والقبیحة التي جسدھا خیال البشر في واالفساد والعصیان، وما إلیھ من الصفات

أضفت مخیلة االنسان قوى كبیرة، وقدرات وعلى مر العصور. شخصیة واحدة ھي الشیطان المبدعة، ومنھا القدرة على الخالقة، والقوى الفنیة منھا الطاقات الفكریة: عظیمة على إبلیس

Page 2: مأساة ابليس

األفعال، حتى أصبح إبلیس یلي اإللھ مباشرة من حیث قوتھ القیام بخوارق األعمال، وعجائبأحاط فیھ ) . 2"(تلبیس إبلیس"جمال الدین بن الجوزي كتابا سماه وقد ألف اإلمام. ومنجزاتھ

، والطریف في ھذا بھا إبلیس على البشر فیبعدھم عن طریق الصالح بالطرق التي یلبسلنا الصورة التقلیدیة الشائعة لشخصیة إبلیس فحسب، وإنما یسبغ علیھ، الكتاب أنھ ال یرسم

وعلى سبیل المثال . وال یدري، قوى خالقة مبدعة تثیر االعجاب والتقدیر من حیث ال یعلمحضارة الجوزي معظم الحركات الدینیة والفكریة الكبرى التي قامت في تاریخ ال یعزو ابنإلى عمل إبلیس، ویجعلھ مسؤوال عنھا، فیحولھ بذلك إلى فیلسوف كبیر، ومتكلم اإلسالمیة

یقول إمامنا المحترم أن السفسطائیة، والدھریة، والطبائعیة، وأدیان الشرق األقصى، .قدیر والمسیحیة، وعلم الكالم، وفرقة المعتزلة ھي من أعمال إبلیس، ونتیجة لتلبیسھ على

تلبیسھ كما أنھ یرد حركة الخوارج والرافضة والزھد والتصوف إلى) . 3(ن والعلماءالمفكریعن بعض ویقول). 4(على ائمة ھؤالء القوم، بما فیھم، أبي طالب المكي، واإلمام الغزالي

جوف إن أرسطو طالیس وأصحابھ، زعموا أن األرض كوكب في:"اآلراء الفلسفیة ما یليب عوالم كما في ھذه األرض، وأنھارا، وأشجاراھذا الفلك، وأن في كل كوك فانظر إلى ما ...

تلبیس إبلیس على كما أنھ یقول عن). 5"(زینھ إبلیس لھؤالء الحمقى مع ادعائھم كمال العقلواللغة من المھمات قد لبس على جمھورھم، فشغلھم بعلوم النحو:"أھل اللغة واألدب ما یلي

وما ھو أولى بھم عرفة ما یلزمھم عرفانھ من العبادات،الالزمة التي ھي فرض عین عن م .(6"(من آداب النفوس وصالح القلوب

الشائعة عن مقدرة إبلیس ال تنحصر في مجرد اعتباره مصدر إغواء نستنتج إذن، أن الفكرة

القویم، بل تتعدى ذلك لتشمل قوى واسعة، وقدرات عظیمة لو الناس عن سلوك الطریقلنا أن إبلیس یسیر قسما كبیرا من مجرى األحداث، ویعتبر مسؤوال لجد، لظھرأخذناھا بعین ا

.الفكریة والفنیة والسیاسیة في تاریخ الحضارة عن معظم الحركات

للصورة التقلیدیة الشائعة عن إبلیس، وسلطانھ، أرید أن أبین أن بعد ھذه المراجعة السریعةة إبلیس، ودراسة شخصیتھ وموقفھ، ومسؤولیتھ إعادة النظر في قص ھدف ھذه الدراسة ھو

یختلف عما ألفناه من عقائد وأفكار سیطرت على تصورنا لھذا ومصیره على ضوء جدیداألولیة التي سأعتمد علیھا فھي اآلیات القرآنیة التي تروي لنا قصة أما المراجع. المخلوق

لمون الذین اھتموا بإبلیس وبعض المؤلفات التي تركھا لنا المفكرون المس إبلیس وسیرتھ .وعصیانھ، ووظیفتھ، ونھایتھ وشخصیتھ،

للجمیع أن بحثي یدور في إطار ولكن قبل أن أدخل في صلب الموضوع، أرید أن یتضح

الدیني –التفكیر المیثیولوجي معین، ال یجوز االبتعاد عنھ على االطالق، أال وھو إطارإنني ال أرید معالجة قصة إبلیس .ھ الخرافیةالناتج عن خیال االنسان االسطوري وملكات

الصرف، وال أرید أن أتكلم عنھ باعتبارھا موضوعا یدخل ضمن نطاق االیمان الدینيباعتباره كائنا موجودا وحقیقیا، وإنما أرید دراسة شخصیتھ باعتبارھا شخصیة میثیولوجیة،

عند التفكیر بموضوع . الخصبخیالھ أبدعتھا ملكة االنسان الخرافیة، وطورھا وضخمھاإبلیس، أجد نفسي واقفا وجھا لوجھ أمام تراث . دیني عریق في قدمھ وتاریخھ–میثیولوجي

الرئیسیة التي انحدرت إلینا مع ھذا وجل ما أرید تحقیقھ ھو دراسة إحدى الشخصیات

Page 3: مأساة ابليس

ن أن نخرج للتفكیر المیثیولوجي وبدو التراث، شرط أن نبقى ضمن حدود المعطیات البدیھیة .عن مسلماتھ األولیة

ألفت االنتباه إلى أن الفكرة المسبقة والشائعة عن االسطورة، وعن ومن ھنا، یجدر بي أن

قلیال عن حقیقة الدور الذي تلعبھ األساطیر في حیاة االنسان، وفي تركیب أھمیتھا بعیدة، لنحط من شأنھ "لخرافاتاألساطیر وا"اعتدنا أن نقول عن أمر ما أنھ من باب لقد. حضارتھ

أذھان الناس عنھ، ولننفي عنھ صفات الواقعیة، والموضوعیة، ولنبین أنھ مجرد وھم ونبعد لذلك أرى أنھ ال بد من االستطراد ولو قلیال في شرح بعض الحقائق الھامة عن. وخیال

.والمجتمع طبیعة االسطورة، وعن أھمیة التفكیر المیثیولوجي بالنسبة لالنسان

حیوانا ناطقا، فال شك كذلك ، وإذا كان االنسان"حیوان ناطق"عرف الفالسفة االنسان بأنھ یتصف بالنطق، فإنھ الحیوان الوحید فكما أنھ الحیوان الوحید الذي". حیوان خرافي"بأنھ

میثیولوجیات معقدة، یؤمن بھا إیمانا جازما، الذي ینسج الخرافات واألساطیر ویحولھا إلى التفكیر االسطوري إذن صفة جوھریة من صفات . لو كانت حقائق واقعة ال ریب فیھاكما

لذلك وجھ الكثیرون من . بالمعنى الواسع للعبارة االنسان، ووجھ ھام من أوجھ نشاطھ العقلياالنسان الخرافي، لما یكشفھ من الحقائق األساسیة عن الباحثین اھتمامھم إلى دراسة نشاط

وعلى سبیل المثال عندما أتكلم في ھذا . وثقافاتھ وحضاراتھ معاتھ وقدراتھاالنسان وعن مجتال بد أنكم ترجعون في أذھانكم إلى االرتباط العضوي القدیم بین ،"مأساة إبلیس"البحث عن

كما أن . جھة، وبین المیثیولوجیا والتفكیر األسطوري من جھة أخرى المأساة والدراما منخصیة االسطوریة التي درجنا على تسمیتھا بإبلیس ستتفتق عن أبعاد الش إعادة النظر في ھذه

وقد بذل الباحثون جھودا كبیرة لشرح العالقات. بالنسبة للدین، والفن والفلسفة ونتائج ھامةألیة والفنیة والفلسفیة واالرتباطات العضویة بین التفكیر األسطوري وبین االبعاد الدینیة

وال تزال المیثیولوجیا بحد ذاتھا كانت. ى التي یواجھھا االنسانمعضلة من المعضالت الكبراألطراف واألبعاد على دینا بالقوة وفلسفة بالقوة، ألنھا تحتوي في قالبھا المرن غیر المحدد

التعبیر الفني الخالقة عناصر المواساة والتعزیة الضروریة لكل دین، وعلى خصائصنحو تعلیل األحداث وتفسیر ي تحیط باالنسان، وعلى نزعةواالستجابة الجمالیة للمؤثرات الت

األسطورة وال تزال الوسط باالضافة إلى ذلك، كانت. الوجود والتساؤل عن أصلھ وغایتھوالمصیر، والشر، وأصل األسیاء الذي واجھ االنسان فیھ مشكالتھ الكبرى والدائمة كالموت،

دوما قوة حضاریة خالقة یغرف منھا وجي یشكللذلك كان التفكیر المیثیول. وغایتھا ومعناھا وزیادة في اإلیضاح سأستشھد بنص . باستمرار الفكر الدیني والتأمل الفلسفي والتعبیر الفني

یعتبر من الرواد الذین درسوا طبیعة كتبھ الفیلسوف اإللماني إرنست كاسیرر الذيعقلیة، والروحیة، والفنیة عند النشاط ال األسطورة، وبینوا عالقتھا الجوھریة بباقي أوجھ

األسطورة، وھو العالم الذي حصرت نفسي فیھ في یقول كاسیرر في تحدیده لعالم. االنسان :ھذا البحث، ما یلي

عالم أعمال وقدرات وقوى متصارعة، واألسطورة ترى –األسطورة، عالم درامي فعالم" واالدراك األسطوري مفعم. یعةاالصطدام بین تلك القوى في كل ظاھرة من ظواھر الطب ھذا

جو من الفرح أو–دائما بھذه الخصائص العاطفیة، فكل ما یرى أو یحس محاط بجو خاص عن في حال األسطورة ال نستطیع أن نتحدث. الحزن أو العذاب أو الھیاج واالستبشار والغم

Page 4: مأساة ابليس

مألوف أو عدو،باعتبارھا مادة میتةأو ھامدة، فكل شئ ثمة خیر أو شریر، صدیق" األشیاء" .(7"(أو غریب، جذاب معجب أو منفر متوعد

بحثي بالتأكید على أن كالمي عن هللا وإبلیس والجن سأختتم ھذا الجزء التمھیدي من

یلزمني على االطالق بالقول بأن ھذه األسماء تشیر إلى مسمیات والمالئكة، والمأل األعلى الب اللغة یتطلب مني بطبیعة الحال أن أكتب وأتكلم إن تركی. غیر مرئیة حقیقیة موجودة ولكنھا

توحي في الظاھر وكأن الشخصیات التي أذكرھا موجودة بالفعل، ولكن یجب بطریقة معینةالوھم اللغوي، فلو كنت أكتب عن األمیر ھملت مثال فلن یعتقد أحد منكم بأن أال یخدعنا ھذا

كما أنھ عندما نقول . ركھ لنا شكسبیراالسم مسمى خارج نطاق التراث األدبي الذي ت لھذا كذلك. ، فإننا ال نعتقد بأن مثل ھذه الحادثة وقعت فعال في تاریخ الدانمرك"ھملت عمھ قتل"

تاریخ ، یجب أال نظن بأن مثل ھذه الحادثة وقعت في"طرد هللا إبلیس من الجنة"عندما نقول مزا ال في كونھ وصفاھذا الكون، ألن مغزى ھذا الكالم ومعناه یكمن في كونھ ر إلحداث

.وقعت بالفعل

القسم الثاني

قلنا أننا سنعتمدھا في دراستنا لقصة إبلیس نجد أن سیرتھ تبدأ إذا رجعنا إلى المصادر التيفي نظام المأل األعلى وعرض للمنزلة الرفیعة التي كان یتمتع بھا بوصف لمكانتھ المرموقة

، "تفلیس إبلیس"یقول اإلمام عز الدین المقدسي في كتابھ . ةطرده من الجن بین المالئكة قبل :الشیطان مخاطبا

إلى حضرة قربتھ، وأنت الذي خلقك هللا بید قدرتھ، وأطلعك على بدائع صنعتھ، ودعاك"

مجال مالئكتھ، وألبسك خلع توحیده، وتوجك بتاج تقدیسھ وتحمیده، وجعلك تجول فيفما برحت في ضورك، ویھتدون بعلمك، ویقتدون بعملك،یقتبسون من نورك، ویستأنسون بح

للمالئكة معلما المأل األعلى، تشرب بالكأس األملى، وتتلذذ بالخطاب األحلى، طالما كنت .(8"(وعلى الكروبیین مقدما

ماذا حدث إلبلیس وكیف عصى ربھ فلعنھ إلى یوم الدین، ومن ثم تصف لنا اآلیات القرآنیة

وإذ قال(: وطرده من الجنة ربك للمالئكة إني جاعل في األرض خلیفة قالوا أتجعل فیھا من یفسد فیھا ویسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما ال تعلمون وعلم آدم

األسم اء كلھا ثم عرضھم على المالئكة فقال أنبئوني بأسماء ھـؤالء إن كنتم صادقین قالوا سبحانك ال علم لنا إال ما علمتنا إنك أنت العلیم الحكیم قال یا آدم أنبئھم بأسمآئھم ف لما أنبأھم

بأسمآئھم قال ألم أقل لكم إني أعلم غیب السماوات واألرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون وإذ قلنا للمالئكة اسجدوا آلدم فسجدوا إال إبلیس أبى واستكب ر وكان من الكافرین البقرة –)

:30-34. وإذ قال ربك للمالئكة إني) خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون فإذا سویتھ* ونفخت فیھ

وحي فقعوا لھ ساجدین من ر فسجد المآلئكة* كلھ م أجمعون إال إبلیس أبى أن یكون مع *

Page 5: مأساة ابليس

الساجدین قال یا إبلیس ما لك أال تكون مع الساجدین* قال لم أكن* ألسجد لبشر خلقتھ من صلصال من حمإ مسنون قال* فاخرج منھا فإنك رجیم وإن علیك اللعنة إلى یوم* الدین قال *

رب فأنظرني إلى یوم یبعثون قال فإنك من* المنظرین إلى یوم الوقت المعلوم * قال رب بمآ* أغویتني ألزینن لھم في األرض وألغوی نھم أجمعین إال عبادك منھم المخلصین* : الحجر–)

28-40 ولقد مكناكم في األرض وجعلنا لكم فیھا) معایش قلیال ما تشكرون ولقد خلقناكم ثم*

صورناكم ثم قلنا للمآلئكة اسج دوا آلدم فسجدوا إال إبلیس لم یكن من الساجدین قال ما * منعك أال تسجد إذ أمرتك قال أنا خیر منھ خلقتني من نار وخلقتھ من طین قال فاھبط منھا *

فما یكون لك أن تتك بر فیھا اغرین فاخرج إنك من الص قال فأنظرني إلى یوم* یبعثون قال * إنك من المنظرین قال فبما أغویتني* ألقعدن لھم صراطك المستقیم ثم آلتینھم من بین*

أیدیھم ومن خلفھم وعن أیمانھم وعن شمآئلھم وال تجد أكثرھم شاكرین قال اخرج منھا * مذؤوما مدحورا لمن تبعك منھم ألمألن جھنم منكم أجمعین 17 -10: األعراف)

یقع ساجدا ت، بسیطة في ظاھرھا، لقد أمره هللا أنتبدو قصة إبلیس، كما وردت في ھذه اآلیاالسطحیة إلى آلدم فرفض وكان ما كان من شأنھ، غیر أنھ لو أردنا أن نتجاوز ھذه النظرة

بین األمر االلھي مشكلة إبلیس لرجعنا إلى فكرة ھامة قال بھا بعض المسلمین وھي التمییزیطاع وینفذ، وإما أن یعصى، عة الحال، إما أنوبین المشیئة، أو اإلرادة اإللھیة، فاألمر بطبی

علیھا مثل ھذه االعتبارات ألنھا أما المشیئة اإللھیة فال تنطبق. وللمأمور الخیار في ذلكلقد شاء هللا وجود أشیاء . واقع بالضرورة بطبیعتھا ال ترد، وكل ما تتعلق بھ المشیئة اإللھیة

أمرھم بأشیاء ولكنھ أرادھم أن یحققوا أشیاء ھكثیرة غیر أنھ أمر عباده باالبتعاد كما أنهللا أمر إبلیس بالسجود آلدم، ولكنھ شاء لھ أن یعصي لذلك باستطاعتنا القول بأن.)9(أخرى

یقع ساجدا لوقع ساجدا لتوه، إذ ال حول وال قوة للعبد على رد األمر، ولو شاء هللا إلبلیس أن من ھذه الزاویة بامكاننا أن نعتبر األمر والنھي أشیاء نظرنا إل األمور إذا. المشیئة اإللھیة

.إذا قیست بسرمدیة المشیئة الربانیة، وقدم الذات اإللھیة طارئة وعرضیة

في اآلیات القرآنیة التي أثبتھا في الصفحات السابقة یتبین لنا أن هللا أراد عندما نعید النظر التسبیح" الطبري في تفسیره الشھر أن ، ویقول"أن یسبحوا بحمده ویقدسوا لھ"للمالئكة وبعبارة (10(ھما توحید هللا وتنزیھھ، وتبرئتھ مما یضیفھ إلیھ أھل الشرك بھ" والتقدیس

منغمسین في أخرى یشكل التوحید واجب المالئكة األول والمطلق نحو خالقھم، ولذلك نراھمفتعتبر عرضیة المأل األعلىأدائھ بكل كیانھم ووجودھم، أما بقیة الواجبات المفروضة على .نفسھا وثانویة بالنسبة للواجب المطلق الذي ینبع من المشیئة ا؟إللھیة

الجزئیة ألوامر الرب بعد أن بینا الفارق بین الواجب المطلق نحو هللا، وبین واجبات الطاعة

:بامكاننا أن نمیز األمور التالیة في جحود إبلیس اإللھي عندما رفض السجود آلدم، غیر أنھ كان منسجما كلأن إبلیس خالف األمر ال شك -1

.االنسجام مع المشیئة اإللھیة، ومع واجبھ المطلق نحو ربھ. آلدم لخرج عن حقیقة وجوده وعصى واجبھ المطلق نحو معبوده لو وقع إبلیس ساجدا -2

وعا في ما یضیفھ یقدسوه وأن یسبحوا باسمھ، لذلك كان السجود آلدم وق أراد هللا للمالئكة أنالذات الصمدیة مما ھي منزھة عنھ، إذ أن السجود لغیر هللا ال یجوز على أھل الشرك إلى

Page 6: مأساة ابليس

في الواقع یثیر اختیار إبلیس سؤاال ھاما جدا ھو. شرك بھ االطالق ألنھ ھل تكمن الطاعة: للواجب اعالحقیقیة في االذعان لألمر أم في الخضوع للمشیئة؟ ھل یكمن الصالح في االنصی

وواضحا لما المطلق أم لواجبات الطاعة الجزئیة؟ لو كان الجواب على ھذا السؤال بسیطاولما وقع بین براثن وجدت المأساة في حیاة االنسان، ولما وجد إبلیس نفسھ في ھذه المحنة،

على التوحید في أصفى األمر والمشیئة، نستنتج إذن أن موقف إبلیس یمثل اإلصرار المطلقلألحد ال یذل في الوجود جبین سجد:"معانیھ، وأنقى تجلیاتھ، وكأن لسان حال إبلیس یقول

بالكلمات " الطواسین"كتاب وعبر شھید الصوفیة الحالج عن ھذه الحقیقة في). 11"(ألحدموسى عم وإبلیس على عقبة الطور ، فقال لھ: "التالیة ما منعك عن السجود؟! یا إبلیس " "–

بمعبود واحد ، ولو ل منعنى الدعوىفقا سجدت لھ ، لكنت مثلك ، فأنك نودیت مرة واحدة انظر ، إلى الجبل" فنظرت ، ونودیت أنا ألف مرة أن اسجد فما سجدت لدعواى "

.(12"(بمعناىبرر إبلیس رفضھ السجود آلدم تبریرا منطقیا واضحا، إذ ق -3 أنا خیر منھ خلقتني من ) :ال

نار وخلقتھ من طین إلى ذلك تتضمن اآلیات القرآنیة التي أشرت إلیھا تبریرا وباالضافة). معرفتھ المسبقة بأن آدم وذریتھ سیعیثون في األرض فسادا ویسفكون خفیا لرفض إبلیس وھو

قالوا أتجعل فیھا من: (عین، عندما قالوا لربھمشعور المالئكة أجم الدماء، وكان ھذا یفسد فیھا ویسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك أي كانت المالئكة، بما فیھم إبلیس، على علم ).

من الكبائر والمعاصي، فاستكبرت واستعظمت أن یخلق هللا بما سیرتكبھ آدم وذریتھ من .الدماء یعصیھ ویسفك

، وبین )النار(جوھره عند إمعان النظر بحجة إبلیس األولى، التي تتألف من مفاضلتھ بین

، نجد أنھا لم تكن استكبارا وفخارا بقدر)الصلصال(جوھر آدم ما كانت استذكارا لحقیقة لم یخلق الطبائع على ھي أن هللا وھذه الحقیقة. أساسیة شاءھا هللا وأوجدھا على ما ھي علیھ

من حیث خصائصھا الطبیعیة والمادیة درجة واحدة من السمو والكمال وإنما میز بینھا، لیسوبناء علیھ ففي إمكاننا أن نصنف .فحسب، بل من حیث درجات كمالھا ورفعتھا أیضا

ألنواع بالكمال المطلق ذاتھ، ثم یتدرج با الكائنات واألنواع في نظام تقدیري معین، یبدأعلیھ إلى أن نقترب من العدم باعتباره الحد ھبوطا كل حسب درجة كمالھ التي أسبغھا هللا

بطبیعتھا وجوھرھا تحتل مرتبة أسمى وأرفع في ھذا وال ریب أن النار. الذي نقف عندهبعبارة أخرى تنطوي مفاضلة إبلیس بین جوھره . الصلصال الترتیب من المرتبة التي یحتلھا

معینة لنظام الكون وترتیب الطبائع وفقا لدرجات الكمال ھر آدم على نظرة فلسفیةوبین جوإبلیس على حق في جوابھ، ألن الخالق جعل األشیاء على ما ھي لذلك كان. التي تتصف بھا

والسمو، وأمر السجود آلدم یشكل مخالفة صریحة لھذا النظام، علیھ من درجات الكمالفإذا كان جوھر إبلیس أرفع في سلم الكماالت . شاءه هللا وأوجده يوخروجا على الترتیب الذ

تستطیع النار عندئذ أن تذل للصلصال إال بالسیر في اتجاه مضاد لطبیعتھا من جوھر آدم فلنالكمال التي أسبغھا هللا علیھا، وھذا أمر محال ما لم یطرأ تحول جذري على ومناف لدرجة

لقد أمر هللا إبلیس. لطبائع عما كانت علیھ منذ أن أوجدھا هللاأللھیة فتغیر ترتیب ا المشیئة بشئ، وشاء لھ تحقیق شئ آخر، لذلك سنرى فیما بعد أن أمر السجود لم یكن أمر مشیئة،

بعد ومن الطریف أن نالحظ بھذا الصدد أن التحول الذي لحق بإبلیس. وإنما كان أمر ابتالء جرى على صفاتھ، وأحوالھ، فتشوھت صورتھ،طرده من الجنة، لم یمس جوھره، وإنما

Page 7: مأساة ابليس

وأصبح لعینا رجیما مر عبر الحالج بطریقتھ الخاصة عن ھذه الحقیقة في المحاورة التي. والتشویھ الذي ذكرھا بین موسى وإبلیس، حیث یبین إبلیس لكلیم هللا أن التغیر الذي أصابھ

الدائم، ومعرفتھ الثابتة مسا جوھرهنزل بھ كانا في األحوال الظاھرة والزائلة فحسب، ولم یفقال لھ:" ألحكام المشیئة اإللھیة، قال موسى إلبلیس تركت األمر؟" كان ذلك ابتالء "فقال "

ال أمرا الجرم قد" فقال لھ –" غیر صورتك ، والحال ال "قال لھ –" یا موسى ذا وذا تلبیس معول علیھ فإنھ یحول ، لكن المعرفة صحیحة كما كانت، وما تغیرت ، وإن الشخص قد تغیر

)."13). فكانت تستند إلى علم المالئكة بأن أما الحجة الثانیة التي برر بھا إبلیس رفضھ السجود آلدم

فكیف یسجد من كان غارقا في التوحید آدم وذریتھ سیفسدون في األرض ویسفكون الدماء،الكروبیین لمخلوق سیفسد في األرض بیح والتقدیس ومن كان أمام المالئكة وخطیبوالتس

:بقولھ ویسفك الدماء؟ یلخص الحالج ھذه الناحیة من الموضوع

محب ،"قال ! " التسجد؟ یا أیھا المھین: "قال هللا إلبلیس مھین ، إنك تقول والمحب " مھین"، وأنا قرأت فى كتاب مبین یا ذا القوة المتین ، كیف أذل لھ وقد خلقتني من نار ، ما یجر علي

وخلقتھ من طین، وھما ضدان الیتوافقان ، وإني فى الخدمة أقدم، وفى الفضل أعظم، وفى العلم أعلم ، وفى العمر أتم )"14).

دت في اآلیات القرآنیة التي ذكرناھا لیست بالبساطة إبلیس كما ور نستخلص إذن أن قصة

وقع إبلیس . إنھا لیست قصة الصراع بین الخیر والشر ، والحق والباطل التي كنا نتخیلھا،رحى المشیئة من ناحیة، ورحى األمر من ناحیة أخرى، فكان علیھ أن بین شقي الرحى،

س والتوحید والتسبیح، وبین واجبات مصیریا بین واجبھ المطلق في التقدی یختار اختیارا .والمأساویة الجزئیة التي أمره بھا هللا، فجاءت محنتھ مفعمة بالعناصر الدرامیة الطاعة

إبلیس، أجدني مضطرا قبل أن أستمر في استخالص النتائج المترتبة على ھذا التصور لمحنة

دعوى العقاد في محاولة خصتتل". إبلیس"للرد على الدعوى التي قال بھا العقاد في كتابھ واعتباره مجرى كائن عصى أمر للدفاع عن النظرة التقلیدیة السطحیة إلى شخصیة إبلیس

إبلیس، ویقول بوجوب سجوده لذلك یرفض العقاد االعتراف بمحنة. ربھ فطرده من الجنة :حجتین وعند تمحیص ھذا الرأي نجد أنھ یستند إلى. آلدموالشر بینما ود آلدم ألنھ خیر منھم فھو قادر على فعل الخیروجب على المالئكة السج -1

.(15(بھ المالئكة قادرة على فعل الخیر فقط، وھي بمنجاة من غوایة الشر وال توصفمما جعلھ أسمى حق السجود آلدم، ألن هللا علمھ األسماء كلھا، ولم یعلمھا للمالئكة، -2

. (16(مرتبة منھا

. على حدةوسأرد على ھاتین الحجتین تبرھن قصة إبلیس أنھ حتى سادة المالئكة والمقربین منھم لیسوا بمنجاة من غوایة الشر، -*أ

نستنتج إذن، أن المالئكة عرضة للخیر. وإال لما عصى إبلیس ربھ وانتھى إلى بئس المصیر والشر وھي كاالنسان، مطالبة بالخیرات وممتحنة بالشرور، مما ینفي فضل آدم على

.كة، وبالتالي یلغي ضرورة السجود لھالمالئ

Page 8: مأساة ابليس

المالئكة لیست عرضة للخیر والشر، وإنما ھي تفعل لو افترضنا جدال مع العقاد أن-*بیعني ذلك أن آدم أفضل منھا؟ لنطرح السؤال بصیغة الخیر دائما بطبیعتھا وجوھرھا، فھل

نع الشر أحیانا أخرى فتفسد التي تصنع الخیر أحیانا، وتص أیھما أفضل، الكائنات: أعم وأشملالكائنات التي ال تصنع إال الخیر بصورة مستمرة ودائمة؟ في األرض وتسفك الدماء، أم

السؤال واضح كل الوضوح، وال یتطلب مزیدا من النقاش، بدلیل أعتقد أن الجواب على ھذا التي تصنع الخیر لإلرادة الفاضلة في أسمى مراتبھا یقول بأنھا االرادة أن تصورنا األخالقي

أما االرادة . وبدون أي عناء أو جھد، ألن صنع الخیر أصبح من جوھرھا ومعدنھا باستمرارفھي ال تزال تصارع وتجاھد للتغلب على غوایة الشر لھا، محاولة بذلك االقتراب الناقصة

بمنجاة عقاد،وإذا كانت المالئكة، وفقا لدعوى ال. االرادة الفاضلة باعتبارھا مثلھا األعلى منبدرجات من عن غوایة الشر، فال شك أن هللا أنعم علیھا بإرادة فاضلة تجعلھا أسمى وأرفع

إني جاعل في األرض: (عندما قال هللا للمالئكة. آدم وذریتھ خلیفة ، استكبرت المالئكة األمر )أتجعل فیھا من(واستعظمتھ بدلیل جوابھا یفسد فیھا ویسفك الدماء فھل یرید العقاد أن یجعل ).

اإلفساد وسفك الدماء مصدرا لسموه على المالئكة؟ من قدرة آدم على

حجة العقاد الثانیة، التي تدعي بأن سجود المالئكة حق آلدم، ألن هللا ننتقل اآلن إلى الرد على ق أن سمو إبلیس على آدم كان سموابینا في الساب. كلھا، ولم یعلمھا للمالئكة علمھ األسماء

علمھ بالطبیعة والجوھر، ولیس سموا في األحوال العارضة الزائلة كالتي اكتسبھا آدم عندماخصائصھ بعبارة أخرى، ال یؤلف علم آدم باألسماء كلھا خاصة من. هللا األسماء كلھا

. شاء هللا ذلك ماء كلھا لوالجوھریة الممیزة، وال شك أنھ كان باستطاعة المالئكة تعلم األسنرى إذن أن علم آدم باألسماء كلھا كان علما طارئا أنعم هللا علیھ بھ لیغري المالئكة على

.السجود

:نستخلص مما وردالمالئكة، بما فیھم إبلیس، ال من حیث قدرتھ على صنع الخیر أن ال فضل آلدم على -1

.باألسماء كلھا والشر، وال من حیث علمھوخلق آدم من أن جوھر إبلیس أفضل وأسمى من جوھر آدم، ألن هللا خلقھ من نار، -2

.صلصال، وھو الذي أراد للصلصال أال یسمو سمو النارالعقاد القائلة بأنھ كان یجب على إبلیس أن یسجد آلدم، ألنھ أفضل من المالئكة أن دعوى -3

.فاسدة ومردودة دعوى

القسم الثالث

عبر الحالج عن محنة إبلیس محنة إبلیس الناتجة عن تناقض األمر والمشیئة،لنعد اآلن إلى :بإیجاز رائع بقولھ

أرفع شرف السجود عن سري إال لك حتى :"خاطب الحق ،"أسجد آلدم"لما قیل إلبلیس " .(17"(نھیتني أسجد لھ؟ إن كنت أمرتني قد

فإني : "بالكلمات التالیة اإللھیةوحدد اإلمام المقدسي طبیعة التناقض بین األمر واإلرادة

Page 9: مأساة ابليس

األمر، ومراكز اإلرادة، وبینھما تدور على خط: نظرت بعین الیقین دائرة الشقاوة والسعادةفاآلمر یھب واإلرادة تنھب، . للتوفیق تدقیق یدق عن التحقیق، ومضیق یفتقر سالكھ إلى رفیق

.(18"(تقول ال تفعلإفعل واإلرادة اآلمر یقول. فما وھبھ اآلمر، نھبتھ اإلرادة

أھمیة العناصر الدرامیة والمأساویة التي تنطوي یبدو أن اإلمام المقدسي أدرك الكثیر عنعلى عنصر التناقض الذي واجھھ إبلیس، وعلى عجزه لذلك نراه یشدد. علیھا محنة إبلیس

عن أن یجد مخرجا الئقا لنفسھ، مما تیارا مصیریا جعل االختیار الذي كان علیھ أن یقوم بھ اخ أو سعادتھ األبدیة، فإما أن یخضع لمتطلبات المشیئة وینسجم مع تتوقف علیھ شقاوتھ األبدیة

نھایة المطاف، وإما أن ینزلق في اإلذعان لألمر والخضوع واجبھ المطلق فیسعد فيأي أن أمر السجود وضع . فیفشل في االمتحان ویشقى إلى األبد لواجبات الطاعة الجزئیة

اآلمر "، و"اآلمر یھب، واإلرادة تنھب"وسعادتھ األبدیة في المیزان ألن ان إبلیس وحیاتھكی باالضافة إلى ذلك تبین الفقرة التي استشھدنا بھا من كتاب". واإلرادة تقول ال تفعل یقول إفعل

اإلمام المقدسي أن الذین یقعون في مثل ھذه المحنة ال یرون طریقھم واضحة ناصعة والتدقیقا یدق بینھما"لھم أن یمیزوا بسھولة بین االختیار الصائب واالختیار الفاسد، ألن یتاح

وحدة تامة ال كما أن الذین یتورطون في مثل ھذا المأزق یجدون أنفسھم في". عن التحقیقیتحملوا نتائج ینفعھم فیھا ال نصح صدیق، وال معونة رفیق، علیھم أن یختاروا وحدھم وأن

إلى رفیق مضیق یفتقر سالكھ"ن الطریق التي كتب علیھم أن یسلكوھا اختیارھم، أل .، على حد قول اإلمام المقدسي"للتوفیق

سأحاول أن أحدد عناصر المأساة في محنة إبلیس، وأن أبرز نواحیھا في الصفحات التالیةسیین لذلك سأعتمد مرجعین رئی. یسمح بھ الموضوع من الدقة والوضوح المتعددة، بقدر ما

من التراث األدبي الیوناني الغربي، وقصة النبي إبراھیم من التراث مسرح سوفوكلیس: ھماأمر إبراھیم . وال حاجة لي أن أطیل الكالم في إعادة قصة إبراھیم إلى أذھانكم الدیني السامي،

برھةوھنا أقف ). 19)(بذبح عظیم(ولما ھم بذلك فداه هللا ) أو إسماعیل(ولده إسحاق أن یذبح ألبین" الخوف والقشعریرة"ألشیر إلى دراسة كیركجورد الشھیرة لقصة إبراھیم في كتابھ

ال لكن ھذا. أني اعتمدت في ھذا القسم من بحثي الخطوط العریضة لتأویلھ لتجربة إبراھیم یمنع وجود بعض الخالفات األساسیة بین اآلراء التي سأوردھا حول ھذا الموضوع وبین

. الخاصة إلى شخصیة إبراھیمنظرة كیركجور

تحتوي على إمكانات مأساویة عنیفة، وتتضمن كثیرا من مما ال ریب فیھ أن قصة إبراھیمولكنھ ال یحق لنا، في أیة حال من األحوال، أن نعتبرھا مأساة المقومات الرئیسیة للتراجیدیا،

الشعور الذي تخلفھ فینا قصة ف. نھایة سعیدة متفائلة یرتاح لھا الجمیع حقیقیة، ألنھا تنتھياختالفا تاما ونوعیا عن الشعور الذي تخلفھ فینا قصة الملك أودیب إبراھیم یختلف

.(20.(مثال

إلیھا االنتباه واحدة تلو توجد اعتبارات عدیدة تجعل من محنة إبلیس مأساة حقیقة، وسأوجھ :األخرى

Page 10: مأساة ابليس

ى والھزات العنیفة التي تقلب األوضاع الكبر كثیرا ما تقع الماساة في ساعة األزمات -1وتھز القیم المسیطرة فیشعر الذین یمرون بالتجربة السائدة وتزلزل أركان األنظمة القائمة

المألوف قد وضعتا موضع التساؤل، وأن العالم الذي یحیط بان كیانھم السابق ونمط وجودھمأنعم هللا على إبراھیم . ألخالقیةبمقوماتھ المادیة والروحیة وا بھم أصبح على وشك االنھیار

، أمر "یا بني إني أرى في المنام اني أذبحك"، قال لھ "بلغ معھ السعي فلما" "بغالم حلیم"ولده، تقدمة منھ إلى هللا، فقلب ھذا المر المعاییر والمقاییس، وصدع القیم، إبراھیم بذبح

یقتل ولده أشنع قتلة عن المالمح وخلط القسمات إذ على األب الرحوم العطوف أن وأضاعكان إبلیس للمالئكة معلما، وعلى الكروبیین . تصمیم وتدبیر، وبكل ھدوء وخشوع سابق

كان كما یقول المقدسي، ساكن البال مستقیم الحال، صالح الفعال، ولكن بینما ھو في مقدما،األعلى المأل، فاھتز نظام)21(حضرة الشھود، أتى هللا بآدم إلى الوجود، وأمر لھ بالسجود

أن یذل وانقلبت المعاییر والموازین مرة أخرى إذ على الجبین الذي لم یسجد إال لألحد،وعلى النار أن بالسجود لبشر، وعلى معلم المالئكة في التوحید أن یجحد التقدیس والتسبیح،

أخرى تعرض بعبارة. ولكن إبلیس رفض السجود، فلعن إلى یوم الدین. أخضع للصلصالبؤسھ نا القصة جحود إبلیس وطرده وھو في قمة عزه، ومن ثم ترینا إیاه في حضیضعلی

في ذروة وشقاوتھ شأنھ في ذلك شأن القصة الیونانیة القدیمة التي تعرض علینا الملك أودیبأضحى كل لقد. مجده وسلطانھ، ومن ثم ترینا إیاه ضاال في متاھات الیأس والعذاب واأللم

كان عونا مكروھا، بعد أن ھوى إلى أدنى مھاوي الشقاء فأصبح كل منمنھما منبوذا مشوھا .لھما عونا علیھما

التي انتھت إلیھا البطلة ناتجة عن إذا رجعنا إلى مسرحیة أنتیجونا، نجد أن المأساة -2ناحیة، وما یمثلھ كریون ملك ثیبة من التناقض الجوھري القائم بین ما تمثلھ انتیجونا من

أن تدفن جثمان أخیھا القتیل مھما كلفھا كانت أنتیجونا مصممة تصمیما مطلقا. ىناحیة أخرألخیھا وإیمانھا الذي ال یتزعزع بضرورة تنفیذ األمر، وكان دافعھا إلى ذلك حبھا العظیم

أما أنا فمواریة أخي، فإذا : "تقول أنتیجونا ألختھا أسمینا .مشیئة السماء القاضیة بدفن الموتىسأؤدي . بي أن أموت، ولئن مت فإنما أنا صدیقة لحقت بصدیقھا الواجب فما أجملأدیت ھذا

ألن الوقت الذي سأروق فیھ إلى الموتى أطول من الوقت الذي واجبا عدال ملؤه التقوى،ومن ناحیة أخرى نجد أن الملك ). 22"(فسأكون قرینتھ أبد الدھر سأروق فیھ إلى األحیاء،

نبیلة ووطنیة لما أمر بإنزال العقاب باألخ الذي حمل السالح ضد بعاطفة كریون كان مدفوعاكما أنھ كان صادقا في محاولتھ إلحالل حكم القانون وإعادة النظام . على أبوابھا مدینتھ وقتل

لذلك كان لزاما علیھ أن یتمسك بالحزم ویتسلح. مدینة ثیبة بعد الفوضى التي عصفت بھا إلى أوامره وإرشاداتھ بحذافیرھا، وبكل تفاصیلھا وأن یتوعد كل منبالشدة ویصر على تنفیذ

وجمیع ھذه االجراءات أمور طبیعیة. تسول لھ نفسھ مخالفة النظام بأشد انواع العقاب وضروریة في مدینة عانت من ویالت الحرب والوباء والفوضى ما عانتھ ثیبة عندما تسلم

م المفجع بین متطلبات السلطة الزمنیةكربون مقالید حكمھا وكانت النتیجة ذلك الصدا وضروراتھا، متمثلة في شخصیة كریون، وبین متطلبات السماء وأوامر اآللھة متمثلة في

عندما یسأل كریون. شخصیة أنتیجونا وحصد الجمیع الموت والیأس والمأساة" ذوس"ذلك ألنھ لم یصدر عن :" أجابت" وكیف جرؤت على مخالفة ھذا األمر؟:"انتیجونا

وال عن غیرھما من اآللھة الذین یشرعون للناس قوانینھم، وما أرى أن".. العدل"عن والأمورك قد بلغت من القوة بحیث تجعل القوانین التي تصدر عن رجل أحق بالطاعة

Page 11: مأساة ابليس

من القوانین التي تصدر عن اآللھة الخالدین، تلك القوانین التي لم تكتب، والتي واالذعان،ألم یكن من الحق علي إذن أن أذعن ألمر اآللھة من غیر أن ... سبیلإلى محوھا من لیس

أحدا من الناس؟ وقد كنت أعلم أني میتة وھل كان یمكن أن أجھل ذلك حتى لو لم أخشى .(23..."(بھ؟ لئن كان موتي سابقا ألوانھ فما أرى في ذلك إال خیرا تنطق

لنا أنھا تحتوي على تناقض شبیھ بالتناقض إلى قصة إبراھیم من ھذه الزاویة تبین إذا نظرنا

ال بد أن إبراھیم عانى األمرین من التناقض . صوره سوفوكلیس في مسرحیتھ المذكورة الذي احترامھ لمتطلبات األبوة العاطفیة وواجباتھا األخالقیة من جھة، وبین ضرورة االذعان بین

ھیم یحب ولده أكثر مما یحبكان إبرا. لألمر اإللھي القاضي بذبح إسحق من جھة أخرى نفسھ، وكان یقوم بواجبات األبوة خیر قیام، ولكن عساه أن یفعل إذا تعارض ھذا الحبالمطلقة وتعارضت واجبات األبوة مع متطلبات الطاعة التامة ألوامر اإللھ مع واجباتھ الدینیة

إلى درجة توترھاتجاه ربھ؟ الحق یقال أن محنة إبراھیم مشحونة بعناصر المأساة وببوادرالسلطة أعظم من مسرحیة أنتیجونا ألن التناقض األساسي في مسرحیة سوفوكلیس كان بین

في نھایة ولكل واحد من طرفي ھذا التناقض یعودان. الزمنیة وبین أوامر السماء األزلیةبذلك أوامر عندما خضعت أنتیجونا ألوامر السماء خالفت. األمر إلى مصدر واحد ھو هللا

ولده خالف السلطات الزمنیة، بینما حین خضع إبراھیم ألمر ربھ ووضع المدیة على عنقمعاملة اآلباء لألبناء، بذلك القواعد االخالقیة المطلقة التي أنزلھا هللا على عباده عن كیفیة

الناحیة الدینیة اضطر ألن یعصیھ من بعبارة أخرى لما أطاع إبراھیم ربھ من. واألبناء لآلباء .لناحیة االخالقیةا

كان أمامھ. وال تختلف محنة إبلیس، من حیث النوعیة، عن محنة كل من انتیجونا وإبراھیمالمشیئة األمر اإللھي المباشر بأن یقع ساجدا آلدم، وفي الحین ذاتھ كانت أمامھ متطلبات

للذات االلھیة الداعیة للتوحید والتقدیس والتسبیح والتي ال تسمح بالسجود ألحد سوىعلیھ فأذعن إبلیس لمتطلبات المشیئة وعصى بذلك أمر السجود فطرد ولعن، وكتب. الصمدیة

إبراھیم، لكن مأساة إبلیس كانت أعظم وأفجع من محنة. الیأس المطلق من العودة إلى الجنةالتناقض الذي وال نقول مأساة إبراھیم بسبب ذلك الكبش الذي ذبحھ عوضا عن إسحق، ألن

االخالقیة، بل كان بین بلیس لم یكن بین واجبات الطاعة الدینیة وبین واجبات الطاعةواجھھ إالرب وھو یناقض نفسھ بعبارة أخرى واجھ إبلیس. واجبات الطاعة لألوامر االلھیة فحسب

.اختاره ووقفھ بصورة مباشرة ومفضوحة فذھب ضحیة ھذا التناقض وضحیة الموقف الذي

یرى فیھا مجرد البطلة جونا بشئ من الدقة والعمق، ال یمكن أنمن ینظر إلى شخصیة أنتییمثل خصمھا نقیض ھذه التقلیدیة التي تمثل كل ما یوصف بالخیر والحق والجمال، بینما

یمكنھ أن یرى محاولتھ ذبح ولده كما أن من یفھم قصة إبراھیم بأبعادھا االنسانیة ال. الخصالوكذلك األمر بالنسبة . واألخالق بدیھیات االنسانیةمجرد جریمة نكراء تتنافى مع أبسط

أمر السجود مجرد تجسید للعصیان إلبلیس ألن من یدقق النظر في محنتھ لن یرى في جحودهمعینة فإننا نشك بأن إبلیس كان عاصیا إذا نظرنا إلى األمور من زاویة. والشر والخطیئة

حوده كان أعظم تقدیس للذات االلھیة ج وجاحدا، ولكن من ناحیة أخرى یجب أال ننسى أنإبلیس في االثم عندما جادل ربھ ولكن هللا ھو وقع. وأكبر مثال على التمسك بحقیقة التوحید

). أنا خیر منھ خلقتني من نار وخلقتھ من طین(قال الذي سمح لھ بذلك، وأصغى لھ عندما

Page 12: مأساة ابليس

ة واالثم، من الجمال والقبح، باعتبارھا مزیجا من البراء وھنا تتجلى شخصیة إبلیس المأساویةإنھ یتصف بھذه الصفات مجتمعة، شأنھ في ذلك شأن . والشر من الحق والباطل، ومن الخیر

عرفناھم من خالل التراجیدیات الكبرى في تاریخ األدب، إذ كان االبطال المأساویین الذین وعلى ھاملت أن أن یقتل أمھ،" أوریستیز"السجود تماما كما كان على على إبلیس أن یرفض

وجمیع ھؤالء . علیھ أن یتحمل مثلھم البالء واأللم والیأس الناتج عن فعلھ یقتل عمھ، وكانفھم محقون من ناحیة وغیر محقین من ناحیة . وجدوا أنفسھم بین شقي الرحى االبطال

یتحمل ھذا التوتر المأساوي إال أشدھم بأسا وأصلبھم عودا، أي ال یتحملھ سو أخرى، وال ى .معدنھم من معدن االبطال من كان

"مأساة الغربة:"من المأساة ستتضح لنا األمور بصورة أفضل لو میزنا بین نوعین -3

(Tragedy of Alienation )مأساة المصیر أو القدر"، و" (Tragedy of Fate). من جالء كال النوعین أن محنة إبلیس تمثل بكل: وموضوع الذنب أرید أن أطرحھ اآلن ھو

، كان البطل یشارك "معین وضع"ینتج البالء في مأساة الغربة بسبب االنفصال عن . المأساةمیلتون ودوستویفسكي وكافكا وتعطینا أعمال. فیھ قبال ولكنھ یجد نفسھ غریبا عنھ اآلن

بالنسبة لغربة إبلیس فقد قال أما. أمثلة واضحة عن مأساة الغربة" الغریب"وكتاب كامو أفردنى ، أوجدني ، :" یلي ى لسان إبلیس، وفي وصفھا ووصف ویالتھا ماالحالج، عل

حیرني طردنى لئال أختلط مع المخلصین ، مانعني عن األغیار لغیرتي ، غیرني لحیرتي ، حیرني لغربتي مني ،] -[ حر لصحبتي ، قبحني لمدحتي ، أحرمني لھجرتي، ھج رني

لمكاشفتي ، كشفني لوصلتي )"24).

ثم لكمال : "التالیة في وصف غربتھ وشقائھ وكتب االمام المقدسي على لسان إبلیس األسطرأذوب إذا سمعت الذاكرین، وأتمزق إذا شقوتي سألت األنظار، فصرت أضحوكة للحضار،

. وواحد تحرني أنفاسھ. لھزكي فع وواحد أھرب من. رأیت الشاكرین، واحد أفر من ظلھرجع اآلیب نقص عمري، كلما وإذا. إذا تاب التائب قصم ظھري.. وواحد یعجزني مراسھ

وحرب ال تحول، . ویل ال یزول بنیتھ مع العاصي في سنة، تھدمھ التوبة في سنة، فأنا في .(25"(وحزن شرحھ یطول

ن التوحیدي لحال الغربة فإننا نجده الرائع الذي تركھ لنا أبو الحیا أما إذا رجعنا إلى الوصف

:االنطباق على حال إبلیس، قال أبو حیان ینطبق كلواغترب عن حبیبھ وعذالھ، وأغرب في أقوالھ الغریب من غربت شمس جمالھ،.. یا ھذا "

المحنة، ودل عنوانھ على الفتنة عقیب الفتنة، الغریب من نطق وصفھ بالمحنة بعد.. وأفعالھطال سفره من غیر قدوم، وطال .. یا رحمتاه للغریب .. الفینة یھ في الفینة حدوبانت حقیقتھ ف

.(26"(ضرره من غیر تقصیر، وعظم عناؤه من غیر جدوى بالؤه من غیر ذنب، واشتد

لشكسبیر من أروع ما كتب " رومیو وجولییت"ومسرحیة " أودیب الملك"تعتبر مسرحیة وفوكلیس المذكورة یعرف كیف أخذ القدر قرأ مسرحیة س وكل من. حول مأساة المصیر

النبوءات، وكیف فشلت جمیع المساعي التي قام بھا أودیب مجراه المحتوم وصدقت جمیعإذا نظرنا إلى محنة إبلیس من ھذه الزاویة تبین لنا أنھ . المظلم وجوكاستا لیفلتا من مصیرھما

Page 13: مأساة ابليس

شأنھ في ذلك شأن كل ما ھو كائن خطواتھ وفقا للقدر الذي كتبھ هللا علیھ كان مسیرا في جمیع :بدلیل الحدیث القدسي القائل في ملكھ

وما أكتب قال مقادیر كل شئ حتى تقوم إن أول ما خلق هللا القلم فقال لھ اكتب قال یا رب" .(27"(مني الساعة من مات على غیر ھذا فلیس

:وعبر الحالج عن ھذه الحقیقة بانشاده عن إبلیس

إیاك إیاك أن تبتل بالماء***** فا وقال لھ مكتو ألقاه في الیم

خاضعا في أحوالھ واختیاره وطرده ولعنتھ وتشویھھ إلى أحكام بعبارة أخرى كان إبلیسقضائھ الذي ال یرد، كان مجبورا بحكمتھ ومقھورا بمشیئتھ بدلیل قولھ اإلرادة اإللھیة وألمر

لمات التالیة حول خضوع إبلیس لقضائھوكتب الحالج الك). شئ خلقناه بقدر إنا كل: (تعالى :وقدره

كلھا واختیاري االختیارات:"، فأجاب إبلیس"االختیار لي ال لك:"قال الحق سبحانھ إلبلیس"المقال فأنت السمیع، وإن لك، قد اخترت لي یا بدیع وإن منعتني فأنت المنیع، وإن أخطأت في

مني، ال تلمني فاللوم مني ین أعرف بكأردت أن أسجد لھ فأنا المطیع، ال أعرف في العارف .(28"(بعید، وأجر سیدي فإني وحید

ھنا یجب ان نلفت النظر إلى أنھ لیس كل من جار علیھ القدر وسحقھ المصیر المحتوم یصبح ألن المرء یتوقف إلى حد كبیر على نوعیة الرد الفعل الذي یبدیھ. بذلك شخصیة مأساویة

كانت وعلى سبیل المثال. االستجابة التي یبدیھا نحو مصیرهاالنسان تجاه محنتھ، وطبیعة غیر أنھ ال شقیقة أنتیجونا واعیة كل الوعي للتناقض الذي دفع باختھا إلى نھایتھا المفجعةسلبیة في یجوز لنا بأیة حال من األحوال أن نعتبر أسمینا شخصیة ماساویة ألنھا ظلت

والتحفظ االحداث، لذلك نراھا تنصح بالتعقلاستجابتھا لھذا التناقض واستسلمت لمجرى واالعتبار .وتثیر الشكوك وتبدي المخاوف مما یبین أن معدنھا لم یكن من معدن األبطال

أن نقارن ومن الطریف). وسیماھم على وجوھھم من أثر السجود(نفسھ ینطبق على المالئكة إبلیس ولو نھ في ذلك شأنعصى آدم ربھ شأ. بین موقف إبلیس وموقف آدم من ھذه الناحیة

أي رد فعل شاء ربك آلدم أال یعصي لما عصى، ولما عاتبھ هللا على معصیتھ لم یبد آدمأما البطل ). الخاسرین ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من: (إیجابي بل قال

، ألنھ )ت نفسيإني ظلم(یقول المأساوي الذي یصارع مصیره كما صارعھ الملك اودیب فالفإنھ استجاب بصورة إیجابیة لعتاب أما إبلیس. یعلم حق العلم أن قدره المحتوم ھو الذي ظلمھ

بذلك أن یكون قد ظلم نفسھ أو أن یكون فنفى) بما أغویتني ألزینن لھم في األرض(ربھ فقال إبلیس وصف أبي حیان التوحیدي ومرة أخرى ینطبق على. مسؤوال عن مصیره ومآلھ

أي خاف آدم من ). 29"(عنده فیستر ال عذر لھ فیعذر، وال ذنب فیغفر، وال عیب:"لغریب لإبلیس وحاول أن یدافع عن فعلھ وأن یبرر االعتراف بھذه الحقیقة لما عاتبھ ربھ بینما ناقشھ

قدره هللا علیھ مثلھ في ذلك كمثل أدویب وجوكاستا اختیاره بالغرم من علمھ أنھ ال مفر لھ مما. المشؤوم مع العلم بأن فشلھما كان محتوما ومتوقعا محاوالتھما االفالت من مصیرھمافي

ألزینن لھم في (ظل إیجابیا في موافقھ وأفعالھ بدلیل قولھ وحتى بعد أن نزلت اللعنة بإبلیسنرى إذن أن إبلیس ھو المعدن الذي صنع منھ أبطال األعمال ...) أجمعین األرض وألغوینھم

وال . الكبرى في األدب العالمي وصورت شخصیاتھا المأساویة على صورتھ التراجیدیة

Page 14: مأساة ابليس

بأن ھؤالء األبطال كانوا إما على اتصال مباشر بالشیطان أو كانوا عجب إذن أن نجدكما أنھ لیس من باب الصدفة أن تكون الشخصیات . شیطانیة واضحة یتصفون بصفاتین جموع الشاذین والمخربین والعاصین مستمدة في معظم األحیان من ب المأساویة الكبرى

والجاحدین والقتلة، ولذلك وردت المحاكمات القانونیة بكثرة في عدد كبیر من والكافرین ویكفینا أن نذكر على سبیل المثال أسكیلوس، وكافكا، واألخوة. التراجیدیة المشھورة األعمال

ى الجدل الذي دار بین إبلیسوبامكاننا أن ننظر إل. لكامو" الغریب"كارامازوف، وروایة نفسھ وربھ على أنھ نوع من المحاكمة العرفیة السریعة حیث أتیحت إلبلیس فرصة لیدافع عن

.قبل أن یقضي هللا أمرا كان مفعوال

المأساة أال یتطرق إلى موضوع عاطفة الكبریاء وإلى من العسیر على الباحث في طبیعة -4ویكتسب موضوع الكبریاء أھمیة خاصة . ات المأساویةالشخصی الدور الذي تلعبھ في حیاة

قال الحق . یعزو رفض إبلیس السجود إلى دافع الكبریاء والفخار بالنسبة لنا بسبب الرأي الذي". فاھبط منھا فما لك أن تتكبر فیھا فاخرج إنك من الصاغرین"الجنة إلبلیس لما طرده من

یز بین الكبریاء بمعنى العجرفة وبین إبلیس على حقیقتھا یجب أن نم ولندرك كبریاءالتي اتصفت بھا الشخصیات المأساویة الكبرى، علما بأن ھذا ال یمنع " المأساویة الكبریاء"

غیر أن ھذه الخصلة الذمیمة تبقى عرضیة وطارئة . یكون البطل المأساوي متعجرفا أنیجلبان لصاحبھما سوى فالتعجرف والكبریاء والدونكیشوتیة ال . لبطولتھ ومأساتھ بالنسبةالكثیر والسخریة، أما الكبریاء المأساویة فإنھا تفرض علینا موقفا جدیا تجاه البطل فیھ الشفقة

لذلك كانت . الخاصة من االعجاب والتقدیر حتى لو كان موقفھ مخالفا لكافة مبادئنا ومواقفناالملك أودیب إلى إیفان الكبریاء دوما من أھم الدوافع التي حركت الشخصیات المأساویة من

.كارامازوف

البطل ألن یبقى سلبیا في وجھ ما یعتبره تحدیا یتكون جوھر الكبریاء الماساویة من رفضھذا التحدي ھو جزء من مصیره وأن كبریاءه ستنتھي لواجبھ وكرامتھ حتى لو كان یعلم أن

. یجونا وھكذا انتھى إبلیسانتھى أودیب وھكذا انتھت أنت ھكذا. بھ إلى الدمار والیأس والموتمن الكبریاء على االطالق ولو كان مقدرا لھ ان یكون شخصیة أما آدم فلم یعرف ھذا النوع

نستنتج ). ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرین ربنا(ماساویة لما قال لى معبوده بل كانت إبلیس لم تكن ناتجة عن عجرفة فارغة وال عن تطاول ع إذن أن كبریاء

ولم یغیر إبلیس موقفھ من ربھ . دفعتھ ألن یلجا إلى هللا من قضاء هللا علیھ كبریاء ماساویةأن أصبح طریدا ولعینا، وظل یعترف بسلطانھ وقوتھ ویخاف منھ وال یقر لنفسھ حتى بعد

ال إني برئ كمثل الشیطان إذ قال لالنسان أكفر فلما كفر ق(سواه بدلیل قولھ تعالى بمعبودألغوینھم بعزتك(وبدلیل جواب إبلیس عندما أقسم أمام هللا ). إني أخاف هللا رب العالمین منك

أعز عنده أي أنھ بین أن ال شئ. 84, 83 سورة ص -) أجمعین إال عبادك منھم المخلصیند وكأنھ یری من عزة ربھ، حتى بعد أن نزلت بھ اللعنة، واستثنى عباده المخلصین من قسمھ

یكن إبلیس غریبا لم. أن یبین حسن ثنائھ وصدق والئھ لرب العالمین، حتى بعد اللعنة والطردموقف إبلیس من یصف الحالج. فحسب بل كان في غربتھ غریبا على حد تعبیر أبي حیان

:موسى وإبلیس ربھ بعد أن نزلت علیھ اللعنة االبدیة في محادثتھ التي تخیلھا بینتذكره؟اآلن "فقال موسى " فقال یا موسى الفكرة ال تذكر-" ، أنا مذكور وھو مذكور ، ذكره

Page 15: مأساة ابليس

ذكرى ، وذكرى ذكره ، ھل یكون الذاكرون إال معا ؟ خدمتى اآلن أصفى ، ووقتى أخلى ، وذكرى أجلى ، ألنى كنت أخدمھ فى القدم لحظى ، واآلن أخدمھ لحظ ."ھ

المقدسي إلى مصیر إبلیس وكبریائھ نظرة غیر مألوفة متأثرا في ذلك برأي ونظر اإلمام

:فقال الحالجفأنت أنت، قال قال لي أسجد لغیري قلت ال غیر، قال علیك لعنتي قلت ال ضیر، إن أدنیتني"

بك في دھره تفعل ذلك استكبارا وفخارا، فقلت سیدي من عرفك في عمره لحظة، أو خال. األعمار غمضة، أو صحبك في طریق محبتك ساعة، حق لھ أن یفتخر، كیف بمن قد قطع

درست من كم قد. كم قد رقمت من صحائف توحیدك في اللیل والنھار. وعمر بحبك اآلثاربحقي، دروس تقدیسك وتمجیدك في اإلعالن واإلسرار، واآلثار تشھد لي، والدیار تعرف

الكروبیین، ن كان آدم وأنا أمام صفوف المالئكة، وخطیب جمیعفأی.. واللیل والنھار یصدقنيأعالم اإلرادة، وقادة وفد المقربین فلي معك سابق عبادة، ولك معي سابق إرادة، فلما ظھرت

السیادة، وأصابھ سھم انطمست رسوم العبادة، فأخطأ المجتھد اجتھاده، وزال السید عن رتبأعبد، فال بد من الرجوع إلى وعبدت أم لم. أو لم أسجدفسواء أسجد . القضا فما أخطى فءاده

منھا خلقناكم وفیھا . إلى النار فإنك خلقتني من نار، فال بد من العود. سابقة األقدار .(31"(نعیدكم

القسم الرابع

إبلیس على مستویات مختلفة، بدأت بالنظرة التقلیدیة عالجت في الصفحات السابقة مشكلة

النواحي المأساویة في شخصیتھ وموقفھ، ومما ال ریب محنتھ ثم حددتالشائعة ثم وصفت المستویات الثالث إلى المستوى الذي یلیھ انكشفت لنا حقیقة فیھ أنھ كلما انتقلنا من أحد ھذهولكن ھذا ال . وتبینت لنا جوانب شخصیتھ المتعددة بجالء أعظم إبلیس بصورة أفضل وأعمق

على مستوى المأساة یبین لنا حقیقتھ تامة وكاملة إذ أن إبلیس یعني أن فھمنا لشخصیةالخیال األدبي والدرامي بقدر ما ھي من إنتاج الخیال الدیني شخصیتھ لیست من إنتاج

المأساویة إلى إبلیس ناقصة ال تكشف إلى جانبا من حقیقتھ ولن لذلك تظل نظرتنا. الصرفني البحت الذي سیكشف لنا وضع إبلیس نعالجھا على المستوى الدی تكتمل الصورة ما لمأما السبب الرئیسي الذي یدعوني إلى ھذا القول فھو تعذر . نظام الخلیفة الحقیقي والنھائي في

یستحیل على الدین . بمعناھا النھائي والمطلق ضمن إطار األدیان السامیة الثالثة قیام المأساةنحو لھیة تحیط بالكون إحاطة تامة وتسیرهیقبل المأساة بصفتھا النھائیة ألن العنایة اإل أن

المأساة مھما الغایات القصوى التي اختارھا اللـھ لھ، لذلك نجد أن الدین بطبیعتھ یدعي تجاوزوعلى . اآلخرة إذن كانت مفجعة ویدعي حل جمیع إشكاالتھا، إن لم یكن في الحیاة الدنیا، ففي

خسائر فادحة ال یمكن أن ن یتكبد األبطالسبیل المثال تتطلب النظرة المأساویة لألشیاء أالیأس التام، كما یطلب من تعوض على اإلطالق یرمز إلیھا في معظم األحیان بالموت أو

أما الدین فال یقبل بھذا . یریدوھما ألنفسھم األبطال أن یتحملوا بالء وعذابا لم یستحقوھما ولم الصالحون ستعوض علیھم في یوم ما كما یتكبدھا المنطق المأساوي ویقول بأن الخسائر التي

أما الخسائر التي . بھ وكافأه على صبره الطویل عوض اللـھ أیوب على المصائب التي حلتمن "استحقوه بسبب آثامھم وأفعالھم الشریرة بدلیل أن یتكبدھا األشرار فإنھا عقاب عادل

Page 16: مأساة ابليس

ى فاجعة الموت، بالنسبة وحت" یعمل مثقال ذرة شرا یره یعمل مثقال ذرة خیرا یره ومنأي أن الدین ال . ترمز إلى االنتقال من دار الفناء إلى دار البقاء للدین، لیست إال خسارة مؤقتة

بصورة مؤقتة ومرحلیة ویتبع من ذلك أنھ ال بد لمأساة إبلیس من أن تكون یقبل المأساة إلى .ستتالشى في یوم من األیام مأساة مؤقتة

شخصیة إبلیس أرید أن أطرح السؤال ى حدود النظرة المأساویة إلىبعد ھذه اإلشارة إل

لماذا وضعھ اللـھ في ھذا المأزق ورماه لماذا أمر إبلیس بالسجود آلدم؟ أو باألحرى: التاليیمتحنھ ویجربھ كما امتحن من بعده أیوب في ھذه المحنة؟ والجواب ھو ألنھ أراد أن

واإلشارة إلى تجربة إبلیس واضحة في قولھ لربھ .وابراھیم وغیرھما من عباده الصالحینأي ..." فبما أغویتني ألقعدن لھم صراطك المستقیم" و" بما أغویتني ألزینن لھم في األرض"

كان إبلیس أمام المالئكة وخطیب . وسیبتلیھم كما ابتاله أنھ سیغوي البشر كما أغواه اللـھود آلدم لیرى مدى تمسكھ بحقیقة التوحید وتشبثھ یبتلیھ فأمره بالسج الكروبیین فأراد اللـھ أن

والتسبیح، وبرھن إبلیس عن استعداده ألن یضحي بكل شيء في سبیل بدعواه في التقدیس :یقول الحالج عن إبلیس .دعواه بمعبود واحد

وأبذلھم للمجھود، وأوفاھم بالعھود، ھو الذي كان أعلمھم بالسجود، وأقربھم من الموجود،"وإبلیس جحد بالسجود لمدتھ الطویلة على ن المعبود سجدوا آلدم على المساعدةوأدناھم م .(32" (المشاھدة

ابراھیم بأن طلب منھ تضحیة أعز ما عنده في سبیل وجھھ تعالى كذلك ابتلى وكما ابتلى اللـھ

.طلب إلیھ تضحیة أعز ما لدیھ في سبیل معبوده ومحبوبھ إبلیس بأن

ینیة أنھا تدخل الممتحن في محنة صعبة تحملھ ما ال یطاق، فتظھر الد من خصائص التجربةوالفكرة الرئیسیة التي أرید أن أبینھا ھي أن . وبدون أي تمویھ أو تزییف حقیقتھ بكل جالء

التجربة التي ابتاله اللـھ بھا بنجاح تام، وتتضح لنا ھذه الحقیقة من االعتبارات إبلیس اجتاز :التالیة

والتزاماتھ العائلیة واإلنسانیة یم في التجربة ألنھ علق مفعول واجباتھ األبویةنجح ابراھ – 1

كذلك نقول أن إبلیس نجح في . كلفھ األمر لیذعن لألوامر اإللھیة ویقوم بواجبھ نحو ربھ مھماالجزئیة لیذعن للمشیئة اإللھیة ویتمسكل بواجبھ التجربة ألنھ علق مفعول واجبات الطاعة

.لتوحید والتقدیسالمطلق في ا

وعطاء كما حول األمر اإللھي، ذبح إسحق من مجرد جریمة نكراء إلى تضحیة كبرى – 2 ما بعده عطاء، حول تمسك إبلیس بواجبھ المطلق، جحوده من مجرد عصیان إلى أسمى

.تقدیس توجھ بھ مخلوق إلى الذات اإللھیة

األبویة والتزاماتھ اإلنسانیة، واجبات واجبات ابراھیم في الواقع جعل األمر اإللھي من – 3التجربة، كذلك أصبحت واجبات إبلیس الجزئیة واجبات ابتالء ابتالء لو أذعن لھا لفشل في .امتثل لھا لفشل في التجربة بالنسبة للواجب المطلق، لو

Page 17: مأساة ابليس

تجاه واجباتھ األبویة وإنما سلك سلوك كما أن ابراھیم لم یسلك سلوك اإلنسان العادي – 4

التجربة، لم یسلك إبلیس سلوك المالئكة بالنسبة األنبیاء واألولیاء فظھرت حقیقتھ من خاللسلوك القدیسین والصالحین والمقربین فبانت بذلك حقیقتھ لواجباتھ الجزئیة نحو اللـھ بل سلك

.بكل صفائھا ونقائھا

یأس الذي یمر بھأصبح من الجلي أن االبتالء اإللھي ھو مصدر البالء والعذاب وال – 5 كانت رغبة ابراھیم الشدیدة في إنقاذ إسحق واالحتفاظ بھ مصدر عذابھ وشقائھ،. الممتحن

ربھ شیئا ولوال ھذه الرغبة العنیفة لما استحقت تجربتھ كل ھذا االھتمام ألنھ یكون قد قدم إلىال یعز علیھ إال قلیال وال یشكل فقدانھ بالء عظیما عندما جربھ . إلبلیس ةكذلك األمر بالنسب.

أقصى الحدود أن اللـھ كان یشعر برغبة جامحة ألن یذعن ألمر السجود وعز علیھ إلىبشيء لم یكن یضحي بھذه الرغبة في سبیل تمسكھ بحقیقة التوحید وإال یكون قد ضحى

یجربھما وأنھ یطلب كان إبلیس وابراھیم یعلمان أن اللـھ. یرغب فیھ أصال إال رغبة طفیفةتصعب علیھما في منھما أشق أنواع التضحیات وأغالھا على اإلطالق ولكن ما من تضحیة

.واإلنسانیة سبیل وجھھ تعالى، لذلك رفض إبلیس السجود ورفض إبراھیم روابط األبوة

ابراھیم ومسرحیة أنتیجونا وعندما عالجنا محنة إبلیس على مستوى المأساة وقارناھا بقصةبسبب ذلك الكبش المشھور یم عجزت عن الوصول إلى مستوى المأساةذكرنا أن محنة ابراھ

أن محنة أنتیجونا تعلوھا في كما قلنا حینئذ. وبسبب تعذر وجود المأساة الحقیقیة في الدینفاعتبرناھا مأساة المآسي ألنھا تعبر األھمیة من حیث أنھا تمثل مأساة حقیقیة، أما محنة إبلیس

غیر أنھ عندما ندرس ھذا . معانیھا وأقصى حدودھا وأبعدعن المأساة بأجلى صورھا ھذا التصنیف ونستعیض عنھ الموضوع على مستوى التجربة الدینیة نضطر ألن نغیرقدر لحقیقة إبلیس أن تتجلى ولو. بتصنیف جدید ینسجم مع منطق الدین وموقفھ من المأساة

أما التصنیف الجدید فإنھ . ألولا على مستوى المأساة فحسب النتھت مشاغلنا عند التصنیفعلیھا االختیار بین أمر السلطة یضع محنة أنتیجونا في أسفل السلم ألن تجرتھا فرضت

. غیر المصدر الذي یعود إلیھ اآلخر الزمنیة وبین أمر السماء وكل منھما یعود إلى مصدرین أمر اللـھ مفعوال ألنھا خیرتھ ب بینما نجد أن تجربة ابراھیم كانت أھم مغزى وأقوى

األخالقیة واإلنسانیة التي كان یعتقد ابراھیم أنھا المباشر وبین الواجبات األبویة وااللتزامات. أن اختیاره كان بین أمرین نبعا من مصدر واحد ھو اللـھ أي. مقدسة ومنزلة من عنده تعالىضطرتھ لالختیار التجارب وأعظمھا شأنا وأشدھا مرارة ألنھا ا أما تجربة إبلیس فھي تجربة

أي . الربانیة من ناحیة وبین األمر اإللھي المباشر من الناحیة األخرى بین متطلبات المشیئةإبلیس أن یختار بین الدنیوي واألزلي كما كان على أنتیجونا أن تفعل، ولم یكن لم یكن على

علیھ أن یختار یختار بین اإللھي واألخالقي كما كان على ابراھیم أن یفعل، بل كان علیھ أنویأسھ اإللھي واإللھي أو بین األزلي واألزلي لذلك كان ابتالؤه ال یطاق وبالؤه ال یقاس بین

.ال یوصف

من المقومات األساسیة للتجربة الدینیة الناجحة أن یجھل الممتحن جھال تاما النھایة التي واحدة أنھ شك ابراھیم لحظةفلو. ستسفر عنھا تجربتھ إن كانت ھذه النھایة لصالحھ أم لم تكن

Page 18: مأساة ابليس

سیذبح كبشا عوضا عن إسحق لما كانت محنتھ تجربة بل كانت مھزلة، ولو توقع أیوب تعویضا لصبره على المصائب التي ابتاله اللـھ بھا فتحمل العسر أمال منھ بالیسر الذي سیلیھ

إبلیس یوما أن خلد ولو دخل في. لفقدت تجربتھ كل معانیھا ومغازیھا وفشل في االمتحانالنقلبت محنتھ من تجربة لعنتھ لیست أبدیة أو أن خاتمتھ النھائیة لیست جھنم وبئس المصیر

التجربة الناجحة أن یعتقد بعبارة أخرى من شروط. مفعمة بالمأساة إلى مسرحیة ھزلیةالممتحن اعتقادا راسخا ال یتطرق إلیھ الشك بأن تجربتھ م ستسفر عن خاتمة مفجعة، وك

نھایة سعیدة، كما حدث البراھیم عندئذ ستكون فرحتھ عظیمة عندما یكتشف أنھا أسفرت عنوبما أن اللـھ كافأ . وذریتھ أضعافا مضاعفة لما استعاد ولده، وألیوب لما أعاد اللـھ إلیھ أموالھ

وتمسكھما بواجبھما المطلق نحوه یجوز لنا أن ابراھیم وأیوب على صبرھما ونجاحھماوتضحیتھ ویعوض علیھ ما تكبده من خسارة مفجعة ج بأنھ سیكافئ إبلیس على نجاحھنستنت

إذا كان ھذا االستنتاج صحیحا لماذا لعنھ إلى یوم ولكن. وما عاناه من شقاء وبالء وغربةالدین ألن التجربة بحد ذاتھا تتطلب ذلك، فلو اعتقد إبلیس لعنھ إلى یوم: الدین؟ الجواب بسیط

كانت مؤقتة فأمل بالعودة إلى الجنة لفقدت تجربتھ مغزاھا ومعناھا، لعنة نزلت بھمثال أن البحقیقة التوحید، بالرغم من یأسھ التام من النجاة، ھو دلیل اجتیازه التجربة ذلك ألن تمسكھ

تماما كما كان یأس ابراھیم من إنقاذ اسحق ووضعھ المدیة على عنقھ الدلیل القاطع بنجاح،إبلیس بعبارة أخرى ال تبین اللعنة األبدیة مصیر. في التجربة التي ابتاله اللـھ بھانجاحھ على

الحقیقي فھو أمر یجب أن یظل سرا مكتوما عنھ إلى أن یحین موعد إفشائھ، تماما كما ظل مصیر إسحق سرا مكتوما على ابراھیم حتى حان الوقت المناسب إلعالنھ كما أنھ ال یجوز .

بقاءه على ھذه الحال یشكل بقى ملعونا إلى األبد، بعد اجتیازه التجربة بنجاح، ألنإلبلیس أن یمرارا، ال یسمح بذلك على ومنطق الدین، كما مر معنا. مأساة كبرى وحقیقیة في الكون

.اإلطالق

المأساة ال یبین لنا حقیقتھ تامة وكاملة، كذلك األمر كما أن فھمنا لشخصیة إبلیس على مستوىمستوى التجربة واالبتالء مع العلم بأن مستوى التجربة النسبة لمعالجتنا لشخصیتھ علىب

ولنصل إلى معرفة . وأعمق من أي مستوى آخر ذكرناه یقربنا إلى حقیقتھ بصورة أفضلفي الكون علینا تحدید عالقتھ الجوھریة المباشرة بالمشیئة حقیقة إبلیس التامة ومنزلتھ الفعلیة

أجد تعبیرا عن عالقة إبلیس الحقیقیة بالمشیئة اإللھیة أفضل من ھما بحثت لنوم. اإللھیة :اإلمام المقدسي في األسطر التالیة حیث قال على لسان إبلیس التعبیر الذي ضمنھ

وقدر علي ما شاء فلم أطق أن . واستعملني فیما شاء. وأوجدني لما شاء .خلقني كما شاء"

. ولو شاء لردني إلى ما شاء. وال فعلت غیر ما شاء. ت ما شاءفما تجاوز. شاء أشاء إال ماومن یطق من . فمن یكون على القضاء عوني... فكنت كما شاء. بما شاء ولكنھ شاء وھداني

یا ھذا ما حیلة من . رضیت بھ على رأسي وعیني. ولكن كل ما یرضیھ مني. صوني القدروقد قضي األمر وجف . راجع إلى حكم القدموأمره. وقلبھ بید القدر. قبضة القھر ناصیتھ في

.(33) "القلم

بعبارة أخرى كان إبلیس صنیعة اإلرادة اإللھیة خاضعا ألحكامھا ومنفذا وعندما . لطلباتھا إنھ مستعمل فیما . األزل اختار العصیان والجحود لم یختر سوى ما كان اللـھ قد اختاره لھ منذ

Page 19: مأساة ابليس

یستطرد اإلمام المقدسي في . والنھي ھره وبذلك بطل األمرقدره اللـھ علیھ واقع في قبضة ق :طرده فیقول على لسان إبلیس تبیان مكانة إبلیس الحقیقیة والغرض اإللھي من

وسنا . ال وعلو عزتھ. وغیرني التغییر. التقدیر ورددت. أتظن أني أخطأت التدبیر. یا ھذا"

لیدل على . جمعا بین الشيء وضده. حوالمستقیم والصحی .لكنھ خلق الحسن والقبیح. قدرتھفجعلني في األول أعلم المحاسن في المأل . تعرف إال باألضداد فإن األشیاء ال. كمال قدرتھ

فلما طالع أطفال المكتب . فكنت معلم التوحید. وأزین بھا األفالك .األعلى فأبینھا لألمالكني من العالم األعلى إلى العالم نقل. وحققوا حروف ھجاء تقدیسھم وتمجیدھم .أمثلة توحیدھم

ومیز. فبي عرف الحسن والقبیح. أعلمھم ما ھو ضد ذلك فأبین لھم القبائح وأزینھا لھم األسفل فأنا معجز. معلم العلماء. عریف العرفاء. فأنا في األرض والسماء. المستقیم والصحیح

و في الذكر أشھى ومن ھ. فمن ھو في الحضرة أدنى مني. ومشاھد حضرة الحكمة. القدرة. وإن كان قد طردني. ولي فخر إذ نظرني. وإن كان لعنني. فلي شرف إذ ذكرني .مني

. ولخدمتي خذلني. ولغیرتي علیھ غیرني. ولحیرتي بھ حیرني. أنكرني فبمعرفتي لھواآلن . ألني كنت أخدمھ لحظي. وحالي معھ أشفى. فاآلن وقتي بھ أصفى .ولصحبتي حرمني

فقد . فلئن كنت قد سقطت من العین. وأنت تظنھ بین. تفع الحظ من البینفار .أخدمھ لحظھ .(34" (العین وقعت في عین

المفارقات التي وردت سأكرس ھذا القسم من بحثي لمحاولة إیجاد تعلیل دیني مقبول لبعض

االسئلة الھامة التي ما تزال معنا في األقسام السابقة من ھذا البحث ولإلجابة على بعض .واألسئلة وفي ما یلي تصنیف ألھم ھذه المفارقات. لقةمع

ألن اللـھ أراد : بقولي عندما طرحت السؤال، لماذا أمر إبلیس بالسجود آلدم، أجبت علیھ (1الذي یبرز أمامنا اآلن ھو، أن یجربھ ویبتلیھ كما جرب ابراھیم وأیوب من بعده، والسؤال

یظھرون وما یبطنون؟ ھل باستطاعتنا لعلیم بكل مالماذا یبتلي اللـھ مالئكتھ وعباده وھو االلـھ ألن یجرب عباده؟ أو باألحرى إلى مثال أن نحدد صفة من الصفات اإللھیة التي تدعو ھذا المیل إلى ابتالء العباد؟ أیة صفة من صفات الذات اإللھیة یجب أن ننسب

أن اللـھ یأمر أحیانا بشيء بینما البحث ذكرنا لما میزنا بین المشیئة واألمر في مطلع ھذا (2 من تعلیل دیني لھذه المفارقة في تصرفات اإللھ؟ ترى ھل. یكون قد شاء تحقیق شيء آخر

قھرة خاضع خضوعا تاما لقدره وأحكام مشیئتھ، شأنھ في رأینا أن إبلیس واقع في قبضة (3 كان ھذا القول صحیحا إذا . یبطل مفعول األمر والنھي عنھ ذلك شأن بقیة المخلوقات، مما

األمر والنھي؟ باإلضافة إلى ذلك قدر اللـھ منذ األزل من ھم لماذا طرده من الجنة بحجةواألدلة الدینیة على ذلك عدیدة أورد منھا، على سبیل . أصحاب النار أصحاب الجنة ومن ھم

ة فقال ھذا إن اللـھ تعالى قبض قبض: "سبیل الحصر، الحدیث القدسي التالي المثال ال علىولكن بالرغم من ). 35" (برحمتي وال أبالي وقبض قبضة ھذا إلى النار وال أبالي إلى الجنة

أنزل اللـھ الكتب وأرسل الرسل وشحنھا باألمر والنھي ومیز بین الحالل والحرام، وما ذلكفائدة كل ذلك لمن كان مجبورا بحكمتھ ومستعمال فیما قدره علیھ .

صانع األشیاء كلھا ومقدر الخیر والشر على عباده لماذا أراد للناس أن اللـھ إذا كان (4 أن إبلیس ھو سبب الشر والمعصیة ولماذا شاء تحمیلھ أوزار أولئك الذین خلقھم للشر یعتقدوا

Page 20: مأساة ابليس

وأجرى الشر على یدیھم؟ ھل باستطاعتنا أن نعلل ھذه المفارقة بردھا إلى إحدى الصفات اإللھیة المعروفة؟

وإلیكم . األسئلة ھي صفة المكر ن الصفة اإللھیة التي نبحث عنھا لإلجابة عن ھذهأعتقد أ

:الصفة بعض اآلیات القرآنیة التي تبین طبیعة ھذه .(54آل عمران " (ومكروا ومكر اللـھ واللـھ خیر الماكرین" (1واللـھ یمكر بك الذین كفروا لیثبتوك أو یقتلوك أو یخرجوك ویمكرون ویمكر اللـھ وإذ" (2 .(30األنفال " (الماكرین خیرمكر في آیاتنا قل اللـھ أسرع مكرا وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستھم إذا لھم" (3

.(21 یونس" (إن رسلنا یكتبون ما تمكرون

صفة نجد أیضا أن بعض اآلیات األخرى تنسب إلى الذات اإللھیة صفة متشابھة ھيالبقرة ) "اللـھ یستھزئ بھم ویمدھم في طغیانھم یعمھون" تعالى االستھزاء، كما في قولھ

اآلیات وأوردت بعض اآلیات المعنى نفسھ دون ذكر المكر اإللھي وتخصیصھ كما في). 15 :التالیة

نملي لھم لیزدادوا إثما ولھم وال یحسبن الذین كفروا إنما نملي لھم خیر ألنفسھم، إنما" (1

.(178آل عمران " (عذاب مھینأي وجب علیھا ". نھلك قریة أمرنا مترفیھا ففسقوا فیھا فحق علیھا القول وإذا أردنا أن" (2

.(16اإلسراء ) العذاب .(141 النساء.." (إن المنافقین یخادعون اللـھ وھو خادعھم" (3

:نستخلص من تفسیر الطبري لآلیات المذكورة ما یلي

.(36(على االستھزاء والخدیعة ینطوي المكر) أیظھر لھم من : "آخر لھ لذلك ینطوي المكر على إظھار شيء لشخص ما وإضمار شيء) ب

.(37" (أحكامھ في الدنیا خالف الذي عنده في اآلخرة أن یمد من عمرھم وسعادتھم وجاھھم، لیأخذھم في حال أمنھم"إمالء اللـھ للقوم، یعني (ج

.(38" (عند أنفسھم بغتةكان " مترفیھا ففسقوا فیھا فحق علیھا القول ا أردنا أن نھلك قریة أمرناوإذ: "لما قال اللـھ) د

للعباد علیھ حجة في ما شاء لجأ إلى المكر فأمر قد شاء تدمیر القریة، ولكن لئال یكونبینما الحقیقة غیر . وكأن القریة استحقت ذلك التدمیر مترفیھا أن یفسقوا حتى یبدو للجمیع

.ذلك كي فكرة المكر اإللھي ویربطھا بكل وضوح بابتالء العباد فیقول فيویشرح أبو طالب الم

:ما یلي" قوت القلوب"كتابھ الشھیر قال رأیت كأني أدخلت الجنة فلقیت فیھا وحدثنا عن أبي محمد سھل رحمھ اللـھ تعالى"

كر في الدنیا فقالوا لي سوء الخاتمة ھي من م ثلثمائة نبي فسألتھم ما أخوف ما كنتم تخافونوال علیھ یوقف وال نھایة لمكره ألن مشیئتھ وأحكامھ اللـھ تعالى الذي ال یوصف وال یفطن لھ

المشھور أن النبي صلى اللـھ علیھ وسلم وجبریل بكیا خوفا من ال غایة لھا ومن ذلك الخبر

Page 21: مأساة ابليس

ما علما اللـھ إلیھما لم تبكیان وقد أمنتكما، فقاال ومن یأمن مكرك فلوال أنھ اللـھ تعالى فأوحى ال نھایة لھ آلن حكمھ ال غایة لھ لم یقوال ومن یأمن مكرك مع قولھ قد أمنتكما ولكان أن مكره

ھو غیب قد انتھى مكره بقولھ، ولكانا قد وقفا على آخر مكره، ولكن خافا من بقیة المكر الذي ویختبر بذلك ..أیضا مكرا منھ) وقد أمنتكما مكري(فكأنھما خافا أن یكون قولھ تعالى .. عنھما) حسبي هللا ربي(الھواء فقال كما اختبر خلیلھ علیھ السالم لما ھوى بھ المنجنیق في.. حالھما

فصدق القول ) حسبي هللا: (وفاء بقولھ ال،: ألك حاجة؟ قال: فعارضھ جبریل علیھ السالم فقال .(39"(بالعمل

ول أن هللا كان یبدي إلبلیس من لفكرة المكر االلھي بامكاننا الق بعد ھذه المراجعة السریعة

أي أنھ مكر بھ فأمره . من مصیر وأضمر لھ من قدر ومحنة وخاتمة الرضا غیر ما شاء لھولكنھ شاء لھ ضمنا أن یعصي األمر حتى یكون لھ حجة على إبلیس ظاھرا بالسجود آلدم

ة المكر اإللھي لم یكن أمر االبتالء إذن سوى أدا. فیھ قضاءه وقدره لیفعل بھ ما شاء وینفذأحكام المشیئة وتبریرھا أمام مخلوقاتھ فتصبح بذلك مقبولة في أعینھم فال یكون غایتھا تنفیذ

ال غایة لمشیئتھ وأحكامھ، ولكن: وكما قال أبو طالب المكي. حجة علیھ فیما یفعل بھم لھمتبدو المشیئةالمكر اإللھي یتدخل لیجعل األمور تبدو للعباد على غیر ما ھي علیھ أي لیجعل

إبلیس طرد لذلك مكر هللا بالمالئكة فأبدى لھم وكأن. وكأن لھا غایات ومبررات وأسباباسیدھم أكثر مما لسبب وجیھ ھو العصیان ولوال ھذا التدبیر الماكر الستعظمت المالئكة طرد

نیة المشیئة الربا ، ولتعذر علیھا تحمل أحكام)إني جاعل في األرض خلیفة: (استعظمت قولھمن الجنة بحجة األمر لذلك طرده. ومواجھتھا مباشرة دون توسط المكر بمبرارتھ وتفسیراتھ

الناحیة العملیة، أن یعتقدوا أن كما أنھ یحسن للعباد، من. والنھي ولیس بحجة نفاذ مشیئتھ فیھآمنوا عن حق بأن هللا قدر علیھ ھذا إبلیس عصى أمر ربھ فطرده بسبب جحوده، ألنھم لو

الحكمة فیفقدون صوابھم ویكفرون بعدالتھ مصیر التعیس منذ األزل لما تحملت عقولھم ھذهالعلى عین الصواب حین كتب ما یلي عن لذلك رأى أن اإلمام المقدسي قد وقع. ورحمتھ

:إبلیس وإن عمل . وإن نسي أحدھم قال فأنساه الشیطان. الشیطان إن زل أحدھم قال إنما استزلھم"

فأنا حمال أوزار المذنبین، وحمال أثقال الخاطئین ذا من عمل الشیطان،أحدھم قال ھ )."40).

المكي ربط بین تجربة إبراھیم وبین المكر اإللھي ألنھ عندما كان إبراھیم رأینا أن أبا طالب غیر أن هللا اراد) حسبي هللا ربي(السقوط في النار توكل على هللا توكال تاما بقولھ على وشك

أي كان. ار تمسكھ بھذا التوكل فمكر بھ بأن أرسل لھ جبریل یعرض علیھ المساعدةاختب إرسال جبریل إغواءا لھ للجحود بتوكلھ على هللا ولكنھ رفض مساعدة المالك ونجح في

التجربة، فكانت النار بردا و سالما على إبراھیم إلبراھیم أن بعبارة أخرى شاء هللا منذ القدم. مخلوقاتھ حجة علیھ الجنة ومن أنبیائھ الصالحین فابتاله حتى ال یكون ألحد منیكون من أھل

هللا منذ األزل أن یكون أما بالنسبة إلبلیس فقد شاء لھ. فیما شاء إلبراھیم من قدر ومصیرفي العالم األدنى لذلك ابتاله معلم التوحید في المأل األعلى وأن یكون معلم الشر والمعصیة

.من مصیر تعیس ال یكون ألحد علیھ حجة فیما شاء إلبلیسومكر بھ حتى

Page 22: مأساة ابليس

النار، أرسل الرسل، ومع أن هللا قرر منذ األزل من ھم أصحاب الجنة ومن ھم أصحابلیبدي لعباده أن سعادتھم وأنزل الكتب، ومألھا باألمر والنھي، ومیز بین الحالل والحرام

والتمسك بشرائعھ وبذلك ال تباع أنبیائھوشقاوتھم تتوقفان على سلوكھم واختیاراتھم في إیھدي من یشاء ویضل من یشاء، إنھ"یكون لھم حجة علیھ بالنسبة للمصیر الذي كتبھ علیھم

الرسم، وإنزال الكتب، والتمییز بین وھذا یعني أن إرسال". وال یسأل عما یفعل وھم یسألون في عباده، شأنھم في ذلك شأن أھل مشیئتھ الحالل والحرام لیست إال وسائط مكر لتنفیذ أحكام

ففسقوا فیھا، وشأن الذین أملى هللا لھم خیرا القریة التي أراد هللا تدمیرھا فأمر مترفیھاومع أن إبلیس كان مجبورا بحكمتھ ال حول لھ وال . مھینا ألنفسھم لیزدادوا إثما فعذبھم عذابا

فظھر للجمیع , مكر بھ بواسطة أمر السجودفیھ ویلعنھ إال بعد أن قوة تجاه ربھ لم ینفذ مشیئتھ .مسؤوال واستحق ھذا العقاب وكأن إبلیس كان

:الحدیث القدسي القائل رددنا مرارا أن هللا ھو صانع الخیر والشر بدلیل

فطوبى لمن خلقتھ للخیر وخلقت إن هللا عز وجل یقول ال إلھ إال أنا خلقت الخیر وقدرتھ "أنا خلقت الشر وقدرتھ فویل لمن خلقتھ على یدیھ، أنا هللا ال إلھ إالالخیر لھ وأجریت الخیر

.(41) "للشر وخلقت الشر لھ وأجریت الشر على یدیھ

والقبیحة إما ألنفسھم كما ولكن من مكره أراد للعباد أن یعتقدوا غیر ذلك بأن ینسبوا النقیصةبلیس وغوایتھ، وأن ینسبوا الخیر إ أو إلى تلبیس" ربنا ظلمنا أنفسنا: "فعل آدم عندما قال

إن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من " :والعدل والرحمة إلى هللا كما فعل آدم عندما قالالناحیة العملیة، أن یعتقدوا بصورة عامة أن باإلضافة إلى ذلك یحسن للعباد من". الخاسرین

نھم لو آمنوا عن الحق أن الشر والزلة والخطیئة، أل عدوا اسمھ إبلیس اللعین ھو مصدرالتي تحیط بھم من كل جانب لما تحملت عقولھم ھذه الحقیقة هللا ھو مصدر بالئھم ومصائبھم

:كتب اإلمام المقدسي على لسان إبلیس ما یلي. وبنعمتھ فیفقدون صوابھم ویكفرون بھلحقیقیة ال علة في ا. وعلة لتوجھ األمر والنھي. سببا لوجود الزلة فإنھ جعلني. وبعد ذلك"

فأن هللا تعالى غني . وال سبب لبعد أعدائھ وال نسب لقرب أولیائھ. لحكمھ ألمره، وال معقبفقد . قائم بنفسھ قیوم بعباده، ال تنفعھ حسنات المحسنین وال تضره سیئات المسیئین ..عن خلقھ

ء عفا ال أن شاء عذب وإن شا.. وجف قلمھ بما ھو كان في ملكھ. ومضى قضاؤه. حكمھ نفذ فلھ أن یعذب بال. والمشیئة إلیھ في تھدیده. بل األمر إلیھ في وعیده. إثبات الوعید یلزمھ (42"(وأن یسعد بال نسب وال مكتسب. سبب

إلى نفسھ أو إلى إبلیس الذي أغواه وأن یطلب إن كان باستطاعة آدم أن ینسب النقیصة

أعط ما لقیصر لقیصر وما : "لمسیحالسید ا المغفرة والرحمة من ربھ تمشیا مع توصیةفلئن كنت : "وجحوده؟ أو على حد قول إبلیس ، فإلى من یجب أن ینسب إبلیس عصیانھ"

وبطبیعة الحال أحال إبلیس جحوده إلى .(43"(إبلیس آدم فلیت شعري من كان إبلیسي؟ولم یعط لقیصر شیئا، فأعطى بذلك ما "فیما أغویتني: "مصدره الحقیقي والنھائي بقولھ

بالنسبة إلبلیس وال حول لھ وال قوة حتى ینسب لھ أي ألن قیصر ال یملك شیئا على اإلطالقموقف آدم بموقف إبلیس نجد أنھ إذا كان إبلیس أول بطل إذا استرسلنا في مقارنة. شيء

لمشیئة انتھازي ألنھ رفض اتخاذ موقف محدد بین األمر وا أول مأساوي في الكون كان آدم

Page 23: مأساة ابليس

األمور، وھذا واضح في جوابھ الذي رددناه مرات عدیدة، فلو رغبة منھ بالنجاة كیفما تمتمسؤوال بالفعل عن عصیانھ یكون قد اعترف بذنبھ واعتذر من ربھ وكان آدم" األمر"صح

النجاة، ولو صحت المشیئة وبذلك انتفت عنھ مسؤولیة العصیان واستغفره فأتاح لھ فرصة وتعلقھ برحمتھ وغفرانھ، بعبارة أخرى أضاف آدم الفعل إلى ا بتسلیم أمرهیكون قد نج

ونفى " قدریا"وأخذ مسؤولیة العصیان على عاتقھ فكان " ظلمنا أنفسنا ربنا: "نفسھ لما قالإن لم تغفر لنا وتحرمنا "ولما قال آدم . هللا قد قدر علیھ الظلیمة وأرادھا لھ بذلك أن یكون

ونفى " جبریا"تعلق بحبال الرحمانیة المنوطة بعروة المشیئة فكان " اسرینمن الخ لنكوننكان عن نفسھ مسؤولیة الظلیمة ألنھ في ھذه الحال یكون هللا قد قرر منذ األزل فیما إذا بذلك

نرى . ربھ سیرحم آدم أم سیعذبھ فتكون الظلیمة حجة هللا على آدم وال یكون آلدم حجة علىتحوطا منھ إذا نجاة عن طریق القدریة وعن طریق الجبریة في آن واحدإذن أن آدم حاول ال

اتخذ موقفا محددا بقولھ أما إبلیس فقد. أنھ لم یكن على یقین أیھما ستصح في نھایة المطاف إلى مصدره الحقیقي أي إلى فلم یضف شیئا إلى نفسھ بل أحال كل شيء" فبما أغویتني"

بریا مخلصا ولم یحاولالمشیئة اإللھیة فكان بذلك ج االستفادة من القدریة كما فعل آدم بغیة .السالمة والنجاة

إحالة النقیصة إلى المشیئة اإللھیة وقالوا إن إبلیس ھو مصدر الشر رفض بعض المجتھدین

أعتقد أن ھذا . رغبة منھم بتنزیھ هللا عن خلق الشر وتقدیره على عباده (44(وخالق المعصیةمع بعض النظریات الفلسفیة التي تأثر بھا المفكرون المسلمون أكثر بكثیر سجماالجتھاد ین

النظرة الدینیة الخالصة للموضوع، وبما أننا نعالج شخصیة إبلیس ومكانتھ في مما ینسجم معباإلضافة إلى ذلك . المستوى الدیني البحت ال یمكننا أن نأخذ باالجتھاد المذكور الكون على

.اد إلى إبلیس القدرة على الخلق والتكوین ال على التشویھ واإلفساد فحسبھذا االجتھ ینسبأن ولو أراد إبلیس خلق المعصیة لكان بقدرتھ تعالى. وھذا قول مردود من الناحیة الدینیة

.السرمدیة یمنعھا وبما أنھ لم یمنعھا نستنتج أن وجودھا كان منسجما مع مشیئتھ

الذي یوصف وال یفطن لھ أن الخاتمة ھي من مكر هللا تعلى"ورد معنا قول أبي طالب المكي التي توقعتھا إلبلیس عندما قلت أن یعود بنا ھذه القول إلى الخاتمة النھائیة". وال علیھ یوقف

بھا ویعیده إلى الجنة یوم تشرف ھذه الدراما هللا سیكافئھ على نجاحھ في التجربة التي ابتالهاالعتبارات واالسباب التي جعلتني استنتج أن نھایة دم فیما یليسأق. الكونیة على االنتھاء

:إبلیس ستكون نھایة سعیدة ومرضیة جھنم عمال تمسك إبلیس بحقیقة التوحید تمسكا ال مثل لھ ولذلك ال یمكن أن ینتھي في*) أ

لتوحید دخل أقر لھ با قال هللا عز وجل اني أنا هللا ال إلھ إال أنا من: "بالحدیث القدسي القائل .(45"(حصني ومن دخل حصني أمن عذابي

التجربة التي ابتاله هللا بھا وصبر على البالء الذي حل بھ من جرائھا نجح إبلیس في*) ب قال هللا عز وجل إذا ابتلیت:"مكافأتھ النھائیة مضمونة بدلیل الحدیث القدسي القائل وعلیھ فإن

عبدا من عبادي مؤمنا فحمدني و صبر على ولدتھ ما ابتلیتھ فإن یقوم من مضجعھ ذلك كیومكنتم تجرون أمھ من الخطایا ویقول الرب للحفظة إني قیدت عبدي ھذا وابتلیتھ فأجروا لھ ما

لكانت خاتمتھ مأساة ، ولوال ھذه النھایة السعیدة المتوقعة إلبلیس)46" (لھ قبل ذلك من األجر

Page 24: مأساة ابليس

وبما أن . معنا في السابق بل بوجودھا كما مرحقیقیة ونھائیة ال یمكن لمنطق الدین أن یقأن خاتمة تجربة كل منھما الخاتمة ھي من كره تعالى، جعل هللا إبراھیم وأیوب یعتقدان

هللا من خاتمة أي أنھ أبدى ستكون على نقیض ما كانت علیھ فعال، وعلى عكس ما أراد لھاینطبق ھذا االعتبار . لنسبة لخاتمتھابا لھما من أحكامھ عند بدایة التجربة غیر ما أضمر لھما

إبلیس اعتقادا جازما بأن خاتمتھ لن تكون تعیسة على إبلیس إذ أن مكر هللا یتطلب أن یعتقد نزلت بإبلیس لم تكن تعبیرا عن نھایتھ الحقیقیة التي شاءھا نستنتج إذن أن اللعنة التي. ویائسة

. أحكام المشیئة فیھمكرا إلھیا غایتھ تنفیذ هللا لھ، وإنما كانت

النھائي، لنفترض جدال أني على صواب في ما قلتھ عن حقیقة إبلیس وعن خاتمتھ ومصیرهأوال أنھ : أعتقد ماذا یستتبع ھذا االفتراض من نتائج بالنسبة لموقفنا الشخصي من إبلیس؟ھري في تغییر جو یجب علینا إدخال تعدیل جذري على نظرتنا التقلیدیة إلى إبلیس وإحداث

یقوم بخدمة ربھ بكل ثانیا، یجب أن نرد اعتباره بصفتھ مالكا،. تصورنا لشخصیتھ ومكانتھأن نكف عن كیل السباب وأخیرا، یجب. تفان وإخالص، وینفذ أحكام مشیئتھ بكل دقة وعنایة

خیرا بعد أن اعتبرناه زورا والشتائم لھ، وأن نعفو عنھ ونطلب لھ الصفح، ونوصي الناس بھواجبي أن أحذركم أن العفو عن ولكن أرى من. وبھتانا، مسؤوال عن جمیع القبائح والنقائض

إن . تخطر على بال أحد في أول األمر إبلیس ورد االعتبار لھ یستتبع نتائج وعواقب ھامة الأفكارنا الدینیة ومعتقداتنا الموروثة حول أمور مثل ھذه الخطوة تضطرنا ألن نبدل الكثیر من

عن خطورة العواقب التي قد یؤدي إلیھا العفو عن وألعطیكم فكرة بسیطة. نیا واآلخرةالدیقول الحكیم في ھذه القصة ). 47(كتبھا توفیق الحكیم إبلیس، سأستشھد بقصة طریفة وجمیلة

إلى ربھ وأن یرجع عن إثمھ لیكرس نفسھ لعمل الخیر أن إبلیس قرر ذات یوم أن یتوبإلى شیخ األزھر لیتوب على یدیھ ویدخل بإرشاده في لمستقیم، فذھبوالسیر على الصراط ا

:بین إبلیس وشیخ األزھر الدین الحنیف، فدار الحوار التالي .. عمل طیب ولكن! إیمان السیطان؟ -" من حق الناس ان یدخلوا في دین هللا أفواجا؟ ألیس من آیات هللا في كتابھ ماذا؟ ألیس -

؟ ھأنذا أسبح بحمده واستغفره، وأرید أن )ك واستغفره إنھ كان توابافسبح بحمد رب) :العزیز !للمھتدین في دینھ خالصا مخلصا، وأن أسلم ویحسن إسالمي وأكون نعم القدوة أدخل

یمضي الناس في وتأمل شیخ األزھر العواقب لو أسلم الشیطان، فكیف یتلى القرآن؟ ھل

األمر إلغاء أكثر آیات و تقرر إلغاء ذلك الستتبعل!" أعوذ با من الشیطان الرجیم؟:"قولھملمما یشغل من كتاب هللا فإن لعن الشیطان والتحذیر من عملھ ورجسھ ووسوستھ.. القرآن

قدرا عظیما الشیطان دون أن یمس بذلك كیان كیف یستطیع شیخ األزھر أن یقبل إسالم.. !اإلسالم كلھ؟

ھذا شئ ... إنك جئتني في أمر ال قبل لي بھ: قائالإبلیس رفع شیخ األزھر رأسھ ونظر إلىولست الجھة التي تتجھ إلیھا في ... لیس في یدي ما تطلب فوق سلطتي، وأعلى من قدرتي،

.ھذا الشأن

Page 25: مأساة ابليس

ألیس یفعل ذلك كل من ... أتجھ إذن؟ ألستم رؤساء الدین؟ كیف أصل إلى هللا إذن؟ إلى من - :وھرش لحیتھ ثم قال.. ھر لحظةأطرق شیخ األز. الدنو من هللا أراد

على الرغم من ذلك أصارحك أن اختصاصي ھو إعالء ... لكن ... !نیة طیبة وال ریب -على مجد األزھر، وأنھ لیس من اختصاصي أن أضع یدي في كلمة االسالم، والمحافظة

."یدك

. اتھضرورة وجود إبلیس إلعالء شأن الدین والمحافظة على مؤسس أي أدرك شیخ الزھرسبب وجوده وذھب مبرر استمراره، وكما یقول الحكیم نفسھ في ولو اختفى الشیطان لزال

:ذات القصة یمحى إبلیس من الوجود دون أن تمحى كل تلك الصور واألساطیر والمعاني كیف"

إذا محي الشر " یوم الحساب"ما معنى .. تعمر قلوب المؤمنین وتفجر خیالھم؟ والمغازي التيوھل یحاسب أتباع الشیطان الذین تبعوه قبل إیمانھ أم تمحى سیئاتھم ما دامت ؟من األرض

(48"(؟...إبلیس قد قبلت توبة

مباشرة وتكلم مع جبریل طالبا منھ ان وبعد أن یئس إبلیس من شیخ األزھر صعد إلى السماء :وجبریلفدار الحوار التالي بین إبلیس یتوسط لھ عند ربھ لینال المغفرة وتقبل توبتھ

األركان، ویزلزل الجدران، ویضیع المالمح ویخلط نعم ولكن زوالك من األرض یزیل - "

وال للحق ... فال معنى للفضیلة بغیر وجود الرذیلة. السمات ویھدم. القسمات، ویمحو اللوان.. وال للنور بغیر الظالم.. وال لألبیض بغیر األسود .. بغیر الخبیث وال للطیب.. بغیر الباطل

وجودك .. بل أن الناس ال یرون نور هللا إال من خالل ظالمك .. بغیر الشر بل وال للخیر األرض ما بقیت األرض مھبطا لتلك الصفات العلیا التي أسبغھا هللا على بني ضروري في

!اإلنسان !. لتعكس نور هللا نفسي المعتمة یجب أن تظل ھكذا! وجودي ضروري لوجود الخیر ذاتھ؟ -

ھل تظل ... ولكن ... ضى بنصیبي الممقوت من أجل بقاء الخیر ومن أجل صفاء هللاسأرحسن النیة ونبیل النقمة الحقة بي واللعنة الصقة باسمي على الرغم مما یسكن قلبي من

...الطویة ..زالت اللعنة عنك زال كل شئ إذا.. نعم یجب أن تظل ملعونا إلى آخر الزمان -كتب علي ھذا القدر المخیف؟ لماذا ال ذا أحمل ھذا الوقر العنیف، لماذالما! عفوك یا ربي -

لھ حبك وحب نورك، ویثاب على ھذا الحب تجعل مني اآلن مالكا بسیطا من مالئكتك، یباححبا یستوجب مني ھذه .. ال مثیل لھ وال شبیھ بالعطف منك والحمد من الناس؟ ھأنذا أحبك حبا

حبا یقتضیني الرضا بارتداء ثوب .. یعرفھا البشر مالئكة ولمالتضحیة التي لم تدركھا العلیك، حبا یستلزم مني احتمال لعنتك علي ولعنة العصیان لك، والظھور في لبوس المتمرد

حبا إذا كتمھ النساك .. وال بفرح االنتساب إلیھ. ادعائھ حبا ال تسمح لي حتى بشرف. الناس ..نوره یأبى من صدري اقتراباأكتمھ، ولكن وأنا.. مأل صدورھم نورا

Page 26: مأساة ابليس

ولكن زفرة مكتومة انطلقت .. وھبط األرض مستسلما .. وترك السماء مذعنا.. وبكى إبلیس

صداھا النجوم واألجرام، في عین لوقت كأنھا رددت.. من صدره، وھو یخترق الفضاء .الدامیة اجتمعت كلھا معھا لتلفظ تلك الصرخة

"....!شھید إني!... إني شھید "_________________________

، نشرت 1965األول كانون10ألقیت كمحاضرة في النادي الثقافي العربي في بیروت، -1أیضا مجلة أنظر. 1966، بیروت، كانون الثاني "حوار"مع شئ من االختصار بمجلة

.1966، العدد الثاني، شباط "الثقافة العربیة"النادي .1928مطبعة النھضة، القاھرة، منیر الدمشقي، حققھ محمد -2 .83، 82، 73، 65 ،44 -39: ، ص"تلبیس إبلیس"راجع -3 .165 -164: ص -4 .47 -45: ص -5 .126: ص -6، ترجمة الدكتور "مدخل إلى فلسفة الحضارة اإلنسانیة، أو مقال في االنسان" من كتابھ -7

.148 -147: ، ص1961عباس، دار األندلس، بیروت، إحسان .11: ، ص1906والدة عباس األول، القاھرة، تفلیس إبلیس، مطبعة مدرسة -8األسطورة التالیة، وھي ذات مغزى ھام بالنسبة أورد الطبري في تفسیره الشھیر -9

: إلى األرض لیأتیھ بطین منھا، فقالت األرض فبعث جبریل:"للموضوع الذي نحن بصددهرب، إنھا عاذت بك : وقال. فرجع، ولم یأخذ. تشینني إني أعوذ با منك أن تنقص مني أو

منھ فأعاذھا، فرجع فقال كما قال جبریل، فبعث ملك فأعذتھا، فبعث هللا میكائیل، فعاذتبا أن أرجع ولم أنفذ أمره، فأخذ من وجھ األرض، وأنا أعوذ: الموت فعاذت منھ، فقال

وسوداء، فلذلك خرج بنو آدم من تربة حمراء وبیضاء وخلط فلم یأخذ من مكان واحد، وأخذ ."مختلفین

الفارق بین المشیئة واألمر، أمر هللا جبرائیل ومیكائیل، أن یأتیانھ بطین من تمثل ھذه القصةتفسیر . "ولكنھ شاء أال یتحقق األمر إال على یدي ملك الموت، وكان لھ ما شاء األرض .459: ص-1تحقیق محمود محمد شاكر، دار المعارف بمصر، ج "الطبري

.475: ص - 1تفسیر الطبري، ج -10 .15تفلیس إبلیس، ص -11

.األزل وااللتباس ، طاسین1913باریس ، تحقیق لویس ماسینیون،"كتاب الطواسین" -12 .طاسین األزل وااللتباس -13 .نفسھ المصدر -14 .11 -10: ، دار الھالل، القاھرة، ص"إبلیس"عباس محمود العقاد، -15 .148قاد، ص الع -16

.12 -11، المقدمة، ص "كتاب الطواسین" -17 .4 تفلیس، ص -18قال فریق قال فریق من المجتھدین أن االبن الذي أمر إبراھیم بذبحھ ھو اسحق، بینما -19

Page 27: مأساة ابليس

وانتھى إلى وقد ناقش الطبري في تفسیره آراء الفریقین، وأورد حججھم. آخر بأنھ إسماعیلالطبعة (الطبري، تفسیر. وسأتبع رأي الطبري في ھذه التسمیة. سحقتبني رأي القائلین بأنھ إ

.49، 3، الجزء 8، المطبعة الیمنیة بمصر، ج )القدیمةكیركیجور في استعادة إبراھیم البنھ إسحق خاتمة دینیة خاصة تسمو بقصة یرى -20

تجاوز المأساة بمعناھا األدبي المعروف ویرى في شخصیة إبراھیم إنسانا إبراھیم فوقبینما الواقع ھو أن قصة . البطل المأساوي كما نجده في األدب العالمي بمراحل شخصیة

تقصیرا تاما عن الوصول إلى مستوى المأساة، وتبقى شخصیتھ دون شخصیة إبراھیم تقتصر .لألسباب المذكورة أعاله البطل المأساوي

.15: ص- تفلیس إبلیس -21: دار المعارف بمصر، ص-" لي الیوناني، سوفوكلیسالتمثی من األدب "-طھ حسین -22138. .151: ص-التمثیلي من األدب -23 طاسین األزل وااللتباس -24 .37 -36: ص-تفلیس -25

.82، 81، 80: ، ص1950، تحقیق عبدالرحمن البدوي، القاھرة، "اإلشارات األلھیة" -26 : ص-. ھـ1258حادیث القدسیة، حیدآباد، الشیخ محمد المدني، االتحافات السنیة في األ -2787.

.طاسین األزل وااللتباس -28 .81: االشارات االلھیة، ص -29 .األزل وااللتباس طاسین -30 22 -21: تفلیس، ص -31

.22 ،21: تفلیس إبلیس، ص -31 .طاسین األزل وااللتباس -32 .13: تفلیس، ص -33 23 -22: تفلیس، ص -34 .68: لسنیة في األحادیث القدسیة، صاالتحافات ا -35 .302 -301: ص ،1تفسیر الطبري، ج -36 .303: ، ص1تفسیر الطبري، ج -37 .422 -421: ، ص7تفسیر الطبري، ج -38 .229: ، ص1أبو طالب المكي، قوت القلوب، ج -39 .26: تفلیس، ص -40 .71: االتحافات السنیة، ص -41 .29 -28: تفلیس، ص -42 .16: فلیس، صت -43 .508، 488 -477: ، ص1تفسیر الطبري، ج -44 .4: االتحافات السنیة، ص -45 .10: االتحافات السنیة، ص -46

Page 28: مأساة ابليس

.الشھید -47 .الشھید -48